التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً
٣٧
-النساء

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ } صفة او بدل من، من كان مختالاً او عطف بيان لواحد منهما او خبر مبتدءٍ محذوفٍ او مبتدء خبرٍ محذوفٍ، او مفعول فعل محذوف.
تحقيق معنى البخل والتقتير والتّبذير
والبخل سجيّة تمنع الانسان من اخراج ما تحت يده ورفع يده عنه سواء كان من الحقوق الآلهيّة كالزّكوة والخمس او الخلقيّة كالنّفقات الواجبة والدّيون الحالّة المفروضة كما ذكر او مسنونة كالزّكوة وسائر الصّدقات المستحبّة والصّنائع المعروفة وكالانفاقات المستحبّة لنفسه وعياله واقاربه وجيرانه، ولذلك ورد عن رسول الله (ص)
" "ليس البخيل من ادّى الزّكوة المفروضة من ماله واعطى البائنة فى قومه انّما البخيل حقّ البخيل من لم يؤدّ الزّكوة المفروضة من ماله ولم يعط البائنة فى قومه وهو يبذّر فيما سوى ذلك" ، وانّما سمّى المال المنفق بالبائنة لانّه كلّما ينسب الى الانسان حتّى وجوده من شأنه البينونة والمفارقه عنه الاّ وجه الله الباقى فانّه ان كان من اعراض الدّنيا فهو بائن فى نفسه وتبين وتنقطع نسبته ايضاً عن الانسان بالموت او بالانتقالات الشّرعية او بصروف الدّهر، وان كان من قبيل القوى والجوارح والاعراض والجاه فهو ايضاً يبين عن الانسان بالموت الاختيارىّ او الاضطرارىّ او بالحوادث الطّارئة.

فان تكن الاموال للتّرك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل

اعلم انّ السخاء فريضة متوسّطة بين طرفى الافراط والتّفريط اللّذين هما التّبذير والتّقتير، وللتّقتير مراتب عديدة بعضها يسمّى بخلاً وهو امساك ما فى يد الانسان وعدم قدرته على صرفه فى الوجوه المفروضة والمندوبة والمباحة، وبعضها يسمّى شحّاً وهو امساك ما فى يده وتمنّى ان يكون ما فى يد غيره فى يده كما ورد عن الصّادق (ع): انّ البخيل بخيل بما فى يده والشّحيح يشحّ بما فى أيدى النّاس، وعلى ما فى يديه حتّى لا يرى فى ايدى النّاس شيئاً الا تمنّى ان يكون له بالحلّ والحرام ولا يقنع بما رزقه الله، وللتّبذير ايضاً مراتب ولمّا كان الظّاهر من الانسان من افعاله واقواله واخلاقه واحواله من المتشابهات الّتى لا يعلم تأويلها الاّ الله والرّاسخون فى العلم كان التمييز بين السّخاء والتّبذير والتّقتير وبين مراتبها بحسب المعرفة وتشخيص جزئيّاتها الصّادرة عن الانسان فى غاية الخفاء حتّى على نفس الفاعل وان كانت بحسب العلم وكلّيّاتها جليّة قد فصّلها علماء الاخلاق وبيّنوها بمرابتها فانّ الانفاق بحسب قصد المنفق والغاية المترتّبة عليه والوجه المصروف فيه والشّخص الموصول اليه يختلف حاله واسمه؛ فربّ امساكٍ كان خيراً من الانفاق الحسن وربّ انفاقٍ كان وبالاً على المنفق، ونعم ما قال المولوىّ قدّس سرّه:

منفق وممسك محل بين به بود جون محل باشد مؤثّر ميشود
اي بسا امساك كز انفاق به مال حقّ را جز بامر حقّ مده
مال راكز بهر حق باشى حمول نعم مال صالح كفت آن رسول

ولمّا كان اصل كلّ ما ينسب الى الانسان انانيّته الّتى هى نسبة الوجود الى نفسه، واصل كلّ الانفاقات وغايتها وعلّتها الغائيّة الانفاق من الانانيّة، واصل جميع ما ينفق عليه الولاية فمن انفق انانيّته فى طريق الولاية بان يسلّمها لولىّ امره بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة فان انفق من سائر ما ينسب اليه من حيث انتسابه الى الولاية على نفسه وعلى من تحت يده وعلى غيره بطريق الفرض او النّدب او الاباحة كان انفاقه سخاءً، وان امسك من هذه الجهة كان امساكه ممدوحاً ولم يكن بخلاً، ومن بخل بانانيّته ولم ينفقها فى طريق الولاية فان امسك كان امساكه بخلاً وان انفق كان انفاقه تبذيراً الاّ اذا كان الامساك او الانفاق فى طلب الولاية فانّهما حينئذٍ يخرجان من اسم البخل والتّبذير فعلى هذا صحّ ان يقال: انّ المختالين الّذين يبخلون بصرف انانيّاتهم فى طريق ولاية علىّ (ع) { وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ } والامتناع من صرف انانيّاتهم فى طريق الولاية يعنى الّذين يعرضون عن الولاية ويصدّون النّاس عنها، وصحّ ان يقال انّ الآية تعريض برؤساء منافقى الامّة حيث كانوا يعرضون بعد محمّد (ص) عن علىّ (ع) ويمنعون النّاس عن الرّجوع اليه { وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } يعنى يعتذرون عن امساكهم بانّه ليس لهم ما ينفقون ويكتمون ما كان لهم من النّعم الظّاهره والباطنة من قوّة قواهم وحشمتهم وجاههم وعلومهم ومعارفهم ولمّا كان اشرف النّعم الظّاهرة والباطنة ما يطرء للانسان من الاحوال والاخلاق الآلهيّة الّتى تجعل الانسان فى حال طروّها فى راحة وانبساط ولذّة، واصل الكلّ نعمة الولاية ومعرفتها وكان اقبح اقسام الكتمان كتمان تلك الاحوال وهذا المعرفة عن نفسه بان يصير الانسان غافلاً عن معرفته وعن لذّة احواله او مغمضاً عنهما وكان تلك ادلّ دليل على نبوّة من اتّصف وامر بها وولايته صحّ تفسير الآية بكتمان ما آتاهم الله من ادلّة نبوّة محمّد (ص) او ادلّة ولاية علىّ (ع) ممّا عرفوه من كتبهم واخبار انبيائهم ومن القرآن واخبار محمّد (ص) وممّا وجدوه فى نفوسهم من الاخلاق الاخرويّة الّتى هى انموذج اخلاقهما واحوالهما { وَأَعْتَدْنَا } التفت من الغيبة الى التّكلّم تنشيطاً للسّامع { لِلْكَافِرِينَ } اى الكاتمين لنعم الله غير شاكرين لها باظهارها فانّ اظهار النّعمة احد اقسام الشّكر كما انّ كتمانها احد اقسام كفرانها، ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بانّ الكاتمين لنعم الله معدودون من الكفرة { عَذَاباً مُّهِيناً } كما انّهم اهانوا نعمنا بالكتمان وعدم الاظهار فانّ الله اذا انعم على عبدٍ بنعمة احبّ ان يراها عليه وابتذال النّعم وتحديثها بالفعال خيرٌ من ابتذالها بالمقال، ومن كتم علماً ألجمه الله بلجام من النّار.