التفاسير

< >
عرض

تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
١
مَآ أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
٢
سَيَصْلَىٰ نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ
٣
وَٱمْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ ٱلْحَطَبِ
٤
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ
٥
-المسد

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
وعيد شديد لأبي لهب بهلاك نفسه وعمله وبنار جهنم ولامرأته، والسورة مكية.
قوله تعالى: { تبت يدا أبي لهب وتب } التب والتباب هو الخسران والهلاك على ما ذكره الجوهري، ودوام الخسران على ما ذكره الراغب، وقيل: الخيبة، وقيل الخلو من كل خير والمعاني - كما قيل - متقاربة فيد الإِنسان هي عضوه الذي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده وينسب إليه جل أعماله، وتباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل وإن شئت فقل: بطلان أعماله التي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب وعدم انتفاعه بشيء منها وتباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة وهو هلاكها المؤبد.
فقوله: { تبت يدا أبي لهب وتب } أي أبو لهب، دعاء عليه بهلاك نفسه وبطلان ما كان يأتيه من الأعمال لإِطفاء نور النبوَّة أو قضاء منه تعالى بذلك.
وأبو لهب هذا هو أبو لهب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان شديد المعاداة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مصراً في تكذيبه مبالغاً في إيذائه بما يستطيعه من قول وفعل وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: تباً لك لما دعاهم إلى الإِسلام لأول مرة فنزلت السورة ورد الله التباب عليه.
وذكر بعضهم أن أبا لهب اسمه وإن كان في صورة الكنية، وقيل: اسمه عبد العزى وقيل: عبد مناف وأحسن ما قيل في ذكره في الآية بكنيته لا باسمه أن في ذلك تهكماً به لأن أبا لهب يشعر بالنسبة إلى لهب النار كما يقال أبو الخير وأبو الفضل وأبو الشر في النسبة إلى الخير والفضل والشر فلما قيل: { سيصلى ناراً ذات لهب } فهم منه أن قوله: { تبت يدا أبي لهب } في معنى قولنا: تبت يدا جهنمي يلازم لهبها.
وقيل: لم يذكر باسمه وهو عبد العزى لأن عزّى اسم صنم فكره أن يعد بحسب اللفظ عبداً لغير الله وهو عبد الله وإن كان الاسم إنما يقصد به المسمى.
قوله تعالى: { ما أغنى عنه ماله وما كسب } ما الأُولى نافية وما الثانية موصولة ومعنى { ما كسب } الذي كسبه بأعماله وهو أثر أعماله أو مصدرية والمعنى كسبه بيديه وهو عمله، والمعنى ما أغنى عنه عمله.
ومعنى الآية على أي حال لم يدفع عنه ماله ولا عمله - أو أثر عمله - تباب نفسه ويديه الذي كتب عليه أودعي عليه.
قوله تعالى: { سيصلى ناراً ذات لهب } أي سيدخل ناراً ذات لهب وهي نار جهنم الخالدة، وفي تنكير لهب تفخيم له وتهويل.
قوله تعالى: { وامرأته حمَّالة الحطب } عطف على ضمير الفاعل المستكن في { سيصلى } والتقدير: وستصلى امرأته الخ و { حمالة الحطب } بالنصب وصف مقطوع عن الوصفية للذم أي أذم حمالة الحطب، وقيل: حال من { امرأته } وهو معنى لطيف على ما سيأتي.
قوله تعالى: { في جيدها حبل من مسد } المسد حبل مفتول من الليف، والجملة حال ثانية من امرأته.
والظاهر أن المراد بالآيتين أنها ستتمثل في النار التي تصلاها يوم القيامة في هيئتها التي كانت تتلبس بها في الدنيا وهي أنها كانت تحمل أغصان الشوك وغيرها تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تؤذيه بذلك فتعذب بالنار وهي تحمل الحطب وفي جيدها حبل من مسد.
قال في مجمع البيان: وإذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الإِيمان بعد هذه السورة وهل كان يقدر على الإِيمان ولو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى ناراً ذات لهب.
فالجواب أن الإِيمان يلزمه لأن تكليف الإِيمان ثابت عليه وإنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن انتهى موضع الحاجة.
أقول: مبنى الاشكال على الغفلة من أن تعلق القضاء الحتمي منه تعالى بفعل الإِنسان الاختياري لا يستوجب بطلان الاختيار واضطرار الإِنسان على الفعل فإن الإِرادة الإِلهية - وكذا فعله تعالى - إنما يتعلق بفعله الاختياري على ما هو عليه أي أن يفعل الإِنسان باختياره كذا وكذا فلو لم يقع الفعل اختيارياً تخلف مراده تعالى عن إرادته وهو محال وإذا كان الفعل المتعلق للقضاء الموجب اختيارياً كان تركه أيضاً اختيارياً وإن كان لا يقع فافهم وقد تقدم هذا البحث في غير موضع من المباحث السابقة.
فقد ظهر بذلك أن أبا لهب كان في اختياره أن يؤمن وينجو بذلك عن النار التي كان من المقضي المحتوم أن يدخلها بكفره.
ومن هذا الباب الآيات النازلة في كفار قريش أنهم لا يؤمنون كقوله:
{ إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [البقرة: 6]، وقوله: { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون } [يس: 7]، ومن هذا الباب أيضاً آيات الطبع على القلوب.
(بحث روائي)
في المجمع في قوله تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين } عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفا فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟ فقال: أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم وممسيكم ما كنتم تصدقونني؟ قالوا: بلى. قال: فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد قال أبو لهب: تباً لك ألهذا دعوتنا جميعاً؟ فأنزل الله عز وجل { تبت يدا أبي لهب }.
أقول: ورواه أيضاً في تفسير السورة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ولم يذكر فيه كون الدعوة عند نزول آية { وأنذر عشيرتك } الآية.
وفيه أيضاً عن طارق المحاربي قال: بينما أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو محمد يزعم أنه نبي وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب.
وفي قرب الإِسناد بإسناده إلى موسى بن جعفر عليه السلام في حديث طويل يذكر فيه آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ذلك
"أن أُم جميل امرأه أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبت ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر بن أبي قحافة فقال: يا رسول الله هذه أُم جميل محفظة أي مغضبة تريدك ومعها حجر تريد أن ترميك به فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنها لا تراني فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ قال: حيث شاء الله قالت: جئته ولو أراه لرميته فإنه هجاني واللات والعزى إني لشاعرة فقال أبو بكر: يا رسول الله لم ترك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا. ضرب الله بيني وبينها حجاباً" .
أقول: وروي ما يقرب منه بغير واحد من طرق أهل السنة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { وامرأته حمالة الحطب } قال: كانت أُم جميل بنت صخر وكانت تنم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتنقل أحاديثه إلى الكفار.