التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ
١
مَلِكِ ٱلنَّاسِ
٢
إِلَـٰهِ ٱلنَّاسِ
٣
مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ ٱلْخَنَّاسِ
٤
ٱلَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ ٱلنَّاسِ
٥
مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ
٦
-الناس

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعوذ من شر الوسواس الخناس والسورة مدنية كسابقتها على ما يستفاد مما ورد في سبب نزولها بل المستفاد من الروايات أن السورتين نزلتا معاً.
قوله تعالى: { قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس } من طبع الإِنسان إذا أقبل عليه شر يحذره ويخافه على نفسه وأحس من نفسه الضعف أن يلتجئ بمن يقوى على دفعه ويكفيه وقوعه والذي يراه صالحاً للعوذ والاعتصام به أحد ثلاثة إما رب يلي أمره ويدبره ويربيه يرجع إليه في حوائجه عامة، ومما يحتاج إليه في بقائه دفع ما يهدده من الشر، هذا سبب تام في نفسه، وإما ذو قوة وسلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك، وهذا أيضاً سبب تام مستقل في نفسه.
وهناك سبب ثالث وهو الإِله المعبود فإن لازم معبودية الإِله وخاصة إذا كان واحداً لا شريك له إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه ولا يرجع في شيء من حوائجه إلا إليه فلا يريد إلا ما أراده ولا يعمل إلا ما يشاؤه.
والله سبحانه رب الناس وملك الناس وإله الناس كما جمع الصفاة الثلاث لنفسه في قوله:
{ ذلٰكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون } [الزمر: 6] وأشار تعالى إلى سببية ربوبيته وألوهيته بقوله: { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلاً } [المزمل: 9]، وإلى سببية ملكه بقوله: { له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور } [الحديد: 5] فإن عاذ الإِنسان من شر يهدده إلى رب فالله سبحانه هو الرب لا رب سواه وإن أراد بعوذه ملكاً فالله سبحانه هو { له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } [التغابن: 1] وإن أراد لذلك إلهاً فهو الإِله لا إله غيره.
فقوله تعالى: { قل أعوذ برب الناس } الخ أمر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعوذ به لأنه من الناس وهو تعالى رب الناس ملك الناس إله الناس.
ومما تقدم ظهر أولاً وجه تخصيص الصفات الثلاث: الرب والملك والإِله من بين سائر صفاته الكريمة بالذكر وكذا وجه ما بينها من الترتيب فذكر الرب أولاً لأنه أقرب من الإِنسان وأخص ولاية ثم الملك لأنه أبعد منالاً وأعم ولاية يقصده من لا ولي له يخصه ويكفيه ثم الإِله لأنه ولي يقصده الإِنسان عن إخلاصه لا عن طبعه المادي.
وثانياً: وجه عدم وصل قوله: { ملك الناس إله الناس } بالعطف وذلك للإِشارة إلى كون كل من الصفات سبباً مستقلاً في دفع الشر فهو تعالى سبب مستقل لكونه رباً لكونه ملكاً لكونه إلهاً فله السببية بأي معنى أُريد السبب وقد مر نظير الوجه في قوله { الله أحد الله الصمد }.
وبذلك يظهر أيضاً وجه تكرار لفظ الناس من غير أن يقال: ربهم وإلههم فقد أُشير به إلى أن كلا من الصفات الثلاث يمكن أن يتعلق بها العوذ وحدها من غير ذكر الاخريين لاستقلالها ولله الأسماء الحسنى جميعاً، وللقوم في توجيه اختصاص هذه الصفات وسائر ما مر من الخصوصيات وجوه لا تغني شيئاً.
قوله تعالى: { من شرِّ الوسواس الخنَّاس } قال في المجمع: الوسواس حديث النفس بما هو كالصوت الخفي انتهى فهو مصدر كالوسوسة كما ذكره وذكروا أنه سماعي والقياس فيه كسر الواو كسائر المصادر من الرباعي المجرد وكيف كان فالظاهر كما استظهر أن المراد به المعنى الوصفي مبالغة، وعن بعضهم أنه صفة لا مصدر.
والخنّاس صيغة مبالغة من الخنوس بمعنى الاختفاء بعد الظهور قيل: سمي الشيطان خناساً لأنه يوسوس للإِنسان فإذا ذكر الله تعالى رجع وتأخر ثم إذا غفل عاد إلى وسوسته.
قوله تعالى: { الذي يوسوس في صدور الناس } صفة للوسواس الخناس، والمراد بالصدور هي النفوس لأن متعلق الوسوسة هو مبدأ الإِدراك من الإِنسان وهو نفسه وإنما أُخذت الصدور مكاناً للوسواس لما أن الإِدراك ينسب بحسب شيوع الاستعمال إلى القلب والقلب في الصدر كما قال تعالى:
{ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [الحج: 46]. قوله تعالى: { من الجنة والناس } بيان للوسواس الخناس وفيه إشارة إلى أن من الناس من هو ملحق بالشياطين وفي زمرتهم كما قال تعالى: { شياطين الإِنس والجن } [الأنعام: 112]. (بحث روائي)
في المجمع: أبو خديجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو شاك فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة.
أقول: وتقدم بعض الروايات الواردة في سبب نزول السورة.
وفيه روي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس وإذا نسي التقم فذلك الوسواس الخناس"
]. وفيه روي العياشي بإسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أُذنان أُذن ينفث فيها الملك وأُذن ينفث فيها الوسواس الخناس فيؤيد الله المؤمن بالملك، وهو قوله سبحانه: { وأيدهم بروح منه }"
]. وفي أمالي الصدوق بإسناده إلى الصادق عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } صعد إبليس جبلاً بمكة يقال له ثوير فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك فقال لست لها.
فقال الوسواس الخنّاس: أنا لها. قال: بماذا؟ قال: أعدهم وأُمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة.
أقول: تقدم بعض الكلام في الشيطان في أوائل الجزء الثامن من الكتاب.