التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
٣
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ
٤
-الدخان

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } من مقامه العالى الّذى هو مقام المشيّة، او مقام الاقلام العالية، او مقام اللّوح المحفوظ { فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } هى ليلة القدر وقد مرّ فى سورة البقرة كيفيّة نزول القرآن فى ليلة القدر ونزوله فى مدّة ثلاث وعشرين سنة عند قوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ } [البقرة:185] { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }.
اعلم، انّ مراتب العالم بوجهٍ غير متناهيةٍ، وبوجهٍ سبعون الفاً، وبوجهٍ سبعٌ، وبوجهٍ ستٌّ، وكلّ مرتبة دانية بالنّسبة الى المرتبة العالية تسمّى ليلاً لاختلاطها بظلمة الامكان وظلمة الكثرة والفرق اكثر من المرتبة العالية، كما انّ المرتبة العالية بالنّسبة الى المرتبة الدّانية تسمّى يوماً، ولذلك ترى التّعبير عن المراتب فى الآيات والاخبار فى النّزول باللّيالى وفى الصّعود بالايّام لاعتبار المنزل اليه بالنّسبة الى المنزل منه الّذى هو المرتبة العالية والعليا واعتبار المصعود اليه بالنّسبة الى المصعود منه الّذى هو المرتبة الدّانية والدّنيا، وانّ عالم المثال من العالم الكبير مثل الخيال من العالم الصّغير فكما انّ الانسان كلّما اراد ان يفعله يتصوّره اوّلاً بنحوٍ كلّىٍّ فى مقام العقل ثمّ ينزّله عن مقام العقل الى مقام الخيال فيقدّر قدره ويتصوّر خصوصيّاته ومشخّصاته ثمّ ينزّله بتوسّط القوى المحرّكة وتحريك الاعضاء الى الخارج كذلك كان فعل الله وحال الخيال الكلّىّ فانّ الله اذا اراد ان يفعل فعلاً ينزّله من عرش المشيّة الى العقول الكلّيّة والنّفوس الكلّيّة اللّتين يعبّر عنهما بالاقلام العالية والالواح الكلّيّة ثمّ منهما الى عالم المثال وما لم يصل الامر الى عالم المثال كان بسيطاً مجملاً غير ممتازٍ بحسب الوجود العلمىّ بعضه من بعضٍ وكان موجوداً بوجودٍ واحدٍ بسيطٍ، وفى عالم المثال يصير متفرّقاً ممتازاً بعضه من بعضٍ كما يكون الامر فى خيال الانسان كذلك، فانّ المريد للدّار يتصوّر اوّلاً داراً كلّيّاً فاذا تنزّلت الى مقام الخيال يتصوّرها بصورة جزئيّة مربّعة متساوية الاضلاع او مربّعة طولانيّة او غير ذلك مشتملةٍ على بيوتٍ ممتازةٍ بعضها عن بعضٍ، ومشتملةٍ على مشخّصاتها من مكانها وزمانها وغير ذلك من مشخّصاتها، وقد ينفسخ عزيمته لتلك الدّار الموصوفة بالمشخّصات فيمحوها عن خياله ويتصوّر غيرها، وقد يتردّد فى تعمير هذه الدّار ودارٍ اُخرى بنحوٍ آخر، كما انّ البداء والتّردّد والمحو والاثبات المنسوب الى الله يكون من هذا القبيل وفى هذا العالم كما مضى الاشارة اليه فى سورة المؤمن، فالامر المحكم الّذى لا يتطرّق البطلان والمحو والاثبات والنّسخ والتّشابه اليه يتنزّل من عالم الامر الّذي لا يكون فيه وجود ممتاز عن وجودٍ ولا يكون فيه نقص وشرّ وبطلان ومحو الى عالم المثال الّذى يفرق فيه كلّ امر من آخر ويتطرّق المحو والاثبات والبطلان اليه، ويتطرّق التّشابه الّذى هو عدم ثبات المعنى وتطرّق النّسخ والمحو اليه وهو ليلة القدر الّتى ليست لملك بنى اميّة، وكلّما يوجد فى هذا العالم لا بدّ وان ينزّل من عالم العقول والنّفوس الى ذلك العالم ويقدّر قدره فيه ثمّ يظهر فى هذا العالم، كما انّ كلّما يظهر على الاعضاء لا بدّ وان ينزّل من العقل الى الخيال فيقدّر قدره، ثم يظهر على الاعضاء، ولمّا كانت النّفوس كلّيّة كانت او جزئيّة متّحدة مع فاطمة (ع) فى مقامها النّازل ومظهراً لها (ع) جاز تفسير ليلة القدر بها، كما عن الكاظم (ع) حين سأله نصرانىٌّ عن تفسير هذه الآية فى الباطن، فقال: امّا حۤم فهو محمّد (ص) وهو فى كتاب هودٍ الّذى انزل اليه وهو منقوص الحروف، وامّا الكتاب المبين فهو امير المؤمنين علىٌّ (ع)، وامّا اللّيلة ففاطمة (ع)، وامّا قوله فيها يفرق كلّ امر حكيم يقول يخرج منها خيرٌ كثيرٌ فرجل حكيم، ورجل حكيم، ورجل حكيم (الى آخر الحديث)، وعن الباقر (ع) والصّادق (ع) والكاظم (ع) اى انزلنا القرآن واللّيلة المباركة هى ليلة القدر انزل الله سبحانه القرآن فيها الى البيت المعمور جملةً واحدةً، ثمّ نزل من البيت المعمور على رسول الله (ص) فى طول عشرين سنةً، وعن الباقر (ع) قال: قال الله عزّ وجلّ فى ليلة القدر { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } قال ينزل فيها كلّ امرٍ حكيمٍ والمحكم ليس بشيئتين انّما هو شيءٌ واحد فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم الله، ومن حكم بامرٍ فيه اختلاف فرأى انّه مصيبٌ فقد حكم بحكم الطّاغوت، انّه لينزل فى ليلة القدر الى ولىّ الامر تفسير الامور سنة سنة يؤمر فيها فى امر نفسه بكذا وكذا، وفى امر النّاس بكذا وكذا، وانّه ليحدث لولىّ الامر سوى ذلك كلّ يوم علم الله الخاصّ والمكنون العجيب المخزون مثل ما ينزل فى تلك اللّيلة من الامر ثمّ قرأ:
{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } [لقمان:27] (الآية)؛ والغرض من نقل هذا الخبر بيان قوله (ع) فمن حكم بما ليس فيه اختلاف (الى قوله) فقد حكم بحكم الطّاغوت لانّه يظنّ فى بادى الامر انّ فى حكم الائمّة ايضاً اختلافاً، لانّه ما من مسألةٍ الاّ وفيها اخبار متخالفةٌ او متضادّةٌ او متناقضةٌ صادرةٌ عنهم، وقد ذكر صاحب التّهذيبرحمه الله فى اوّل التّهذيب: "ذاكرنى بعض الاصدقاء ايّده الله ممّن اوجب حقّه باحاديث اصحابنا ايّدهم الله ورحم السّلف منهم وما وقع فيها من الاختلاف والتّباين والمنافاة والتّضادّ حتّى لا يكاد يتّفق خبرٌ الاّ وبازائه ما يضادّه ولا يسلم حديثٌ الاّ وفى مقابلته ما ينافيه حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطّعون على مذهبنا، وتطرّقوا بذلك الى ابطال معتقدنا، وذكروا انّه لم يزل شيوخكم السّلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الّذى يدينون الله به ويشنّعون عليهم بافتراق كلمتهم فى الفروع ويذكرون انّ هذا ممّا لا يجوز ان يتعبّد به الحكيم ولا ان يبيح العمل به العليم وقد وجدناكم اشدّ اختلافاً من مخالفيكم واكثر تبايناً من مباينيكم، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليلٌ على فساد الاصل حتّى حصل على جماعةٍ ممّن ليس لهم قوّة فى العلم ولا بصيرة بوجودة النّظر ومعانى الالفاظ الشّبهة، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحقّ لما اشتبه عليه الوجه فى ذلك وعجز عن حلّ الشّبهة فيه، سمعت شيخنا ابا عبد الله ايّده الله يذكر انّ ابا الحسين الهادونىّ العلوىّ كان يعتقد الحقّ ويدين بالامامة فرجع عنها لمّا التبس عليه الامر فى اختلاف الاحاديث وترك المذهب ودان بغيره لما لم يتبيّن له وجوه المعانى فيها، وهذا يدلّ على انّه دخل فيه على غير بصيرةٍ واعتقد المذهب من جهة التّقليد".
وتحقيق ذلك انّ مراتب الرّجال متفاوتة فى الدّين فانّ للايمان عشر درجاتٍ ولكلّ درجةٍ عشرة اجزاءٍ، فمنهم من يكون على جزءٍ من اجزاء الدّرجة الاولى، ومنهم من يكون على جزئين ومنهم من يكون على الدّرجة الثّانية بأجزائها وهكذا ولو ذهب تحمل صاحب الدّرجة الاولى على الدّرجة الثّانية اهلكته كما اشير اليه فى الاخبار، وصاحب كلّ درجة له حكمٌ غير حكم صاحبه كما حقّقنا ذلك فى سورة البقرة عند تحقيق النّسخ فى قوله تعالى:
{ { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [البقرة: 106] (الآية) فمن لم يكن له بصيرة بمراتب الرّجال وباختلاف احوالهم لا يحكم بحكمٍ الاّ ويتطرّق اليه الاختلاف بحسب اعتقاده، فانّه كما يظنّ انّ هذا حكم هذا الرّجل يجوّز ان يكون حكمه غير هذا، وهذا معنى قوله (ع) من حكم بامرٍ فيه اختلاف يعنى بحسب اعتقاده فرأى انّه مصيبٌ فقد حكم بحكم الطّاغوت لانّ حكم هذا الحاكم ليس الاّ من رأيه المنسوب الى انانيّته لا من حكم الله، ومن كان بصيراً بمراتب الرّجال وبصيراً بالاحكام وبكيفيّة تعلّقها بالرّجال بحسب مراتب ايمانهم لا يحكم الاّ عن اراءة الله كيفيّة تعلّق الاحكام بالرّجال ولا يحكم عن قياسٍ ورأىٍ ولا يكون فى حكمه هذا اختلاف بمعنى انّه لا يجوّز ان يكون حكمٌ مخالفٌ لهذا الحكم يخلفه لانّه حكم عن رؤيةٍ لا عن رأىٍ وقياسٍ، ولمّا كان مراتب الرّجال ودرجاتها فى الايمان غير متناهية فالاحكام ايضاً تكون غير متناهيةٍ، وربّما يكون لشخص واحد بحسب توارد احوالٍ مختلفةٍ عليه احكام متخالفة متواردة عليه، ووجه اختلاف الاخبار فى الاحكام ليس محض التّقيّة ولا محض اختلاط الاكاذيب والاغلاط بها بل كان عمدة وجه اختلاف الاخبار اختلاف احوال الرّجال، ولولا اختلاف الاخبار فى المسألة الواحدة بالنّسبة الى اشخاصٍ عديدةٍ كان ينبغى ان يترك المذهب لا انّ اختلافها كذلك ينبغى ان يصير سبباً للخروج من المذهب كما قاله الشّيخرحمه الله فى التّهذيب.