التفاسير

< >
عرض

وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ
١٤٥
-الأعراف

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ } ما يسمّى شيئاً { مَّوْعِظَةً } فانّ فى كلّ شيءٍ جهة وعظ ونصح للخير كما انّ فيه جهة كثرة وحجاب عن الخير فكتبنا من كلّ شيءٍ جهة وعظ فى الواح التّوارة او فى الواح نفسه النّبويّة { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } عطف على مجموع من كل شيءٍ موعظة لا على موعظة فقط او هو عطف على موعظة، والمعنى وكتبنا له فى الالواح من كلّ شيءٍ تفصيلاً لكلّ شيءٍ، فانّ البصير المرتفع عن عالم الطّبع بل عن عالم المثال يرى كلّ شيءٍ فى كلّ شيءٍ لكون الكلّ فى ذلك العالم مرائى متعاكسات يترائى كلّ شيءٍ فى ذلك العالم فى كلّ شيءٍ بل نقول: ظاهر الآية كون تفصيلاً معطوفاً على موعظة والقيود المتقدّمة على المعطوف عليه معتبرة فى المعطوف بحكم العطف وقد اشتهر عن الصّوفيّة انّهم يقولون: كلّ شيءٍ فى كلّ شيءٍ { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } اى قائلين فخذ الالواح الّتى فيها الموعظة وتفصيل كلّ شيءٍ، او خذ الموعظة وتفصيل كلّ شيءٍ، او مجموع الالواح والموعظة والتّفصيل ولاخذ تفصيل كلّ شيءٍ من كلّ شيءٍ ههنا فى المأخوذ اضاف قوله بقوّةٍ { وَأْمُرْ قَوْمَكَ } بأخذ الالواح والموعظة او بأخذ احسنها او بأىّ امرٍ كان { يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } فى حذف متعلّق الامر وجزم الجواب ايهام سببيّة امره (ع) باىّ امر كان لاخذ قومه بأحسنها، كأنّه بامره وتوجّهه اليهم يؤثّر فيهم اثراً يفتح بصيرتهم بحيث يميّزون بين الاحسن وغير الاحسن، وكلّ انسان مفطور على اخذ الاحسن اذا عرفه وفى امثال قوله تعالى لنبيّنا (ص): { { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ } [الجاثية: 14] وقوله تعالى: { { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [النور: 30] دلالة على قوّة نفس نبيّنا (ص) بالنّسبة الى موسى (ع) لايهامه انّ محض تخاطبه (ص) مع المؤمنين امراً كان او نهياً او حكاية وقصّة يؤثّر فيهم بحيث يصير سبباً لما ذكر بعده من افعالهم الحسنة بخلاف موسى (ع)، فانّه ان امر اثّر والاّ فلا. ولمّا كان القوم غير جامعة لجملة المراتب لضيقهم وعدم سعتهم بل كلّ من كان منهم فى مرتبةٍ لم يكن يجرى عليه حكم المرتبة العالية او الدّانية لضيقه وكان الحسن والاحسن فى حقّه حكم تلك المرتبة وكان حكم المرتبة العالية او الدّانية فى حقّه قبيحاً امره (ع) ان يامر قومه ان يأخذوا احسن العظة او احسن الالواح باعتبار ما فيها من الاحكام الّتى هى موعظته تعالى، فانّ الاحكام فيها كالقرآن متكثّرة مترتّبة بحسب تكثّر المراتب كالانتقام وكظم الغيظ والعفو عن المسيء والاحسان اليه، فانّ الاحكام الاربعة مذكورة فى القرآن لكن هى مترتّبة حسب مراتب الانسان ويختلف احسنها بحسب اختلاف الاشخاص فى مراتب العبوديّة، فانّ الواقع فى جهنّام النّفس لا يرتضى من المسيء بالانتقام بمثل اساءته بل لا يرتضى باضعافها فالاحسن فى حقّه الانتقام بمثل اعتدائه كما قال { { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ } [البقرة:194]، ومن خرج من تلك الجهنّام فالاحسن فى حقّه كظم الغيظ وترك الانتقام ولكن لا يتصوّر فى حقّه الصّفح واخراج رين الاساءة من صدره، والاحسن فى حقّ من خرج من حدود النّفس وتوجّه الى حدود القلب الصّفح وتطهير القلب من رين الاساءة ولا يتصوّر فى حقّه الاحسان، وفى حقّ الدّاخل فى بيت الله الّذى من دخله كان آمنا وهو القلب كان الاحسن الاحسان فالمراد باحسنها احسن ما يتصوّر ويمكن فى حقّهم، هذا اذا كان المراد بالاحسن الاحسن الاضافىّ وان اريد بالاحسن الاحسن المطلق فليخصّص قومه بخواصّه؛ هذا على ظاهر مفهوم اللّفظ والاّ فالمراد به الولاية فانّها العظة الحسنى والحكم الاحسن حقيقةً والمعنى انّك لسعة وجودك واستقلالك فى جميع المراتب مأمور باخذ جميع الاحكام فى جميع المراتب، ولكنّ قومك لضيقهم وعدم استقلال رأيهم مأمورون بأخذ الاحسن منها وهى الولاية حتّى يحصل لهم بتبعيّة وليّهم سعةٌ واستقلال فى رأيهم فيستحقّوا بذلك الامر بأخذ الجميع وبأحد المعنيين ورد قوله تعالى { { وَٱتَّبِعُـوۤاْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } [الزمر: 55] ولمّا صار المقام مظنّة ان يقال: ما لمن خرج من الانقياد ولم يأخذ حكم الالواح وعظةً؟ - قال جواباً { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَاسِقِينَ } وجزائهم والخطاب لموسى (ع) وقومه او لمحمّد (ص) وقومه، ثمّ صار المقام مظنّة ان يقال: ما سبب خروج الفاسق ومَنِ المخرج له؟ ايخرج بنفسه ام يخرجه غيره؟ - فقال { سَأَصْرِفُ }.