التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٦٤
-المائدة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } غلّ اليد كناية عن الامساك والبخل وبسطها كناية عن الجود. اعلم، انّ لليهود مذاهب مختلفة وعقائد متشتتة وآراء مبتدعة فمنها اعتقادهم انّ الله جسم وانّه خلق السّماوات والارض وما فيها من المواليد فى ستّة ايّام، وآخر المخلوقات فى اليوم الآخر كان آدم (ع) وخلق له من ضلعه الايسر حوّاء واسكنه جنّة خلق له فى عدن ومنعه من اكل شجرة، واكلت حوّاء باغواء الشّيطان والحيّة من تلك الشّجرة وحملت آدم (ع) على الاكل وانّ الله ندم من خلق آدم (ع) وبنى آدم، وانّ الله فرغ من الخلق يوم الجمعة واستراح يوم السّبت وهو مستريح فارغ من الامر، فنقل تعالى قولهم الباطل وردّ عليهم ودعا عليهم بقوله { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } واليد كما سبق فى امثالها غير مختصّةٍ بالعضو المخصوص الّذى لذوى الحيوة الحيوانيّة، بل هى اسم لمعنى عامّ له مصاديق كثيرة ومترتّبة بعضها فوق بعضٍ، وهو معنىً ما به التّصرف بالحركة فى الجذب والدّفع والدّخل والخرج، وما به القدرة فى الانفاق والامساك والايجاد والاعدام وغير ذلك من لوازم التّصرّف، وهى فى الحيوان آلة مخصوصة مركّبة من اجسام مختلفة، وفى الانسان الملكىّ آلة اخرى وفى الانسان الملكوتىّ ايضاً آلة محسوسة غير ما للانسان الملكىّ، وفى الجبروتّى ليست آلة محسوسة بل امر معقول مجرّد عن المادّة ولوازم المادّة وعن التّقدّر والتّشكّل، والحقّ تعالى شأنه لمّا كان احدىّ الذّات لا كثرة لذاته بوجه من وجوه الكثرة ولا تركيب فيه بوجه من وجوه التّركيب، بل انيّته وجود صرف محيط بكلّ الكثرات بحيث لا يشذّ عن وجوده شيءٌ منها والا كان محدوداً مركبّاً، فهو بذاته الاحديّة مصداق لجميع الاسماء والصّفات المتقابلة بحيث لا يلزم منه تكثير ولا تركيب ولا تحديد، فانّ من حدّه بشيء فقد عدّه واثبت له ثانياً، ومن عدّه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّاه، ومن جزّاه فقد جهله، فمن وجوب وجوده يستدل على عدم تركّبه، ومنه على عدم تحدّده، ومنه على احاطته فهو بكلّ شيءٍ محيط. وهذا اتم البراهين الّتى اقامها الحكماء على احاطته بل هو اصل للكلّ والكلّ راجعٌ اليه فهو باحديّته مصداق الصّفات الحقيقيّة المحضة ومصداق الصّفات الحقيقيّة ذات الاضافة، ومصداق الاضافات والسّلوب تماماً فهو الحىّ العليم السّميع البصير المدرك القادر المريد المتكلّم الرّحمن الرّحيم الخالق الرّازق المبدء المعيد المتصرّف الهادى المفضل المضلّ المنتقم السّبّوح القدّوس، لكن هذه الاسماء غير ظاهرة فى مرتبته الاحديّة فانّها الغيب الّذى لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولا اثر بل هى ظاهرة فى مقام المعروفيّة المسمّاة بنفس الرّحمن والحقيقة المحمديّة والاضافة الاشراقيّة وعرش الرّحمن والولاية المطلقة والمشيّة والحقّ المخلوق به وغير ذلك من اسمائها، سوى الف الف اسم الله تعالى شأنه هى مصداقها فى مقام الظّهور وهى باعتبار نفسها من غير اعتبار حيثيّته وحيثيّة يد الله وباعتبار وجهها الى الله ووجهها الى الخلق، وباعتبار انضيافها الى الملكوت العليا والسّفلى، وباعتبار ظهور اللّطف والقهر فيها يدان لله وكلتا يديه يمين وباسط اليدين بالرّحمة فى هذا المقام، وباعتبار انضيافها الى المهيّات والاعيان الثّابتات تظهر فيها الاسماء المتقابلات من اللّطيف والقاهر والرّحيم والمنتقم ولكلّ صنف من اسمائه تعالى عالم هو محلّ ظهور فعالم الارواح والاشباح النّوريّة الّتى هى عالم المثال والفلكيّات تماماً مظاهر اسمائه اللّطيفة. والعالم السفلىّ الّذى هو عالم الشّياطين والجنّة ومقرّ الارواح الخبيثة وفيه الجحيم ونيرانها مظاهر اسمائه القهريّة، وعالم العناصر بمواليدها مظاهر اللّطف والقهر تماماً فأسماءه تعالى اللّطفيّة والقهريّة يداه تعالى وبهذا الاعتبار ايضاً كلتا يديه يمين ومظاهر الاسماء اللّطفيّة من عالم الارواح والسّماوات يمينه، { { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر:67] والطّاوى والمطوىّ باعتبار الظّاهر والمظهر، والاّ فالسّماوات يمين والظّاهر فيه ايضاً يمين والظّاهر السّفلىّ شمال واصحاب اليمين اصحاب الشّمال اشارة الى اهل هذين العالمين، لكن كونهما يميناً وشمالاً باعتبارهما فى انفسهما لا بالاضافة اليه تعالى فانّ كّلاً منهما بالاضافة اليه تعالى يمين، ولذلك لم يرد فى كلامه تعالى شمال الله، بل اصحاب الشّمال واصحاب المشئمة بدون الاضافة، ولم يقل تعالى والارض جميعاً فى شماله مع انّ المناسب فى مقابل { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ان يقول والارض مقبوضة بشماله بل قال قبضته لا باسم اليمين ولا باسم الشّمال فباضافة العالمين اليه كلتا يديه يمين ايضاً، واذا اريد بالرّحمة، الرّحمة الرّحمانيّة فهو باسط اليدين بالرّحمة فى هذين العالمين ايضاً، واذا اريد اظهار الاضافة اللازمة لليمين والشّمال يقال يمين العالم وشمال العالم. اذا علمت ذلك فاعلم، انّه تعالى قيّوم ومعنى قيّوميّته انّ به تحصّل الاشياء وبقاءها ومعنى به بقاؤها ان لا بقاء لها فى انفسها الاّ بمبقيها { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ } [فاطر:15]، مثالها فى بقائها بمبقيها وفنائها فى انفسها، مثال ضوء الشّمس المنبسط على السّطوح فانّه من حيث اضافته الى السّطوح آناً فاناً فى الفناء بحيث لا يبقى ضوء على سطحٍ آنين، اذا اردت معرفة ذلك من طريق الحسّ فانظر الى ضوء منبسط على سطح من كوّة يكون بينها وبين ذلك السّطح مسافة بعيدة، فاذا انسدّ تلك الكوّة فنى ذلك الضوء من السّطح من غير تراخ ولولا فناؤه فى نفسه وبقاؤه بمبقيه الّذى هو الشّمس لبقى آناً ما بعد سدّ الكوّة، واذا كان حال الاشياء بالنّسبة الى الله تعالى حال الضّوء بالنّسبة الى الشّمس فلو لم يجد بافاضة الضّوء الحقيقىّ على سطوح المهيّات آناً، لفنت الاشياء فهو تعالى ابداً فى الافاضة والخلق والابداء، فيداه بمعانيهما الّتى عرفت مبسوطتان بالانفاق وكيفيّة انفاقه منوطة بمشيّته فمن قال قد فرغ من الامر جهل الامر وكذب على الله ولعن من باب معرفته وغلّت يداه العلمىّ والعملىّ الى عنقه. هذا فى العالم الكبير وكلّ ما فى العالم الكبير فهو بعينه فى العالم الصّغير من غير تفاوتٍ الاّ بالكبر والصّغر ما دام الصّغير صغيراً فالنّفس الامّارة كالعالم السّفلىّ واللّوامة وبدنه كعالم العناصر والمطمئنّة كالسّموات والقلب كالانسان واقع بين السّفلىّ والعلوىّ والرّوح والعقل كعالم الارواح؛ قلب المؤمن بين اصبعى الرّحمن، اشارة الى السّفل والعلو كاليدين فى الكبير ولكونه صغيراً عبّر عنهما بالاصبعين { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } اللاّم موطّئة ويزيدنّ جواب القسم، والسّرّ فيه انّهم لمّا تمكّنوا فى الكفر فكلّما قرع الحقّ سمعهم ازدادوا تنفرّاً واشمئزازاً منك ومن الحقّ لعدم السنخيّة فازدادوا حنقاً وكفراً { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ } فى القلوب { وَٱلْبَغْضَآءَ } فى الافعال لانّ ما به الاتّفاق والمحبّة هو الايمان والتّوجّه الى عالم الوفاق والوداد وهم بريئون منه { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } لعدم وفاقهم فأجسادهم عظيمة مجتمعة وقلوبهم ضعيفة شتّى { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } مفعول مطلق من غير لفظ الفعل ان كان السّعاية بمعنى الافساد والاّ فمفعول له، وافسادهم فى ارض عالمهم الصّغير بترك اصلاح اهله وصدّهم عن طريق القلب وفى الكبير بصدّ اهله عن طريق الايمان قيل: بافسادهم سلّط الله عليهم بُخت نصّر فاستأصلهم ثمّ فطرس الرّومىّ ثمّ المجوس ثمّ المسلمين { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } فلا قدر لهم عنده.