التفاسير

< >
عرض

وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
-فاطر

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ } عطف باعتبار المعنى او على مقدّرٍ كأنّه قال: فالله اعزّكم بالكلم الطّيّب والعمل الصّالح، والله اذلّكم بمكر السّيّئات، والله خلقكم { مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } بالذّكورة والانوثة او جعلكم اصنافاً من الذّكر والانثى، والابيض والاسود، والدّميم والحسن، والشّقىّ والسّعيد { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ } منكم او من مطلق الحيوان { وَلاَ تَضَعُ } جنينها { إِلاَّ بِعِلْمِهِ } فلا يعزب عنه شيءٌ فكيف يعزب عنه مكر اولئك او عمل المؤمنين { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } معناه ما يبلغ عمر معمّر عمره الطّبيعىّ او قريباً منه او ازيد، وما ينقص من عمره الطّبيعىّ والعمر القريب منه الاّ حال كونه ثابتاً فى كتابٍ هو الكتاب الّذى كتبه الملائكة المصوّرة حين تصويره فى رحم امّه، او الكتاب الّذى هو عالم العقول، او الكتاب الّذى هو عالم النّفوس الكلّيّة او الجزئيّة، او المعنى الاّ حال كونه يكتب بعد اعطاء العمر ونقصانه فى كتابٍ هو كتاب اعماله الّذى يكتبه الملائكة الموكّلة عليه، او هو كتاب المحو والاثبات الّذى يكتب فيه ما يظهر من استعداد المستعدّين من اهل عالم الطّبع فيه بعد ظهور الاستعداد، وهذه الآية بهذا الوجه تدلّ على ثبوت البداء الّذى ورد فى اخبارٍ كثيرةٍ.
تحقيق البداء
اعلم، انّ الآيات والاخبار تدلّ بالصّراحة والاشارة على ثبوت البداء لله وقد ورد فى الاخبار نسبة التّردّد فى الامر اليه تعالى، وورد ما يدلّ على تأثّر الله فمن فعل العباد مثل اجابة الدّعوات وتغيير الامر والعمر بالصّدقات والصّلات والشّكر والكفران وسائر الحسنات والسّيّئات، وكلّ ذلك يدلّ على انّ الله قد يظهر فعلاً تمّ يتركه ويظهر غيره كالنّادم من فعله الاوّل والمظهر لغيره، ويدلّ بعضها على كون فعل الله تابعاً لفعل العباد، ولذلك انكرت الفلاسفة كلّ ذلك وأوّلوا ما ورد فى الآيات والاخبار من امثال ذلك لانّ ذلك كلّه يدلّ على عجز الله ونقصانه فى فعله، وجهله بعاقبة بعض افعاله، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً. فنقول: بيان ذلك يستدعى تحقيق العوالم وبيان حقيقة كلّ عالمٍ وبيان انّ العوالم كلّها مراتب علم الله وارادته وانّ بعض العوالم لضيقه لا يسع ظهور جميع فعليّات ما فى العالم الاعلى ولا يظهر فعليّات ما فى العالم الاعلى فيه الاّ على التعاقب، كما انّ عالم الطّبع لا يسع ظهور فعليّات جميع الصّور فيه الاّ على التّعاقب، فاعلم، انّ العوالم بوجهٍ ثلاثة، وبوجهٍ ستّة، وبوجهٍ سبعة، لانّها امّا مجرّدة ذاتاً وفعلاً عن المادّة والتّقدّر، او مجرّدة ذاتاً متعلّقة فعلاً او متعلّقة ذاتاً وفعلاً بالمادّة، والاولى هى عوالم العقول الطّوليّة المعبّر عنها فى لسان الشّرع بالملائكة المقرّبين وعوالم العقول العرضيّة الّتى يعبّر عنها بارباب الطّلسمات والصّافّات صفّاً والثّانية هى عوالم النّفوس الكلّيّة والجزئيّة المعبّر عنها بالمدبّرات امراً، والملائكة الرّكّع والسّجّد، وعوالم المثال العلوىّ والسّفلىّ، والثّالثة هى عوالم الطّبع الّتى وجودها وجود تعلّقىّ مادّىّ، وانّ العوالم كلّها معلولة لله تعالى، وانّ العلّيّة ليست كما توهّمها المتوهّمون مثل علّيّة البنّاء للبناء والنّار للنّار، والشّمس للتّبييض والتّسويد، بل هى بالتّشأنّ بمعنى انّ المعلول لا بدّ وان يكون شأناً من العلّة ومتقوّماً بها لانّ تقابلهما تقابل التّضائف والمتضائفان غير منفكّين فى الخارج وفى الذّهن فلو لم يكن العلّة داخلة فى قوام المعلول والحال انّ المعلوليّة عين ذات المعلول كان تصوّر المعلول لمن تصوّره بكنهه منفكّاً عن تصوّر العلّة، والعلّيّة فى الحقّ الاوّل تعالى عين ذاته كما انّ المعلوليّة فى الممكن عين ذاته، وانّ ذات العلّة علم وارادة كلّه كما انّه وجود كلّه، ولمّا لم يكن قوام المعلول فارغاً من العلّة كان قوامه علماً وارادةً لله تعالى وانّ المجرّدات الصّرفة كلّما كان لها بالامكان كان حاصلاً لها بالفعل لعدم القوّة والاستعداد فيها وانّ النّفوس الكلّيّة من حيث ذواتها وتجرّدها الذّاتىّ كلّما كان فى العقل بالفعل كان فيها ايضاً بالفعل لكن بنحو البساطة والوجود الوُحدانىّ لا بنحو الكثرة ولذلك كانت النّفوس الكلّيّة لوحاً محفوظاً من التّغيّر والتّبدّل لا يتطرّق اليها المحو والاثبات، وانّ النّفوس الجزئيّة العلويّة الّتى لها تعلّق بعالم المادّة بتوسّط عالم المثال العلوىّ لضيقها عن الاحاطة بالجزئيّات الغير المتناهية ليس كلّما فيها بالقوّة يكون بالفعل بل يتعاقب عليها الفعليّات وتخرج من القوى والاستعدادات بحسب قرب استعداداتها الى الفعليّات من اجل تعلّقها بالمادّيّات، او بحسب تقريب تشبّهاتها المتعاقبة بالعلويّات استعداداتها الى الفعليّات كالنّفوس الخياليّة للانسان فى انّها تتعاقب عليها الفعليّات لاجل ضيقها وعدم احاطتها بجملتها دفعةً وقرب استعداداتها الى الفعليّات الطّيّبة او الرّديّة باعداد العبادات والمعاشرين والافكار الطّيّبة والرّديّة وغير ذلك، وانّ النّفوس الجزئيّة العلويّة كالنّفوس الجزئيّة البشريّة لها وجه الى المادّيّات به تتأثّر منها وتستعدّ لاخذ الفعليّات من العلويّات، ووجه الى المجرّدات به تأخذ من المجرّدات ما قرب استعداداتها منه، وكلّما استعدّ مادّىّ من المادّيّات لحصول صورة او كيفيّة فيه يفيض صورة تلك الصّورة او الكيفيّة من المجرّدات على تلك النّفوس الجزئيّة العلويّة ولكن لضيقها لا يثبت فيها جميع شروطها وجميع معدّاتها وموانعها، فاذا اتّصل بعض النّفوس البشريّة كنفوس الانبياء واوصيائهم (ع) فى النّوم او اليقظة بتلك النّفوس الجزئيّة يشاهد فيها ما ثبت فيها من الصّور والكيفيّات ويرى فيها وقوع الحادثة فيخبر احياناً بتلك الحادثة، ثمّ يرى بعد ذلك تخلّف تلك الحادثة وعدم وقوعها ويرى محوها من تلك النّفوس وثبت ضدّها فيها فيقول على سبيل المشاكلة: بدا لله تعالى فيها او يقول حقيقةً: بدا لله تعالى لانّ تلك المرتبة من النّفوس هى علم الله وارادته ومحو الارادة الاولى وثبت الارادة الثّانيّة ليس الاّ البداء وليس ذلك من جهل وعجز فى الفاعل بل هو من ضيق القابل، وقد يثبت فى تلك النّفوس صورة الحادثة مع جميع الشّرائط والمعدّات والموانع لكنّ المتّصل بها لضيق مداركه عن الاحاطة بجميع ما فيها لا يدرك جميع الموانع والشّروط فيخبر بصورة الحادثة ثمّ تتحلّف الحادثة فيقول: بدا لله تعالى، ولمّا كان تلك النّفوس المتأثّرة من المادّيّات وباعداد المادّيّات يفيض عليها من المجرّدات وكانت هى من مراتب ارادته تعالى صحّ نسبة التّردّد بواسطتها الى الله تعالى وصحّ تأثير الصّدقات والدّعوات والصّلات فيها وتغيير ما فيها ومحو المثبت وثبت الغير المثبت فيها بواسطة ذلك، وما قاله الفلسفىّ من: انّها من الاتّفاقيّات ولا تأثّر للعلوىّ من السّفلىّ، لا يصغى اليه، بعد شهود اهل الشّهود وامكان ذلك فيها، وما ورد عن الصّادق (ع) انّه يبعث عبد المطّلب امّةً واحدةً عليه بهاء الملوك وسيماء الانبياء (ع) وذلك انّه اوّل من قال بالبداء فالمقصود انّه اوّل من حقّق البداء فى حقّه تعالى والاّ فأكثر الانبياء (ع) والسّلف كانوا قائلين بالبداء كما وصل الينا من اخبارنا { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } كما ذكرنا انّ ذلك من لوازم وجود النّفوس الجزئيّة العلويّة لا حاجة له فيه الى تعمّلٍ وتمهيد اسبابٍ.