التفاسير

< >
عرض

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ
١٠٠
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ ٱلَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
١٠١
وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
١٠٢
إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ ٱلآخِرَةِ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ ٱلنَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ
١٠٣
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ
١٠٤
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
١٠٥
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ فَفِي ٱلنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
١٠٦
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
١٠٧
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
١٠٨
-هود

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
فيها رجوع إلى القصص السابقة بنظر كلِّيًّ يلخّصُ سنة الله في عباده وما يستتبعه الشرك في الأمم الظالمة من الهلاك في الدنيا والعذاب الخالد في الآخرة ليعتبر بذلك أهل الاعتبار.
قوله تعالى: { ذلك من أنباء القرى نقصّه عليك منها قائم وحصيد } الإِشارة إلى ما تقدم من القصص، ومن تبعيضيَّة أي الذي قصصناه عليك هو بعض أخبار المدائن والبلاد أو أهلهم نقصه عليك.
وقوله: { منها قائم وحصيد } الحصد قطع الزرع، شبَّهها بالزرع يكون قائماً ويكون حصيداً، والمعنى إن كان المراد بالقرى نفسها أنّ من القرى التي قصصنا أنباءها عليك ما هو قائم لم تذهب بقايا آثارها التي تدلّ عليها بالمرّة كقرى قوم لوط حين نزول قصَّتهم في القرآن كما قال:
{ ولقد تركنا منها آية بيِّنة لقوم يعقلون } [العنكبوت: 35] وقال: { وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون } [الصافات: 137-138]، ومنها ما انمحت آثاره وانطمست أعلامه كقرى قوم نوح وعاد.
وإن كان المراد بالقرى أهلها فالمعنى أنّ من تلك الأُمم والأجيال من هو قائم لم يقطع دابرهم البتَّة كأٌمة نوح وصالح، ومنهم من قطع الله دابرهم كقوم لوط لم ينج منهم إلا أهل بيت لوط ولم يكن لوط منهم.
قوله تعالى: { وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } إلى آخر الآية، أي ما ظلمناهم في إنزال العذاب عليهم وإهلاكهم إثر شركهم وفسوقهم ولكن ظلموا أنفسهم حين أشركوا وخرجوا عن زيّ العبوديَّة، وكلما كان عمل وعقوبة عليه كان أحدهما ظلماً إمّا العمل وإما العقوبة عليه فإذا لم تكن العقوبة ظلماً كان الظلم هو العمل استتبع العقوبة.
فمحصَّل القول أنّا عاقبناهم بظلمهم ولذا عقبه بقوله: { فما أغنت عنهم آلهتهم } الخ.. لأنّ محصَّل النظم أخذناهم فما أغنت عنهم آلهتهم، فالمفرّع عليه هو الذي يدل عليه قوله: { وما ظلمناهم } الخ، والمعنى أخذناهم فلم يكفهم في ذلك آلهتهم التي كانوا يدعونها من دون الله لتجلب إليهم الخير وتدفع عنهم الشرّ، ولم تغنهم شيئاً لما جاء أمر ربّك وحكمه بأخذهم أو لمّا جاء عذاب ربّك.
وقوله: { وما زادوهم غير تتبيب } التتبيب التدمير والإِهلاك من التبّ وأصله القطع لأن عبادتهم الأصنام كان ذنباً مقتضياً لعذابهم ولمّا أحسُّوا بالعذاب والبؤس فالتجأوا إلى الأصنام ودعوها لكشفه ودعاؤها ذنب آخر زاد ذلك في تشديد العذاب عليهم وتغليظ العقاب لهم فما زادوهم غير هلاك.
ونسبة التتبيب إلى آلهتهم مجاز وهو منسوب في الحقيقة إلى دعائهم إيّاها، وهو عمل قائم بالحقيقة بالداعي لا بالمدعوّ.
قوله تعالى: { وكذلك أخذ ربِّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد } الإِشارة إلى ما تقدم من أنباء القرى، وذلك بعض مصاديق أخذه تعالى بالعقوبة قاس به مطلق أخذه القرى في أنّه أليم شديد، وهذا من قبيل التشبيه الكلي ببعض مصاديقه في الحكم للدلالة على أن الحكم عام شامل لجميع الأفراد وهو نوع من فنّ التشبيه شائع وقوله: { إنّ أخذه أليم شديد } بيان لوجه الشبه وهو الألم والشدّة.
والمعنى كما أخذ الله سبحانه هؤلاء الأُمم الظالمة: قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون أخذاً أليماً شديداً، كذلك يأخذ سائر القرى الظالمة إذا أخذها فليعتبر بذلك المعتبرون.
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة } إلى آخر الاية، الإِشارة إلى ما أنبأه الله من قصص تلك القرى الظالمة التي أخذها بظلمها أخذاً أليماً شديداً. وأنبأ إن أخذه كذلك يكون، وفي ذلك آية لمن خاف عذاب الحياة الآخرة، وعلامة تدل على أن الله سبحانه وتعالى سيأخذ في الآخرة المجرمين بإجرامهم، وإن أخذه سيكون أليماً شديداً فيوجب اعتباره بذلك وتحرزه ممَّا يستتبع سخط الله تعالى.
وقوله: { ذلك يوم مجموع له الناس } أي ذلك اليوم الذي يقع فيه عذاب الآخرة يوم مجموع له الناس فالإِشارة إلى اليوم الذي يدل عليه ذكر عذاب الآخرة، "ولذلك أتى بلفظ المذكر" كما قيل، ويمكن أن يكون تذكير الإِشارة ليطابق المبتدأ الخبر.
ووصف اليوم الآخر بأنه مجموع له الناس دون أن يقال. سيجمع أو يجمع له الناس إنما هو للدلالة على أن جمع الناس له من أوصافه المقضية له التي تلزمه ولا تفارقه من غير أن يحتاج إلى الإِخبار عنه بخبر.
فمشخّص هذا اليوم أن الناس مجموعون لأجله - واللام للغاية - فلليوم شأن من الشأن لا يتم إلا بجمع الناس بحيث لا يغادر منهم أحد ولا يتخلف عنه متخلف: وللناس شأن من الشأن يرتبط به كل واحد منهم بالجميع، ويمتزج فيه الأول مع الآخر والآخر مع الأول ويختلط فيه الكل بالبعض والبعض بالكلّ، وهو حساب أعمالهم من جهة الإِيمان والكفر والطاعة والمعصية، وبالجملة من حيث السعادة والشقاوة.
فإن من الواضح أن العمل الواحد من إنسان واحد يرتضع من جميع أعماله السابقة المرتبطة بأحواله الباطنة، ويرتضع منه جميع أعماله اللاحقة المرتبطة أيضاً بما له من الأحوال القلبية، وكذلك عمل الواحد بالنسبة إلى أعمال من معه من بني نوعه من حيث التأثير والتأثر، وكذلك أعمال الأولين بالنسبة إلى أعمال الآخرين وأعمال اللاحقين بالنسبة إلى أعمال السابقين، وفي المتقدمين أئمة الهدى والضلال المسؤولون عن أعمال المتأخرين، وفي المتأخرين الأتباع والأذناب المسؤولون عن غرور متبوعيهم المتقدمين، قال تعالى:
{ فلنسألنّ الذين أُرسل إليهم ولنسألن المرسلين } [الأعراف: 6]، وقال: { ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } [يس: 12]. ثم الجزاء لا يتخلف الحكم الفصل.
وهذا الشأن على هذا النعت لا يتمُّ الا باجتماع من الناس بحيث لا يشذُّ منهم شاذّ.
ومن هنا يظهر أن مسألة الآحاد من الناس في قبورهم وجزاءهم فيها بشيء من الثواب والعقاب على ما تشير إليه آيات البرزخ وتذكره بالتفصيل الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام غير ما أخبر الله تعالى به من حساب يوم القيامة والجزاء المقضي به هناك من الجنة والنار الخالدتين فإن الذي يستقبل الإنسان في البرزخ هو المسألة لتكميل صحيفة أعماله ليدخر لفصل القضاء يوم القيامة، وما يسكن فيه في البرزخ من جنة أو نار إنما هو كالنزل المعجل للنازل المتهيئ للقاء والحكم، وليس ما هناك حساباً تاماً ولا حكماً فصلاً ولا جزاء قاطعاً كما يشير إليه نظائر قوله:
{ { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب } [غافر: 46]، وقوله: { { يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون } [غافر: 71-72]، فترى الآية تعبر عن عذابهم بالعرض على النار ثم يوم القيامة بدخولها وهو أشد العذاب، وتعبر عن عذابهم بالسحب في الحميم ثم بالسجر في النار وهو الاشتعال. وقوله تعالى: { بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [آل عمران: 169-170] فالآية صريحة في عالم القبر ولم تذكر حساباً ولا جنة الخلد وإنما ذكرت شيئاً من التنعم إجمالاً.
وقوله تعالى:
{ { حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } [المؤمنون: 99-100] تذكر الآية أنهم بعد الموت في حياة برزخية متوسطة بين الحياة الدنيوية التي هي لعب ولهو والحياة الأخروية التي هي حقيقة الحياة كما قال: { { وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون } [العنكبوت: 64]. وبالجملة الدنيا دار عمل والبرزخ دار تيهؤ للحساب والجزاء، والآخرة دار حساب وجزاء، قال تعالى: { { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا } [التحريم: 7] فهم يحضرونه بما كسبوه في الدنيا من النور وهيأوه في البرزخ ثم يسألونه يوم القيامة إتمام نورهم وإذهاب ما معهم من بقايا عالم اللهو واللعب.
وقوله: { وذلك يوم مشهود } كالمتفرع بظاهره على الجملة السابقة. { ذلك يوم مجموع له الناس } إذ الجمع يوجب المشاهدة غير أن اللفظ غير مقيد بالناس وإطلاقه يشعر بأنه مشهود لكل من له أن يشهد كالناس والملائكة والجن، والآيات الكثيرة الدالة على حشر الجن والشياطين وحضور الملائكة هناك يؤيد إطلاق الشهادة كما ذكر.
قوله تعالى: { وما نؤخره إلا لأجل معدود } أي أن لذلك اليوم أجلاً قضى الله أن لا يقع قبل حلول أجله والله يحكم لا معقب لحكمه ولا رادّ لقضائه، ولا يؤخر اليوم إلا لأجل يعده فإذا تم العدد وحل الأجل حق القول ووقع اليوم.
قوله تعالى: { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } فاعل { يأت } ضمير راجع إلى الأجل السابق الذكر أي يوم يأتي الأجل الذي تؤخر القيامة إليه لا تتكلم نفس إلا بإذنه، قال تعالى:
{ { من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت } [العنكبوت: 5]. وذكر بعضهم كما في المجمع أن المعنى يوم يأتي القيامة والجزاء، ولازمه إرجاع الضمير إلى القيامة والجزاء لدلالة سابق الكلام إليه بوجه، وهو تكلف لا حاجه إليه.
وذكر آخرون - كما في تفسير صاحب المنار - أن المعنى في الوقت الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين لا تتكلم نفس من الأنفس الناطقة إلا بإذن الله تعالى فالمراد باليوم في الآية مطلق الوقت أي غير المحدود لأنه ظرف لليوم المحدود الموصوف بما ذكر الذي هو فاعل يأتي.
وهو خطأ لاستلزامه ظرفية اليوم لليوم لعود المعنى حقيقة إلى قولنا: في الوقت الذي يجئ فيه ذلك الوقت المعيَّن أو اليوم الذي يجيء فيه ذلك اليوم المعين، والتفرقة بين اليومين يجعل أحدهما خاصاً ومعيناً والآخر عاماً ومرسلاً لا ينفع في دفع محذور ظرفية الشيء لنفسه ومظروفية الزمان - وهو ظرف بذاته - لزمان آخر، وهو محال لا ينقلب ممكناً بتغيير اللفظ.
وما ذكره من التفرقة بين اليومين بالإِطلاق والتحديد مجرد تصوير لا تغني شيئاً فان اليوم الذي يأتي فيه ذلك اليوم الموصوف وذلك اليوم الموصوف متساويان إطلاقاً وتحديداً وسعة وضيقاً، نعم ربما يؤخذ الزمان متحداً بما يقع فيه من الحوادث فيصير حادثاً من الحوادث وتلغى ظرفيته فيجعل مظروفاً لزمان آخر كما يقال يوم الأضحى في شهر ذي الحجة ويوم عاشوراء في المحرم، قال تعالى:
{ { ويوم تقوم الساعة } [غافر: 46] فإن صحت هذه العناية في الآية أمكن به أن يعود ضمير يأتي إلى اليوم.
وقوله: { لا تكلم نفس إلا بإذنه } أي لا تتكلم نفس ممن حضر إلا بإذن الله سبحانه، وحذف أحد التائين المجتمعين في المستقبل من باب التفعل شائع قياسي.
والباء في قوله: { بإذنه } للمصاحبة فالاستثناء في الحقيقة من الكلام لا من المتكلم كما في قوله:
{ { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } [النبأ: 38] والمعنى لا تتكلم نفس بشيء من الكلام الأ بالكلام الذي يصاحب إذنه لا كالدنيا يتكلم فيها الواحد منهم بما اختاره وأراده، أذن فيه الله إذن تشريع أم لم يأذن.
وقد ذكرت الصفة أعني عدم تكلم نفس إلا بإذنه من خواص يوم القيامة المعرفة له، وليست بمختصة به فإنه لا تتكلم أي نفس من النفوس ولا يحدث أي حادث من الحوادث دائماً إلا بإذنه من غير أن يختص ذلك بيوم القيامة.
وقد تقدم في بعض أبحاثنا السابقة أن غالب ما ورد في القرآن الكريم من معرفات يوم القيامة في سياق الأوصاف الخاصة به يعمه وغيره كقوله تعالى:
{ يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء } [غافر: 16]، وقوله: { يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم } [غافر: 33] وقوله: { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله } [الإنفطار: 19] إلى غير ذلك من الآيات، ومن المعلوم أنه تعالى لا يخفى عليه شيء دائماً، وليس لشيء منه عاصم دائماً، ولا يملك نفس لنفس شيئاً إلا بإذنه دائماً، وله الخلق والأمر دائماً.
لكن الذي يهدي إليه التدبر في أمثال قوله تعالى:
{ { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 22] وقوله حكاية عن المجرمين: { ربَّنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون } [السجدة: 12]، وقوله: { { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيَّلنا بينهم } [يونس: 28] إلى أن قال { { هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون } [يونس: 30] أن يوم القيامة ظرف يجمع الله فيه العباد ويزيل الستر والحجاب دونهم فيظهر فيه الحقائق ظهوراً تاماً وينجلي ما هو وراء غطاء الغيب في هذه النشأة وعند ذلك لا يختلج في صدورهم شك أو ريب، ولا يهجس قلوبهم هاجس، ويعاينون أن الله هو الحق المبين، ويشاهدون أن القوة لله جميعاً، وأن الملك والعصمة والأمر والقهر له وحده لا شريك له.
وتسقط الأسباب عما كان يتوهم لها من الاستقلال في نشأة الدنيا، وينقطع البين وتزول روابط التأثير التي بين الأشياء وعند ذلك تنتثر كواكب الأسباب وتنطمس نجوم كانت تهتدي به الأوهام في ظلماتها، ولا تبقى لذي ملك ملك يستقل به، ولا لذي سلطان وقوة ما يتعزز معه، ولا لشيء ملجأ وملاذ يلجأ إليه ويلوذ به ويعتصم بعصمته، ولا ستر يستر شيئاً عن شيء ويحجبه دونه، والأمر كله لله الواحد القهار لا يملك إلا هو.
وهذا معنى قوله: { يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء } وقوله: { ما لكم من الله من عاصم } وقوله { يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله } إلى غير ذلك من الآيات وهي جميعاً تنفي ما تزينه أوهام الناس في هذه النشأة الدنيوية التي ليست إلا لهواً ولعباً إن هذه الأسباب تملك معنى التأثير، وتتلبس بأوصاف الملك والسلطنة والقوة والعصمة والعزة والكرامة تلبساً حقيقياً استقلالياً، وأنها هي المعطية والمانعة والنافعة والضارة لا بغية في سواها ولا خير فيما عداها.
ومن هنا يمكن الاستئناس بمعنى قوله: { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } وقد تكرر هذا المعنى في آيات أُخرى بما يقرب من هذا اللفظ كقوله تعالى:
{ { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا } [النبأ: 38]، وقوله: { { هذا يوم لا ينطقون } [المرسلات: 35]. وذلك أن الله تعالى يقول فيما يصف هذا اليوم { يوم تبلى السرائر } [الطارق: 9] ويقول: { { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [البقرة: 284] فيبين أن الحساب يومئذ بما في النفوس من الأحوال والأعراض الحسنة أو السيئة لا بما يستكشف منها بأسباب الكشف كما في هذه النشأة الدنيوية.
فما كان تحت أستار الخفاء في الدنيا من خبايا النفوس ومطويات القلوب فهو ظاهر مكشوف الغطاء يوم القيامة، وما هو من الغيب اليوم فهو شهادة غداً، والتكلم الذي نتداوله نحن معاشر الناس فيما بيننا إنما هو باستخدام أصوات مؤلفة تدل بنحو من الوضع والاعتبار على معان تستكن في ضمائرنا، وإنما الباعث لنا على وضعها وتداولها الحاجة الاجتماعية إلى اهتداء بعضنا إلى ما في ضمير آخرين لامتناعه من تعلق الحس به.
والتكلم من الأسباب الاجتماعية تتوسل به لكشف ما في الضمير من المعاني المكنونة وهو متقوم بخروج ما في الأذهان عن إحاطة الإِنسان، ولو كنا ممدين بحس ينال المعاني الذهنية ويعاينها كما يهتدي - مثلاً البصر إلى الأضواء والألوان واللمس إلى الحرارة والبرودة والخشونة والملاسة لم نحتج إلى وضع اللغات والتكلم بها ولا كان بيننا ما يسمى كلمة أو كلاماً، وكذا لو كان النوع الإِنساني يعيش في حياته الدنيا عيشة انفرادية غير اجتماعية لم يكن من النطق خبر ولا انعقدت له نطفة.
كل ذلك لأن النشأة الدنيا كالمؤلف من شهادة وغيب وهو المحسوس المعاين وما هو وراء الحس، والناس في حاجة مبرمة إلى الكشف عما في ضميرهم من المقاصد والاطلاع عليه، فلو فرضت نشأة من الحياة ممحضة في الشهادة مؤلفة من أمور معاينة لم يكن فيها ما يحوج إلى التكلم والنطق ولو تبرعنا إطلاق الكلام على شيء من الحالات الموجودة هناك لكان مصداقه ظهور بعض ما في نفوس الناس لبعضهم واطلاع ذلك البعض على ذلك.
وهذه النشأة الموصوفة بذلك هي نشأة القيامة على ما يصفه الله سبحانه بأمثال قوله:
{ { يوم تبلى السرائر } [الطارق: 9]، وهذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: { { لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [الرحمن: 39] إلى أن قال: { { يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام } [الرحمن: 41]. فإن قلت: فعلى هذا لا معنى لتحقق الكذب والزور هناك وقد نص القرآن الكريم عليه كما في قوله تعالى: { { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين أُنظر كيف كذبوا على أنفسهم } [الأنعام: 22-23]، وقوله تعالى: { { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } } [المجادلة: 18]. قلت: هذا من ظهور الملكات كما أن الإِنسان عند التفكير يشاهد خبايا نفسه من غير حاجة إلى أن يخبر نفسه بما يفكر فيه ويكشف عما في ضميره لنفسه بالتكلم لأنه على شهادة من باطن نفسه لا في غيب، وهو مع ذلك يتصور صورة كلام يدل ما يطالعه من المعاني الذهنية، وربما يتكلم بلسانه أيضاً بما يخطره بباله من أجزاء الفكرة والباعث له على ذلك ما اعتاده من التكلم والنطق عندما يلفظ ما في ضميره إلى الغير.
وهؤلاء المشركون والمنافقون لما اعتادوا الكذب في نشأتهم الدنيا، وعاشوا على كذبات الوهم ظهر منهم ذلك يوم يظهر فيه الملكات والعادات النفسانية وإلا فمن المحال أن يوقف الإِنسان عند ربه وهو تعالى يعاين باطنه وظاهره وأعماله محضرة، وصحيفته منشورة، والأشهاد قائمة وجوارحه بما عملت ناطقة، والأسباب ومنها الكذب ساقطة هالكة، وقد انقلب سره علانية ثم يكذب رجاء أن يغرّ الله سبحانه وتعالى فيظهر عليه بحجة مدلسة كاذبة، وينجو بذلك.
وهذا نظير دعوتهم يوم القيامة إلى السجود ثم عدم استطاعتهم، قال تعالى:
{ يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } [القلم: 42-43] فعدم استطاعتهم للسجود ليس إلا لرسوخ ملكة الاستكبار في نفوسهم، ولو كان بمنع جديد من جانبه تعالى لكانت الحجة لهم عليه.
فإن قلت: لو كان كما ذكرت ولم يكن هناك إلى التكلم حاجة ولا له مصداق فما معنى الاستثناء الذي في قوله: { لا تكلم نفس إلا بإذنه } وما في معناها من الآيات؟ وما معنى ما تكرر في مواضع من كلامه تعالى من حكاية أقوالهم.
قلت: لا ريب أن الإِنسان وهو في هذه النشأة مختار في أعماله التي منها التكلم فله نسبة متساوية إلى كل فعل من أفعاله وتركه وهما بالقياس إليه سواء، فإذا اقترف الفعل مثلاً تعين أحد الجانبين تعيناً اضطرارياً لا خبر عن الاختيار بعد ذلك، والآثار الضرورية التي تترتب على الفعل ومنها الجزاء الذي يكتسب بالفعل حالها حال الفعل بعد التحقق.
والنشأة الآخرة دار جزاء لا دار عمل فلا خبر هناك عن الاختيار الإِنساني وليس هناك إلا الإِنسان وعمله الذي أتى به وقد لزمه لزوماً ضرورياً، وما يرتبط به العمل من الصحائف والأشهاد وربه الذي إليه يرجع الأمر وبيده الحكم الفصل فإذا دعي استجاب اضطراراً، كما قال تعالى:
{ { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له } [طه: 108] وقد كانوا في الدنيا يدعون إلى الحق فلا يستجيبون، وإذا تكلم عن سؤال لم يكن من سنخ التكلم الدنيوي الذي كان ناشئاً عن اختياره وكاشفاً عن أمر خبيئ في نفسه فقد ختم على فمه ولا سبيل له إلى التكلم بما يريد وكيفما يريد، قال تعالى: { { اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } [يس: 65]، وقال: { { هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون } [المرسلات: 35-36] فإن العذر إنما يكون في الجزاء الذي فيه شوب اختيار ولتحققه إمكان وجود وعدم وأما العمل السئ المفروغ منه والجزاء الذي تعقبه ضرورة فلا مجري للعذر فيه، قال تعالى: { { يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [التحريم: 7] أي أن جزاءكم نفس عملكم الذي عملتموه، ولا يتغير ذلك بعذر ولا تعلل، وإنما كان يتغير لو كان جزاء دنيوياً أمره بيد الحاكم المجازي يختار فيه ما يراه ويشاؤه.
وبالجملة: إذا تكلم هو عن سؤال كان تكلمه عن اضطرار إليه ومطابقاً لما عنده من العمل الظاهر الذي لا ستر عليه هناك البتة، ولو تكلم كذباً كان ذلك من قبيل ظهور الملكات كما تقدم وعملاً من أعماله يظهر ظهوراً لا كلاماً يعد جواباً لسؤال فيختم على فيه ويستنطق سمعه وبصره وجلده ويده ورجله ويحضر العمل الذي عمله ويستشهد الأشهاد والله على كل شيء شهيد.
فقد تلخص من جميع ما قدمناه أن معنى قوله: { لا تكلم نفس إلا بإذنه } أن التكلم يومئذ ليس على وتيرة التكلم الدنيوي كشفاً اختيارياً عما في الضمير بحيث يمكن معه للمتكلم أن يصدق في كلامه أو يكذب فإن هذا التملك الاختياري الذي هو من لوازم دار العمل مرفوع هناك فلا اختيار للإِنسان في تكلمه وإنما هو منوط بإذن الله ومشيئته، وإن أحسنت التدبر وجدت أن مآل هذا الوجه أعني ارتفاع حكم الاختيار عن تكلم الإِنسان وسائر أفعاله وإحاطة معنى الاضطرار بالجميع يومئذ يرجع إلى ما افتتحنا به الكلام أن خاصة هذا اليوم هي انكشاف حقائق الأشياء فيه ورجوع الغيب شهادة وعليك بإحكام التدبر في المعارف التي يلقنها الكلام الإِلهي في المعاد فإنها معضلة عويصة عميقة.
وذكر بعضهم أن معنى قوله: { لا تكلم نفس إلا بإذنه } أنها لا تتكلم فيه إلا بالكلام الحسن المأذون فيه شرعاً لأن الناس ملجؤون هناك إلى ترك القبائح فلا يقع منهم قبيح وأما غير القبيح فهو مأذون فيه.
وفيه أنه تخصيص من غير مخصص فاليوم ليس بيوم عمل حتى يؤذن فيه في إتيان الفعل الحسن ولا يؤذن في القبيح، والإِلجاء الذي منشأه كون الظرف ظرف جزاء لا عمل لا يفرق فيه بين العمل الحسن والقبيح مع كون كليهما اختياريين لأن الحسن والقبح إنما يعنون بهما الأفعال الأختيارية.
على أن الله تعالى يقول: { هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون } ومن المعلوم أن الأتيان بالأعذار ليس من الفعل القبيح في شيء.
وقال آخرون: إن معنى الآية أنه لا يتكلم أحد في الآخرة بكلام نافع من شفاعة ووسيلة إلا بإذنه.
وهذا إرجاع للآية بحسب المدلول إلى مثل قوله تعالى:
{ { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن } [طه: 109] وفيه أن ذلك تقييد من غير شاهد عليه ولو كان المراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: لا تكلم نفس عن نفس أو في نفس إلا بإذنه كما وقع في نظيره من قوله: { تملك نفس لنفس شيئاً }.
وقد تحصل مما قدمناه وجه الجمع بين الآيات المثبتة للتكلم يوم القيامة والآيات النافية له.
توضيحه: أن الآيات المتعرضة لمسألة التكلم فيه صنفان: صنف ينفي التكلم أو يثبته لأفراد الناس من غير استثناء كقوله:
{ { لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [الرحمن: 39]، وقوله: { { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } } [النحل: 111]. وصنف ينفي الكلام على أي نعت كان من صدق أو كذب كقوله: { هذا يوم لا ينطقون } [المرسلات: 35]، وقوله: { { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } [الشعراء: 100-101]. والصنف الأول يجمع بين طرفيه بمثل قوله تعالى: { { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } [النبأ: 38] والصنف الثاني يرتفع التنافي بين طرفيه بالآية المبحوث عنها: { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } لكن بالبناء على ما تقدم توضيحه في معنى إناطة التكلم بإذنه حتى يفيد أنهم ملجؤون في ما تكلموا به مضطرون إلى ما يأذن الله سبحانه فيه ليس لهم أن يتكلموا بما يختارون ويريدون كما كان لهم ذلك في الدنيا ليكون ذلك مما يختص بيوم القيامة من الوصف.
وبذلك يظهر وجه القصور فيما ذكره صاحب المنار في تفسيره حيث قال في تفسير الآية: ونفي الكلام في ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى يفسر لنا الجمع بين الآيات النافية له مطلقاً والمثبتة له مطلقاً انتهى. وقد ذكر قبله آيات فيها مثل قوله: { هذا يوم لا ينطقون } وقوله: { اليوم نختم على أفواههم } الآية.
وذلك أنه - أولاً - لم يفرق بين الصنفين من الآيات فأوهم ذلك أن نفي الكلام إلا بإذنه في الآية المبحوث عنها كاف في رفع التنافي بين الآيات مطلقاً، وليس كذلك.
و - ثانياً - لم يبين معنى كون الكلام بإذنه تعالى فتوجه إليه إشكال تخصيص يوم القيامة في الآية بما لا يختص به.
وقد يجاب عن إشكال التنافي بوجه آخر وهو أن يوم القيامة يشتمل على مواقف قد أذن لهم في الكلام في بعض تلك المواقف، ولم يؤذن لهم في الكلام في بعضها، وقد ورد ذلك في بعض الروايات.
وهذا الجواب وإن كان بظاهره متميزاً من الوجه السابق إلا أنه لا يستغني عن مسألة الإِذن فهو في الحقيقة راجع إليه.
وقد يجاب بأن المراد بعدم التكلم والنطق أنهم لا ينطقون بحجة، وإنما يتكلمون بالأقرار بذنوبهم، ولوم بعضهم بعضاً، وطرح بعضهم الذنوب على بعض، وهذا كما يقول القائل لمن أكثر من الكلام ولا يشتمل على حجة: ما تكلمت بشيء ولا نطقت بشيء فسمى من يتكلم بما لا حجة فيه غير متكلم لأنه لم يأت بحق الكلام الذي كان من الواجب أن يشتمل على حجة فكأنه ليس بكلام فنفي التكلم ناظر إلى عدِّ الكلام الذي لا جدوى فيه غير كلام ادعاء.
وفيه: إنه لو صح فإنما يصح في مثل قوله: { هذا يوم لا ينطقون } وأما مثل قوله: { يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه } فلا يرجع إلى معنى محصل.
وقد يجاب كما نقله الآلوسي عن الغرر والدرر للمرتضى أن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز ان يمنعوا النطق في بعضه، ويؤذن لهم في بعض آخر منه.
وفيه أن الإِشارة إلى يوم القيامة بطوله، وعلى قولهم يكون مثلاً معنى قوله: { هذا يوم لا ينطقون } هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، ويرد نظير الإِشكال على الوجه الثاني الذي أُجيب فيه عن الاشكال باختلاف المواقف فان مرجع الوجهين أعني الوجه الثاني وهذا الوجه الرابع واحد، وإنما الفرق أن الوجه الثاني يرفع التنافي باختلاف الأمكنة وهذا الوجه يرفعه باختلاف الأزمنة كما أن الوجه الثالث يرفعه باختلاف الكلام باشتماله على الجدوى وعدم اشتماله عليه.
وقد يجاب بما يظهر من قول بعضهم: ان الاستثناء في قوله: { لا تكلم نفس إلا بإذنه } منقطع لا متصل أي لا تتكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى ومحصل الوجه أن الممنوع من التكلم يوم القيامة هو الذي يكون بقدرة من الإِنسان، والجائز الواقع ما يكون باذنه تعالى.
وفيه: إن تكلم الإِنسان كسائر أفعاله الاختيارية ليس مستنداً إلى قدرته محضاً في وقت قط بل هو منسوب إلى قدرته مستمداً من قدرة الله تعالى وإذنه فكلما تكلم الإِنسان أو فعل فعلاً بقدرته صدر عنه ذلك عن قدرته بمصاحبة من إذن الله تعالى ويعود معنى الاستثناء حينئذ إلى إلغاء جميع الأسباب العاملة في التكلم يوم القيامة إلا واحداً منها هو إذنه تعالى، ويصير الاستثناء متصلاً ويرجع إلى ما قدمناه من الوجه أولاً أن التكلم الممنوع هو الاختياري منه على حد التكلم الدنيوي، والجائز ما كان مستنداً إلى السبب الإِلهي فقط وهو إذنه وإرادته، والظرف ظرف الاضطرار والإِلجاء لكنهم يرون أن سبب الإِلجاء يوم القيامة مشاهدة أهواله فإن الناس ملجؤون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإِقرار وقول الصدق واتباع الحق، وقد قدمنا أن السبب في ذلك كون الظرف ظرف جزاء لا عمل وبروز الحقائق عند ذلك.
قوله تعالى: { فمنهم شقي وسعيد } السعادة والشقاوة متقابلان فسعادة كل شيء أن ينال ما لوجوده من الخير الذي يكمل بسببه ويلتذ به فهي في الإِنسان - وهو مركب من روح وبدن - أن ينال الخير بحسب قواه البدنية والروحية فيتنعم به ويلتذ، وشقاوته أن يفقد ذلك ويحرم منه، فهما بحسب الاصطلاح من العدم والملكة، والفرق بين السعادة والخير أن السعادة هي الخير الخاص بالنوع أو الشخص والخير أعم.
وظاهر قوله تعالى: { فمنهم شقي وسعيد } لا تفيد حصر أهل الجمع في الفريقين. وهو الملائم ظاهراً لتقسيمه تعالى الناس إلى مؤمن وكافر ومستضعف كالأطفال والمجانين وكل من لم تتم عليه الحجة في الدنيا إلا أن الغرض المسرودة له الآيات ليس بيان أصناف الناس بحسب العمل والاستحقاق بل من حيث شأن هذا اليوم وهو أنه يوم مجموع له الناس ويوم مشهود لا يتخلف عنه أحد، وأنه ينتهي إلى جنه أو نار.
والمستضعفون وإن كانوا صنفاً ثالثاً بالنسبة إلى من استحق بعمله الجنة ومن استحق بعمله النار لكن من الضروري أنهم لا يذهبون سدى ولا يدوم عليهم الحال بالإِبهام والانتظار فهم بالآخرة ملحقون بإحدى الطائفتين: السعداء أو الأشقياء داخلون فيما دخلوا فيه من جنة أو نار، قال تعالى:
{ { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم } [التوبة: 106] ولازم هذا السياق أن ينحصر أهل الجمع في الفريقين: السعداء والأشقياء فما منهم إلا سعيد أو شقي.
فالآية نظير قوله تعالى في موضع آخر:
{ { وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أُمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير } [الشورى: 7-8] حيث إن الجملة { فريق في الجنة وفريق في السعير } بمعونة السياق تفيد الحصر وإن كانت وحدها بمعزل من الدلالة.
والذي تدل عليه الآية أن من كان هناك من أهل الجمع إما شقي متصف بالشقاء وإما سعيد متلبس بالسعادة. وأما إن هذين الوصفين بماذا ثبتا لموضوعيهما؟ وأنهما هل هما ذاتيان لموصوفيهما أو ثابتان بإرادة أزلية لا يتخلف مرادها عنها أو يثبتان لهما عن اكتساب وعمل مع كون الموضوعين خاليين عنهما بالنظر إلى ذاتهما؟ فلا نظر في الآية إلى شيء من ذلك غير أن وقوع الآية في سياق الدعوة إلى الإِيمان والعمل الصالح، والندب إلى اختيار الطاعة وترك المعصية يدل على تيسير سبيل الوصول إلى السعادة كما قال تعالى:
{ ثم السبيل يسّره } [عبس: 20]. وبذلك يظهر فساد ما استفاده بعضهم من الأية من لزوم السعادة والشقاوة للإِنسان من حكمه تعالى في الآية بذلك، قال الرازي في تفسيره في ذيل الآية: اعلم أنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بإنه شقي، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم منه ذلك الأمر امتنع كونه بخلافه. وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذباً وعلمه جهلاً، وذلك محال فثبت أن السعيد لا ينقلب شقياً، وأن الشقي لا ينقلب سعيداً.
قال:
"وروي عن عمر أنه قال: لما نزل قوله تعالى: { فمنهم شقي وسعيد } قلت: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ على شيء قد فرغ منه أم على شيء لم يفرغ منه فقال: على شيء قد فرغ منه يا عمر وجفت به الأقلام وجرت به الأقدار ولكن كل ميسر لما خلق له" . قال: وقالت المعتزلة: روي عن الحسن أنه قال: فمنهم شقي بعمله وسعيد بعمله. قلنا الدليل القاطع لا يدفع بهذه الروايات.
وأيضا فلا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقياً. انتهى.
وهو من عجيب المغالطة أما الذي سماه دليلاً قاطعاً فقد غالط فيه بأخذ زمان الحكم زماناً لنتيجته وأثره فمن البديهي أن الحكم الحق الآن باتصاف موضوع ما بصفة في المستقبل لا يستلزم الاتصاف بها إلا في المستقبل لا في زمان الحكم القائم بالحاكم وهو الآن كما أن حكمنا في الليل بأن الهواء مضيء بعد كم ساعة - وهو حكم حق - لا يوجب إضاءة الهواء ليلاً. وحكمنا بأن الصبي سيصبح شيخاً فانياً بعد ثمانين سنة، لا يستدعي كونه شيخاً فانياً في زمان الحكم.
فقوله: { فمنهم شقي وسعيد } وهو خبر منه تعالى بأن جماعة منهم أشقياء يوم القيامة وآخرون سعداء يوم القيامة إن كان حكماً بشقاوتهم وسعادتهم كذلك فإنما هو حكم صادر منه في هذا الآن بأنهم كذا وكذا يوم القيامة ومن المسلم أنه لا يتغير عما هو عليه في ظرفه وإلا لزم أن يكون خبره تعالى كذباً وعلمه جهلاً لا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا وكذا هذا الآن، ولا أنه حكم صادر منه هذا الآن بأنهم كذا وكذا دائماً. وهو ظاهر.
وليت شعري ما الذي منعه أن يحكم بمثل هذا الحكم في سائر ما أخبر الله تعالى به من صفات الناس يوم القيامة فيحكم بأنهم مؤمنون دائماً أو كافرون دائماً وفي الجنة قبل يوم القيامة وفي النار قبل يوم القيامة لجريان دليله فيها وفي غيرها كالشقاوة والسعادة على حد سواء.
وأما ما أورده من الرواية وفيها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
"ولكن كل ميسر لما خلق له" فلا دلالة لها على ما ذكره أصلاً وسيجيء توضيح ذلك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
وأما قوله أخيراً: "لا نزاع أنه إنما شقي بعمله وإنما سعد بعمله ولكن لما كان ذلك العمل حاصلاً بقضاء الله وقدره كان الدليل الذي ذكرناه باقيا" يريد أن تعلق القضاء بالعمل - ومن المحال أن يتخلف متعلقه عما قضي عليه - توجب صيرورته ضروري الثبوت، ويكون الفعل بذلك مجبراً عليه لا اختيارياً متساوي الفعل والترك بالنسبة إلى الفاعل، لا تأثير للفاعل فيه، ولا تأثير للعمل في حصول شقاوة أو سعادة، وإنما بين الفاعل وفعله، وبين الفعل والأثر الحاصل بعده من شقاوة أو سعادة، صحابة اتفاقية جرت عادة الله سبحانه أن يوجد هذا قبل ذلك وذلك بعد هذا من غير رابطة حقيقية بين الأمرين ولا تأثير حقيقي لأحدهما في الآخر.
وهذه مغالطة أُخرى ناشئة من الخلط بين نسبة الوجوب ونسبة الإِمكان فإن للعمل عله تامة يجب بها وجوده، وهي إرادة الإِنسان، وسلامة أدوات العمل منه، ووجود مادة قابلة للعمل، والزمان، والمكان، وعدم الموانع والعوائق إلى غير ذلك فإذا اجتمعت وتمت وكملت كان ثبوت العمل ضرورياً، فللعمل إليها نسبة هي نسبة الوجوب، وله إلى كل واحد من أجزاء علته التامة ومن جملتها إرادة الإِنسان نسبة هي نسبة الإِمكان فإن العمل لا يجب وجوده بمجرد تحقق الإرادة فقط بل يمكن وإنما يجب لو انضمت إليه بقية أجزاء العلة.
فالعمل المتحقق بضرورة العلة التامة في عين هذا الحال له نسبة الوجوب إلى مجموع العلة التامة، ونسبة الإِمكان إلى إرادة الإِنسان، ولا تبطل نسبته الوجوبية إلى العلة التامة نسبته الإِمكانية إلى إراده الإِنسان، ولا تقلبها عن الإِمكان إلى الضرورة بل نسبة العمل إلى الإِنسان بالإِمكان دائماً كما أن نسبته إلى المجموع الحاصل من الإِنسان وبقية أجزاء العلة التامة بالوجوب دائماً، وطرفا الفعل والترك متساويان بالنسبة إلى الإِنسان أبداً كما أن أحد الطرفين من الفعل والترك متعين بالنظر إلى العلة التامة أبداً.
ينتج أن الفعل اختياري للإِنسان في عين أنه لا يخلو في وجوده عن علة تامة موجبة له، والقضاء الحتم من صفاته تعالى الفعلية منتزع عن مقام الفعل وهو سلسلة العلل المترتبة بحسب نظام الوجود وكون المعلولات ضرورية بالنسبة إلى عللها أي ضرورة كل مقضي بالنسبة إلى ما تعلق به من القضاء الإِلهي لا ينافي كونه اختيارياً للإنسان نسبته إليه نسبة الإِمكان. فقد بان أنه أخذ نسبة العمل إلى الإِنسان نسبة وجوب لا إمكان بتوهم أن كون العمل واجب الثبوت بالقضاء الإِلهي يوجب كونه واجب الثبوت بالنسبة إلى الإِنسان لا ممكنه.
وبتقرير آخر واضح: تعلق علمه تعالى مثلا بأن خشبة كذا ستحرق بالنار يوجب وجوب تحقق الاحتراق المقيد بالنار لأنه الذي تعلق به العلم الحق لا وجوب تحقق الاحتراق مطلقاً سواء كانت هناك نار أو لم تكن إذ لم يتحقق علم بهذه الصفة، وكذا علمه تعالى بأن الإِنسان سيعمل باختياره وإرادته عملاً أو أنه سيشقى لعمل اختياري كذا يوجب وجوب تحقق العمل من طريق اختيار الإنسان لا وجوب تحقق عمل كذا سواء كان هناك اختيار أو لم يكن وسواء كان هناك إنسان أو لم يكن حتى تنقطع به رابطة التأثير بين الإنسان وعمله، ونظيره علمه بأن إنساناً كذا سيشقى بكفره اختيارياً يستوجب تحقق الشقوة التي عن الكفر دون الشقوة مطلقة سواء كان هناك كفر أو لا.
فاتضح أن علمه تعالى بعمل الإِنسان لا يستوجب بطلان الاختيار وثبوت الإجبار وإن كان معلومه تعالى لا يتخلف عن علمه له الحكم لا معقب لحكمه.
قوله تعالى: { فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق } قال في المجمع: الزفير أول نهاق الحمار والشهيق آخر نهاقه انتهى. وقال في الكشاف: الزفير إخراج النفس والشهيق رده انتهى. وقال الراغب في المفردات، الزفير تردد النفس حتى ينتفخ الضلوع منه. وقال: الشهيق طول الزفير وهو رده والزفير مده، قال تعالى: { لهم فيها زفير وشهيق } { سمعوا لها تغيظاً وزفيراً } وقال تعالى: { سمعوا لها شهيقاً } وأصله من جبل شاهق أي متناهي الطول. انتهى.
والمعاني - كما ترى - متقاربة وكان في الكلام استعارة، والمراد أنهم يردون أنفاسهم إلى صدورهم ثم يخرجونها فيمدونها برفع الصوت بالبكاء والأنين من شده حر النار وعظم الكربة والمصيبة كما يفعل الحمار ذلك عند نهيقه.
وكان الظاهر من سياق قوله: { فمنهم شقي وسعيد } أن يقال بعده: فأما الذي شقي ففي النار له فيها زفير وشهيق "الخ" لكن السياق السابق عليه الذي افتتح به وصف يوم القيامة أعني قوله: { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } مبني على الكثرة والجماعة، ومقتضاها المضي على هيئة الجمع: الذين شقوا والذين سعدوا، وإنما عبر بقوله، شقي وسعيد لما قيل قبله: { لا تكلم نفس } فاختير المفرد المنكر ليفيد النفي بذلك الأستغراق والعموم فلما حصل الغرض بقوله: { لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد } عاد السياق السابق المبني على الكثرة والجماعة فقيل: { فأما الذين شقوا } بلفظ الجمع إلى آخر الآيات الثلاث.
قوله تعالى: { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد }. بيان لمكث أهل النار فيها كما أن الآية التالية: { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ } بيان لمكث أهل الجنة فيها وتأييد لاستقرارهم في مأواهم.
قال الراغب في المفردات: الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ عنه التغيير والفساد يصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي: خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوام بقائها يقال: خلد يخلد خلوداً، قال تعالى: { لعلكم تخلدون } والخلد - بالفتح فالسكون - اسم للجزء الذي يبقى من الإنسان على حالته فلا يستحيل ما دام الإِنسان حياً استحالة سائر أجزائه، وأصل المخلد الذي يبقى مدة طويلة، ومنه قيل: رجل مخلد لمن أبطأ عنه الشيب، ودابة مخلدة هي التي تبقى ثناياها حتى تخرج رباعيتها ثم استعير للمبقي دائماً.
والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها قال تعالى: { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها }.
وقوله تعالى: { يطوف عليهم ولدان مخلدون } قيل: مبقون بحالتهم لا يعتريهم الفساد، وقيل: مقرطون بخلدة، والخلدة ضرب من القرطة، وإخلاد الشيء جعله مبقى والحكم عليه بكونه مبقى، وعلى هذا قوله سبحانه: { ولكنه أخلد إلى الأرض } أي ركن إليها ظاناً إنه يخلد فيها. انتهى.
وقوله: { ما دامت السماوات والأرض } نوع من التقييد يفيد تأكيد الخلود والمعنى دائمين فيها دوام السماوات والأرض لكن الآيات القرآنية ناصة على أن السماوات والأرض لا تدوم دوام الأبد وهي مع ذلك ناصة على بقاء الجنة والنار بقاء لا إلى فناء وزوال.
ومن الآيات الناصة على الأول قوله تعالى:
{ { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى } [الأحقاف: 3] وقوله: { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين } [الأنبياء: 104]، وقوله: { { والسماوات مطويات بيمينه } [الزمر: 67]، وقوله: { إذا رجت الأرض رجاً وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثاً } [الواقعة: 4-6]. ومنها في النص على الثاني قوله تعالى: { { جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً } [التغابن: 9]، وقوله: { { وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبداً لا يجدون ولياً ولا نصيرا } } [الأحزاب: 64-65]. وعلى هذا يشكل الأمر في الآيتين من جهتين:
إحداهما: تحديد الخلود المؤبد بمدة دوام السماوات والأرض وهما غير مؤبدتين لما مر من الآيات.
وثانيتهما: تحديد الأمر الخالد الذي يبتدئ من يوم القيامة وهو كون الفريقين في الجنة والنار واستقرارهما فيهما، بما ينتهي أمد وجوده إلى يوم القيامة وهو السماوات والأرض، وهذا الإِشكال الثاني أصعب من الأول لأنه وارد حتى على من لا يرى الخلود في النار أو في الجنة والنار معاً بخلاف الأول.
والذي يحسم الإشكال أنه تعالى يذكر في كلامه أن في الآخرة أرضاً وسماوات وإن كانت غير ما في الدنيا بوجه، قال تعالى:
{ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار } [إبراهيم: 48]، وقال حاكياً عن أهل الجنة: { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء } [الزمر: 74]، وقال يعد المؤمنين ويصفهم: { { أُولئك لهم عقبى الدار } [الرعد: 22]. فللآخرة سماوات وأرض كما أن فيها جنة وناراً ولهما أهلاً، وقد وصف الله سبحانه الجميع بأنها عنده، وقال: { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } [النحل: 96] فحكم بأنها باقية غير فانية.
وتحديد بقاء الجنة والنار وأهلهما بمدة دوام السماوات والأرض إنما هو من جهة أن السماوات والأرض مطلقا ومن حيث إنهما سماوات وأرض مؤبدة غير فانية، وإنما تفنى هذه السماوات والأرض التي في هذه الدنيا على النظام المشهود، وأما السماوات التي تظل الجنة مثلاً والأرض التي تقلها وقد أشرقت بنور ربها فهي ثابتة غير زائلة فالعالم لا تخلو منهما قط، وبذلك يندفع الإِشكالان جميعاً.
وقد أشار في الكشاف إلى هذا الوجه إجمالاً حيث قال: والدليل على أن لها سماوات وأرضاً قوله سبحانه: { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } وقوله سبحانه: { وأورثنا الأرض نتبوء من الجنة حيث نشاء } ولأنه لا بد لأرض الآخرة مما تقلهم وتظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء. انتهى.
وإن كان الوجه الذي أشار إليه ثانياً سخيفاً لانه إثبات للسماء والأرض من جهة الإِضافة وأن الجنة والنار لابد أن يتصور لهما فوق وتحت فيكون الجنة والنار أصلاً وسماؤهما وأرضهما تبعين لهما في الوجود، ولازمه تحديد بقاء سمائهما وأرضهما بمدة دوامها لا بالعكس كما فعل في الآية.
على أن لازم هذا الوجه لزوم أن يتحقق للجنة والنار أرض وسماء وأما السماوات بلفظ الجمع كما في الآية فلا، فيبقى الإِشكال في السماوات على حاله.
وبما تقدم يندفع أيضاً ما أورده عليه القاضي في تفسيره حيث قال: وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه. انتهى.
ومراده أن الآية تشبه دوام الجنة والنار بأهلهما بدوام السماوات والأرض فلو كان المراد بهما سماوات الآخرة وأرضها ولا يعرف أكثر الخلق وجودها ودوامها كان ذلك من تشبيه الأجلى بالأخفى وهو غير جائز في الكلام البليغ.
وجوابه: أنا إنما عرفنا دوام الجنة والنار بأهلهما من كلامه تعالى كما عرفنا وجود سماوات وأرض لهما وكذا أبدية الجميع من كلامه فأي مانع من تحديد إحدى حقيقتين مكشوفتين من كلامه من حيث البقاء بالأخرى في كلامه، وإن كانت إحدى الحقيقتين أعرف عند الناس من الأُخرى بعد ما كانت كلتاهما مأخوذتين من كلامه لا من خارج.
ويندفع به أيضاً ما ذكره الآلوسي في ذيل هذا البحث أن المتبادر من السماوات والأرض هذه الأجرام المعهودة عندنا فالأولى أن يلتمس هناك وجه آخر غير هذا الوجه انتهى ملخصاً.
وجه الاندفاع أن الآيات القرآنية إنما تتبع فهم أهل اللسان في مفاهيمها الكلية التي تعطيها اللغة والعرف، وأما في مقاصدها وتشخيص المصاديق التي تجري عليها المفاهيم فلا، بل السبيل المتبع فيها هو التدبّر الذي أمر به الله سبحانه وإرجاع المتشابه إلى المحكم وعرض الآية على الآية فإن القرآن يشهد بعضه على بعض وينطق بعضه ببعض ويصدق بعضه بعضاً - كما في الروايات - فليس لنا إذا سمعناه تعالى يقول: إنه واحد أحد أو عالم قادر حي مريد سميع بصير أو غير ذلك أن نحملها على ما هو المتبادر عند العرف من المصاديق بل على ما يفسرها نفس كلامه تعالى ويكشفه التدبر البالغ من معانيها، وقد استوفينا هذا البحث في الكلام على المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.
وقد وردت في الروايات وفي كلمات المفسرين توجيهات أُخرى للآية نورد منها ما عثرنا عليه، وليكن الذي أوردناه أولها.
الوجه الثاني: إن المراد سماوات الجنة والنار وأرضهما أي ما يظلهما وما يقلهما فإن كل ما علاك وأظلك فهو سماء وما استقرت عليه قدمك فهو أرض، وبعبارة أُخرى المراد بهما ما هو فوقهما وما تحتهما.
وهذا هو الوجه الذي ذكره الزمخشري في آخر ما نقلناه من كلامه آنفاً، وقد عرفت الإِشكال فيه. على أن هذا الوجه لا يفي لبيان السبب في إيراد السماوات في الآية بلفظ الجمع كما تقدم.
الوجه الثالث: إن المراد ما دامت الآخرة وهي دائمة أبداً كما أن دوام السماء والأرض في الدنيا قدر مدة بقائها، ولعل المراد أن قوله: { ما دامت السماوات والأرض } موضوع وضع التشبيه كقولك: كلمته تكليم المستهزئ الهازئ به أي مثل تكليم من يستهزئ ويهزأ به.
وفيه: إنه لو أريد بذلك التشبيه كما ذكرناه أفاد خلاف المقصود أعني الانقطاع، ولو أُريد غير ذلك لم يف بذلك اللفظ.
الوجه الرابع: إن المراد به التبعيد وإفادة الأبدية لا أن المراد به التحديد بمدة بقاء السماوات والأرض بعينها فإن للعرب ألفاظاً كثيرة يستخدمونها في أفادة التأييد من غير إن يريدوا بها المعاني التي تحت تلك الألفاظ كقولهم: الأمر كذا وكذا ما اختلف الليل والنهار، وما ذر شارق، وما طلع نجم، وما هبت نسيم، وما دامت السماوات وقد استراحوا إليها وإلى أشباهها ظناً منهم أن هذه الأشياء دائمة باقية لا تبيد أبداً ثم استعملوها كأنها موضوعة للتبعيد.
وفيه: إنهم إنما استعملوها في التأبيد وأكثروا منه ظناً منهم أن هذه الأمور دائمة مؤبدة، وأما من يصرح في كلامه بأنها مؤجلة الوجود منقطعة فانية ويعد الإِيمان بذلك إحدى فرائض النفوس فلا يحسن منه وضعها في الكلام موضع التأبيد بأي صورة تصورت. كيف لا؟ وقد قال تعالى:
{ { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى } [الأحقاف: 3] وكيف يصح مع ذلك أن يقال: إن الجنة والنار خالدتان أبداً ما دامت السماوات والأرض.
الوجه الخامس: أن يكون المراد أنهم خالدون بمدة بقاء السماوات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم الله سبحانه على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم، وهذا مثل أن يقال: هم خالدون كذا وكذا سنة، ثم يضيف تعالى إلى ذلك ما لا يتناهى من الزمان كما يقال في قوله تعالى:
{ { لابثين فيها أحقاباً } [النبأ: 23] أي أحقاباً ثم يزادون على ذلك.
وفيه: إنه على الظاهر مبني على استفاده بعض المدة من قوله: { ما دامت السماوات والأرض } والبعض الآخر الذي لا يتناهى من قوله: { إلا ما شاء ربك } ودلالته على ذلك تتوقف على تقدير أمور لا دلالة عليه من اللفظ أصلاً.
الوجه السادس: إن المراد بالنار والجنة نار البرزخ وجنتها وهما خالدتان ما دامت السماوات والأرض، وإذا انتهت مدة بقاء السماوات والأرض بقيام القيامة خرجوا منها لفصل القضاء في عرصات المحشر.
وفيه: إنه خلاف سياق الآيات فإن الآيات تفتتح بذكر يوم القيامة وتوصيفها بما له من الأوصاف، ومن المستبعد أن يشرع في البيان بذكر أنه يوم مجموع له الناس، وأنه يوم مشهود، وأنه يوم إذا أتى لا تكلم نفس إلا بإذنه حتى إذا اتصل بأخص أوصافه وأوضحها وهو الجزاء بالجنة والنار الخالدتين عدل إلى ذكر ما في البرزخ من الجنة والنار الخالدتين إلى ظهور يوم القيامة المنقطعتين به.
على أن الله سبحانه يذكر عذاب أهل البرزخ بالعرض على النار لا بدخول النار قال تعالى:
{ وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدواً وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب } [غافر: 45-46]. الوجه السابع: إن المراد بدخول النار الدخول في ولاية الشيطان وبالكون في الجنة الكون في ولاية الله فإن ولاية الله هي التي تظهر جنة في الآخرة يتنعم فيها السعداء. وولاية الشيطان هي التي تتصور بصورة النار فتعذب المجرمين يوم القيامة كما تفيده الآيات الدالة على تجسم الأعمال.
فالأشقياء بسبب شقائهم يدخلون النار وربما خرجوا منها إن أدركتهم العناية والتوفيق كالكافر يؤمن بعد كفره والمجرم يتوب عن إجرامه، والسعداء يدخلون الجنة بسعادتهم وربما خرجوا منها إن أضلهم الشيطان وأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم كالمؤمن يرتد كافراً والصالح يعود طالحاً.
وفيه: ما أوردناه على سابقه من كونه خلاف ما يظهر بمعونة السياق فإن الآيات تعد ما ليوم القيامة من الأوصاف الخالصة الهائلة المدهشة التي تذوب القلوب وتطير العقول باستماعها والتفكر فيها لتنذر به أُولى الاستكبار والجحود من الكفار ويرتدع به أهل المعاصي والذنوب.
فيستبعد أن يذكر فيها أنه يوم مجموع له الناس ويوم مشهود ويوم لا تتكلم فيه نفس إلا بإذنه ثم يذكر أن الكفار وأهل المعاصي في نار منذ كفروا وأجرموا إلى يوم القيامة، وأهل الإِيمان والعمل الصالح في جنة منذ آمنوا وعملوا صالحاً فإن هذا البيان لا يلائم السياق - أولاً - من جهة أن الآيات تذكر أوصاف يوم القيامة الخاصة به لا ما قبله المنتهي إليه، و - ثانياً - من جهة أن الآيات مسوقة للإِنذار والتبشير، وهؤلاء الكفار والمجرمون أهل الاستكبار والطغيان لا يعبأون بمثل هذه الحقائق المستورة عن حواسهم، ولا يرون لها قيمة ولا ينتهون بالخوف من مثل هذه الشقاوة والرجاء لمثل هذه السعادة المعنوية وهو ظاهر، نعم هو معنى صحيح في نفسه في باطن القرآن.
وها هنا وجوه أُخر يمكن أن تستفاد من مختلف أنظارهم في تفسير قوله تعالى: { إلا ما شاء ربك } طوينا ذكرها ها هنا إيثاراً للاختصار ولأنها تشترك مع الوجوه الآتية التي سنوردها في تفسير الجملة، ما يرد عليها من الإِشكال فلنكتف بذلك.
وقوله تعالى: { إلا ما شاء ربك } استثناء مما سبقه من حديث الخلود في النار، ونظيرتها الجملة الواقعة بعد ذكر الخلود في الجنة، و { ما } في قوله: { ما شاء ربك } مصدرية والتقدير - على هذا - إلا أن يشاء ربك عدم خلودهم ولكن يضعفه قوله بعد: { إن ربك فعال لما يريد } فإن { ما } ههنا موصولة، والمراد بقوله: { ما شاء } وقوله: { ما يريد } واحد.
وإما موصولة والاستثناء من مدة البقاء المحكوم بالدوام الذي يستفاد من السياق، والمعنى هم خالدون في جميع الأزمنة المستقبلة المتتالية إلا ما شاء ربك من الزمان، أو الاستثناء من ضمير الجمع المستتر في خالدين، والمعنى هم جميعاً خالدون فيها إلا من شاء الله أن يخرج منها ويدخل في الجنة فيكون تصديقاً لما في الأخبار أن المذنبين والعصاة من المؤمنين لا يدومون في النار بل يخرجون منها ويدخلون الجنة بالآخرة للشفاعة، فإن خروج البعض من النار كاف في انتفاض العموم وصحة الاستثناء.
ويبقى الكلام في إيقاع { ما } في قوله { ما شاء } على من يعقل، ولا ضير فيه وإن لم يكن شائعاً لوقوعه في كلامه تعالى كقوله:
{ فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [النساء: 3]. والكلام في الآية التالية: { وأما الذين سعدوا } الخ، نظير الكلام في هذه الآية لاشتراكهما في السياق غير أن الاستثناء في آية الجنة يعقبه قوله: { عطاء غير مجذوذ } ولازمه أن لا يكون الاستثناء مشيراً إلى تحقق الوقوع فإنه لا يلائم كون الجنة عطاء غير مقطوع بل مشيراً إلى إمكان الوقوع، والمعنى أن أهل الجنة فيها أبداً إلا أن يخرجهم الله منها لكن العطية دائمية وهم غير خارجين والله غير شاء ذلك أبداً.
فيكون الاستثناء مسوقاً لإِثبات قدرة الله المطلقة، وأن قدرة الله سبحانه لا تنقطع عنهم بإدخالهم الجنة الخالدة، وسلطنته لا تنفد، وملكه لا يزول ولا يبطل، وإن الزمان بيده، وقدرته وإحاطته باقية على ما كانت عليه قبل، فله تعالى أن يخرجهم من الجنة وإن وعد لهم البقاء فيها دائماً لكنه تعالى لا يخرجهم لمكان وعده، والله لا يخلف الميعاد.
والكلام في الاستثناء الواقع في هذه الآية أعني آية النار نظيره في آية الجنة لوحدة السياق بالمقابلة والمحاذاة وإن اختتمت الآية بقوله: { إن ربك فعال لما يريد } وفيه من الإِشارة إلى التحقق ما لا يخفى.
فأهل الخلود في النار كأهل الخلود في الجنة لا يخرجون منها أبداً إلا أن يشاء الله سبحانه ذلك لأنه على كل شيء قدير، ولا يوجب فعل من الأفعال: إعطاء أو منع، سلب قدرته على خلافه أو خروج الأمر من يده لأن قدرته مطلقة غير مقيدة بتقدير دون تقدير أو بأمر دون أمر قال تعالى:
{ ويفعل الله ما يشاء } [إبراهيم: 27]، وقال: { { يمحوا الله ما يشاء ويثبت } [الرعد: 39] إلى غير ذلك من الآيات.
ولا منافاة بين هذا الوجه وبين ما ورد في الأخبار من خروج بعض المجرمين منها بمشيئة الله كما لا يخفى.
هذا وجه في الاستثناء وهنا وجوه أُخر أنهى الجميع في مجمع البيان إلى عشرة فليكن ما ذكرناه أولها.
وثانيها: أنه استثناء في الزيادة من العذاب لأهل النار والزيادة من النعيم لأهل الجنة، والتقدير إلا ما شاء ربك من الزيادة على هذا المقدار كما يقول الرجل لغيره: لي عليك ألف دينار إلا الألفين اللذين أقرضتكهما وقت كذا فالألفان زيادة على الألف بغير شك لأن الكثير لا يستثنى من القليل، وعلى هذا فيكون إلا بمعنى سوى أي سوى ما شاء ربك كما يقال: ما كان معنا رجل إلا زيد أي سوى زيد.
وفيه: أنه مبني على عدم إفادة قوله: { ما دامت السماوات والأرض } الدوام والأبدية وقد عرفت خلافه.
وثالثها: إن الاستثناء واقع على مقامهم في المحشر لأنهم ليسوا في جنة ولا نار، ومدة كونهم في البرزخ الذي هو ما بين الموت والحياة لأنه تعالى لو قال: خالدين فيها أبداً ولم يستثن لظن الظان أنهم يكونون في النار والجنة من لدن نزول الآية أو من بعد انقطاع التكليف فحصل للاستثناء فائدة.
فإن قيل: كيف يستثنى من الخلود في النار ما قبل الدخول فيها؟ فالجواب أن ذلك جائز إذا كان الإِخبار به قبل الدخول فيها.
وفيه: إنه لا دليل عليه من جهة اللفظ. على أن هذا الوجه بظاهره مبني على إفادة قوله: { فمنهم شقي وسعيد } الشقاوة والسعادة الجبريتين من غير اكتساب واختيار وقد عرفت ما فيه.
ورابعها: إن الاستثناء الأول متصل بقوله: { لهم فيها زفير وشهيق } وتقديره إلا ما شاء ربك من أجناس العذاب الخارجة عن هذين الضربين، ولا يتعلق الاستثناء بالخلود، وفي أهل الجنة متصل بما دل عليه الكلام فكأنه قال: لهم فيها نعيم إلا ما شاء ربك من أنواع النعيم، وإنما دل عليه قوله: { عطاء غير مجذوذ }.
وفيه: إنه قطع لاتصال السياق ووحدته من غير دليل، وفيه أخذ "إلا" الأولى بمعنى سوى و "إلا" الثانية بمعنى الاستثناء على أنه لا قرينة هناك على تعلق "إلا" الأولى بقوله: { لهم فيها زفير وشهيق }، ولا أن قوله: { عطاء غير مجذوذ } يدل على ما ذكره، فإنه إنما يدل على دوام العطاء لا على جميع أنواع العطاء أو بعضها.
ثم أية فائدة في استثناء بعض أنواع النعيم واظهار ذلك للسامعين والمقام مقام التطميع والتبشير والظرف ظرف الدعوة والترغيب. فهذا من أسخف الوجوه.
وخامسها: أن "إلا" بمعنى الواو وإلا كان الكلام متناقضاً والمعنى خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض وما شاء ربك من الزيادة على ذلك.
وفيه: إن كون "إلا" بمعنى الواو لم يثبت، وإنما ذكره الفراء لكنهم ضعفوه. على أن الوجه مبني على عدم إفادة التقدير والتحديد السابق على الاستثناء في الآيتين الدوام. وقد عرفت ما فيه.
وسادسها: إن المراد بالذين شقوا من أُدخل النار من أهل التوحيد وهم الذين ضموا إلى إيمانهم وطاعتهم ارتكاب معاص توجب دخول النار فأخبر سبحانه أنهم معاقبون في النار إلا ما شاء ربك من إخراجهم منها إلى الجنة، وإيصال ثواب طاعاتهم إليهم.
وأما الاستثناء الذي في أهل الجنة فهو استثناء من خلودهم أيضاً لأن من ينقل من النار إلى الجنة ويخلد فيها لا بد في الإِخبار عنه بتأبيد خلوده من استثناء ما تقدم من حاله فكأنه قال: إنهم في الجنة خالدين فيها إلا ما شاء ربك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار.
قالوا: والذين شقوا في هذا القول هم الذين سعدوا بأعيانهم، وإنما أُجري عليهم كل من الوصفين في الحال الذي يليق به ذلك فإذا أُدخلوا في النار وعوقبوا فيها فهم أَهل شقاء، وإذا أدخلوا في الجنة وأُثبتوا فيها فهم أهل سعادة، ونسبوا هذا القول إلى ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري من الصحابة وجماعة من التابعين.
وفيه: أنه لا يلائم السياق فإنه تعالى بعد ما ذكر في صفة يوم القيامة أنه يوم مجموع له الناس قسم أهل الجمع إلى قسمين بقوله: { فمنهم شقي وسعيد } ومن المعلوم أن قوله: { فأما الذين شقوا } الخ وقوله: { وأما الذين سعدوا } مبدوين بأما التفصيلية مسوقان لتفصيل ما أجمل في قوله: { فمنهم شقي وسعيد } ولازم ذلك كون المراد بالذين شقوا جميع أهل النار لا طائفة منهم خاصة، والمراد بالذين سعدوا جميع أصحاب الجنة لا خصوص من أُخرج من النار وأُدخل الجنة.
اللهم إلا أن يقال: المراد بقوله: { فمنهم شقي وسعيد } أيضاً وصف طائفة خاصة بأعيانهم كما أن المراد بالذين شقوا والذين سعدوا طائفة واحدة بأعيانهم. والمعنى أن بعض أهل الجمع شقي وسعيد معاً وهم الذين أُدخلوا النار واستقروا فيها خالدين ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك أن يخرجهم منها ويدخلهم الجنة ويسعدهم بها فيخلدوا فيها ما دامت السماوات والأرض إلا مقداراً من الزمان كانوا فيه أشقياء ساكنين في النار قبل أن يدخلوا الجنة.
لكن ينتقل ما قدمناه من الإِشكال حينئذ إلى ما ادعي من معنى قوله: { فمنهم شقي وسعيد } فالسياق الظاهر في وصف أهل الجمع عامة لا يساعد على إرادة طائفة خاصة منهم بقوله: { فمنهم شقي وسعيد } أولاً ثم تفصيل حالهم بتفريقهم - وهم جماعة واحدة بعينهم - وإيرادهم في صورة موضوعين اثنين لحكمين مع تحديدين بدوام السماوات والأرض ثم استثنائين ليس المراد بهما إلا واحد وأي فائدة في هذا التفصيل دون أن يورث لبساً في المعنى وتعقيداً في النظم؟.
ويمكن أن يقرر هذا الوجه على وجه التعميم بأن يقال: المراد بقوله: { فمنهم شقي وسعيد } تقسيم عامة أهل الجمع إلى الشقي والسعيد، والمراد بقوله: { الذين شقوا } جميع أهل النار، وبقوله: { الذين سعدوا } جميع أصحاب الجنة، ويكون المراد بالاستثناء في الموضعين استثناء حال الفساق من أهل التوحيد الذين يخرجهم الله تعالى من النار ويدخلهم الجنة، وحينئذ يسلم من جل ما كان يرد على الوجه السابق من الإِشكال.
وسابعها: إن التعليق بالمشيئة إنما هو على سبيل التأكيد للخلود والتبعيد للخروج لأن الله سبحانه لا يشاء إلا خلودهم على ما حكم به فكأنه تعليق لما لا يكون بما لا يكون لأنه لا يشاء أن يخرجهم منها.
وهذا الوجه يشارك الوجه الأول في دعوى أن الاستثناء في الموردين غير مسوق لنقص الخلود غير أن الوجه الأول يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان إطلاق القدرة الإلهية، وهذا الوجه يختص بدعوى أن الاستثناء لبيان أن الخلود لا ينتقض بسبب من الأسباب إلا أن يشاء الله انتقاضه ولن يشاء أصلاً.
وهذا هو وجه الضعف فيه فإن قوله: ولن يشاء أصلاً. لا دليل عليه هب أن قوله في أهل الجنة: { عطاء غير مجذوذ } يشعر أو يدل على ذلك لكن قوله: { إن ربك فعال لما يريد } لا يشعر به ولا يدل عليه لو لم يشعر بخلافه كما هو ظاهر.
وثامنها: إن المراد به استثناء الزمان الذي سبق فيه طائفة من أهل النار دخولها قبل طائفة، وكذا في الطوائف الذين يدخلون الجنة فإنه تعالى يقول: { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } { وسيق الذين اتقوا إلى الجنة زمراً } فالزمرة منهم يدخل بعد الزمرة ولا بد أن يقع بينهما تفاوت في الزمان، وهو الذي يستثنيه تعالى بقوله: { إلا ما شاء ربك } ونقل الوجه عن سلام بن المستنير البصري.
وفيه: أن الظاهر من قوله: { ففي النار خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض } وكذا في قوله: { ففي الجنة خالدين } الخ أن الوصف ناظر إلى مدة الكون في النار أو الجنة من جهة النهاية لا من جهة البداية.
على أن المبدأ للاستقرار في النار أو في الجنة على أي حال هو يوم القيامة، ولا يتفاوت الحال في ذلك من جهة دخول زمرة بعد زمرة والتفاوت الزماني الحاصل من ذلك.
وتاسعها: إن المعنى كونهم خالدين في النار معذبين فيها مدة كونهم في القبور ما دامت السماوات والأرض في الدنيا، وإذا فنيتا وعدمتا انقطع عذابهم إلى أن يبعثهم الله للحساب، وقوله: { إلا ما شاء ربك } استثناء وقع على ما يكون في الآخرة، نقله في مجمع البيان عن شيخنا أبي جعفر الطوسي في تفسيره ناقلاً عن جمع من أصحابنا في تفاسيرهم.
وفيه: إن مرجعه إلى الوجه الثاني المبني على أخذ "إلا" بمعنى سوى مع اختلاف ما في التقرير، وقد عرفت ما يرد عليه.
وعاشرها: إن المراد إلا من شاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار فالاستثناء من الضمير العائد إلى الذين شقوا، والتقدير فأما الذين شقوا فكائنون في النار إلا من شاء ربك، والظاهر أن هذا القائل يوجه الاستثناء في ناحية أهل الجنة { وأما الذين سعدوا } إلى قوله { إلا ما شاء ربك } بأن المراد به أهل التوحيد الخارجون من النار إلى الجنة كما تقدم في بعض الوجوه السابقة، والمعنى أن السعداء في الجنة خالدين فيها إلا الفساق من أهل التوحيد فإنهم في النار ثم يخرجون فيدخلون الجنة، ونسب الوجه إلى أبي مجلز.
وفيه: إن ما ذكره إنما يجري في أول الاستثناءين فالثاني من الاستثناءين لا بد أن يوجه بوجه آخر، وهو كائناً ما كان يوجب انتقاض وحدة السياق في الآيتين.
على أن العصاة من المؤمنين الذين يعفو عنهم الله سبحانه فلا يدخلهم النار من رأس لا يعفى عنهم جزافاً وإنما يعفى لصالح عمل عملوه أو لشفاعة فيصيرون بذلك سعداء فيدخلون في الآية الثانية: { وأما الذين سعدوا ففي الجنة } الخ من غير أن يدخلوا في زمرة الأشقياء ثم يستثنوا لعدم دخولهم النار، وبالجملة هم ليسوا بأشقياء حتى يستثنوا بل سعداء داخلون في الجنة من أول.
وقوله: { إن ربك فعال لما يريد } تعليل للاستثناء، وتأكيد لثبوت قدرته تعالى مع العمل على حال إطلاقها كما تقدم.
قوله تعالى: { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ } قرئ سعدوا بالبناء للمجهول وبالبناء للمعلوم والثاني أوفق باللغة لأن مادة سعد لازمة في المعروف من استعمالهم لكن الأول وهو سعدوا بالبناء للمجهول مع كون { شقوا } في الآية السابقة بالبناء للمعلوم لا يخلو عن إشارة لطيفة إلى أن السعادة والخير من الله سبحانه والشر الملحق بهم هو من عندهم كما قال تعالى:
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً } [النور: 21]. والجذ: هو القطع وعطاء غير مجذوذ أي غير مقطوع، وعده تعالى الجنة عطاء غير مجذوذ مع سبق الاستثناء من الخلود بقوله: { إلا ما شاء ربك } من أحسن الشواهد على أن مراده باستثناء المشيئة إثبات بقاء إطلاق قدرته وأنه مالك الأمر لا يخرج زمامه من يده قط.
ويجري في هذه الآية جميع ما تقدم من الأبحاث المشابهة في الآية السابقة إلا ما كان من الوجوه مبنياً على كون المستثنى في قوله: { إلا ما شاء ربك } من دخل النار أولاً ثم خرج منها إلى الجنة ثانياً، وذلك أن من الجائز أن يخرج من نار الآخرة بعض من دخله لكن لا يخرج من جنة الآخرة وهي جنة الخلد أحد ممن دخلها جزاء أبداً، وهو كالضروري من الكتاب والسنة، وقد تكاثرت الآيات والروايات في ذلك بحيث لا يرتاب في دلالتها على ذلك ذو ريب، وإن كانت دلالة الكتاب على خروج بعض من في النار منها ليس بذاك الوضوح.
قال في مجمع البيان في وجوب دخول أهل الطاعة الجنة وعدم جواز خروجهم منها: لإِجماع الأُمة على أن من استحق الثواب فلا بد أن يدخل الجنة، وأنه لا يخرج منها بعد دخوله فيها. انتهى.
مسألة "وجوب دخول أهل الثواب الجنة" مبنية على قاعدة عقلية مسلمة وهي أن الوفاء بالوعد واجب دون الوفاء بالوعيد لأن الذي تعلق به الوعد حق للموعود له، وعدم الوفاء به إضاعة لحق الغير وهو من الظلم، وأما الوعيد فهو جعل حق للموعد على التخلف الذي يوعد به له، وليس من الواجب لصاحب الحق إن يستوفي حقه بل له أن يستوفي وله أن يترك، والله سبحانه وعد عباده المطيعين الجنة بإطاعتهم، وأوعد العاصين النار بعصيانهم فمن الواجب أن يدخل أهل الطاعة الجنة توفية للحق الذي جعله لهم على نفسه، وأما عقاب العاصين فهو حق جعله لنفسه عليهم فله أن يعاقبهم فيستوفي حقه وله أن يتركهم بترك حق نفسه.
وأما مسألة عدم الخروج من الجنة بعد دخولها فهو مما تكاثرت عليه الآيات والروايات، والإِجماع الذي ذكره مبني على الذي تسلموه من دلالة الكتاب والسنة أو العقل على ذلك، وليس بحجة مستقلة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن الله سبحانه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. ثم قرأ: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }"
]. وفيه: أخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت: { فمنهم شقي وسعيد } قلت: يا رسول الله فعلامَ نعمل، على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ منه، وجرت به الأقلام يا عمر، ولكن كل ميسر لما خلق له.
أقول: وهذا اللفظ مروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم بطرق متعددة من طرق أهل السنة كما في صحيح البخاري
" عن عمران بن الحصين قال: قلت: يا رسول الله فيمَ يعمل العاملون؟ قال:كل ميسر لما خلق له" .
وفيه أيضاً عن علي كرم الله وجهه "عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان في جنازة فأخذ عوداً فجعل ينكت في الأرض فقال: ما منكم أحد إلا كتب مقعده من الجنة أو من النار. قالوا: ألا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له وقرء: { فأما من أعطى واتقى }" الخ. ولتوضيح ذلك نقول: أنه لا يخفى على ذي مسكة أن كلا من الحوادث الجارية في هذا العالم من أعيان وآثارها ما لم يلبس لباس التحقق والوجود فهو على حد الإمكان، وللإِمكان نسبة إلى الوجود والعدم معاً، فالخشبة ما لم تصر رماداً بالاحتراق لها إمكان أن تصير رماداً وأن لا تصير، والمني ما لم يصر إنساناً بالفعل فلها إمكان الإِنسانية أي إنها تحمل استعداد أن يصير إنساناً إن اجتمع معها بقية أجزاء العلة الموجبة للإِنسانية واستعداد أن يبطل فيصير شيئاً غير الإِنسان.
وإذا تلبس بلباس الوجود وصار مثلاً رماداً بالفعل وإنساناً بالفعل بطل عند ذلك عنه الإِمكان الذي كان ينسبه إلى الرماد وغيره معاً وإلى الإِنسان وعدمه معاً، وصار إنساناً فحسب يمتنع غيره ورماداً يمتنع مع هذه الفعلية غيره.
وبهذا يتضح أنا إذا أخذنا الفعليات ونسبناها إلى عللها الموجبة لها وهكذا نسبنا عللها إلى علل العلل كان العالم بهذه النظرة سلسلة من الفعليات لا يتغير شيء منها عما هو عليه، وبطل الإِمكانات والاستعدادات والاختيارات جميعاً، وإذا نظرنا إلى الأمور من جهة الإِمكانات والاستعدادات التي تحملها بالنسبة إلى غايات حركاتها لم يخرج شيء من الأشياء المادية من حيز الإِمكان ومستقر الاختيار.
فللكون وجهان: وجه ضرورة فعلية يتعين فيه كل جزء من أجزائه من عين أو أثر عين، ولا يقبل أي إبهام وتردد، وأي تغيير وتبديل وهو الوجه الذي تقوم فيه المسببات بأسبابها الموجبة والمعلولات بعللها التامة التي لا تنفك عن مقتضياتها ولا تتخلف معلولاتها عنها ولا تنفع في تغييرها عما هي عليه حيلة، ولا في تبديلها سعي ولا حركة.
ووجه آخر هو وجه الإِمكان وصورة الاستعداد والقابلية لا يتعين بحسبه شيء إلا بعد الوقوع، ولا يخرج عن الإِبهام والإِجمال إلا بعد التحقق، وعليه يقوم ناموس الاختيار، وبه يتقوم السعي والحركات، ويبتنى العمل والاكتساب، وإليه تركن التعاليم والتربية والخوف والرجاء والأماني والأهواء، وبه تنجح الدعوة والأمر والنهي ويصح الثواب والعقاب.
ومن الضروري أن الوجهين لا يتدافعان في الوجود ولا يبطل أحدهما الآخر فللفعلية ظرفها وللإِمكان والاستعداد ظرفه كما لا يدفع إبهام الحادثة الفلانية تعينها بعد التحقق، ولا تعينها بعده إبهامها قبله.
والوجه الأول هو وجه القضاء الإِلهي، ولا يبطل تعين الحوادث بحسبه عدم تعينها بحسب ظرف الدعوة والعمل والاكتساب، وسنستوفي البحث في ذلك عندما نضع الكلام في القضاء والقدر فيما يناسبه من الموضع إن شاء الله تعالى.
ولنرجع إلى الأحاديث:
التأمل في سياقها يعطي أنهم فهموا من كتابة السعادة والشقاوة والجنة والنار وجريان القلم بذلك، الضرورة والوجوب، وتوهموا من ذلك أولاً لزوم بطلان المقدمات الموصلة إلى الغايات، وارتفاع الروابط بين المسببات وأسبابها، وأنه إذا قضي للإِنسان بالجنة تحتم له ذلك سواء عمل أو لم يعمل وسواء عمل صالحاً أو اقترف سيئاً.
وتوهموا ثانياً أن تلك المقدمات والأسباب نظائر للغايات والمسببات واقعة تحت القضاء مكتوبة محتومة فلا يبقى للاختيار معنى ولا للسعي والاكتساب مجال.
والذي وقع في الأحاديث من سؤالهم كقولهم: "يا رسول الله فعلامَ نعمل، على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟" وقولهم: "يا رسول الله فيمَ يعمل العاملون؟" وقولهم: "ألا نتكل؟" أي ألا نترك العمل اتكالاً على ما كتبه الله كتابة لا تتغير ولا تتبدل؟ كل ذلك يشير إلى التوهم الأول، وكأن الذي كانوا يشاهدونه في أنفسهم من صفة الاختيار والاستطاعة صرفهم عن الإِشارة إلى ثاني التوهمين وإن كان ناشباً على قلوبهم فإنهما متلازمان.
وقد أجاب صلى الله عليه وآله وسلم عن سؤالهم بقوله:
"كل ميسر لما خلق له" وهو مأخوذ من قوله تعالى في صفة خلق الإِنسان: { { ثم السبيل يسره } [عبس: 20] أي إن كلا من أهل الجنة الذي خلقه الله لها، ومن أهل النار الذي خلقه الله لها كما قال: { { ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإِنس } [الأعراف: 179]. له غاية في خلقه وقد يسره الله السبيل إلى تلك الغاية وسهل له السلوك منه إليها.
فبين الإِنسان الذي كتبت له الجنة وبين الجنة سبيل لا مناص من قطعه للوصول إليها، وبينه وبين النار التي كتبت له كذلك، وسبيل الجنة هو الإِيمان والتقوى، وسبيل النار هو الشرك والمعصية، فالإِنسان الذي كتب الله له الجنة إنما كتب له الجنة التي سبيلها الإِيمان والتقوى فلا بد من سلوكه، ولم يكتب له الجنة سواء عمل أو لم يعمل وسواء عمل صالحاً أو سيئاً، وكذلك الذي كتب له النار إنما كتب له النار من طريق الشرك والمعصية لا مطلقاً.
ولذلك أعقب صلى الله عليه وآله وسلم قوله:
"كل ميسر لما خلق له" - على ما في رواية علي عليه السلام - بتلاوة قوله تعالى: { { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فنيسره للعسرى } [الليل: 5-10]. فالمتوقع لإِحدى الغايتين من غير طريقه كالطامع في الشبع من غير أكل أو الري من من غير شرب أو الانتقال من مكان إلى آخر من غير حركة فإنما الدار دار سعي وحركة لا تنال فيها غاية إلا بسلوك ونقلة، قال تعالى: { { وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى } [النجم: 39-41]. ولم يهمل صلى الله عليه وآله وسلم الجواب عن ثاني التوهمين حيث عبر بالتيسير فإن التيسير هو التسهيل، ومن المعلوم أن التسهيل إنما يتحقق في أمر لا ضرورة تحتمه ولا وجوب يعينه ويسد باب عدمه، ولو كان سبيل الجنة ضروري السلوك حتمي القطع على الإطلاق للإِنسان الذي كتبت له، كان ثابتاً لا يتغير، ولم يكن معنى لتيسيره وتسهيل سلوكه له وهو ظاهر.
فقوله صلى الله عليه وآله وسلم،
"كل ميسر لما خلق له" يدل على أن لما يؤول إليه أمر الإِنسان من السعادة والشقاء وجهين وجه ضرورة وقضاء حتم لا يتغير عن سبيل مثله، ووجه إمكان واختيار ميسر للإِنسان يسلك إليه بالعمل والاكتساب، والدعود الإِلهية إنما تتوجه إليه من الوجه الثاني دون الوجه الأول.
وقد تقدم كلام في الجبر والاختيار في تفسير قوله: { وما يضل به إلا الفاسقين } في الجزء الأول من الكتاب.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن قتادة، أنه تلا هذه الآية: { فأما الذين شقوا } فقال، حدثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"يخرج قوم من النار" ولا نقول كما قال أهل حروراء.
أقول: وقوله: "ولا نقول كما قال أهل حروراء" هو من كلام قتادة، وأهل حروراء قوم من الخوارج، وهم يقولون بخلود من دخل النار فيها.
وفيه: أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { فأما الذين شقوا } إلى قوله { إلا ما شاء ربك } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن شاء الله أن يخرج أُناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل"
]. وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد الأهوازي في كتاب الزهد بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الجهنميين فقال: كان أبو جعفر يقول: يخرجون منها فينتهي بهم إلى عين عند باب الجنة تسمى عين الحيوان فينضح عليهم من مائها فينبتون كما ينبت الزرع تنبت لحومهم وجلودهم وشعورهم.
أقول: ورواه أيضاً بإسناده عن عمر بن أبان عنه عليه السلام. والمراد بالجهنميين طائفة خاصة من أهل النار وهم أهل التوحيد الخارجون منها بالشفاعة، ويسمون الجهنميين، لا عامة أهل النار كما يدل عليه ما سيأتي.
وفيه: عنه بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن أُناساً يخرجون من النار. حتى إذا صاروا حمماً أدركتهم الشفاعة. قال: فينطلق بهم إلى نهر يخرج من مرشح أهل الجنة فيغتسلون فيه فتنبت لحومهم ودماؤهم، ويذهب عنهم قشف النار، ويدخلون الجنة يقولون - أهل الجنة - الجهنميين فينادون بأجمعهم: اللهم أذهب عنا هذا الاسم قال: فيذهب عنهم. ثم قال: يا أبا بصير إن أعداء علي هم المخلدون في النار ولا تدركهم الشفاعة.
وفيه: عنه بإسناده عن عمر بن أبان قال: سمعت عبداً صالحاً يقول في الجهنميين: إنهم يدخلون النار بذنوبهم، ويخرجون بعفو الله.
وفيه: عنه بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إنهم يقولون: لا تعجبون من قوم يزعمون أن الله يخرج قوماً من النار ليجعلهم من أهل الجنة مع أولياء الله؟ فقال: أما يقرأون قول الله تبارك وتعالى: { ومن دونهما جنتان } إنها جنة دون جنة ونار دون نار. إنهم لا يساكنون أولياء الله فقال: بينهما والله منزلة، ولكن لا أستطيع أن أتكلم، إن أمرهم لأضيق من الحلقة، إن القائم إذا قام بدأ بهؤلاء.
أقول: قوله: (إن القائم) الخ، أي إذا ظهر بدأ بهؤلاء المستهزئين بأهل الحق انتقاماً.
وفي تفسير العياشي عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قوله: { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } قال: هذه في الذين يخرجون من النار.
وفيه: عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله: { فمنهم شقي وسعيد } قال: في ذكر أهل النار استثنى، وليس في ذكر أهل الجنة استثنى { وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ }.
أقول: يشير عليه السلام إلى أن الاستثناء بالمشيئة في أهل الجنة لما عقبه الله بقوله: { عطاء غير مجذوذ } لم يكن استثناء دالاً على إخراج بعض أهل الجنة منها، وإنما يدل على إطلاق القدرة بخلاف الاستثناء في أهل النار فإنه معقب بقوله: { إن ربك فعال لما يريد } المشعر بوقوع الفعل، وقد تقدمت الإِشارة إلى ذلك.
وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ عن السدي في قوله: { فأما الذين شقوا } الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله فنسخها فأنزل الله بالمدينة: { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً } إلى آخر الآية فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها وأوجب لهم خلود الأبد، وقوله: { وأما الذين سعدوا } الآية قال: فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها فأنزل بالمدينة: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات } إلى قوله { ظلاً ظليلاً } فأوجب لهم خلود الأبد.
أقول: ما ذكره من نسخ الآيتين زعماً منه أنهما تدلان على الانقطاع قد عرفت خلافه. على أن النسخ في مثل الموردين لا ينطبق على عقل ولا نقل. على أن ذلك لا يوافق الصريح من آية الجنة. على أن خلود الفريقين مذكور في كثير من السور المكية كالأنعام والأعراف وغيرهما.
وفيه أخرج ابن المنذر عن الحسن عن عمر قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه.
وفيه أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرء: { فأما الذين شقوا }.
وفيه أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية: { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تخفق أبوابها.
أقول: ما ورد في الروايات الثلاث من أقوال الصحابة ولا حجة فيها على غيرهم، ولو فرضت روايات موقوفة لكانت مطروحة بمخالفة الكتاب، وقد قال تعالى في الكفار:
{ وما هم بخارجين من النار } [المائدة: 37]. وفي تفسير البرهان عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنه بلغنا أنه يأتي على جهنم حتى يصفق أبوابها. فقال: لا والله إنه الخلود. قلت: { خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك } فقال: هذه في الذين يخرجون من النار.
أقول: والروايات الدالة على خلود الكفار في النار من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جداً، وقد قدمنا بحثاً فلسفياً في خلود العذاب وانقطاعه في ذيل قوله:
{ { وما هم بخارجين من النار } [البقرة: 167] في الجزء الأول من الكتاب.