التفاسير

< >
عرض

لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ
٩٣
-المائدة

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

هذه الجمل فى مقام التّعليل للامر بالاجتناب والطّاعة، اعلم انّ للانسان من اوّل تميزه الى آخر مراتبه تطوّراتٍ ونشأتٍ، وبحسب كلّ نشأة له اعمال وارادات وشرور وخيرات وللسّالك الى الله من بدو سلوكه الى آخر مراتبه الغير المتناهية مقامات ومراحل واسفار ومنازل، والتّقوى تارة تطلق على التّحفّظ عن كلّ ما يضرّ للانسان فى الحال او فى المآل وهو معناه اللّغوىّ، وبهذا المعنى تكون قبل الاسلام وقبل الايمان ومعهما وبعدهما، وتارة تطلق على التّحفّظ عمّا يصرفه عن توجّهه الى الايمان، وبهذا المعنى تكون مع الاسلام وقبل الايمان ومع الايمان لكن فى مرتبة الاسلام فانّه ما لم يسلم لم يتصوّر له توجّه واهتداء الى الايمان حتّى يتصوّر صارف له عن الايمان وحفظ عن ذلك الصّارف، والتّقوى بهذا المعنى عبارة عن تحفّظ النّفس عن جملة المخالفات الشّرعيّة، وتارة تطلق على ما يصرفه عن الطّريق الموصل له الى غايته ويدخله فى الطّريق الموصلة الى الجحيم، وبهذا المعنى لا تكون قبل الايمان لانّه لم يكن حينئذٍ فى الطّريق بل تكون مع الايمان الخاصّ الّذى به يكون الوصول الى الطّريق، والايمان قد يطلق على الاذعان وهو معناه اللّغوى وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة العامّة وهو الايمان العامّ المسمّى بالاسلام، وقد يطلق على ما يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وهو الايمان الحقيقىّ، وقد يطلق على شهود ما كان موقناً به وهو الايمان الشّهودىّ وقد سبق فى اوّل سورة البقرة تحقيق وتفصيل للايمان، والتّقوى وصلاح العمل بخروج الانسان من امر نفسه فى العمل ودخوله تحت امر آمرٍ آلهىٍّ، وفساده بدخوله تحت امر نفسه، والجناح بمعنى الحرج والاثم، والطّعم كما يطلق على الاكل والشّرب الظّاهرين يطلق على مطلق الفعل ومطلق الادراك من الجزئيّة والكلّيّة ففعل القوى المحّركة اكلها، وادراك المدارك الجزئيّة والكلّيّة اكلها، وكذلك تصرّفات القوى العّلامة لتهيّؤ القوى العمّالة اكلها، والانسان من اوّل تميّزه نشأته نشأة الحيوان لا يدرى خيراً الا ما اقتضته القوى الحيوانيّة ولا شرّاً الاّ ما استكرهته ولا يتصوّر له التّقوى سوى التّقوى اللّغويّة، فاذا بلغ مقام المراهقة حصل له فى الجملة تميز الخير والشّرّ الانسانيّين وتعلّق به زاجر آلهىّ باطنىّ بحيت يستعدّ لقبول الامر والنّهى من زاجرٍ بشرىّ، لكن لا يكلّف لضعفه ويمرّن لوجود الاستعداد والزّاجر الباطنىّ ويتصوّر له التّقوى بالمعنى الاوّل والثّانى فى هذا المقام بمقدار تميزه الخير والشّرّ الانسانيّين، فاذا بلغ او ان التّكليف وقوى التميز والاستعداد والزّاجر الآلهىّ تعلّق به التّكليف من الله بواسطة النّذر، وبقبوله التّكليف بالبيعة والميثاق يحصل له الاسلام ويتصوّر له التّقوى ايضاً بالمعنى الاوّل والثّانى، ولا يتصوّر له التّقوى بالمعنى الثّالث لعدم وصوله الى الطّريق بعد، وفى هذا المقام يكلّفه الملكّف الآلهىّ بالتّكاليف القالبية وينبّهه على انّ للانسان طريقاً الى الغيب وله بحسب هذا الطّريق تكاليف أُخر ويدلّه على من يريه الطّريق ويكلّفه التّكليفات الاُخر اشارة او تصريحاً، او يريه بنفسه الطّريق فاذا ساعده التّوفيق وتمسّك بصاحب الطّريق حتّى قبله وكلّفه بالبيعة والميثاق التّكليفات القلبيّة صار مؤمناً بالايمان الخاصّ ومتمسّكاً بالطّريق متّقياً بالمعنى الثّالث وسالكاً الى الله وله فى سلوكه مراحل ومقامات وزكوة وصوم وصلوة وتروك وفناءات. ففى المرتبة الاولى يرى من نفسه الفعل والتّرك وجملة صفاته فاذا ترقّى وطرح بعض ما ليس له ويرى الفعل من الله ولا حول ولا قوّة الاّ بالله صار فانياً من فعله باقياً بفعل الحقّ، فاذا ترقّى وطرح بعضاً آخر بحيث لا يرى من نفسه صفةً صار فانياً من صفته باقياً بصفة الله، فاذا ترقّى وطرح الكلّ بحيث لا يرى نفسه فى البين صار فانياً من ذاته وفى هذا المقام ان ابقاه الله صار باقياً بعد الفناء ببقاء الله وتمّ له السّلوك وصار جامعاً بين الفرق والجمع والوحدة والكثرة، وجعل العرفاء الشّامخون بحسب الامّهات أسفار السّالك وسيره اربعةً وسمّوها اسفاراً اربعة: السّفر الاوّل السّير من النّفس الى حدود القلب وهو سيره فى الاسلام وعلى غيره الطّريق ويسمّونه السّفر من الخلق الى الحقّ، والثّانى سيره من حدود القلب الى الله وهو سيره فى الايمان وعلى الطّريق وبدلالة الشّيخ المرشد وفى هذا السّير يحصل الفناءات الثّلاثة ويسمّونه السّفر من الحقّ فى الحقّ الى الحقّ، والثّالث سيره بعد الفناء فى المراتب الآلهيّة من غير ذاتٍ وشعورٍ بذات ويسمّونه السّفر بالحقّ فى الحقّ، والرّابع سيره بالحقّ فى الخلق بعد صحوه وبقائه بالله ويسمّونه السّفر بالحقّ فى الخلق، اذا علمت ذلك فنقول: معنى الآية انّه ليس على الّذين بايعوا بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهره وأسلموا بقبول الاحكام القالبيّة وتوجّهوا من ديار الاسلام الّتى هى صدروهم الى ديار الايمان الّتى هى قلوبهم وعملوا الاعمال الّتى اخذوها من صاحب اسلامهم جناح فيما فعلوا وحصّلوا من الافعال والعلوم، ولمّا كان المراد بالتّقوى فى لسان الشّارع هو المعنى الثّانى والثّالث دون الاوّل لم يقل تعالى شأنه: ليس على الّذين اتّقوا وآمنوا فى تلك المرتبة واقتصر على الايمان والعمل الصّالح، لكن نفى الجناح بشرط ان اتّقوا صوارفهم عن التّوجّه الى الايمان والترحّل الى السّفر الثانى والوصول الى الطّريق، وجملة المخالفات الشّرعيّة صوارفه عن هذا التّوجّه، وآمنوا بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة وعملوا الصّالحات الّتى اخذوها من صاحب الطّريق ثم اتّقوا نسبة الافعال والصّفات الى انفسهم وآمنوا شهوداً بما آمنوا به غياباً، وفى هذا المقام يقع السّالك فى ورطات الحلول والاتّحاد والالحاد وسائر انواع الزّندقة من الثّنويّة وعبادة الشّيطان والرّياضة بخلاف الشّرائع الآلهيّة ومغلطة الارواح الخبيثة بالارواح الطّيّبة فانّه مقام تحته مراتب غير متناهية وورطات غير محصورة واكثر ما فشا فى القلندريّة من العقائد والاعمال نشأ من هذا المقام، والسّالك فى هذه المرتبة لا يرى صفةً ولا فعلاً من نفسه ولذلك اسقط العمل الصّالح ولم يذكره ثمّ اتّقوا من رؤية ذواتهم وهذا هو الفناء التامّ والفناء الذّاتىّ، وهى هذا المقام لا يكون لهم ذات بعد التّقوى حتّى يتصوّر لهم ايمان او عمل، والسّالك فى هذا السّفر لا نهاية لسيره ولا تعيّن لوجوده ولا نفسيّة له ويظهر منه الشّطحيّات الّتى لا تصحّ من غيره كما تظهر منه فى المقام السّابق ايضاً وكما لا يرى السّالك فى هذا المقام لنفسه عيناً ولا اثراً لا يرى لغيره عيناً ولا اثراً، ومن هذا المقام ومن سابقه نشأت الوحدة الممنوعة وما يترتّب عليها من العقائد الباطلة والاعمال الكاسدة فان ادركته العناية وافاق من فنائه وصار باقياً ببقاء الله صار محسناً بحسب الذّات والصّفات والافعال، ولذلك قال تعالى بعد ذكر التّقوى واحسنوا واسقط الايمان والعمل جميعاً، لانّه بعد فنائه الّذاتىّ وبقائه بالله صار ذاته وصفته وفعله حسناً واحساناً حقيقيّاً، وامّا قبل ذلك فانّه لا يخلو من شوب سوئة واسائة بقدر بقاء نسبة الوجود الى نفسه قبل فنائه، وايضاً قبل الفناء بقدر نسبة الوجود الى نفسه يكون مبغوضاً لا محبوباً على الاطلاق وبعد الفناء وقبل البقاء بالله لا موضوع له حتّى يحكم عليه بالمحبوبيّة والمبغوضيّة، وبعد البقاء بالله يصير محبوباً على الاطلاق ولذلك قال: { وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } فى آخر الآية.