التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً
٥
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً
٦
-الإنسان

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة

{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ } جوابٌ لسؤالٍ مقدّرٍ عن حال الشّاكرين { مِن كَأْسٍ } من خمرٍ او من كأسٍ فيها خمر { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا } اى منها { عِبَادُ ٱللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا } يجرونها باىّ نحوٍ والى اىّ مكانٍ شاؤا، او يخرجون ماؤها من اىّ مكانٍ شاؤا { تَفْجِيراً } لا يعرف لعظمته.
اعلم، انّ للانسان حالاتٍ ومراتب ودرجاتٍ فانّه فى اولى مراتبه جمادٌ فى تطوّراته، وفى ثانية مراتبه نبات فى تفنّناته، وفى ثالثة مراتبه حيوانٌ فى تبدّلاته وتقلّباته، وفى رابعة مراتبه انسانٌ فى كثرة نشآته، ولتلك المراتب ميولٌ واقتضاءات وشهوات وغضبات ومحبّات واشتياقات وعزمات وارادات وحركات وسكنات، فاذا بلغ الانسان مبلغ الرّجال والنّساء فامّا ان تكون حركاته وسكناته بحكم ميوله الجماديّة او اقتضاءاته النّباتيّة او شهواته وغضباته الحيوانيّة، او ادراكاته وحيله الشّيطانيّة، وامّا ان تكون بحكم عقله الانسانىّ فان كانت من القسم الاوّل كانت جملة حركاته وسكناته وعزماته واراداته من حيث انجرارها الى العمل السّىّء والاسوء سلاسل تجرّه فى الدّنيا الى اسفل النّفس الّتى هى صورة جحيم الآخرة والى العمل القبيح الّذى هو من آثار لهبات الجحيم، وتلك السّلاسل فى الدّنيا مستورة عن الانظار الحسّيّة وان كانت مشهودة بالانظار الملكوتيّة لاهلها، لكن فى الآخرة تصير مشهودة ظاهرة بناءً على تجسّم الاعمال وموجبة لسلاسل اخرى اخرويّة بناءً على جزاء الاعمال فى الآخرة بالجزاء المناسب لها، وكانت كلّها من حيث اكتساب النّفس منها سوأة وثقلاً اغلالاً لها مستورة عن الانظار الدّنيويّة مشهودة للانظار الاخرويّة، وان كانت من القسم الاخير صارت سبباً لاطلاقه من الاغلال وخلاصه من السّلاسل وسبباً لخروجه من هاوية النّفس وعروجه على مراقى الانسانيّة الى اعلى عليّين وقرب ربّه ربّ العالمين وبعبارةٍ اخرى كلّما يفعله الانسان بعد بلوغه امّا ان يكون بامر آمرٍ الهىٍّ من غير شراكة لنفسه وامرها فيه او يكون بشراكةٍ لنفسه فيه وامّا ان يكون بامر نفسه من غير شراكةٍ لربّه وامر ربّه فيه، فان كان من القسم الاوّل صار سبباً لاطلاقه ونجاته ويكون ممّا يتقرّب به قرب الفرائض، وان كان من القسم الثّانى فامّا ان يكون شراكة النّفس فى الفعل لامر الله من حيث توجّهها الى الله واعانتها لامتثال امر الله وقربها من الله، او من حيث انصرافها من الله وتوجّهها الى حظوظها ومآربها، والاوّل كالاوّل فى صيرورته سبباً لاطلاق النّفس ونجاتها ويكون ممّا يتقرّب به قرب النّوافل، والثّانى يكون ممّا يكون العامل فيه مشركاً فى العبادة ويكون مردوداً اليه وممّا يتركه الله تعالى لشريكه لكونه اغنى الشّركاء ويترك لشريكه كلّ عملٍ يعمل بشراكة غيره، ويكون سلسلةً وغلاًّ لنفسه، وان كان من القسم الثّالث لا يكون الاّ غلاًّ وسلسلةً واليها اشار تعالى شأنه بقوله:
{ { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ } [المدثر:38-39] فانّ اصحاب اليمين اى الّذين قبلوا ولاية علىّ (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة هم الّذين توجّهوا الى الله وابتغوا مرضاته ولقائه، فان كانوا فى حال الحضور وكان ولىّ امرهم ظاهراً عليهم وفاعلاً فعلهم بآلات اعضائهم من دون مدخليّةٍ لانفسهم فى فعلهم كان فعلهم من القسم الاوّل، وان لم يكن لهم حالة الحضور لكن كان حبّهم لربّهم ولولىّ امرهم بحيث لم يبق لهم التفاتٌ الى انفسهم وحظوظها كان فعلهم ايضاً من القسم الاوّل، وان لم يبلغ حبّهم الى مرتبة لم يبق لهم التفات الى انفسهم وحظوظها بل كانت انفسهم ايضاً باعثة على اعمالهم ولكن كانت حظوظ انفسهم فى امتثال امر الله وابتغاء مرضاته كان من القسم الثّانى الملحق بالاوّل، وان كانوا فى افعالهم غافلين من ربّهم وامره مبتغين لحظوظ انفسهم حظوظها السّفليّة لم يكونوا حينئذٍ من اصحاب اليمين فى تلك الافعال فانّ قيد الحيثيّة معتبرة فى امثال المقام، وكانوا مرهونين باعمالهم مثل سائر النّاس ولم يكونوا ينتفعون ببيعتهم فى تلك الاعمال لكن اذا لم يقطعوا حبل الولاية ولم يفسدوا بذر الايمان انتفعوا ببيعتهم عند الموت وبعده، وقد اشار المولوىّ قدّس سرّه الى السّلاسل والاغلال المستورة بقوله:

خلق ديوانند شهوت سلسله ميكشد شان سوى دكّان و غله
هست اين زنجير از خوف و وله تو مبين اين خلق را بى سلسله
ميكشاندشان بسوى نيك و بد كَفت حق فى جيدها حبل المسد
قد جعلنا الحبل فى اعناقهم واتخذنا الحبل من اخلاقهم

واعلم، ايضاً انّ الشّاربين للخمر الخبيثة المحرّمة لهم حالاتٌ وبحسب اختلافهم فى الحالات يختلف شربهم للخمر الصّوريّة فانّه قد يغلب الحرارة على مزاجهم، وقد يغلب البرودة، وقد يعتدل امزجتهم، وبحسب اختلاف تلك الاحوال قد يمزجون بشرابهم الكافور وقد يمزجون الزّنجبيل وقد يشربونها خالصاً وقد يشربون شراباً خالصاً ليذهب باذى الخمر وكسالة سكره، ويسمّى بالطّهور والغسّال، وللسّالكين الى الله ايضاً انواع من الشّراب المعنوىّ الرّوحانىّ فانّه قد يغلب عليهم برد السّلوك فيسقيهم ربّهم شراباً زنجبيليّاً يسخّنهم ويزيد فى حرارة شوقهم وطلبهم، وقد يغلب عليهم حرارة الشّوق فيسقيهم ربّهم شراباً كافوريّاً ليعتدل سخونة اشتياقهم ببرد كافور السّلوك، وقد يسقيهم شراباً خالصاً غير ممزوج اذا كانوا فى السّلوك والجذب معتدلين، وقد يسقيهم شراباً طهوراً يغسّلهم من نسبة الاموال والافعال والصّفات الى انفسهم بل من انانيّاتهم وهذه الاحوال تطرو عليهم فى الآخرة وفى الجنّات.