التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
٥٩
-النساء

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ } فيما انزل ولا سيّما عمدة ما انزل وهى ما به صلاحكم ورفع نزاعكم وردّ خلافكم وهو تعيين من ترجعون اليه فى جملة اموركم الدّنيويّة والاُخرويّة وفيما اشتبه عليكم وهى قوله { { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [المائدة:55] (الى آخرها) فانّه لا خلاف بينهم انّه فى علىّ (ع) { وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } فيما آتاكم وفيما نهاكم عنه { { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [الحشر:7] ولا سيّما عمدة ما آتاكم وهى قوله بعد ما قال: الست اولى بكم من انفسكم، الا ومن كنت مولاه فهذا علىّ (ع) مولاه؛ ولا خلاف بينهم انّه من الرّسول (ص).
تحقيق معنى اولى الامر
{ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ } لم يكرّر اطيعوا اشارةً الى تعيين اولى الامر وانّ اولى الامر من كان شأنه شأن الرّسول وامره امره وطاعته طاعته حتّى لا يكون لكلّ طاعة غير طاعة الآخر، وتفسير اولى الامر بامراء السّرايا والسّلاطين الصّوريّة الاسلاميّة نقض لصدر الآية او التزام نسخ له او التزام اجتماع النّقيضين لانّه لا نزاع فى وجوب طاعتهم فى امر الدّنيا او لمحض التّقيّة؛ انّما النّزاع فى طاعتهم فى امر الدّين من غير تقيّة ويلزم منه ما ذكر، لانّ واو العطف للجمع والسّلاطين بعضهم فسّاق وقد يكون امرهم خلاف امر الله وامر رسوله (ص) فلا يمكن الجمع بين الطّاعات الثّلاث فوجوب طاعتهم امّا ناقض لوجوب طاعة الرّسول (ص) او ناسخ له او التزام لاجتماع النّقيضين، فانّ السّلاطين الجائرة يكون امرهم بقتل النّفس المحرّمة مناقضاً لنهيه تعلى عنه وكذا حال امرهم بشرب الخمر لندمائهم مع نهيه تعالى عنه، وتقريره انّه اذا كان المراد باولى الامر السّلاطين على ما زعموا يلزم وجوب طاعتهم فى جميع ما امروا ونهوا بصريح الآية وعدم ما يخصّصه، لا يقال: المخصّص هو صدر الآية فانّ الامر بطاعة الله والرّسول (ص) مقدّماً على طاعة السّلطان يفيد وجوب طاعة السّلطان فيما لا ينافى طاعتهما، لانّا نقول: يكون الامر بطاعة السّلطان حينئذ لغواً لانّ امره ان كان مطابقاً لامرهما فالامر بطاعة الاوّلين كافٍ عن ذلك الامر، وان كان منافياً فوجوب طاعتهما يفيد عدم وجوب طاعته، وان كان غير معلوم مطابقته وعدمها فامّا ان نكون مأمورين بتشخيص المطابقة وعدمها ثمّ بالطّاعة وعدمها فبعد التّشخيص يأتى الشّقّان، او لم نكن مأمورين بتشخيص المطابقة فامّا ان نلتزم انّ امره مبيّن لأمر الله ورسوله ومطابق له فهو خلاف الفرض والتزام لمذهب الخصم، او لا نلتزم ذلك فيلزم حينئذٍ من الامر بطاعته الاغراء بالحرام من الله والتّوالى باطلة، وكلّما وجب طاعة السّلاطين فى جميع ما امروا ونهوا يلزم وجوب طاعتهم فيما يخالف امر الله ونهيه ويناقضهما؛ فامّا ان يكون وجوب طاعتهم مقدّماً على وجوب طاعة الله مع بقاء وجوبها فيكون نقضاً او رافعاً لوجوب طاعته وبياناً لانتهاء امد وجوبها فيكون نسخاً او نلتزم بقاء الوجوبين فجواز اجتماع النّقيضين، فان تعلّق الامر والنّهى بقضيّةٍ واحدة فى زمان واحد مستلزم لجواز ايجاب تلك القضيّة وسلبها وهو التّناقض. فالحاصل انّ ارادة السّلاطين من اولى الامر مناقضة مع صدر الآية بخلاف ما لو اريد باولى الامر من كان شأنه شأن النّبىّ وامره امره وعلمه علمه وكان معصوماً من الخطاء والزّلل، فانّ امره حينئذٍ يكون موافقاً ومبيّناً لامر الرّسول (ص) ولو لم يكن سوى هذه الآية فى اثبات مدّعى الشّيعة لكفت هذه ولا حاجة لهم الى غيرها مع انّ عليه ادلّة عديدة عقليّه ونقليّه دوّنها القوم فى تداوينهم، وتوسّلهم بالاجماع وحديث لا تجتمع امّتى على خطأ؛ يدفعه آية الخيرة، وحديث الغدير فى مشهد جمّ غفير بحيث ما امكن لهم انكاره على انّ الاجماع محض ادّعاء وافتراء لخروج بعض الصّحابة عن البيعة وعدم حضور كثير فى السّقيفة وردّ جمع على ابى بكر الخلافة وتوسّلهم بصلوته بالامّة فى حال حياة الرّسول (ص) حجّة عليهم، لانّ النّبىّ (ص) بعد ما افاق وعلم انّ ابا بكر امّ بالقوم خرج مع ضعفه وازاله عن مقامه قبل اتمام صلوته وامّ بنفسه، وهو دليل على انّه لم يؤمّ القوم به بأمره وانّه لا ينبغى له الامامة والا كان تقريره عليها فى حال حياته واجباً، وحديث: سيّدا كهول اهل الجنّة؛ يدفعه العقل والنّقل لانّ اهل الجنّة على اشرف الاحوال وهى حال الشّباب كما ورد انّ اهل الجنّة جردٌ مردٌ، وحديث:
" "لو لم ابعث لبعث عمر" ؛ يكذّبه قول النّبىّ (ص) فى حقّ من تخلّف عن جيش اسامة وردّه عليه فى أمره باحضار القلم والدّواة لرفع النّزاع، وقوله: "انّ الرّجل ليهجر" ؛ وخلافه ابى بكر بلا فصل بزعمهم، ومواخاته (ص) مع علىّ (ع) دونه، ووصايته باداء ديونه انجاز عداته (ص) الى علىّ وانت منّى بمنزلة هارون من موسى (ع) وكون علىّ (ع) بمنزلة نفسه تحت الكساء، والمستحقّ للبعثة اولى بكلّ ذلك، وتأسّى جبرئيل بأبى بكر فى لبس الصّوف واسترضاء الله منه؛ يكذّبه انّ التأسّى بالنّبىّ (ص) اولى واسترضاء النّبىّ (ص) اجدر مع انّه سوّف استرضاء النّبىّ (ص) فقال: { { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى:5] وفرار الشّيطان من هيبة عمر؛ يكذّبه فراره من الغزاء فى احد، وآية: { { إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [آل عمران:155] فى الفارّين فى احد. والحاصل انّ مقدّماتهم الّتى نظموها شاعرين او غير شاعرين مختلّة، فانّهم حالاً وقالاً يقولون، انّ ابا بكر لم يكن معصوماً وكلّ من لم يكن معصوماً يمكن ان يكون خليفة للرّسول (ص)، فأبو بكر يمكن ان يكون خليفة للرّسول، وكلّ من يمكن ان يكون خليفة واجمع الامّة على خلافته فهو خليفة، فابو بكر خليفة؛ نقول: الصّغرى فى القياس الثّانى وهى انّ ابا بكر يمكن ان يكون خليفة واجمع عليه الامّة باطلة بحسب امكان خلافته كما يجيء وبحسب اجماع الامّة كما عرفت، والكبرى فيه ايضاً باطلة بآية الخيرة، والصّغرى فى القياس الاوّل مسلّمة بل نقول: انّ ابا بكر مثل عمر تخلّف عن جيش اسامة فضلاً عن ان لم يكن معصوماً، وامّا الكبرى فيه فهى فاسدة، لانّ الرّسول (ص) كان له الرّسالة والخلافة الآلهيّة وهى تقتضى ان يكون صاحبها كالآله ناظراً الى كلّ فى مقامه ومعطياً لكلّ حقّه بحسب استعداده ولسان استحقاقه حافظاً لكلّ باسباب حفظه، والاّ لم يكن خليفة الله وكان له السّلطنة على كلّ من دخل تحت يده وهذه تقتضى التّسلّط عليهم بحسب الدّنيا والتّصرّف فيهم بأىّ نحو شاء فان كان المراد بخليفته وامكان عدم عصمته هو خليفته فى السّلطنة والغلبة فى الدّنيا، فمسلّم انّه لا يجب عصمته بل يجوز فسقه؛ لكنّ الكلام فى خلافة الرّسالة والسّياسة الالهيّة وهذا الوصف يقتضى كون صاحبه كالرّسول (ص) بصيراً ناقداً عالماً بمرتبة كلّ واستحقاقه ولسان استعداده برزخاً واسطة بين الخلق والحقّ موصلاً كلاًّ الى غايته والاّ كان مفسداً فى الارض ومهلكاً للحرث والنّسل، على انّه ان لم يصدّق الخلق بأنّه بصير من الله عالم بخفيّات الموجودات وجليّاتها قادر على حفظ كلّ فى مرتبته وعلى اعطاء كلّ حقّه لا يقع منهم اطاعته عن صميم القلب فلم ينقادوا له باطناً فلم ينتفعوا منه بحسب الآخرة، فان علموا انّه غير معصوم ويجوز له الخطاء فيما القى اليهم فكيف يسلّمون له وهذا هو الّذى اقتضى النّصّ فى حقّه فانّ العصمة والبصيرة والعلم ببواطن الامور امر ليس فى ظاهر البشرة فيدرك بالابصار حتّى يمكن معرفته للخلق، بل أمر خفىّ لا يدركه الا من كان محيطاً به عالماً بسائره وخفيّاته فمن لم يكن عليه نصّ لا يمكن خلافته وفى آيات توقّف الشّفاعة على اذن الله اشارة الى هذا التّوقّف ولذلك قالت الصّوفيّة: توقّف الرّياسة الآلهيّة على الاذن والاجازة من ضرويّات المذهب او قريب منها وكان سلسلة اجازتهم منضبطة يداً بيد ونفساً بنفسٍ الى المعصوم، والفقهاء رضوان الله عليهم قائلون به وكان سلسلة اجازتهم مضبوطة بل كانوا فى الصّدر الاوّل اذا لم يحصل لاحدٍ منهم الاجازة فى الكلام مع الخصوم والرّواية عن المعصوم لم يتكلّم مع احدٍ فى امر الدّين ولم يرو حديثاً من أحاديث المعصومين، ومشايخ اجازة الرّواية معرفة فمن ادّعى الخلافة ونيابة الرّسالة من غير اذن واجازة لم يكن كالصّدر الاوّل من العذاب بمفازة. ولمّا كان الرّسول (ص) مؤسّساً للاحكام السّياسيّة والعبادات القالبيّة اخذاً للبيعة منهم من هذه الجهة ويسمّى اخذه للبيعة من هذه الجهة اسلاماً، وكان هادياً من جهة القلب ومصلحاً لاحوال الباطن ومبيّناً للآداب القلبيّة اخذاً للبيعة منهم من هذه الجهة ويسمّى ايماناً كان خليفته امّا خليفة له من الجهتين كعلىّ (ع) واولاده المعصومين (ع) وكلّ من كان جامعاً للطّرفين حافظاً للجانبين. وامّا خليفة له من الجهة الاولى وهم الفقهاء وعلماء الشّريعة رضوان الله عليهم الّذين تصدّوا للاحكام الظاهرة وآداب السّياسة، وامّا خليفة له من الجهة الاخرى كالصّوفيّة الصّافية الطّويّة من الشّيعة الّذين كان تمام اهتمامهم بأحوال الباطن وأحكام القلب والنّزاع بين الفريقين بانكار كلّ طريقة الاخرى ناشٍ من الجهل بحقيقة الرّسالة والغفلة عن كيفيّة النّيابة، فانّ كلاًّ اذا حصل له الاذن والاجازة كان نائباً فى مرتبته مأجوراً فى شغله مفروضاً طاعته اماماً فى مرحلته محكوماً على الخلق بالرّجوع اليه والاخذ منه، وكلّ منهما اذا لم يحصل له الاجازة كان نسناساً بل خنّاساً وشيطاناً مردوداً، فالنّزاع ليس فى محلّه بل الحقّ ان يبدل النّفاق بالوفاق ويرجع كلّ الى صاحبه فيما هو من شأنه ويأخذ منه فيتصالحا، فانّ الظّاهر غير غنّىٍ عن الباطن والباطن لا يستكمل بدون الظّاهر، وقصّة اتّباع موسى (ع) للخضر (ع) مع كونه افضل واعلى من الخضر بمراتب عديدة برهان على جواز رجوع الافضل فى جهة الى من كان افضل منه فى جهة اخرى، فلا بدّ ان يرجع صاحب الباطن الى عالم الشّرع فى الاحكام الظّاهرة وصاحب الشّرع الى عالم الطّريقة فى الاحكام الباطنة فاذا تصالحا وتوافقا فالاحسن ان يتظاهرا ويدفعا كلّ منافق كذّاب من مدّعى الفتيا والسّلوك عن ادّعائه ويظهرا بطلانه ويحفظا الدّين عن غوائل الشّياطين من الكذّابين وتلبّس بعض الزّنادقة بلباس الصّوفيّة، وكذا تلبّس المتصوّفة من العامّة بلباسهم وصدور ما ينافى الشّريعة عنهم قولاً وفعلاً لا يصير سبباً لطعن صوفيّة الشّيعة؛ فانّهم مراقبون كمال المراقبة فى ان لا يصدر عنهم ما يخالف الشّريعة قولاً وفعلاً بل يقولون ترك القيد فى ان يتقيّد الانسان بالشّريعة ويراقبون ان لا يجرى على لسانهم غير ما جرى على لسان الشّريعة فكيف بفلعهم واعتقادهم { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ } يسير فكيف بالخطير خصوصاً النّبأ العظيم الّّذى هو الخلافة { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } لم يقل والى اولى الامر لانّ المقصود الاصلىّ انّه اذا وقع التّنازع بينكم فى تعيين ولىّ الامر فردّوه اليهما فاذا عيّناه لكم فردّوا جميع اموركم اليه، وفى بعض الاخبار انّ الآية هكذا { وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } يعنى ردّوا جميع ما خفتم التّنازع فيه الى قولهما فانّهما بيّنا جميع ما تحتاجون اليه ببيانه فى الكتاب والسّنة وبتعيين من عنده علم الكتاب فانّ قول الله اطيعوا الله (الى اخر الآية) وقوله { { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ } [المائدة:55] (الى آخر الآية) فى علىّ (ع) وقول محمّد (ص): "من كنت مولاه" (الحديث) بيّنا انّ الاولى بكم من انفسكم واحرى بالرّجوع اليه والاخذ منه والتّسليم له هو علىّ (ع) فان رددتم كلّما خفتم التّنازع فيه الى علىّ (ع) بعد ما رددتم النّزاع الكّلىّ الى الكتاب والرّسول (ص) واخذتم بقولهما فيه لم يبق لكم ريب ونزاع فى شيءٍ من الاشياء وان حكّمتم الرّجال دون الكتاب وقول الرّسول (ص) خرجتم من الرّشاد وطريق السّداد الى الحيرة والارتياب؛ هذا فى الكبير، وأمّا فى العالم الصّغير فانّ تنازع النّفس وهواها والطّبيعة وقواها معكم فى شيء من الاشياء فاعرضوه على الرّوح والعقل فكلّما ارتضاه العقل وصدّقه الرّوح فخذوه وكلّما لم يصدّقه العقل وان كان النّفس ارتضته فاتركوه { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } يعنى انّ الايمان بهما يقتضى ردّ كلّ ما اشتبه عليكم الى الكتاب والسّنّة ومن عنده علمهما، وترك الرّجوع الى الكتاب والسّنّة ومبيّنهما دليل عدم الايمان بهما { ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } من تحريفكم اولى الامر من معناه الى السّلاطين ووليّكم الى المحبّ ومولاه الى المحبّ حتّى يستقيم لكم رأيكم الباطل.