التفاسير

< >
عرض

وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً
٣٦
-النساء

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } لمّا أراد أن يبيّن آداب حسن النّسبة مع الاحقّاء ببذل المحبّة وحسن الصّحبة قدّم نفسه لانّه احقّ الاحقّاء بحسن النّسبة وبذل الخدمة وبيّن طريق حسن النّسبة معه باخلاص العبوديّة ونفى الشّركة فى العبوديّة لانحصاره فيهما واطلق طريق حسن النّسبة مع غيره لعدم انحصاره فى امر مخصوص ورتّب المستحقّين للخدمة بحسب ترتّبهم فى الاستحقاق ولتعميم الوالدين للرّوحانيّين واستحقاقهما التّفرّد فى النّظر وعدم الاشراك بهما ولذلك فسّر الكفر والشّرك فى الآيات فى تفاسير المعصومين (ع) بالكفر والاشراك بعلىّ (ع) او بالولاية قرنهما بنفسه، واسقط الفعل واخّر المصدر ليوهم انّ قوله بالوالدين عطف على الجارّ والمجرور وانّ المعنى { وَ } لا تشركوا { بِٱلْوَالِدَيْنِ } احسنوا { إِحْسَاناً } بهما { وَبِذِي ٱلْقُرْبَىٰ }.
تحقيق الوالدين وسائر الاقرباء وتعميمهم
والوالدان هما الّلذان باعدادهما وحركاتهما المخصوصة اوجد الله نطفتك واصل مادّتك وهذه السّببيّة كلّما كانت في شيء اقوى كان باسم الوالد احرى وان كان العامّة العمياء يخصّون هذا الاسم بالمعدّ لنطفتك الجسمانيّة غافلين عن كيفيّة تولّدك الرّوحانىّ فالافلاك والعناصر آباء للمواليد، والعقل والنّفس الكلّيان والدان لعالم الطّبع، اذ بالقاء الافلاك بحركاتها الدوريّة وكواكبها الّتى هى كالقوى الانسانيّة الآثار على العناصر وقبول العناصر لها كتأثّر النّساء عن الرّجال وقبول ارحامهنّ لنطفهم يتولّد المواليد وتنمو وتبقى وهى فى بقائها ونمائها ايضاً محتاجة الى تلك الآباء بخلاف حاجة الحيوان الى آبائها الجسمانيّة فانّها بعد حصول مادّتها وحصول قوام ما لمادّتها مدّة كونها فى الرّحم غير محتاجة الى آبائها، وبالقاء العقل الكلّىّ نقوش العالم على لوح النّفس الكلّيّة الّتى هى كالبذور يوجد عالم الطّبع وعالم الطّبع في بقائه محتاج الى ذينك الوالدين، هذا فى العالم الكبير وامّا فى العالم الصّغير الانسانىّ فبعد تسويته يوجد آدم الصّغير وحوّاء الصّغرى بازدواج العقل والنّفس وبازواجهما يولد بنو آدم وذرّيّتهما، وبازدواج الشّيطان والنّفس الامّارة يولد بنو الجانّ وذرّيّة الشّيطان، هذا بحسب التّكوين فى العالمين، وامّا بحسب الاختيار والتّكليف وهو مختصّ بالانسان الضّعيف فقد جرت السّنّة الآلهيّة ان يكون توليد المواليد الاختياريّة من القلب ومراتبه وجنوده الخلقّية والعلميّة والعيانيّة بتعاضد نفسين مأذونتين من الله وايصالهما اثر الامر الآلهىّ الى المكلّف بتعاضدهما لتطابق التّكليف والتّكوين فانّ الاوامر التّكليفيّة متسبّبة عن الاوامر التّكوينيّة وموافقة لها، وان لم ندرك فى بعضها كيفيّة التّوافق لعدم العلم بالتّكوين وتلك السّنّة كانت جارية من لدن آدم (ع) الى زماننا هذا وتكون باقيةً الى انقراض العالم، وان لم يبق لها اثر ولا بين العامّة منها ذكر ولا خبر. فانّ صحّة الاسلام فى الصّدر ودخول الايمان فى القلب ما كان الاّ بتعاضد شخصين يكون احدهما مظهراً للعقل الكلّىّ والآخر مظهراً للنّفس الكلّيّة واخذهما البيعة العامّة النّبويّة او البيعة الخاصّة الولويّة بالكيفيّة المخصوصة والميثاق المخصوص: انا وعلىّ (ع) ابوا هذه الامّة يهديك؛
{ { كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق:21] يشهد لك، { { وَٱجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي } [طه: 29] يكفيك فمحمّد (ص) وعلىّ (ع) مظهرا العقل والنّفس الكلّييّن وبالبيعة على ايديهما بتولّد جنود العقل الاختياريّة، واعداؤهما مظاهر الجهل والنّفس الامّارة الكلّييّن وبالبيعة على ايديهم يتولّد جنود الجهل الاختياريّة، وقد فسّر المعصومون (ع) الوالدين فى القرآن بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) وفسّروا { { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } } [لقمان: 15] بالجبت والطّاغوت، ويسمّى الصّوفيّة مظهر العقل بالمرشد ومظهر النّفس بالدّليل وبلسان الفرس "بيرارشاد وبير دليل" وبحسب تفاوت مظهريتّهما وتصرّفهما يكون احدهما مظهراً لاسم الله أوالرّحيم والآخر مظهراً لاسم الرّحمن وباعتبار هذه المظهريّة والاثنينيّة قال تعالى: { { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [الاسراء:110] فانّ التّخيير والتّرديد ليس باعتبار اللّفظين فانّهما آلتا الدّعوة وليسا مدعوّين ولا مفهومى اللّفظين فانّهما ايضاً عنوانا المدعوّين والمدعوّ لا محالة امر حقيقىّ لا امر ذهنىّ، والذّات الاحديّة الّتى هى مصداق ذينك اللّفظين لا تكثّر فيه فلا بدّ وان يكون المدعوّ امرين يكونان مظهرين لمفهومى هذين الاسمين حتّى يصحّ هذا التّرديد لا يقال: المراد ادعوا الذّات الاحديّة بلفظ الله او بلفظ الرّحمن لانّه يقال: ظاهر اللّفظ غير هذا والحذف والايصال فى مثل هذا شاذٌّ ينافى الفصاحة وتكرار ادعوا ينافيه وجعل ادعوا بمعنى سمّوا ايضاً بعيد، فالمراد ادعوا مظهر اسم الله او ادعوا مظهر اسم الرّحمن، والدّعوة هى طلب المدعوّ للورود على الدّاعى والحضور عنده امّا لانّ المطلوب منه حضور ذاته عنده اوامر غير ذاته يحصل من حضور ذاته وليس معناها مسئلة شيءٍ من المدعوّ حاضراً كان ام غائباً وبهذا وامثاله استشهد الصّوفيّة على انّ المطلوب من دعاء الله او دعاء مظاهره هو حضور المدعوّ عند الدّاعى ويسمّونه حضوراً وفكراً.
تحقيق تمثّل صورة الشّيخ عند السّالك
وبعضهم يقولون: لا بدّ ان يجعل السّالك صورة الشّيخ نصب عينيه ويسمّون هذا الجعل والتّصوير حضوراً ويستشهدون بمثل ما ورد من قوله (ع): وقت تكبيرة الاحرام تذكّر رسول الله (ص) واجعل واحداً من الائمّة نصب عينيك؛ ولكنّه بعيد عن الطّريق المستقيم فانّ الحضور هو الاتّصال بروحانيّة الشّيخ وظهور مثاله لديك لا تصوير صورة مثل صورته وجعلها نصب العين فانّها مردودة اليك ونوع كفر وشرك وبعد ما يقال انّه كفر يقولون هو كفر فوق الكفر والايمان كما قال المولوىّ قدّس سرّه:

جون خليل آمد خيال يار من ظاهرش بت معنى او بت شكن

لكن نقول: تصوير صورة الشّيخ بالاختيار وتقييد الخيال به من قبيل عبادة الاسم دون المسمّى وتشبّه بعبدة الاصنام وجحيم عاجلة ينبغى للعاقل العبور عنها كما قال المولوىّ قدّس سرّه:

جملة دانسته كه اين هستى فخ است ذكرو فكر اختيارى دوزخ است

لكن لا بدّ للسّالك من العبور عليها. واحسنوا بذى القربى بعد الله والوالدين فانّ اولى الاحقّاء بالاحسان ذوو القربى سواء كانوا جسمانيّين ام روحانيّين فى العالم الكبير او الصّغير { وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ } قد مضى تفسيرهما وتعميمهما { وَٱلْجَارِ ذِي ٱلْقُرْبَىٰ } النّسبيّة وتأخيره بلحاظ الجوار لا القرابة او المكانيّة { وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ } البعيد النّسبىّ او المكانىّ وحقّ الجوار كما فى الاخبار الى اربعين داراً من الجوانب الاربعة او من كلّ جانب { وَٱلصَّاحِبِ بِٱلجَنْبِ } كالرّفيق فى تعلّمٍ او حرفةٍ او سفرٍ { وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } العبيد والاماء والاهل والخادم والخادمة وكلّ من كان تحت ايديكم فى الكبير او الصّغير فلا تتأنّفوا عن تعهّد حالهم والتّوجّه والاحسان اليهم ان كنتم تريدون محبّة الله { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً } استيناف فى موضع التّعليل والمختال من يتأنّف عن التّوجّه الى الغير حتّى الوالدين الرّوحانيّين ولا ينقاد لاحدٍ حتّى الوالدين الرّوحانيّين ومن تأنّف عن الانقياد للوالدين الرّوحانيّين تأنّف عن كلّ من سواه، ومن انقاد وتواضع للوالدين الرّوحانيّين تواضع لمن سواهما فالمختال الحقيقىّ من لم يتواضع لوالديه الرّوحانيّين { فَخُوراً } اذا التفت الى غيره عظّم نفسه وحقّر غيره حتّى والديه الرّوحانيّين، ومن افتخر على والديه الرّوحانيّين افتخر على كلّ من سواه الا اذا رأى حظّ نفسه ممّن سواه فانّه حينئذٍ يتملّق له وان كان يظنّ انّه يتواضع، ولمّا كانت الولاية اصل الخيرات والقرابات، والتّواضع لها اصل التّواضعات، والاختيال والفخر عليها اصل الاختيالات والفخرات ومادّتها، وعلىّ (ع) اصل الولايات وعدوّه اصل الشّرور والاختيالات صحّ ان يقال: انّ المنظور اوّلاً من الآية اختيال العدوّ وفخره على علىّ (ع) ثمّ اختيال غيره بالنّسبة الى الولاية والى غيرها، ولمّا كان المتكبّر المعجب بنفسه لا يعدّ غيره الاّ اسباب انتفاعه كأنّه لم يخلق غيره الاّ لاجل انتفاعه ولو بهلاكته وكان لا ينفق ممّا فى يده على غيره لانّه خلاف حسبانه ويمنع غيره الّذى يراه فى مرتبة من الانفاق على غيره حتّى انه يمنع نفسه وغيره من انفاق القوى والمدارك والانانيّات فى طريق امامه وولاية ولىّ امره ويكتم من الغير نعمه الّتى لا يرى فى اظهارها صيتاً ومدحاً وجلب حظّ لنفسه ولو انفق او اظهر لم يكن ذلك الا بملاحظة حظّ لنفسه فسّر المختال الفخور بالوصف البيانىّ فقال تعالى: { ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ }.