التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ ٱلْكَوْثَرَ
١
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ
٢
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ ٱلأَبْتَرُ
٣
-الكوثر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
امتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعطائه الكوثر وتطييب لنفسه الشريفة بأن شانئه هو الأبتر، وهي أقصر سورة في القرآن وقد اختلفت الروايات في كون السورة مكية أو مدنية، والظاهر أنها مكية، وذكر بعضهم أنها نزلت مرتين جمعاً بين الروايات.
قوله تعالى: { إنا أعطيناك الكوثر } قال في المجمع الكوثر فوعل وهو الشيء الذي من شأنه الكثرة، والكوثر الخير الكثير، انتهى. وقد اختلفت أقوالهم في تفسير الكوثر اختلافاً عجيباً فقيل: هو الخير الكثير، وقيل نهر في الجنة، وقيل: حوض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة أو في المحشر، وقيل: أولاده وقيل: أصحابه وأشياعه صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة، وقيل: علماء أُمته صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل القرآن وفضائله كثيرة، وقيل النبوة وقيل: تيسير القرآن وتخفيف الشرائع وقيل: الإِسلام وقيل التوحيد، وقيل: العلم والحكمة، وقيل: فضائله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المقام المحمود، وقيل: هو نور قلبه صلى الله عليه وآله وسلم إلى غير ذلك مما قيل، وقد نقل عن بعضهم أنه أنهى الأقوال إلى ستة وعشرين.
وقد استند في القولين الأولين إلى بعض الروايات، وباقي الأقوال لا تخلو من تحكم وكيفما كان فقوله في آخر السورة: { إن شانئك هو الأبتر } - وظاهر الأبتر المنقطع نسله وظاهر الجملة أنها من قبيل قصر القلب - إن كثرة ذريته صلى الله عليه وآله وسلم هي المرادة وحدها بالكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو المراد بها الخير الكثير وكثرة الذرية مرادة في ضمن الخير الكثير ولولا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله: { إن شانئك هو الأبتر } خالياً عن الفائدة.
وقد استفاضت الروايات أن السورة إنما نزلت فيمن عابه صلى الله عليه وآله وسلم بالبتر بعد ما مات ابناه القاسم وعبد الله، وبذلك يندفع ما قيل: أن مراد الشانئ بقوله: { أبتر } المنقطع عن قومه أو المنقطع عن الخير فردَّ الله عليه بأنه هو المنقطع من كل خير.
ولما في قوله: { إنا أعطيناك } من الامتنان عليه صلى الله عليه وآله وسلم جيء بلفظ المتكلم مع الغير الدال على العظمة، ولما فيه من تطييب نفسه الشريفة أكدت الجملة بإن وعبر بلفظ الإِعطاء الظاهر في التمليك.
والجمله لا تخلو من دلالة على أن ولد فاطمة عليها السلام ذريته صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا في نفسه من ملاحم القرآن الكريم فقد كثر الله تعالى نسله بعده كثرة لا يعادلهم فيها أي نسل آخر مع ما نزل عليهم من النوائب وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة.
قوله تعالى: { فصلّ لربك وانحر } ظاهر السياق في تفريع الأمر بالصلاة والنحر على الامتنان في قوله: { إنا أعطيناك الكوثر } إنه من شكر النعمة والمعنى إذا مننا عليك بإعطاء الكوثر فاشكر لهذه النعمة بالصلاة والنحر.
والمراد بالنحر على ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن علي عليه السلام وروته الشيعة عن الصادق عليه السلام وغيره من الأئمة هو رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر.
وقيل: معنى الآية صل لربك صلاة العيد وانحر البدن، وقيل: يعني صل لربك واستو قائماً عند رفع رأسك من الركوع وقيل غير ذلك.
قوله تعالى: { إن شانئك هو الأبتر } الشانئ هو المبغض والأبتر من لا عقب له وهذا الشانئ هو العاصي بن وائل.
وقيل: المراد بالأبتر المنقطع عن الخير أو المنقطع عن قومه، وقد عرفت أن روايات سبب نزول السورة لا تلائمه وستجيء.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكوثر الخير الذي أعطاه إياه قال أبو بشر قلت لسعيد بن جبير فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال:
"لما نزلت هذه السورة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم { إنا أعطيناك الكوثر } قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل:ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال: إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السماوات السبع، وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة."
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "رفع اليدين من الاستكانة التي قال الله: { فما استكانوا لربهم وما يتضرعون }"
]. أقول: ورواه في المجمع عن المقاتل عن الأصبغ بن نباتة عنه عليه السلام ثم قال: أورده الثعلبي والواحدي في تفسيرهما، وقال أيضاً: إن جميع عترته الطاهرة رووا عنه عليه السلام أن معنى النحر رفع اليدين إلى النحر في الصلاة.
وفيه أخرج ابن جرير عن أبي جعفر في قوله: { فصل لربك } قال: الصلاة { وانحر } قال يرفع يديه أول ما يكبر في الافتتاح.
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { فصل لربك وانحر } قال: إن الله أوحى إلى رسوله أن ارفع يديك حذاء نحرك إذا كبرت للصلاة فذاك النحر.
وفي المجمع في الآية عن عمر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول في قوله { فصل لربك وانحر } هو رفع يديك حذاء وجهك.
أقول: ثم قال: وروى عنه عبد الله بن سنان مثله، وروي أيضاً قريباً منه عن جميل عنه عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أُم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية فمات القاسم وهو أول ميت من ولده بمكة ثم مات عبد الله فقال العاصي بن وائل السهمي قد انقطع نسله فهو أبتر فأنزل الله { إن شانئك هو الأبتر }.
وفيه أخرج الزبير بن بكار وابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: توفي القاسم ابن رسول الله بمكة فمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آت من جنازته على العاصي بن وائل وابنه عمرو فقال حين رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأشنؤه فقال العاصي بن وائل: لا جرم لقد أصبح أبتر فأنزل الله { إن شانئك هو الأبتر }.
وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كانت قريش تقول - إذا مات ذكور الرجل - بتر فلان فلما مات ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال العاصي بن وائل: بتر والأبتر الفرد.
أقول: وفي بعض الآثار أن الشانئ هو الوليد بن المغيرة، وفي بعضها أبو جهل وفي بعضها عقبة بن أبي معيط، وفي بعضها كعب بن الأشرف، والمعتمد ما تقدم.
ويؤيده ما في احتجاج الطبرسي عن الحسن بن علي عليهما السلام في حديث يخاطب فيه عمرو بن العاصي: وإنك ولدت على فراش مشترك فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبو سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة وعثمان بن الحارث والنضر بن الحارث بن كلدة والعاصي بن وائل كلهم يزعم أنك ابنه فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسباً وأخبثهم منصباً وأعظمهم بغية.
ثم قمت خطيباً وقلت: أنا شانئ محمد وقال العاصي بن وائل: إن محمداً رجل أبتر لا ولد له فلو قد مات انقطع ذكره فأنزل الله تبارك وتعالى: { إن شانئك هو الأبتر } الحديث.
وفي تفسير القمي { إنا أعطيناك الكوثر } قال: الكوثر نهر في الجنة أعطى الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عوضاً عن ابنه إبراهيم.
أقول: الخبر على ارساله واضماره معارض لسائر الروايات وتفسير الكوثر بنهر في الجنة لا ينافي التفسير بالخير الكثير كما تقدم في خبر ابن جبير.