التفاسير

< >
عرض

لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ
١
إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ ٱلشِّتَآءِ وَٱلصَّيْفِ
٢
فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ
٣
ٱلَّذِيۤ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ
٤
-قريش

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تتضمن السورة امتناناً على قريش بإيلافهم الرحلتين وتعقبه بدعوتهم إلى التوحيد وعبادة رب البيت، والسورة مكيِّة.
ولمضمون السورة نوع تعلق بمضمون سورة الفيل ولذا ذهب قوم من أهل السنة إلى كون الفيل ولإِيلاف سورة واحدة كما قيل بمثله في الضحى وألم نشرح لما بينهما من الارتباط كما نسب ذلك إلى المشهور بين الشيعة والحق أن شيئاً مما استندوا إليه لا يفيد ذلك.
أما القائلون بذلك من أهل السنة فإنهم استندوا فيه إلى ما روي أن أُبيَّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة، وبما روي عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: صلَّيت المغرب خلف عمر بن الخطاب فقرأ في الركعة الأُولى والتين وفي الثانية ألم تر ولإِيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة.
وأُجيب عن الرواية الأُولى بمعارضتها بما روي أنه أثبت البسملة بينهما في مصحفه، وعن الثانية بأن من المحتمل على تقدير صحتها أن يكون الراوي لم يسمع قراءتها أو يكون قرأها سراً. على أنها معارض بما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله فضل قريشاً بسبع خصال وفيها "ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم: لإِيلاف قريش". الحديث على أن الفضل متواتر.
وأما القائلون بذلك من الشيعة فاستندوا فيه إلى ما في المجمع عن أبي العباس عن أحدهما عليهما السلام قال: ألم تر كيف فعل ربك ولإِيلاف قريش سورة واحدة، وما في التهذيب بإسناده عن العلاء عن زيد الشحَّام قال: صلى بنا أبو عبد الله عليه السلام الفجر فقرأ الضحى وألم نشرح في ركعة، وما في المجمع عن العياشي عن المفضل بن صالح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة إلا الضحى وألم نشرح وألم تر كيف ولإِيلاف قريش، ورواه المحقق في المعتبر نقلاً من كتاب الجامع لأحمد بن محمد بن أبي نصر عن المفضل مثله.
أما رواية أبي العباس فضعيفة لما فيها من الرفع.
وأما رواية الشحام فقد رويت عنه بطريقين آخرين: أحدهما ما في التهذيب بإسناده عن ابن مسكان عن زيد الشحام قال: صلى بنا أبو عبد الله عليه السلام فقرأ بنا بالضحى وألم نشرح، وثانيهما عنه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن زيد الشحام قال: صلى بنا أبو عبد الله عليه السلام فقرأ في الأولى وفي الثانية ألم نشرح لك صدرك.
وهذه أعني صحيحة ابن أبي عمير صريحة في قراءة السورتين في ركعتين ولا يبقى معها لرواية العلاء ظهور في الجمع بينهما، وأما رواية ابن مسكان فلا ظهور لها في الجمع ولا صراحة، وأما حمل ابن أبي عمير على النافلة فيدفعه قوله فيها: (صلى بنا) فإنه صريح في الجماعة ولا جماعة في نفل.
وأما رواية المفضَّل فهي أدل على كونهما سورتين منها على كونهما سورة واحدة حيث قيل: لا تجمع بين سورتين ثم استثنى من السورتين الضحى وألم نشرح وكذا الفيل ولإِيلاف.
فالحق أن الروايات إن دلت فإنما تدل على جواز القران بين سورتي الضحى وألم نشرح وسورتي الفيل ولإِيلاف في ركعة واحدة من الفرائض وهو ممنوع في غيرها، ويؤيده رواية الراوندي في الخرائج عن داوود الرقيِّ عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: فلما طلع الفجر قام فأذَّن وأقام وأقامني عن يمينه وقرأ في أول ركعة الحمد والضحى وفي الثانية بالحمد وقل هو الله أحد ثم قنت ثم سلَّم ثم جلس.
قوله تعالى: { لإِيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } الإِلف بكسر الهمزة اجتماع مع التئام كما قاله الراغب ومنه الإِلفة، وقال في الصحاح: وفلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألفه إلفاً وآلفه إياه غيره، ويُقال أيضاً: آلفت الموضع أُولفه إيلافاً، انتهى.
وقريش عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم ولد النضر بن كنانة المسمى قريشاً، والرحلة حال السير على الراحلة وهي الناقة القوية على السير كما في المجمع، والمراد بالرحلة خروج قريش من مكة للتجارة وذلك أن الحرم واد جديب لا زرع فيه ولا ضرع فكانت قريش تعيش فيه بالتجارة، وكانت لهم في كل سنة رحلتان للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن ورحلة بالصيف إلى الشام، وكانوا يعيشون بذلك وكان الناس يحترمونهم لمكان البيت الحرام فلا يتعرضون لهم بقطع طريقهم أو الإِغارة على بلدهم الآمن.
وقوله: { لإِيلاف قريش } اللام فيه للتعليل، وفاعل الإِيلاف هو الله سبحانه وقريش مفعوله الأول ومفعوله الثاني محذوف يدل عليه ما بعده، وقوله: { إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } بدل من إيلاف قريش، وفاعل إيلافهم هو الله ومفعوله الأول ضمير الجمع ومفعوله الثاني رحلة الخ، والتقدير لإِيلاف الله قريشاً رحلة الشتاء والصيف.
قوله تعالى: { فليعبدوا رب هذا البيت } الفاء في { فليعبدوا } لتوهّم معنى الشرط أي أيِّ شيء كان فليعبدوا رب هذا البيت لإِيلافه أيام الرحلتين أو لنوهم التفصيل أي مهما يكن من شيء فليعبدوا رب هذا البيت الخ، فهو كقوله تعالى:
{ ولربِّك فاصبر } [المدثر: 7]. ومحصل معنى الآيات الثلاث ليعبد قريش رب هذا البيت لأجل إيلافه إياهم رحلة الشتاء والصيف وهم عائشون بذلك في أمن.
هذا بالنظر إلى كون السورة منفصلة عما قبلها ذات سياق مستقل في نفسها، وأما على تقدير كونها جزءاً من سورة الفيل متمِّمة لها فذكروا أن اللام في { لإِيلاف } تعليلية متعلقة بمقدر يدل عليه المقام والمعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش مضافة إلى نعمتنا عليهم في رحلة الشتاء والصيف فكأنه قال: نعمة إلى نعمة ولذا قيل, إن اللام مؤدية معنى إلى وهو قول الفرَّاء.
وقيل: المعنى فعلنا ذلك بأصحاب الفيل لتألف قريش بمكة ويمكنهم المقام بها أو لنؤلف قريشاً فإنهم هابوا من أبرهة لما قصدها وهربوا منه فأهلكناهم لترجع قريش إلى مكة ويألفوا بها ويولد محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيبعث إلى الناس بشيراً ونذيراً هذا، والكلام في استفادة هذه المعاني من السياق.
قوله تعالى: { الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف } إشارة إلى ما في إيلافهم الرحلتين من منِّه الواضح ونعمته الظاهرة عليهم وهو الإِطعام والأمن فيعيشون في أرض لا خصب فيها ولا أمن لغيرهم فليعبدوا رباً يدبر أمرهم أحسن التدبير وهو رب البيت.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { لإِيلاف قريش إيلافهم } قال: نزلت في قريش لأنه كان معاشهم من الرحلتين رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام، وكانوا يحملون من مكة الأدم واللب وما يقع من ناحية البحر من الفلفل وغيره فيشترون بالشام الثياب والدرمك والحبوب، وكانوا يتألفون في طريقهم ويثبتون في الخروج في كل خرجة رئيساً من رؤساء قريش وكان معاشهم من ذلك.
فلما بعث الله نبيه استغنوا عن ذلك لأن الناس وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحجوا إلى البيت فقال الله: { فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع } لا يحتاجون أن يذهبوا إلى الشام { وآمنهم من خوف } يعني خوف الطريق.
أقول: قوله: فلما بعث الله الخ خفي الانطباق على سياق آيات السورة، ولعله من كلام القمي أخذه من بعض ما روي عن ابن عباس.