التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١
وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٢
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ
١٣
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
١٤
-يونس

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
لما ذكر سبحانه الأصلين من أُصول الدعوة الحقة وهما التوحيد والمعاد واحتج عليهما من طريق العقل الفطري ثم أخبر عن عاقبة الإِيمان والكفر بهما بحث عن سبب إمهال الناس وعدم تعجيل نزول العذاب بساحتهم مع تماديهم في غيّهم وضلالتهم وعمههم في طغيانهم وما هو السبب الذي يوجب لهم ذلك فبين أن الأمر بين لا ستر عليه، وقد بيّنه لهم رسل الله بالبينات لكن الشيطان زين لهؤلاء المسرفين أعمالهم فأغفلهم عن ذكر المعاد فذهلوا ونسوا بعد ما ذكروا ثم لم يعجّل الله لهم العذاب بل أمهلهم في الدنيا إلى حين ليبتليهم ويمتحنهم فإنما الدار دار ابتلاء وامتحان.
قوله تعالى: { ولو يعجّل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } الخ، تعجيل الشيء الإِتيان به بسرعة وعجلة، والاستعجال بالشيء طلب حصوله بسرعة وعجلة، والعمه شدة الحيرة.
ومعنى الآية: ولو يعجّل الله للناس الشر وهو العذاب كما يستعجلون بالخير كالنعمة لأنزل عليهم العذاب بقضاء أجلهم لكنه تعالى لا يعجّل لهم الشر فيذر هؤلاء المنكرين للمعاد المارقين عن ربقة الدين يتحيرون في طغيانهم أشد التحيّر.
وتوضيحه أن الإِنسان عجول بحسب طبعه يستعجل بما فيه خيره ونفعه أي إنه يطلب من الأسباب أن تسرع في إنتاج ما يبتغيه ويريده فهو في الحقيقة يطلب الإِسراع المذكور من الله سبحانه لأنه السبب في ذلك بالحقيقة فهذه سنّة الإِنسان وهي مبنية على الأهواء النفسانية فإن الأسباب الواقعة ليست في نظامها تابعة لهوى الإِنسان بل العالم الإِنساني هو التابع الجاري على ما يجريه عليه نظام الأسباب اضطراراً أحب ذلك أو كرهه.
ولو أن السنّة الإِلهية في خلق الأشياء والإِتيان بالمسببات عقيب أسبابها اتبعت أو شابهت هذه السنّة الإِنسانية المبنية على الجهل فعجّلت المسببات والآثار عقيب أسبابها لأسرع الشر وهو الهلاك بالعذاب إلى الإِنسان فإن سببه قائم معه، وهو الكفر بعدم رجاء لقا الله والطغيان في الحياة الدنيا لكنه تعالى لا يعجّل الشر لهم كاستعجالهم بالخير لأن سنّته مبنية على الحكمة بخلاف سنّتهم المبنية على الجهالة فيذرهم في طغيانهم يعمهون.
وقد بان بذلك أولاً: أن في قوله { لقضي إليهم أجلهم } نوعاً من التضمين فقد ضمّن فيه { قضى } معنى مثل الإِنزال أو الإِبلاغ ولذا عدي بإلى.
والمعنى قضى منزلاً أو مبلغاً إليهم أجلهم أو أنزل أو أبلغ إليهم أجلهم مقضياً وهو كناية عن نزول العذاب فالكلمة من الكناية المركبة.
وثانياً: أن في قوله: { فنذر الذين } التفاتاً من الغيبة إلى التكلم مع الغير، ولعل النكتة فيه الإِشارة إلى توسيط الأسباب في ذلك فإن المذكور من أفعاله تعالى في الآية وما بعدها كتركهم في عمههم وكشف الضر والتزيين والإِهلاك أُمور يتوسل إليها بتوسيط الأسباب، والعظماء إذا أرادوا أن يشيروا إلى دخل أعوانهم وخدمهم في بعض أُمورهم أتوا بصيغة المتكلم مع الغير.
قوله تعالى: { وإذا مسّ الإِنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً } إلى آخر الآية. الضر بالضم ما يمس الإِنسان من الضرر في نفسه، وقوله: { دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً } أي دعانا منبطحاً لجنبه الخ، والظاهر أن الترديد للتعميم أي دعانا على أي حال من أحواله فرض من انبطاح أو قعود أو قيام مصرّاً على دعائه لا ينسانا في حال، ويمكن أن يكون { لجنبه } الخ، أحوالاً ثلاثة من الإِنسان لا من فاعل دعانا والعامل فيه { مسّ } والمعنى إذا مسّ الإِنسان الضر وهو منبطح أو قاعد أو قائم دعانا في تلك الحال وهذا معنى ما ورد في بعض المرسلات: { دعانا لجنبه } العليل الذي لا يقدر أن يجلس { أو قاعداً } الذي لا يقدر أن يقوم { أو قائماً } الصحيح.
وقوله: { مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه } كناية عن النسيان والغفلة عما كان لا يكاد ينساه.
والمعنى: وإذا مسّ الإِنسان الضر لم يزل يدعونا لكشف ضره وأصرّ على الدعاء فإذا كشفنا عنه ضره الذي مسّه نسينا وترك ذكرنا وانجذبت نفسه إلى ما كان يتمتع به من أعماله { كذلك زيّن للمسرفين } المفرطين في التمتع بالزخارف الدنيوية أعمالهم فأورثهم نسيان جانب الربوبية والإِعراض عن ذكر الله تعالى.
وفي الآية بيان السبب في تمادي منكري المعاد في غيهم وضلالتهم وخصوصية سببه وهو أن هؤلاء مثلهم كمثل الإِنسان يمسه الضر فيذكر ربه ويلحّ عليه بالدعاء لكشف ضره حتى إذا كشف عنه الضر - ولذلك كان يدعوه - مرّ لوجهه متوغلاً في شهواته وقد نسي ما كان يدعوه ويذكره فلم يكن تركه لدعاء ربه بعد ذكره إلا معلولاً لما زيّن له من عمله فأورثه النسيان بعد الذكر.
فكذلك هؤلاء المسرفون زيّن لهم أعمالهم فجذبتهم إلى نفسها فنسوا ربهم بعد ذكره، وقد ذكرهم الله مقامه بإرسال الرسل إلى من قبلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا وإهلاك القرون من قبلهم بظلمهم وهذه هي السنّة الإِلهية يجزي القوم المجرمين.
ومن هنا يظهر أن الآية التالية: { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم } الخ، متمم للبيان في هذه الآية: { وإذا مسَّ الإِنسان الضرّ دعانا } إلى آخر الآية.
قوله تعالى: { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم } إلى آخر الآية، قد ظهر معناه مما تقدم، وفي الآية التفات في قوله: { من قبلكم } من الغيبة إلى الخطاب، وكأن النكتة فيه التشديد في الإِنذار لأن الإِنذار والتخويف بالمشافهة أوقع أثراً وأبلغ من غيره.
ثم في قوله: { كذلك نجزي القوم المجرمين } التفات آخر بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والنكتة فيه أنه إخبار عن السنّة الإِلهية في أخذ المجرمين، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم هو الأهل لفهمه والإِذعان بصدقه دونهم ولو أذعنوا بصدقه لآمنوا به ولم يكفروا، وهذا بخلاف قوله: { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم... وجاءتهم رسلهم } فإنه خبر تاريخي لا ضير في تصديقهم به.
قوله تعالى: { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } معناه ظاهر، وفيه بيان أن سنَّة الامتحان والابتلاء عامة جارية.