التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
-الحجرات

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } لمّا كان الحكم الآتى ايضاً ممّا يصعب امتثاله لكون الظّنّ فى جبلّة اكثر النّاس أتى بالنّداء { ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ } ابهام الكثير ليحتاط فى كلّ ظنٍّ ويتبيّن انّه من اىّ القبيل.
اقسام الظّنّ وهى خمسة بحسب الاحكام الخمسة
{ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ } اجتناب اصل الظّنّ غير مقدورٍ للمكلّفين الاّ ان يكون الامر باجتناب الظّنّ امراً باجتناب مباديه، وامّا اجتناب اتّباعه فانّه مقدور لكلّ احدٍ والظّنون مختلفة فظنّ يجب اتّباعه لو حصل، ويجب تحصيله لو لم يكن حاصلاً وهو الظّنّ حين الشّكّ فى الصّلاة، والظّنّ حين الاحتياط فى العمل، وكالظّنّ الحسن بالله وبالمؤمنين، وظنّ يستحبّ اتّباعه لو حصل ويستحبّ تحصيله لو لم يكن حاصلاً كالظّنّ بحاجة المؤمن، وتحصيل الظّنّ بحاله من حاجةٍ وغيرها، وظنّ يكره اتّباعه وتحصيله كالظّنّ بنجاسة شيءٍ لا يحصل من تطهيره ضررٌ معتدَّ به، وظنّ يحرم اتّباعه وتحصيله كالظّنّ بسؤات المؤمنين وعوراتهم وفحشائهم، وظنٌّ مباح، فبعض الظّنّ اثم يجب اجتنابه وترك اتّباعه، وعن علىّ (ع) قال: ضع امر اخيك على احسنه حتّى يأتيك ما يقلّبك منه، ولا تظنّنّ بكلمةٍ خرجت من اخيك سوءً وانت تجد لها فى الخير محملاً، وعنه (ع): اذا استولى الصّلاح على الزّمان واهله ثمّ اساء رجلٌ الظّنّ برجلٍ لم يظهر منه خزيةٌ فقد ظلم، واذا استولى الفساد على الزّمان واهله ثمّ احسن الرّجل الظّنّ برجل فقد غرر.
معنى الغيبة
{ وَلاَ تَجَسَّسُواْ } عن عورات المؤمنين حتّى يحصل لكم ظنّ سوء، وقرئ لا تحسّسوا بالحاء المهملة وهو بمعناه، عن الصّادق (ع) قال رسول الله (ص):
"لا تطلبوا عثرات المؤمنين فانّه من تتبّع عثرات اخيه تتّبع الله عثرته، ومن تتبّع الله عثرته يفضحه ولو فى جوف بيته" { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } اى لا يذكر بعضكم بعضاً بالسّوء فى غيبته، والغيبته ان تظهر بلسانك او بسائر جوارحك بالتّصريح او بالكناية والتّلويح عيباً للمؤمن قد ستره الله عليه فى غيابه، وحيث لم يكن يعلم باظهارك، وامّا العيوب الّتى لم تكن فى المؤمن فنسبتها اليه فى حضوره وغيابه تكون بهتاناً وتكون اشدّ من الغيبة، ويظهر ممّا ذكرنا فى سورة البقرة فى بيان قوله تعالى: وبالوالدين احساناً وجه حرمة السّخريّة بالمؤمن ولمزه ونبزه باللّقب السّوء والظّنّ به وتجسّس عورته والغيبة له والبهتان له، ويظهر ايضاً سرّ كونها اشدّ من الزّنيّة، وقد ذكر فى الفقه الموارد الّتى يجوز الغيبة فيها، وعن الصّادق (ع) انّه سئل عن الغيبة فقال: هو ان تقول لاخيك فى دينه ما لم يفعل، وتبثّ عليه امراً قد ستره الله عليه لم يقم عليه فيه حدّ، وفى روايةٍ: وامّا الامر الظّاهر فيه مثل الحدّة والعجلة فلا، وعن الكاظم (ع) من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه النّاس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه النّاس اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته، وفى حديثٍ: قولوا فى الفاسق ما فيه كى يحذره النّاس، وفى اخبارٍ عديدةٍ مضمون قول النّبىّ (ص): "ايّاكم والغيبة فانّ الغيبة اشدّ من الزّنا" ، ثمّ قال: "انّ الرّجل يزنى ويتوب فيتوب الله عليه، وانّ صاحب الغيبة لا يغفر له الاّ ان يغفر له صاحبه" ، والغيبة المحرّمة تكون للمؤمن او للمسلم مطلقاً او لمن قبل صورة الاسلام منتحلاً كان او مسلماً او مؤمناً، قال بعض اهل المعرفة: غير المؤمن حكمه حكم الانعام فكما لا غيبة للانعام لا غيبة لغير المؤمن، ولغير المتّصف بالاسلام حقيقةً فانّ منتحل الاسلام كمنتحلى التّهوّد والتّنصّر لا حرمة له انّما الحرمة لمن اتّصل بمظاهر الله بالبيعة العامّة او الخاصّة، والتّحقيق انّ رؤية العيب من العباد بل من مطلق خلق الله ليست الاّ من نظرٍ ردىٍّ خسيسٍ وهو النّظر الى الاشياء مباينة للحقّ المقوّم الصّانع لها مع الغفلة عن الحقّ تعالى وصنعه، ومع النّظر الى النّفس والاعجاب بها، او مع الغفلة عنها وعن عيوبها، واذا أراد الله بعبدٍ شرّاً بصّره عيوب غيره وأعماه عن عيوب نفسه، وذكر الاشياء وتعييبها فى الحقيقة راجعٌ الى تعييب الصّنع، والغفلة عن الصّانع وصنعه حين النّظر الى المصنوع كفر للصّانع، والغفلة من النّفس وعيوبها مذموم، ورؤية النّفس والاعجاب بها اصل جميع الشّرور، فرؤية السّوء من غير الانسان قبيحة، ورؤيته من الانسان اقبح، ومن المنتحل للاسلام اشدّ قبحاً، ومن المسلم اشدّ قبحاً، ومن المؤمن اشدّ قبحاً، وذكره فى غيابه او حضوره بسوءٍ لا قبيح اقبح منه حتّى نسب الى الخبر انّه اشدّ من سبعين زنيةً مع الامّ تحت الكعبة، ولذلك نسب الى عيسى (ع) انّه مرمّع الحواريّين على جيفة كلبٍ منتنةٍ فقال الحواريّون: ما انتنه..! فقال عيسى (ع): ما ابيض اسنانه..! وروى انّ نوحاً مرّ على كلبٍ كريه المنظر فقال نوح: ما اقبح هذاا لكلب فجثا الكلب وقال بلسان طلق ذلق: ان كنت لا ترضى بخلق الله فحوّلنى يا نبىّ الله، فتحيّر نوح واقبل يلوم نفسه بذلك وناح على نفسه اربعين سنة حتّى ناداه الله تعالى الى متى تنوح يا نوح؟ فقد تبت عليك، وعن النّبىّ (ص): "المؤمن اذا كذب بغير عذرٍ لعنه سبعون الف ملك وخرج من قلبه نتنٌ حتّى يبلغ العرش، ويلعنه حملة العرش وكتب الله عليه بتلك سبعين زنيةً اهونها كمن يزنى مع امّه" ، والكذب قبيح من كلّ احدٍ خصوصاً من المؤمن لكن غيبة المؤمن اقبح منه بمراتب، وعنه (ص): "من آذى مؤمناً فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله، ومن آذى الله فهو ملعون فى التّوراة والانجيل والزّبور والفرقان" ، وهو ما ذكرنا فى سورة البقرة من انّ غيبة المؤمن وذكره بسوءٍ فى غيابه وحضوره وايذاءه كلّها راجع الى صاحبه، فمن اغتاب مؤمناً وذكره بسوءٍ كان كمن اغتاب صاحبه وذكره بسوءٍ، واغتياب صاحبه الّذى هو اعظم آيات الله وذكره بسوءٍ فوق جميع المعاصى وغايتها كما قال تعالى: { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ ٱلسُّوۤءَىٰ أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } [الروم:10]، وقال (ص): "من اغتاب مؤمناً بما فيه لم يجمع الله بينهما فى الجنّة ابداً، ومن اغتاب مؤمناً بما ليس فيه انقطعت العصمة بينهما، وكان المغتاب فى النّار خالداً فيها وبئس المصير" ، فالغيبة بما ليس فى المؤمن تجمع خواصّ الغيبة والكذب جميعاً، وقال (ص): "انّه يؤتى بأحدٍ يوم القيامة يوقف بين يدى الله ويدفع اليه كتابه فلا يرى حسناته فيقول: الهى ليس هذا كتابى! لانّى: لا ارى فيها طاعتى! فيقول له: انّ ربّك لا يضلّ ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب النّاس، ثمّ يؤتى بآخر ويدفع اليه كتابه فيرى فيه طاعاتٍ كثيرة فيقول: ما هذا كتابى! فانّى ما عملت هذه الطّاعات! فيقول: لانّ فلاناً اغتابك فدفعت حسناته اليك" ، وقال (ص): "كذب من زعم انّه ولد من حلال وهو يأكل لحوم النّاس بالغيبة" واجتنبوا الغيبة فانّها ادام كلاب النّار، ونعم ما قال المولوىّ قدّس سرّه:

عيب بر خود نه بر آيات دين كى رسد بر جرح دين مرغ كَلين
بس تو حيران باش بى لا و بلى تا ز رحمت بيشت آيد محملى
عيب باشد كونبيند جزكه عيب عيب كى بيند روان باك غيب
اى خنك جانى كه عيب خويش ديد هرجه عيبى ديد آن بر خود خر يد

{ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } ولقد أتى بالاستفهام الانكارىّ وبالاحد للعموم وبأكل لحم الميّت من الاخ وبتأكيد مفهوم نفى الحبّ بعطف كرهتموه للمبالغة البالغة فى النّهى عن الغيبة وتمثيل الغيبة بأكل لحم الميتة لانّ الاسماء قوالب المسمّيات ولا حكم لها على حيالها، ومن ذكر مؤمناً بسوءٍ لا يكون ذلك منه الاّ بتخلية المؤمن عن لطيفة ايمانه فذكره على لسانه وسماعه بسمعه بمنزلة لحمه الخالى عن الرّوح الممضوغ بفمه والدّاخل فى جوفه فانّ دخوله فى جوفه من طريق سمعه كدخوله فى جوفه من طريق حلقه، ولذلك ورد انّ السّامع للغيبة شريك المغتاب { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فلا تغتابوا وتوبوا ان اغتبتم، ولمّا كان فى جبلّة الانسان رؤية العيب من الغير وذكر ما رآه على لسانه وقد بالغ تعالى فى ذمّ الغيبة والنّهى عنه وكان ذلك مورثاً ليأس اغلب النّاس عن رحمته تعالى قال: { إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } بعد ذلك ترجيحاً لجانب الرّجاء.