التفاسير

< >
عرض

وَٱلْعَصْرِ
١
إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ
٢
إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ
٣
-العصر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تخلص السورة جميع المعارف القرآنية وتجمع شتات مقاصد القرآن في أوجز بيان، وهي تحتمل المكية والمدنية لكنها أشبه بالمكية.
قوله تعالى: { والعصر } إقسام بالعصر والأنسب لما تتضمنه الآيتان التاليتان من شمول الخسران للعالم الإِنساني إلا لمن اتبع الحق وصبر عليه وهم المؤمنون الصالحون عملاً، أن يكون المراد بالعصر عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو عصر طلوع الإِسلام على المجتمع البشري وظهور الحق على الباطل.
وقيل: المراد به وقت العصر وهو الطرف الأخير من النهار لما فيه من الدلالة على التدبير الربوبي بإدبار النهار وإقبال الليل وذهاب سلطان الشمس، وقيل: المراد به صلاة العصر وهي الصلاة الوسطى التي هي أفضل الفرائض اليومية، وقيل الليل والنهار ويطلق عليهما العصران، وقيل الدهر لما فيه من عجائب الحوادث الدالة على القدرة الربوبية وغير ذلك.
وقد ورد في بعض الروايات أنه عصر ظهور المهدي عليه السلام لما فيه من تمام ظهور الحق على الباطل.
قوله تعالى: { إن الإِنسان لفي خسر } المراد بالإِنسان جنسه، والخسر والخسران والخسار والخسارة نقص رأس المال قال الراغب: وينسب ذلك إلى الانسان فيقال: خسر فلان وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، انتهى. والتنكير في { خسر } للتعظيم ويحتمل التنويع أي في نوع من الخسر غير الخسارات المالية والجاهية قال تعالى:
{ الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين } [الزمر: 15]. قوله تعالى: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } استثناء من جنس الانسان الواقع في الخسر، والمستثنون هم الأفراد المتلبسون بالإِيمان والأعمال الصالحة فهم آمنون من الخسر.
وذلك أن كتاب الله يبيِّن أن للإِنسان حياة خالدة مؤبَّدة لا تنقطع بالموت وإنما الموت انتقال من دار إلى دار كما تقدم في تفسير قوله تعالى:
{ على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون } [الواقعة: 61]، ويبين أن شطراً من هذه الحياة وهي الحياة الدنيا حياة امتحانية تتعين بها صفة الشطر الأخير الذي هو الحياة الآخرة المؤبدة من سعادة وشقاء قال تعالى: { وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع } [الرعد: 26]، وقال: { كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء: 35]. ويبين أن مقدميَّة هذه الحياة لتلك الحياة إنما هي بمظاهرها من الاعتقاد والعمل فالاعتقاد الحق والعمل الصالح ملاك السعادة الاخروية والكفر والفسوق ملاك الشقاء فيها قال تعالى: { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى } [النجم: 39-41]، وقال: { من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون } [الروم: 44]، وقال: { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } [فصلت: 46]، وقد سمَّى الله تعالى ما سيلقاه الإِنسان في الآخرة جزاء وأجراً في آيات كثيرة.
ويتبين بذلك كله أن الحياة رأس مال للانسان يكسب به ما يعيش به في حياته الآخرة فإن اتبع الحق في العقد والعمل فقد ربحت تجارته وبورك في مكسبه وأمن الشر في مستقبله، وإن اتبع الباطل وأعرض عن الإِيمان والعمل الصالح فقد خسرت تجارته وحرم الخير في عقباه وهو قوله تعالى: { إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات }.
والمراد بالإِيمان الإِيمان بالله ومن الإِيمان بالله الإِيمان بجميع رسله والإِيمان باليوم الآخر فقد نصّ تعالى فيمن لم يؤمن ببعض رسله أو باليوم الآخر أنه غير مؤمن بالله.
وظاهر قوله: { وعملوا الصالحات } التلبس بجميع الأعمال الصالحة فلا يشمل الاستثناء الفساق بترك بعض الصالحات من المؤمنين ولازمه أن يكون الخسر أعم من الخسر في جميع جهات حياته كما في الكافر المعاند للحق المخلد في العذاب، والخسر في بعض جهات حياته كالمؤمن الفاسق الذي لا يخلد في النار وينقطع عنه العذاب بشفاعة ونحوها.
قوله تعالى: { وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } التواصي بالحق هو أن يوصي بعضهم بعضاً بالحق أي باتباعه والدوام عليه فليس دين الحق إلا اتباع الحق اعتقاداً وعملاً والتواصي بالحق أوسع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشموله الاعتقاديات ومطلق الترغيب والحث على العمل الصالح.
ثم التواصي بالحق من العمل الصالح فذكره بعد العمل الصالح من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماماً بأمره كما أن التواصي بالصبر من التواصي بالحق وذكره بعده من ذكر الخاص بعد العام اهتماماً بأمره، ويؤكد تكرار ذكر التواصي حيث قال: { وتواصوا بالصبر } ولم يقل: وتواصوا بالحق والصبر.
وعلى الجملة ذكر تواصيهم بالحق وبالصبر بعد ذكر تلبسهم بالإِيمان والعمل الصالح للاشارة إلى حياة قلوبهم وإنشراح صدورهم للإِسلام لله فلهم اهتمام خاص واعتناء تام بظهور سلطان الحق وانبساطه على الناس حتى يتبع ويدوم اتباعه قال تعالى:
{ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين } [الزمر: 22]. وقد أطلق الصبر فالمراد به أعم من الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر عند النوائب التي تصيبه بقضاء من الله وقدر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: { إلا الذين آمنوا } الخ، فقال: استثنى أهل صفوته من خلقه.
أقول: وطبّق في ذيل الرواية الإِيمان على الإِيمان بولاية علي عليه السلام، والتواصي بالحق على توصيتهم ذرياتهم وأخلافهم بها.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { والعصر إن الإِنسان لفي خسر } يعني أبا جهل بن هشام { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ذكر علياً وسلمان.