التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
١
-الأنعام

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } قد مضى { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } الخلق قد يطلق على مطلق الايجاد سواء كان مسبوقاً بمدّة ومادّةٍ وهو الخلق بالمعنى الاخصّ كالمواليد او مسبوقاً بمادّة دون المدّة وهو الاختراع كالافلاك وما فى جوفها من العناصر، او لم يكن مسبوقاً بشيءٍ منها مع التعلّق بالمادّة وهو الانشاء كالنّفوس، او بدونه وهو الابداع كالعقول، والجعل المتعدّى لواحد بمعنى الخلق لكنّ الاغلب استعماله فيما له تعلّق بمحلٍّ او شيءٍ آخر عرضاً كان او جوهراً كقوله { { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ } [الملك:23] لما فيه من شوب معنى التّصيير، ولمّا كان النّور والظّلمة العرضيّان متعلّقين بالمحلّ ذكر الخلق بالمعنى الاعمّ فى ايجاد السّماوات والارض والجعل فى ايجاد النّور والظّلمة، والسّماء اسم لما له ارتفاع وتأثير فيما دونه والافلاك الطّبيعيّة احد مصاديقها، فانّ العقول الطّوليّة يعنى الملائكة المقرّبين والّذين هم قيام لا ينظرون والعقول العرضيّة يعنى الملائكة الصّافات صفّاً والنّفوس الكلّيّة المدبّرات امراً والنّفوس الجزئيّة الرّكّع والسّجّد والاشباح المثاليّة ذوات الاجنحة كلّها سماوات، والارض اسم لما فيه تسفّل وقبول عن الغير فالارض الغبراء وعالم الطّبع بسمائها وارضها والاشباح الظّلمانيّة يعنى عالم الجنّة والشّياطين بل الاشباح النّوريّة كلّها ارض بالنّسبة الى عالم الارواح لتسفّلها وتأثّرها عنه، والمادّة الاولى المسمّاة بالهيولى والثّانية المسمّاة بالجسم والثّالثة المسمّاة بالعنصر والرّابعة المسمّاة بالجماد والخامسة المسمّاة بالنّبات والسّادسة المسمّاة بالحيوان والسّابعة المسمّاة بالبشر كلّها اراضٍ بالنّسبة الى الصّور والنّفوس وكلّها طبقات متراكمة ودركات متلاحمة فى وجود الانسان، والارض الغبراء ارض بالنّسبة الى الافلاك ودركات العالم الظّلمانىّ السّفلىّ الّذى فيه الجنّة والشّياطين ودركات الجحيم ودار المعذّبين اراضٍ بالنّسبة الى عالم المثال، ومن الارض مثلهنّ اشارة الى ما ذكر من مراتب العالم السّفلىّ او مراتب الموادّ وقد اطلق فى الاخبار السّماء والارض على غير ما ذكر من الصّفات والاخلاق وطبقات السّماء باعتبار محيطيّتها ومحاطيتها والكلّ راجع الى ما ذكر لهما من المفهوم وقد قيل بالفارسيّة:

آسمانها ست در ولايت جان كار فرماى آسمان جهان

وفى الاخبار ما يدلّ على تعدّد السّماوات فى عالم الارواح ولتقدّم السّماوات شرفاً ووجوداً ورتبةً وعلّيّةً من حيث النّزول قدّمها على الارض، وجمع السّماوات وافراد الارض ههنا وفى اكثر الآيات للاشارة الى كثرة السّماوات وقلّة الارض وانّ الارض مع تعدّدها وكثرتها من حيث محاطيّتها امر واحد وانّ طبقاتها متراكمة بحيث انّ الدّانية فانية فى العالية ومتّحدة معها، وليست السّماوات كذلك فانّها كثيرة محيطة مستقلّة غير متراكمة، بين كلّ سماء وسماء مسافة بعيدة، والنّور اسم للظّاهر بذاته والمظهر لغيره وهذا المعنى حقيقةً حقّ حقيقة الوجود الّتى هى حقيقة الحقّ الاوّل تعالى شأنه، فانّه ظاهر بذاته من غير علّة وفاعل يظهره ومظهر لغيره من الانوار الحقيقيّة والعرضيّة وظلمات المهيّات والحدود ونقائص الاعدام وطلسمات عالم الطّبع وعالم الجنّة والشّياطين فالحق الاوّل تعالى احد مصاديق النّور والمقصود ههنا غيره تعالى لتعلّق الجعل به وليس الاوّل تعالى مجعولاً والاولى بالنّوريّة بعد الحقّ الاوّل تعالى الحقّ المضاف الّذى هو فعل الاوّل تعالى وكلمته واضافته الاشراقيّة والحقيقة المحمّديّة (ص) والمشيّة الّتى خلق الاشياء بها وهو ايضاً حقيقة واحدة بوحدة الحقّ الاوّل وهو ظهوره وتجليّه الفعلىّ واسمه الاعظم وهو تجلّيه تعالى على الاشياء. ولمّا كان الحقّ المضاف لا بشرطٍ والّلا بشرط يجتمع مع الف شرطٍ كان متّحداً مع الاشياء الّتى ظهر هو فيها ومقوّماً لها ومعها وليست الاشياء سواها والحقّ الاوّل من حيث فاعليّته هو الحقّ المضاف، فانّ الفاعليّة هى نفس الفعل ولولا الفعل لما كان الفاعليّة والفعل بوحدته عين المنفعلات من حيث انّها منفعلات فصحّ ما قيل انّ بسيط الحقيقة كلّ الاشياء يعنى من حيث الفعل وصحّ ما نسب الى الفتوحات وهو قوله: سبحان من اظهر الاشياء وهو عينها، يعنى بحسب الفعل ومثال ذلك النّفس حيث انّها بوحدتها كلّ القوى فانّها فى البصر عين البصر، وفى السّمع عين السّمع، وهكذا فى غيرها مع ذلك ما انثلم وحدتها وما تنزّلت عن مرتبتها العالية الغيبيّة ولولا هذا الاتّحاد والعنيّة لما صحّ نسبة فعل القوى اليها حقيقةً كما انّه لولا عينيّة الحقّ الاوّل مع الاشياء لما صح نسبة افعالها اليه حقيقة وكان قول القدريّة صحيحاً وقول الثنويّة حقّاً، وهذا النّور حقيقة واحدة ظلّيّة مضيئةٌ لسطوح المهيّات والحدود والكثرة المترائاة انّما هى بعرض المهيّات ولا ينثلم بها وحدتها الذّاتيّة كما انّ النّور العرضىّ الشّمسىّ حقيقة واحدة وتكثّره بتكثّر السّطوح لا ينثلم به وحدته، والظّلمة عبارة عن عدم النّور فهى خافية فى نفسها مخفية لغيرها وهذا شأن المهيّات والحدود والاعدام الّتى نشأت من تنزّل الوجود وضعفه، وكلّما زاد التنزّل والضّعف ازدادت الحدود والمهيّات والخفاء والاخفاء حتّى اذا وصل الى عالم الطّبع الّذى اختفى فيه صفات الوجود، وقد علمت انّ الكثرة بالّذات للحدود وبالحدود يتميّز الوجود كما انّ بالسّطوح تميّز النّور العرضىّ ولولاها لما ظهر، ولذلك قدّم الظّلمات مجموعاً واخّر النّور مفرداً عكس الاوّل فقال تعالى { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } ولمّا كان الدّهريّة والطبيعيّة والقائلون بالبخت والاتّفاق والقائلون بالاجزاء الّتى لا تتجزّى وغيرهم من الفرق الملحدة قائلين بقدم العالم بصورته ومادّته او بمادّته فقط كانت الفقرة الاولى منعاً لدعويهم، ولمّا كان اكثر الثّنويّة قائلين بقدم النّور والظّلمة وانّها مبدءان للعالم وقد مضى وجه مغالطتهم فى اوّل سورة النّساء عند قوله { { إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوۤءَ بِجَهَالَةٍ } [النساء: 17] ، كانت الفقرة الثّانية منعاً لدعويهم { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } فيه معنى التّعجّب، وتخلّل ثمّ للاشارة الى استبعاد التّسوية مع كونه خالقاً للسّماوات والظّلمات والنّور، ولمّا كان الايمان به ينفتح باب القلب وبانفتاحه يوقن بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله، وبدون ذلك الانفتاح لا يمكن الايمان بالله ولذا اختصّ الايمان بمن بايع عليّاً (ع) وخلفائه ودخل البيعة فى قلبه ما به ينفتح بابه الى الملكوت كان الكفر هو ستر باب القلب وعدم انفتاحه بتلك البيعة فالكافر من لم يبايع عليّاً (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة، ولذلك فسّر الكفر فى اكثر الآيات بالكفر بالولاية والكفر بعلىّ (ع) والرّبّ المضاف كما ورد عنهم فى تفسير { { وَكَانَ ٱلْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيراً } [الفرقان:55] هو الرّبّ فى الولاية والرّب المطلق هو ربّ الارباب، والوجه فى ذلك انّ الولاية هي اضافة الله الاشراقيّة الى الخلق فمعنى الآية بحسب المقصود ثمّ الّذين كفروا بعلىّ (ع) بستر وجه القلب بترك بيعة علىّ (ع) وعدم دخول الايمان فى قلوبهم بعلىّ (ع) يسوّون سائر افراد البشر ويمكن تعلّق بربّهم بكفروا وكون يعدلون بمعنى يسوّون او بمعنى يخرجون من الحقّ وبحسب التّنزيل ثمّ الّذين كفروا بالله بترك بيعة محمّد (ص) وعدم قبول الاسلام او ثمّ الّذين كفروا بالله بترك الاقرار بالله او بوحدانيّته بربّهم الّذى هو ربّ الارباب يسوّون الاصنام، وهذه الفقرة ردّ بحسب الظّاهر على مشركى العرب وغيرهم من عابدى الوثن والعجل وغيرهما، وبحسب التّأويل ردّ على كلّ من انحرف عن الولاية.