التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَىٰ وَهَـٰرُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بِآيَـٰتِنَا فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
٧٥
فَلَمَّا جَآءَهُمُ ٱلْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ
٧٦
قَالَ مُوسَىٰ أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـٰذَا وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُونَ
٧٧
قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
٧٨
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ٱئْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
٧٩
فَلَمَّا جَآءَ ٱلسَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ
٨٠
فَلَمَّآ أَلْقَواْ قَالَ مُوسَىٰ مَا جِئْتُمْ بِهِ ٱلسِّحْرُ إِنَّ ٱللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٨١
وَيُحِقُّ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ
٨٢
فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي ٱلأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلْمُسْرِفِينَ
٨٣
وَقَالَ مُوسَىٰ يٰقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِٱللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ
٨٤
فَقَالُواْ عَلَىٰ ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٨٥
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٨٦
وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَٱجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٧
وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٨٨
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
٨٩
وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٩٠
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٩١
فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
٩٢
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
٩٣
-يونس

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
ثم ساق الله سبحانه نبأ موسى وأخيه ووزيره هارون مع فرعون وملئه وقد أوجز في القصة غير أنه ساقها سوقاً ينطبق بفصولها على المحصل من حديث بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته عتاة قومه والطواغيت من قريش وغيرهم، وعدم إيمانهم به إلا ضعفاؤهم الذين كانوا يفتنونهم حتى التجأوا إلى الهجرة فهاجر هو صلى الله عليه وآله وسلم وجمع من المؤمنين به إلى المدينة فعقبه فراعنة هذه الأُمة وملؤهم فأهلكهم الله بذنوبهم وبوأ الله المؤمنين ببركة الإِسلام مبوأ صدق ورزقهم من الطيبات ثم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وسيقضي الله بينهم.
فكان ذلك كله تصديقاً لما أسرّ الله سبحانه إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآيات فيما سيستقبله وقومه من الحوادث، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم يخاطب أصحابه وأُمته: لتتبعن سنّة بني إسرائيل حتى أنهم لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه.
قوله تعالى: { ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون } الخ، أي ثم بعثنا من بعد نوح والرسل الذين من بعده موسى وأخاه هارون بآياتنا إلى فرعون والجماعة الذين يختصّون به من قومه وهم القبط فاستكبروا عن آياتنا وكانوا مستمرين على الإِجرام.
قوله تعالى: { فلما جاءهم الحق من عندنا } الخ، الظاهر أن المراد بالحق هو الآية الحقة كالثعبان واليد البيضاء، وقد جعلهما الله آية لرسالته بالحق فلما جاءهم الحق { قالوا } وأكدوا القول: { إن هذا } - يشيرون إلى الحق من الآية - { لسحر مبين } واضح كونه سحراً، وإنما سمّى الآية حقّاً قبال تسميتهم إياها سحراً.
قوله تعالى: { قال موسى أتقولون للحق لمّا جاءكم أسحر هذا } الخ، أي فلمّا سمع مقالتهم تلك ورميهم الحق بأنه سحر مبين قال لهم منكراً لقولهم في صورة الاستفهام: { أتقولون للحق لمّا جاءكم } إنّه لسحر؟ ثم كرّر الإِنكار مستفهماً بقوله: { أسحر هذا }؟ فمقول القول في الجملة الاستفهامية محذوف إيجازاً لدلالة الاستفهام الثاني عليه، وقوله: { ولا يفلح الساحرون } يمكن أن يكون جملة حاليّة معلّلة للإِنكار الذي يدل عليه قوله: { أسحر هذا } ويمكن أن يكون إخباراً مستقلاً بياناً للواقع يبرّئ به نفسه من أن يقترف السحر لأنه يرى لنفسه الفلاح وللساحرين أنهم لا يفلحون.
قوله تعالى: { قالوا أجئتنا لتلفتنا عمّا وجدنا عليه آباءنا } الخ، اللفت هو الصرف عن الشيء، والمعنى: قال فرعون وملؤه لموسى معاتبين له: { أجئتنا لتلفتنا } وتصرفنا { عمّا وجدنا عليه آباءنا } يريدون سنّة قدمائهم وطريقتهم { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } يعنون الرئاسة والحكومة وانبساط القدره ونفوذ الإِرادة يؤمّون بذلك أنّكما اتخذتما الدعوة الدينية وسيلة إلى إبطال طريقتنا المستقرة في الأرض، ووضع طريقة جديدة أنتما واضعان مبتكران لها موضعها تحوزان بإجرائها في الناس وإيماننا بكما وطاعتنا لكما الكبرياء والعظمة في المملكة.
وبعبارة أُخرى إنما جئتما لتبدّلا الدولة الفرعونية المتعرقة في القبط إلى دولة إسرائيلية تدار بإمامتكما وقيادتكما، وما نحن لكما بمؤمنين حتى تنالا بذلك أُمنيتكما وتبلغا غايتكما من هذه الدعوة المزوّرة.
قوله تعالى: { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم } كان يأمر به ملأه فيعارض بسحر السحرة معجزة موسى كما فصّل في سائر الآيات القاصّة للقصَّة وتدل عليه الآيات التالية.
قوله تعالى: { فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا } الخ، أي لمّا جاءوا وواجهوا موسى وتهيؤوا لمعارضته قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقوه من الحبال والعصي، وقد كانوا هيؤوها ليلقوها فيظهروها في صور الحيّات والثعابين بسحرهم.
قوله تعالى: { فلمّا ألقوا قال لهم موسى ما جئتم به السحر } ما قاله عليه السلام بيان لحقيقة من الحقائق لينطبق عليها ما سيظهره الله من الحق على يديه من صيرورة العصا ثعباناً يلقف ما ألقوه من الحبال والعصي وأظهروه في صور الحيَّات والثعابين بسحرهم.
والحقيقة التي بيّنها لهم أن الذي جاءوا به سحر والسحر شأنه إظهار ما ليس بحق واقع في صورة الحق الواقع لحواس الناس وأنظارهم، وإذ كان باطلاً في نفسه فإن الله سيبطله لأن السنّة الإِلهية جارية على إقرار الحق وإحقاقه في التكوين وإزهاق الباطل وإبطاله فالدولة للحق وإن كانت للباطل جولة أحياناً.
ولذا علّل قوله: { إن الله سيبطله } بقوله: { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } فإن الصلاح والفساد شأنان متقابلان، وقد جرت السنّة الإِلهية أن يصلح ما هو صالح ويفسد ما هو فاسد أي أن يرتب على كل منهما أثره المناسب له المختص به وأثر العمل الصالح أن يناسب ويلائم سائر الحقائق الكونية في نظامها الذي تجري هي عليه، ويمتزج بها ويخالطها فيصلحه الله سبحانه ويجريه على ما كان من طباعه، وأثر العمل الفاسد أن لا يناسب ولا يلائم سائر الحقائق الكونية فيما تقتضيه بطباعها وتجري عليه بجبلتها فهو أمر استثنائي في نفسه، ولو اصلحه الله في فساده كان ذلك إفساداً للنظام الكوني.
فيعارضه سائر الأسباب الكونية بما لها من القوى والوسائل المؤثرة، وتعيده إلى السيرة الصالحة إن أمكن وإلا أبطلته وأفنته ومحته عن صحيفة الوجود البتة.
وهذه الحقيقة تستلزم أن السحر وكل باطل غيره لا يدوم في الوجود وقد قررها الله سبحانه في كلامه في مواضع مختلفة كقوله: { والله لا يهدي القوم الظالمين } وقوله: { والله لا يهدي القوم الفاسقين } وقوله:
{ { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } [غافر: 28] ومنها قوله في هذه الآية: { إن الله لا يصلح عمل المفسدين }.
وأكده بتقريره في جانب الإِثبات بقوله في الآية التالية: { ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } كما سيأتي توضيحه.
قوله تعالى: { ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون } لما كشف الله عن الحقيقة المتقدمة في جانب النفي بقوله: { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } أبان عنه في جانب الإِثبات أيضاً في هذه الآية بقوله: { ويحق الله الحق بكلماته } وقد جمع تعالى بين معنيي النفي والإِثبات في قوله:
{ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون } [الأنفال: 8]. ومن هنا يقوى احتمال أن يكون المراد بالكلمات في الآية أقسام الأقضية الإِلهية في شؤون الأشياء الكونية الجارية على الحق فإن قضاء الله ماض وسنّته جارية أن يضرب الحق والباطل في نظام الكون ثم لا يلبث الباطل دون أن يفنى ويعفى أثره ويبقى الحق على جلائه، وذلك قوله تعالى: { { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض } [الرعد: 17]، وسيجيء استيفاء البحث فيه في ذيل الآية إن شاء الله تعالى.
والحاصل أن موسى عليه السلام إنما ذكر هذه الحقيقة لهم ليوقفهم على سنّة إلهية حقة غفلوا عنها، وليهيئ نفوسهم لما سيظهره عملاً من غلبة الآية المعجزة على السحر وظهور الحق على الباطل، ولذا بادروا إلى الإِيمان حين شاهدوا المعجزة، وألقوا أنفسهم على الأرض ساجدين على ما فصله الله سبحانه في مواضع أُخرى من كلامه.
وقوله: { ولو كره المجرمون } ذكر الإِجرام من بين أوصافهم لأن فيه معنى القطع فكأنهم قطعوا سبيل الحق على أنفسهم وبنوا على ذلك بنيانهم فهم على كراهية من ظهور الحق، ولذلك نسب الله كراهة ظهور الحق إليهم بما هم مجرمون في قوله: { ولو كره المجرمون } وفي معناه قوله في أول الآيات: { فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين }.
قوله تعالى: { فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملإِهم } إلى آخر الآيتين ذكر بعض المفسرين أن الضمير في { قومه } راجع إلى فرعون، والذرية الذين آمنوا من قومه كانت أُمهاتهم من بني إسرائيل وآباؤهم من القبط فتبعوا أُمهاتهم في الإِيمان بموسى؛ وقيل: الذرية بعض أولاد القبط، وقيل: أُريد بها امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون، وقد ذكرا في القرآن وجارية وامرأة هي مشاطة امرأة فرعون.
وذكر آخرون أن الضمير لموسى عليه السلام والمراد بالذرية جماعة من بني إسرائيل تعلموا السحر وكانوا من أصحاب فرعون؛ وقيل: هم جميع بني إسرائيل وكانوا ستمائة الف نسمة سمّاهم ذرية لضعفهم؛ وقيل: ذرية آل إسرائيل ممن بعث إليهم موسى وقد هلكوا بطول العهد، وهذه الوجوه - كما ترى - لا دليل على شيء منها في الآيات من جهة اللفظ.
والذي يفيده السياق وهو الظاهر من الآية أن يكون الضمير راجعاً إلى موسى والمراد بالذرية من قوم موسى بعض الضعفاء من بني إسرائيل دون ملئهم الأقوياء والشرفاء، والاعتبار يساعد على ذلك فإنهم جميعاً كانوا أُسراء للقبط محكومين بحكمهم بأجمعهم، والعادة الجارية في أمثال هذه الموارد أن يتوسل الشرفاء والأقوياء بأي وسيلة أمكنت إلى حفظ مكانتهم الاجتماعية وجاههم القومي، ويتقربوا إلى الجبار المسيطر عليهم بإرضائه بالمال والتظاهر بالخدمة ومراءاة النصح والتجنب عما لا يرتضيه فلم يكن في وسع الملأ من بني إسرائيل أن يعلنوا موافقة موسى على بغيته، ويتظاهروا بالإِيمان به.
على أن قصص بني إسرائيل في القرآن أعدل شاهد على أن كثيراً من عتاة بني إسرائيل ومستكبريهم لم يؤمنوا بموسى إلى أواخر عهده وإن كانوا يتسلّمون له ويطيعونه في عامة أوامره التي كان يصدرها لبذل المساعي في سبيل نجاة بني إسرائيل لما كان فيها صلاح قوميتهم وحرية شعبهم ومنافع أشخاصهم، فالإِطاعة في هذه الأمور أمر والإِيمان بالله وما جاء به الرسول أمر آخر.
ويستقيم على هذا معنى قوله: { وملإِهم } بأن يكون الضمير إلى الذرية ويفيد الكلام أن الذرية الضعفاء كانوا في إيمانهم يخافون الملأ والأشراف من بني إسرائيل فإنهم ربما كانوا يمنعونهم لعدم إيمانهم أنفسهم أو تظاهروا بذلك ليرضوا به فرعون وقومه ويطيّبوا أنفسهم فلا يضيّقوا عليهم وينقصوا من إيذائهم والتشديد عليهم.
وأما ما قيل: إن الضمير راجع إلى فرعون لأنه ذو أصحاب أو للذرية لأنهم كانوا من القبط فمما لا يصار إليه البتة وخاصة أول الوجهين.
وقوله: { أن يفتنهم } أي يعذبهم ليعودوا إلى ملته، وقوله: { وإن فرعون لعال في الأرض } أي والظرف هذا الظرف وهو أن فرعون عال في الأرض مسرف في الأمر.
فالمعنى - والله أعلم - فتفرع على قصة بعثهما واستكبار فرعون وملئه أنه لم يؤمن بموسى إلا ضعفاء من بني إسرائيل وهم يخافون ملأهم ويخافون فرعون أن يعذبهم لإِيمانهم وكان ينبغي لهم ومن شأنهم أن يخافوا فإن فرعون كان يومئذ عالياً في الأرض مسلطاً عليهم وأنه كان من المسرفين لا يعدل فيما يحكم ويجاوز الحدّ في الظلم والتعذيب.
ولو صحَّ أن يراد بقومه كل من بعث إليهم موسى وبلَّغهم الرسالة وهم القبط وبنو إسرائيل استقام الكلام من طريق آخر من غير حاجة إلى ما تقدم من تكلّفاتهم.
قوله تعالى: { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } ما كان الإِيمان بالله بما يفيده للمؤمن من العلم بمقام ربه ولو إجمالاً وأنه سبب فوق الأسباب إليه ينتهي كل سبب، وهو المدبّر لكل أمر، يدعوه إلى تسليم الأمر إليه والتجنب عن الاعتماد بظاهر ما يمكنه التسبب به من الأسباب فإنه من الجهل، ولازم ذلك إرجاع الأمر إليه والتوكل عليه، وقد أمرهم في الآية بالتوكل على الله، علَّقه أولاً على الشرط الذي هو الإِيمان ثم تمم الكلام بالشرط الذي هو الإِسلام.
فالكلام في تقدير: إن كنتم آمنتم بالله ومسلّمين له فتوكلوا عليه. وقد فرَّق بين الشرطين ولعله لم يجمع بينهما فيقول: { إن كنتم آمنتم وأسلمتم فتوكلوا } لاختلاف الشرطين بحسب الحال فقد كان الإِيمان واقعاً محرزاً منهم، وأما الإِسلام فهو من كمال الإِيمان، وليس من الواجب الضروري أن يكون كل مؤمن مسلماً بل من الأولى الأحرى أن يكمل إيمانه بالإِسلام.
فالتفريق بين الشرطين للإِشعار بكون أحدهما واجباً واقعاً منهم، والآخر مما ينبغي لهم أن يتحققوا به فالمعنى: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله - وقد آمنتم - وكنتم مسلمين له - وينبغي أن تكونوا كذلك - فتوكلوا على الله؛ ففي الكلام من لطيف الصنعة ما لا يخفى.
قوله تعالى: { فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } إلى آخر الآيتين، إنما توكلوا على الله لينجيهم من فرعون وملئه فدعاؤهم بما دعوا به من قولهم: { ربنا لا تجعلنا فتنة } الخ، سؤال منهم نتيجة توكلهم وهو أن ينزع الله منهم لباس الضعف والذلَّة، وينجيهم من القوم الكافرين.
أما الأول فقد أشاروا إليه بقولهم: { ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين } وذلك أن الذي يغري الأقوياء الظالمين على الضعفاء المظلومين هو ما يشاهدون فيهم من الضعف فيفتتنون به فيظلمونهم فالضعيف بما له من الضعف فتنة للقوي الظالم كما أن الأموال والأولاد بما عندها من جاذبة الحب فتنة للإِنسان، قال تعالى:
{ إنما أموالكم وأولادكم فتنة } [التغابن: 15]. والدنيا فتنة لطالبها فسؤالهم ربّهم أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين سؤال منهم أن يسلبهم الضعف والذلّة بسلب الغرض منه وهو سلب الشيء بسلب سببه.
وأما الثاني أعني التنجية فهو الذي ذكره حكاية عنهم في الآية الثانية: { ونجّنا برحمتك من القوم الكافرين }.
قوله تعالى: { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّءا لقومكما بمصر بيوتاً } الخ، التبوّي أخذ المسكن والمنزل، ومصر بلد فرعون، والقبلة في الأصل بناء نوع من المصدر كجلسة أي الحالة التي يحصل بها التقابل بين الشيء وغيره فهو مصدر بمعنى الفاعل. أي اجعلوا بيوتكم متقابلة يقابل بعضها بعضاً وفي جهة واحدة وكان الغرض أن يتمكنا منهم بالتبليغ ويتمكنوا من إقامة الصلاة جماعة كما يدل عليه أو يشعر به قوله بعده: { وأقيموا الصلاة } لوقوعه بعده.
وأما قوله: { وبشّر المؤمنين } فالسياق يدل على أن المراد به البشارة بإجابة ما سألوه في دعائهم المذكور آنفاً: { ربنا لا تجعلنا فتنة } إلى آخر الآيتين.
والمعنى: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتّخذا لقومكما مساكن من البيوت في مصر - وكأنهم لم يكونوا إلى ذاك الحين إلا كهيئة البدويين يعيشون في الفساطيط أو عيشة تشبهها - واجعلا أنتما وقومكما بيوتكم متقابلة وفي جهة واحدة يتصل بذلك بعضكم ببعض ويتمشى أمر التبليغ والمشاورة والاجتماع في الصلوات، وأقيموا الصلاة وبشّر يا موسى أنت المؤمنين بأن الله سينجّيهم من فرعون وقومه.
قوله تعالى: { وقال موسى ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً } الخ، الزينة بناء نوع من الزين وهي الهيئة التي تجذب النفس إلى الشيء، والنسبة بين الزينة والمال العموم من وجه فبعض الزينة ليس بمال يبذل بإزائه الثمن كحسن الوجه واعتدال القامة، وبعض المال ليس بزينة كالأنعام والأراضي، وبعض المال زينة كالحلي والتقابل الواقع بين الزينة والمال يعطي أن يكون المراد بالزينة جهة الزينة من غير نظر إلى المالية كالحلي والرياش والأثاث والأبنية الفاخرة وغيرها.
وقوله: { ربّنا ليضلوا عن سبيلك } قيل اللام للعاقبة، والمعنى وعاقبة أمرهم أنهم يضلون عن سبيلك، ولا يجوز أن يكون لام الغرض لأنّا قد علمنا بالأدلة الواضحة أن الله سبحانه لا يبعث الرسول ليأمر الخلق بالضلال ولا يريد أيضاً منهم الضلال، وكذلك لا يؤتيهم المال ليضلوا. انتهى.
وهو حقّ لكن في الإِضلال الابتدائي المستحيل عليه تعالى، وأما الإِضلال بعنوان المجازاة ومقابلة السوء بالسوء فلا دليل على امتناعه على الله سبحانه بل يثبته كلامه في موارد كثيرة، وقد كان فرعون وملؤه مصرّين على الاستكبار والإِفساد ملحِّين على الإِجرام فلا مانع من أن يؤتيهم الله بذلك زينة وأموالاً ليضلوا عن سبيله جزاء بما كسبوا.
وربما قيل: إن اللام في { ليضلّوا } للدعاء، وربما قيل: إن الكلام بتقدير لا أي لئلا يضلوا عن سبيلك، والسياق لا يساعد على شيء من الوجهين.
والطمس - كما قيل - تغيّر إلى الدثور والدروس فمعنى { اطمس على أموالهم } غيّرها إلى الفناء والزوال، وقوله: { واشدد على قلوبهم } من الشد المقابل للحل أي أقس قلوبهم واربط عليها ربطاً لا ينشرح للحق فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم فهو الطبع على القلوب، وقول بعضهم: إن المراد بالشد تثبيتهم على المقام بمصر بعد الطمس على أموالهم ليكون ذلك أشد عليهم وآلم، وكذا قول آخرين: إنه كناية عن إماتتهم وإهلاكهم من الوجوه البعيدة.
فمعنى الآية: وقال موسى - وكان ذلك بعد يأسه من إيمان فرعون وملئه ويقينه بأنهم لا يدومون إلا على الضلال والإِضلال كما يدل عليه سياق كلامه في دعائه - ربّنا إنك جازيت فرعون وملأه على كفرهم وعتوّهم جزاء السوء فآتيتهم زينة وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا إرادة منك لأن يضلوا من اتبعهم عن سبيلك، وإرادتك لا تبطل وغرضك لا يلغو ربّنا أدم على سخطك عليهم واطمس على أموالهم وغيّرها عن مجرى النعمة إلى مجرى النقمة، واجعل قلوبهم مشدودة مربوطة فلا يؤمنوا حتى يقفوا موقفاً لا ينفعهم الإِيمان وهو زمان يرون فيه العذاب الإِلهي.
وهذا الدعاء من موسى عليه السلام على فرعون وملئه إنما هو بعد يأسه التام من إيمانهم، وعلمه أنه لا يترقّب منهم في الحياة إلا أن يضلوا ويضلوا كدعاء نوح على قومه فيما حكاه الله:
{ { ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً } [نوح: 26]، وحاشا ساحة الأنبياء عليهم السلام أن يتكلموا على الخرص والمظنّة في موقف يشافهون فيه رب العالمين جلت كبرياؤه وعز شأنه.
قوله تعالى: { قال قد أُجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } الخطاب - على ما يدل عليه السياق - لموسى وهارون ولم يحك الدعاء في الآية السابقة إلا عن موسى، وهذا يؤيد ما ذكره المفسّرون: أنَّ موسى عليه السلام كان يدعو، وكان هارون يؤمّن له وآمين دعاء فقد كانا معاً يدعوان وإن كان متن الدعاء لموسى عليه السلام وحده.
والاستقامة هو الثبات على الأمر، وهو منهما عليهما السلام الثبات على الدعوة إلى الله وعلى إحياء كلمة الحق، والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة من شعب إسرائيل وقد وصفهم موسى عليه السلام بالجهل كما في قوله:
{ قال إنكم قوم تجهلون } [الأعراف: 138]. والمعنى: { قال } الله مخاطباً لموسى هارون { قد أُجيبت دعوتكما } من سؤال العذاب الأليم لفرعون وملئه، والطمس على أموالهم والشد على قلوبهم { فاستقيما } واثبتا على ما أُمرتما به من الدعوة إلى الله وإحياء كلمة الحق، { ولا تتبعان } البتّة { سبيل الذين لا يعلمون } بإجابة ما يقترحون عليكما عن أهواء أنفسهم ودواعي شهواتهم، وفيه نوع تلويح إلى أنهم سيسألون أُموراً فيها إحياء سنّتهم القومية وسيرتهم الجاهلية.
وبالجملة فالآية تذكر إجابة دعوتهما المتضمنة لعذاب فرعون وملئه وعدم توفيقهم للإِيمان ووعدهما بذلك، ولذلك ذكر في الآية التالية وفاؤه تعالى بهذا الوعد بخصوصيته التي فيه.
ولم يكن في الدعاء ما يدل على مسألة الفور أو التراخي في القضاء عليهم بالعذاب وعلى ذلك جرى أيضاً سياق الآية الدالة على القبول والإِجابة. وكذا الآية المخبرة عن كيفية إنجازه، وقد نقل في المجمع عن ابن جريج أن فرعون مكث بعد هذا الدعاء أربعين سنة قال: وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام، ورواه عنه عليه السلام في الاحتجاج وكذا في الكافي وتفسير العياشي عن هشام بن سالم عنه عليه السلام وفي تفسير القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عنه عليه السلام.
قوله تعالى: { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدواً } إلى آخر الآية، البغي والعدو كالعدوان الظلم وإدراك الشيء اللحوق به والتسلط عليه كما أن اتّباع الشيء طلب اللحوق به.
وقوله: { آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } أي آمنت بأنه وقد وصف الله بالذي آمنت به بنو إسرائيل ليظفر بما ظفروا به بإيمانهم وهو مجاوزة البحر والأمان من الغرق، ولذلك أيضاً جمع بين الإِيمان والإِسلام ليزيل بذلك أثر ما كان يصرّ عليه من المعصية وهو الشرك بالله والاستكبار على الله، والباقى ظاهر.
قوله تعالى: { آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } آلآن بالمد أصله ءألآن أي أتؤمن بالله الآن وهو حين أدركك العذاب ولا إيمان وتوبة حين غشيان العذاب ومجيء الموت من كل مكان، وقد عصيت قبل هذا وكنت من المفسدين، وأفنيت أيامك في معصيته، ولم تقدم التوبة لوقتها فماذا ينفعك الإِيمان بعد فوت وقته وهذا هو الذي كان موسى وهارون سألاه ربهما أن يأخذه بعذاب أليم ويسد سبيله إلى الإِيمان إلا حين يغشاه العذاب فلا ينفعه الإِيمان ولا تغني عنه التوبة شيئاً.
قوله تعالى: { فاليوم ننجّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } التنجية والإِنجاء تفعيل وإفعال من النجاة كالتخليص الإِخلاص من الخلاص وزناً ومعنى.
وتنجيته ببدنه تدل على أن له أمراً آخر وراء البدن فقده بدنه بغشيان العذاب وهو النفس التي تسمى أيضاً روحاً، وهذه النفس المأخوذة هي التي يتوفاها الله ويأخذها حين موتها كما قال تعالى:
{ { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [الزمر: 42]، وقال: { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكّل بكم } [السجدة: 11]، وهي التي يخبر عنها الإِنسان بقوله: { أنا } وهي التي بها تتحقق للإِنسان إنسانيته، وهي التي تدرك وتريد وتفعل الأفعال الإِنسانية بواسطة البدن بما له من القوى والاعضاء المادية، وليس للبدن إلا أنه آلة وأداة تعمل بها النفس أعمالها المادية.
ولمكان الاتحاد الذي بينها وبين البدن يسمى باسمها البدن وإلا فأسماء الأشخاص في الحقيقة لنفوسهم لا لأبدانهم، وناهيك في ذلك التغيّر المستمر الذي يعرض البدن مدة الحياة، والتبدل الطبيعي الذي يطرأ عليه حيناً بعد حين حتى ربما تبدل البدن بجميع أجزائه إلى أجزاء أُخر تتركب بدناً آخر فلو كان زيد هو البدن الذي ولدته امه يوم ولدته والاسم له لكان غيره وهو ذو سبعين وثمانين قطعاً والاسم لغيره حتماً، ولم يثب ولم يعاقب الإِنسان وهو شائب على ما عمله وهو شابّ لأن الطاعة والمعصية لغيره.
فهذه وأمثالها شواهد قطعية على أن إنسانية الإِنسان بنفسه دون بدنه، والأسماء للنفوس لا للأبدان يدركها الإِنسان ويعرفها إجمالاً وإن كان ربما أنكرها في مقام التفصيل.
وبالجملة فالآية: { اليوم ننجيك ببدنك } كالصريح أو هو صريح في أن النفوس وراء الأبدان، وأن الأسماء للنفوس دون الأبدان إلا ما يطلق على الأبدان بعناية الاتحاد.
فمعنى { ننجيك ببدنك } نخرج بدنك من اليم وننجيه، وهو نوع من تنجيتك - لما بين النفس والبدن من الاتحاد القاضي بكون العمل الواقع على أحدهما واقعاً بنحو على الآخر - لتكون لمن خلفك آية، وهذا بوجه نظير قوله تعالى:
{ { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } [طه: 55] فإن الذي يعاد إلى الأرض هو جسد الإِنسان دون الإِنسان التام فليست نسبة الإِعادة إلى الإِنسان إلا لما بين نفسه وبدنه من الاتحاد.
وقد ذكر المفسّرون أن الإِنجاء والتنجية لما كان دالاً بلفظه على سلامة الذي أُنجي إنجاء كان مفاد قوله: { ننجيك } أن يكون فرعون خارجاً من اليم حياً وقد أخرجه الله ميتاً فالمتعين أخذ قوله: { ننجيك } من النجوة وهي الأرض المرتفعة التي لا يعلوها السيل، والمعنى اليوم نخرج بدنك إلى نجوة من الأرض.
وربما قال بعضهم: إن المراد بالبدن الدرع، وقد كان لفرعون درع من ذهب يعرف به فأخرجه الله فوق الماء بدرعه ليكون لمن خلفه آية وعبرة، وربما قال بعضهم إن التعبير بالتنجية تهكم به.
والحق أن هذا كله تكلف لا حاجة إليه، ولم يقل: { ننجيك } وإنما قيل { ننجيك ببدنك } ومعناه ننجي بدنك، والباء للآلية أو السببية، والعناية هي الاتحاد الذي بين النفس والبدن.
على أن جعل { ننجيك ببدنك } بمعنى نجعلك على نجوة من الأرض لا يفي بدفع الإِشكال من أصله فإن الذي جعل على نجوة هو بدن فرعون على قولهم، وهو غير فرعون قطعاً وإلا كان حياً سالماً، ولا مناص إلا أن يقال: إن ذلك بعناية الاتحاد الذي بين الانسان وبدنه، ولو صححت هذه العناية إطلاق اسم الإِنسان على بدنه من غير نفس لكان لها أن تصحح نسبة التنجية إلى الإِنسان من جهة وقوع التنجية ببدنه، وخاصة مع وجود القرينة الدالة على أن المراد بالتنجية هي التي للبدن دون التي للإِنسان المستتبع لحفظ حياته وسلامته نفساً وبدناً، والقرينة هي قوله: { ببدنك }.
قوله تعالى: { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق ورزقناهم من الطيّبات } أي أسكناهم مسكن صدق، وإنما يضاف الشيء إلى الصدق نحو وعد صدق وقدم صدق ولسان صدق ومدخل صدق ومخرج صدق للدلالة على أن لوازم معناه وآثاره المطلوبة منه موجودة فيه صدقاً من غير أن يكذب في شيء من آثاره التي يعدها بلسان دلالته الالتزامية لطالبه فوعد صدق مثلاً هو الوعد الذي سيفي به واعده، ويسر بالوفاء به موعوده، ويحق أن يطمع فيه ويرجى وقوعه. فإن لم يكن كذلك فليس بوعد صدق بل وعد كذب كأنه يكذب في معناه ولوازم معناه.
وعلى هذا فقوله: { مبوّأ صدق } يدل على أن الله سبحانه بوّأهم مبوءاً يوجد فيه جميع ما يطلبه الإِنسان من المسكن من مقاصد السكنى كطيب الماء والهواء وبركات الأرض ووفور نعمها والاستقرار فيها وغير ذلك، وهذه هي نواحي بيت المقدس والشام التي أسكن الله بني إسرائيل فيها وسماها الأرض المقدسة المباركة وقد قص القرآن دخولهم فيها.
وأما قول بعضهم: إن المراد بهذا المبوّأ مصر دخلها بنو إسرائيل واتخذوا فيها بيوتاً فأمر لم يذكره القرآن. على أنهم لو فرض دخولهم فيها ثانياً لم يستقروا فيها استقراراً مستمراً، وتسمية ما هذا شأنه مبوأ صدق مما لا يساعد عليه معنى اللفظ.
والآية أعني قوله: { ولقد بوأنا بني إسرائيل } إلى قوله { من الطيبات } مسوقة سوق الشكوى والعتبى، ويشهد به تذييلها بقوله: { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } وقوله: { إن ربك يقضي بينهم } إلى آخر الآية بيان لعاقبة اختلافهم عن علم وبمنزلة أخذ النتيجة من القصة.
والمعنى: أنا أتممنا على بني إسرائيل النعمة وبوأناهم مبوّأ صدق ورزقناهم من الطيبات بعد حرمانهم من ذلك مدة طويلة كانوا فيها في أسارة القبط فوحدنا شعبهم وجمعنا شملهم فكفروا النعمة وفرَّقوا الكلمة واختلفوا في الحق، ولم يكن اختلافهم عن عذر الجهل وإنما اختلفوا عن علم { إن ربك يقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون }.