التفاسير

< >
عرض

وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ
١٤٢
وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٤٣
-الأعراف

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً } وهى شهر ذى القعدة كما نقل لاعطاء كتاب فيه بيان كلّ شيء { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } من ذى الحجّة لسواك استاك آخر الثّلاثين قبل الافطار { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ } لاعطاء الكتاب { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَىٰ } حين خرج من بين قومه للميقات { لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ ٱلْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } التفات من التّكلّم الى الغيبة اشارة الى انّ التّكلّم صدر من مقام ظهوره الّذى هو الولاية المطلقة المتحقّق بها علىّ (ع) كما انّ المتكلّم مع محمّد (ص) ليلة المعراج كان عليّاً (ع)، ولمّا سمع موسى (ع) كلامه تعالى اشتدّ شوقه والتهب حرارة طلبه ولم يتمالك، فطلب وسأل ما ليس له من الشّهود والرّؤية مع انّه كان بعد فى الحدّ والغيبة وباقياً عليه الانانيّة وليس شأن المحدود ادراك المطلق ورؤيته، فانّ من شرائط الرّؤية والادراك صيرورة الرّائى سنخاً للمرئىّ او المرئىّ سنخاً للرّائى والاّ فلا يقع الرّؤية ولا يحصل المشاهدة؛ الا ترى انّ النّفس فى مشاهدة الاجسام محتاجة الى آلة جسمانيّة وقوّة جرمانيّة وتلك القوّة الجسمانيّة محتاجة الى تدريد الصّورة من المادّة لتجرّدها نحواً من التّجرّد، فلمّا لم يتمالك { قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي } فانّك غير خارجٍ من حدودك ولو شاهدتنى بحودك لفنيت فليس لك شأن رؤية المطلق { وَلَـٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } جبل الحجر او جبل انانيّتك { فَإِنِ اسْتَقَرَّ } الجبل لتجلّى نورٍ من انوار المطلق { مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } مع جبل حدّك وانّيّتك { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ } الّذى هو المطلق المضاف لا المطلق المطلق { لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ } الله او الرّبّ او التّجلّى { دَكّاً } متفتّتاً متلاشياً { وَخَرَّ موسَىٰ } لاندكاك انّيّته { صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ } عن سؤالى عن مثلك ما ليس لى { تُبْتُ إِلَيْكَ } من سؤالى { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } بأنّك لا ترى لمثلى.
اعلم، انّ الادراك حقيقةً مشكّكة ذات مراتب متفاوتة فى الشّدّة والضّعف، ولكلّ مرتبة من مراتبه اسم خاصّ وشرائط خاصّة لحصولها مثلاً ادراك زيد تصوّراً جزئياً مرتبة منه ادراكه بالبصر ويسمّى رؤية، ومرتبة منه ادراكه بالخيال ويسمّى تخيّلاً، ومرتبة منه ادراكه بالعين المثاليّة فى المنام ويسمّى رؤيا، ومرتبة ادراكه بالعين المثاليّة بالكشف الصّورىّ فى عالم المثال ويسمّى كشفاً صوريّاً وشهوداً؛ والكلّ ادراك النّفس الانسانيّة لشخص زيد بحيث لا يمكن لاحدٍ ان يقول: انّ زيداً بشخصه غير مدرك فى مرتبة من تلك المراتب والتّفاضل بين تلك الادراكات بديهىّ وجدانىّ، فانّ ادراك الخيال اضعف انواع الادراك واقواها الادراك بالرّؤية والادراك شهوداً بالعين المثالىّ، وكما يسمّى الادراك البصرىّ رؤية يسمّى الادراك الكشفىّ رؤية كما لا يخفى، هذا فى التّصوّرات والادراكات الجزئيّة وهكذا الحال فى التّصديقات والادراكات الكلّيّة، فانّ الحكم بكون الامير فى البلد قد يدرك توهّماً، وقد يدرك شكّاً وظنّاً، وقد يدرك علماً عادّياً وتقليديّاً ويقينيّاً برهانيّاً ويقينيّاً شهوديّاً والتّفاضل بينها غير مخفىّ واقواها واتمّها واشدّها هو العلم الشّهودىّ ويسمّى هذا العلم الشّهودىّ فى ذلك التّصديق الشّخصىّ رؤية باعتبار، كما يسمّى علماً وشهوداً وعياناً وتصديقاً باعتباراتٍ اُخر، وعلم من ذلك انّ الرّؤية غير مختصّة بالرّؤية البصريّة المشروطة بمقابلة المرئىّ للرّائى او بحكم المقابلة كالرّؤية فى المرآة والماء وبتوسّط جسمٍ مشفّ وعدم القرب المفرط والبعد المفرط وعدم آفةٍ فى العين وعمدتها التفات النّفس الى الالة وفعلها، فانّ الادراك البصرىّ صفة النّفس لكن فى مقامها النّازل ومرتبة الباصرة بل مقولة على ادراك عين الخيال فى عالم المثال كرؤية المكاشفين والنّائمين الرّائين الرّؤيا الصّادقة، وعلى ادراك عين الخيال فى عالم الخيال كرؤية المسرسمين والمبرسمين والنّائمين الرّائين الرّؤيا الكاذبة، فانّه لا يشكّ احد من هؤلاء ولا ممّن اطّلع على عالمهم وكيفيّة ادراكهم انّ مدركاتهم مرئيّات حقيقة وانّه لا يصحّ سلب الرّؤية عنها. فالرّؤية فى المدركات المتقدّرة الجزئيّة عبارة عن قوّه الادراك وشدّته بحيث لا يتصوّر ادراك اتمّ واقوى منه سواء كان بالآلة المخصوصة ام بغيرها، وسواء كان المدرك مصاحباً للمادّة ام غير مصاحب، فصحّ اطلاق الرّؤية على المتقدّر المجرّد عن المادّة كما يصحّ اطلاقها على المتقدّر المادّىّ ولا اختصاص له بالمادّىّ، وهذا التّفاضل يجرى فى المدركات العقليّة المجرّدة عن المادّة والتّقدّر، فانّ العقول الكلّيّة والملائكة المقرّبين قد يتوهّم وجودها ثمّ يشتدّ هذا التّوهّم فيصير شكّاً ثمّ ظنّاً ثمّ علماً عاديّاً وتقليديّاً ثمّ علماً يقينيّاً برهانيّاً، فاذا اشتدّ هذا العلم بحيث يخلّص العالم من المادّة وغواشيها ويرفعه عن العالمين ويوصله الى المجرّدات حتّى يشاهدها ويلحق بها صار ادراكه اشدّ ما يتصوّر وعلمه عياناً، فان شئت فسمّ هذا العلم العيانىّ رؤيةً فانّه لا مانع من اطلاق الرّؤية بهذا المعنى عليه بل حقيقة الرّؤية وهى الانكشاف التّامّ الّذى لا يتصوّر فوقه انكشاف، وادراك هنا اتمّ واقوى من الانكشاف بآلة البصر وقد عرفت ان لا مدخليّة لخصوص آلة البصر فى الرّؤية؛ وهكذا الحال فى الحقّ الاوّل تعالى شأنه وصفاته. ثمّ اعلم انّ المعلوم المدرك فى اىّ عالمٍ كان لا بدّ وان يكون المدرك لذلك المعلوم بذاته او بآلاته، ووسائط دركه من سنخ ذلك العالم للزوم نحو من الاتّصال او نحو من الاتّحاد بين المدرك والمدرك كما قرّر فى الحكميّات والفلسفة الاولى؛ الا ترى انّ المدركات المادّيّة الّتى هى من عالم المادّة لا تدرك الاّ بآلات مادّيّة كالحواسّ الخمس الظّاهرة، والمدركات الخياليّة والمثاليّة الّتى هى من سنخ عالم المثال لا ترك الاّ بالحواسّ الباطنة الّتى هى ارفع من عالم المادّة، والمعقولات الّتى هى ارفع من العالمين لا تدرك الاّ بقوّةٍ ليست من سنخ عالم المادّة ولا من سنخ عالم المثال فاذا اريد ادراك العقول لا بدّ وان يرتفع المدرك عن العالمين ويصير عقلاً مجرّداً عن المادّة والتقدّر او يتنزّل العقول عن عالمها العقلّى وتتمثّل بصورٍ متقدّرةٍ حتّى تدرك بالمدارك المثاليّة ما فى نزول الملائكة على الانبياء، فما لم يرتفع الدّانى او لم يتنزّل العالى لا يمكن ادارك الدّانى للعالى، فاذا سأل الدّانى فى دنوّه بلسان حاله او قاله رؤية العالى فى علوّه فجوابه العتاب على هذا السّؤال والمنع من مسؤله والزّجر على مأموله لسؤاله ما ليس له ان يسأل. ثمّ اعلم انّ الانسان من اوّل استقراره فى الرّحم جماد بالفعل وله قوّة الانسانيّة ولمّا كان ضعيفاً غير قابلٍ لقبول اثر العقل جعل البارى تعالى نفس الامّ واسطة فى فيضان نور العقل عليه حتّى اذا استكمل بحيث يستعدّ لقبول فيض العقل بلا واسطةٍ يتولّد وليس له حينئذٍ من اثر العقل الاّ فعليّة المدارك الحيوانيّة الظّاهرة فيتدرّج فى الاستكمال بفيض العقل حتّى يتحقّق فيه طليعة ضعيفة من اشراق العقل، فيدرك البديهيّات الاوّليّة الكلّيّة الّتى من شأنها ان يكون مدركها العقل فيتدرّج فى الاستكمال ويتقوّى تلك الطّليعة حتّى يمكنه اكتساب الكلّيّات فيتدرّج فى ذلك حتّى يعاين مكتسباته فيتدرّج حتّى يتحقّق بها وصار عالماً علميّاً مضاهياً للعالم العينىّ بل عالماً غيبيّاً محيطاً بالعالم العينىّ، وحينئذٍ يصير مطلقاً عن قيوده خارجاً من حجبه وحدوده وله استعداد شهود الحقّ الاوّل تعالى لكن اشتداده وترقيّه الى زمان البلوغ وهو زمان الاستبداد بالرّأى والاستقلال فى الاختيار، وبعبارةٍ اخرى الى زمان يمكنه ادراك خيره وشرّه الاخرويّين كان على الصّراط المستقيم بأسبابٍ آلهيّة لا مدخل للعبد فيها ولا اختيار له ولذا: قيل كن مع الله كما كنت حتّى كان معك كما كان، واذا وصل الى مقام البلوغ وكله الله الى اختياره ونبّهه على خيره وشرّه على ألسنة خلفائه الظّاهرة والباطنة واعانه على اختياره الخير وخذله فى اختياره الشّرّ، فان ساعده التّوفيق وتداركه جذبة من جذبات الرّحمن وهى خير من عبادة الثّقلين استراح من تعب السّلوك ورفع القلم عنه وصار من الشّيعة الّذين رفع القلم عنهم، وان وكله الله الى نفسه وخذله باختياره الشّقاء التحق بالشّياطين، وان وفّقه الله للسّلوك اليه باختياره الخير والتّقوى من الشّرّ، فامّا ان يسلك بقدم نفسه ويتعب نفسه فى السّلوك اليه، وبعبارةٍ اخرى امّا ان يعبد الله مع بقاء حكم النّفس عليه وفى قيود انانيّته ويسمّى تقرّبه حينئذٍ بقرب النّوافل وهذا وان اتعب نفسه فى السّلوك والعبادة وجاهد غاية المجاهدة لم يكن له شأنيّة المشاهدة والمواصلة وليس له الاّ الفرقة والمباعدة، او يسلك الى الله ويعبد الله من غير بقاء حكم النّفس واثرها عليه ويسمّى تقرّبه بقرب الفرائض وهذا لخروجه من حدود نفسه وقيودها وارتفاعه عن حجاب انّيّته له شأنيّة المواصلة والمشاهد بل يصير هو الشّاهد والمشهود فى كلّ شاهدٍ ومشهودٍ، والبصير والمبصر والسّميع والمسموع، والاوّل وان كان مستريحاً من تعب السّلوك ملتذّاً بلذّة الشّهود والهاً فى المحبوب ليس له كمال مقام الجمع والتّجمّل بالاعوان والجنود، والثّانى وان كان له جمعيّة وسعة وتجمّل ليست له لذّة المشاهدة والسّرور الاتمّ فهما ناقصان كلّ بوجهٍ، والثّالث له الكمال الاتمّ والسّرور الابهى والجمال الاجمل لجمعه بين كمال الشّهود والتجمّل بالاعوان والجنود، وله الخلافة الكبرى والرّياسة العظمى؛ اذا عرفت ذلك فقس قوله تعالى: { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي }؛ الى قوله
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } [الإسراء:1] حتّى تعرف مقام محمّد (ص) فى العبادة والسّلوك ومقام موسى (ع) وتعرف انّ موسى (ع) سلك بقدم نفسه لا بربّه ولذلك كان مستحقّاً لجواب لن ترانى، وانّ محمّداً (ص) سار باسراء ربّه لا بسير نفسه، وانّ محمّداً (ص) هو السّميع لكلّ مسموع فى مرتبته والبصير لكلّ مبصر فضلاً عن نعمة مشاهدة ربّه ورؤية آياته الكبرى كما هو الظّاهر من آخر الآية فانّ الظّاهر عدم الالتفات فى آخر الآية وتطابق ضمير انّه هو السّميع مع ضمير لنريه. ولمّا كان المتبارد الى فهم العامة من الرّؤية رؤية البصر وهى ممتنعة فى حقّه تعالى وكان حقيقة الرّؤية فى حقّه تعالى غير ممنوعة اختلفت الاخبار فى نفى الرؤية عنه تعالى واثباتها له وبما ذكرنا من التّحقيق يجمع بين متخالفات الاخبار فى باب رؤية الحقّ تعالى وعدمها وفى تفسير هذه الآية ومن اراد الاطّلاع عليها فليرجع الى الكافى والصّافى.