التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ
٦٠
-غافر

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قد مضى فى سورة البقرة وفى سورة النّمل بيان تعليق الاستجابة على الدّعاء فى الاموال والاولاد عقيب الصلات من الاتّفاقيّات؟ او هى من الاسباب للوصول الى المراد؟ - قال بعض الفلاسفة: انّ ذلك من الاتّفاقيّات، وبرهان انكارهم لسببيّة ذلك انّ العالى لا التفات له الى الدّانى وانّه لا تأثير للدّانى فى العالى فلا يكون الظّفر بالمقصود عقيب ذلك الاّ محض الاتّفاق، وصريح الآيات والاخبار يثبت التّسبيب بين الدّعوات والاجابات وبين الصّدقات ودفع البلايا وجذب البركات، وبين الصّلات وزيادة الاموال والاعمار والاولاد.
تحقيق البداء ونسبة التّردّد والمحو والاثبات الى الله تعالى
وتحقيق ذلك، انّ العوالم بعد مقام الغيب المعبّر عنه بالعمى الّذى لا خبر عنه ولا اسم له ولا رسم، وبعد مقام الواحديّة المعبّر عنه بمقام الاسماء والصّفات، وبعد مقام الفعل المعبّر عنه بالمشيّة بوجهٍ ستّة وبوجهٍ سبعة، وبوجهٍ سبعون، وبوجهٍ سبع مائة، وبوجهٍ سبعة آلاف، وبوجهٍ سبعون الفاً، وبوجهٍ غير متناهية، وانّ كلّ عالمٍ عالٍ بالنّسبة الى الدّانى حاله حال النّفس بالنّسبة الى قواها ومداركها، وانّ عالم المثال مرتبته من عالم الطّبع مرتبة الخيال الانسانىّ من بدنه وقواه فكما انّ قوى النّفس الخياليّة تتأثّر من بدنها ومن غير بدنها وبذلك التّأثّر يتاثّر الخيال وتأثر الخيال هو بعينه تأثّر النّفس كذلك عالم المثال يتأثّر من عالم الطّبع، وتأثّره بعينه تأثّر النّفوس الكلّيّة، وتأثّرها تأثّر العقول الكلّيّة، وتأثّرها تأثّر المشيّة، وهو تأثّر الاله، وكما انّ النّفوس البشريّة بعد التّاثّر من الابدان وقواها تحرّك قوّتها الشّوقيّة والاراديّة لدفع الموذى او جذب النّافع كذلك النّفوس الكلّيّة بعد تأثّر قواها المثاليّة الخياليّة تهيّج اسباب دفع الموذى وجذب النّافع لما تأثّرت منه، وانّ الحوادث كما تكون باسبابٍ طبيعيّةٍ ارضيّة تكون باسبابٍ الهيّةٍ سماويّة وانّ الاسباب السّماويّة قد تؤثّر بتسبيب الاسباب الطّبيعيّة وقد تؤثّر بمحض التّصوّر والارادة لانّها مظاهر ارادة الله، وافعالها مظاهر افعال الله، اذا ارادت شيئاً تقول له: كن، فيكون، من غير تسبيب اسبابٍ طبيعيّةٍ، وعالم المثال كعالم الخيال يضيق عن الاحاطة بجملة المدركات دفعةً بل يرد عليه الصّور بالتّعاقب ويتجدّد عليه الادراكات متبادلةً ولذلك قد يثبت ضرّ شخصٍ او خيره فيه ثمّ يقع من ذلك الشّخص او من غيره دعاء لدفع ذلك الضّرّ او عمل يدفع ذلك الخير فيقع صورة ذلك الدّعاء او العمل فيه ويقع صورة لازمه من دفع الضّرّ او دفع الخير فيه، وكلّما تصوّره النّفوس العالية الجزئيّة او الكلّيّة يقع صورته فى هذا العالم امّا على مجرى العادة وبالاسباب الطّبيعيّة او خارجاً عن مجرى العادة ومن هذه الالواح المثاليّة ينسب البداء الى الله تعالى، وينسب التّردّد الّذى هو عبارة عن ترجيح احد المتصوّرين تارةً والآخرُ اخرى، فانّه اذا تعارض دعاء مؤمنٍ لشخصٍ بالخير ودعاء آخر عليه بالشّرّ فيثبت صورة دعاء هذا تارةً مع لازمها وصورة دعاء ذاك اخرى مع لازمها، فيظهر فى نظر النّاظر صورة التّردّد فى الصّورتين المتقابلتين وينسب هذا التّردّد الى الله تعالى كما ينسب افعال القوى الانسانيّة الى النّفوس، وهكذا حال نسبة البداء الى الله تعالى وقد يتّصل المكاشف من النّبىّ (ص) او الولىّ (ع) بتلك الالواح فيشاهد فيها بعض الاسباب والمسبّبات ولا يشاهد منافيات تلك الاسباب والمسبّبات ان كان منافياتها ثابتةً فيها لضيق النّفوس البشريّة الخياليّة عن الاحاطة بجميع ما ثبت فيها فيخبر بذلك ولا يقع ما يخبر به فينسب البداء الى تلك الالواح لقصور نظره لا لعدم ثبت ما وقع، وما كذب فى ذلك لانّه أخبر عن عيانه { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } لمّا كان اقتضاء العبوديّة الخروج من الانانيّة والتّعلّق بالحقّ الاوّل تعالى شأنه وكان اقتضاء ذلك التّعلّق استدعاء استقلال الحقّ بالانانيّة فى وجود العبد قال تعالى فى مقام يستكبرون عن دعائى يستكبرون عن عبادتى اشارةً الى هذا التّلازم { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } صاغرين.