التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ
٧
إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٨
ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ
٩
قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ
١٠
قَالُواْ يَٰأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَىٰ يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
١١
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
١٢
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِيۤ أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ
١٣
قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ
١٤
فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُوۤاْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَٰبَتِ ٱلْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـٰذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٥
وَجَآءُوۤا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ
١٦
قَالُواْ يَٰأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ
١٧
وَجَآءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ
١٨
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ قَالَ يٰبُشْرَىٰ هَـٰذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
١٩
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّاهِدِينَ
٢٠
وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢١
-يوسف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
شروع في القصة بعد ذكر البشارة التي هي كالمقدمة الملوحة إلى إجمال الغاية التي تنتهي إليها القصة، والآيات تتضمن الفصل الأول من فصول القصة وفيه مفارقة يوسف ليعقوب عليه السلام وخروجه من بيت أبيه إلى استقراره في بيت العزيز بمصر، وقد حدث خلال هذه الأحوال أن ألقاه إخوته في البئر وأخرجته السيارة منها، وباعه إخوته من السيارة، وهم حملوه إلى مصر وباعوه من العزيز فبقي عنده.
قوله تعالى: { لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين } شروع في القصة وفيه التنبيه على أن القصة مشتملة على آيات إلهية دالة على توحيد الله سبحانه، وأنه هو الولي يلي أمور عباده المخلصين حتى يرفعهم إلى عرش العزة، ويثبتهم في أريكة الكمال فهو تعالى الغالب على أمره يسوق الأسباب إلى حيث يشاء لا إلى حيث يشاء غيره ويستنتج منها ما يريد لا ما هو اللائح الظاهر منها.
فهذه إخوة يوسف عليه السلام حسدوا أخاهم وكادوه وألقوه في قعر بئر ثم شروه من السيارة عبداً يريدون بذلك أن يسوقوه إلى الهلاك فأحياه الله بعين هذا السبب اللائح منه الهلاك. وأن يذللوه فأعزه الله بعين سبب التذليل، ووضعوه فرفعه الله بعين سبب الوضع والخفض، وأن يحولوا حب أبيهم إلى أنفسهم فيخلوا لهم وجه أبيهم فعكس الله الأمر، وذهبوا ببصر أبيهم حيث نعوا إليه يوسف بقميصه الملطخ بالدم فأعاد الله إليه بصره بقميصه الذي جاء به إليه البشير وألقاه على وجهه.
ولم يزل يوسف عليه السلام كلما قصده قاصد بسوء أنجاه الله منه وجعل فيه ظهور كرامته وجمال نفسه، وكلما سير به في مسير أو ركب في سبيل يهديه إلى هلكة أو رزية هداه الله بعين ذلك السبيل إلى غاية حسنة ومنقبة شريفة ظاهرة، وإلى ذلك يشير يوسف عليه السلام حيث يعرف نفسه لإِخوته ويقول:
{ { أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } } [يوسف: 90]، ويقول لأبيه بحضرة من إخوته: { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتي } ثم تأخذه الجذبة الإلهية فيقبل بكلية نفسه الوالهة إلى ربه ويعرض عن غيره فيقول: { { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة } } [يوسف: 101]. وفي قوله تعالى: { للسائلين } دلالة على أنه كان هناك جماعة سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القصة أو عما يرجع بوجه إلى القصة فأنزلت في هذه السورة.
قوله تعالى: { إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين } ذكر في المجمع أن العصبة هي الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض، ويقع على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر، وقيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، ولا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر. انتهى.
وقوله: { إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا } القائلون هم أبناء يعقوب ما خلا يوسف وأخاه الذي ذكروه معه، وكانت عدتهم عشرة وهم رجال أقوياء بيدهم تدبير بيت أبيهم يعقوب وإدارة مواشيه وأمواله كما يدل عليه قولهم: { ونحن عصبة }.
وقولهم: { ليوسف وأخوه } بنسبته إلى يوسف مع أنهم جميعاً أبناء ليعقوب وإخوة فيما بينهم يشعر بأن يوسف وأخاه هذا كانا أخوين لأُم واحدة وأخوين لهؤلاء القائلين لأب فقط، والروايات تذكر أن اسم أخى يوسف هذا "بنيامين"، والسياق يشهد أنهما كانا صغيرين لا يقومان بشيء من أمر بيت يعقوب وتدبير مواشيه وأمواله.
وقولهم: { ونحن عصبة } أي عشرة أقوياء مشدود ضعف بعضنا بقوة بعض، وهو حال عن الجملة السابقة يدل على حسدهم وحنقهم لهما وغيظهم على أبيهم يعقوب في حبه لهما أكثر منهم، وهو بمنزلة تمام التعليل لقولهم بعده: { إن أبانا لفى ضلال مبين }.
وقولهم: { إن أبانا لفي ضلال مبين } قضاء منهم على أبيهم بالضلال ويعنون بالضلال الاعوجاج في السليقة وفساد السيرة دون الضلال في الدين.
أما أولاً: فلأن ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم أنهم جماعة إخوان أقوياء متعاضدون متعصب بعضهم لبعض يقومون بتدبير شؤون أبيهم الحيوية وإصلاح معاشه ودفع كل مكروه يواجهه، ويوسف وأخوه طفلان صغيران لا يقويان من أُمور الحياة على شيء، وليس كل منها إلا كلا عليه وعليهم، وإذا كان كذلك كان توغل أبيهم في حبهما واشتغاله بكليته بهما دونهم وإقباله عليهما بالإِعراض عنهم طريقة معوجة غير مرضية فإن حكمة الحياة تستدعى أن يهتم الإِنسان بكل من أسبابه ووسائله على قدر ما له من التأثير، وقصر الإِنسان اهتمامه على من هو كل عليه ولا يغني عنه طائلاً والإِعراض عمن بيده مفاتيح حياته وأزمة معاشه ليس إلا ضلالاً من صراط الاستقامة واعوجاجاً في التدبير، وأما الضلال في الدين فله أسباب أُخر كالكفر بالله وآياته ومخالفة أوامره ونواهيه.
وأما ثانياً: فلأنهم كانوا مؤمنين بالله مذعنين بنبوة أبيهم يعقوب كما يظهر من قولهم: { وتكونوا من بعده قوماً صالحين } وقولهم أخيراً:
{ يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا } [يوسف: 97] وقولهم ليوسف أخيراً: { تالله لقد آثرك الله علينا } وغير ذلك، ولو أرادوا بقولهم: { إن أبانا لفي ضلال مبين } ضلاله في الدين لكانوا بذلك كافرين.
وهم مع ذلك كانوا يحبون أباهم ويعظمونه ويوقرونه، وإنما فعلوا بيوسف ما فعلوا ليخلص لهم حب أبيهم كما قالوا: { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم } فهم - كما يدل عليه هذا السياق - كانوا يحبونه ويحبون أن يخلص لهم حبه، ولو كان خلاف ذلك لا نبعثوا بالطبع إلى ان يبدأوا بأبيهم دون أخيهم وأن يقتلوا يعقوب أو يعزلوه أو يستضعفوه حتى يخلو لهم الجو ويصفو لهم الأمر ثم الشأن في يوسف عليهم أهون.
ولقد جبهوا أباهم أخيراً بمثل قولهم هذا حين قال لهم
{ إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم } } [يوسف: 94ـ95]، ومن المعلوم أن ليس المراد به الضلال في الدين بل الإِفراط في حب يوسف والمبالغة في أمره بما لا ينبغي.
ويظهر من الآية وما يرتبط بها من الآيات أنه كان يعقوب عليه السلام يسكن البدو وكان له اثنا عشر ابنا وهم أولاد علة، وكان عشرة منهم كباراً هم عصبة أولو قوة وشدة يدور عليهم رحى حياته ويدبر بأيديهم أمور أمواله ومواشيه، وكان اثنان منهم صغيرين أخوين لأم واحدة في حجر أبيهما وهما يوسف وأخوه لأمه وأبيه، وكان يعقوب عليه السلام مقبلاً إليهما يحبهما حباً شديداً لما يتفرس في ناصيتهما من آثار الكمال والتقوى لا لهوى نفساني فيهما كيف؟ وهو من عباد الله المخلصين الممدوح بمثل قوله تعالى:
{ { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } } [ص: 46] وقد تقدمت الإِشارة إلى ذلك.
فكان هذا الحب والإِيثار يثير حسد سائر الإِخوة لهما ويؤجج نائرة الإِضغان منهم عليهما ويعقوب عليه السلام يتفرس ذلك ويبالغ في حبهما وخاصة في حب يوسف وكان يخافهم عليه ولا يرضى بخلوتهم به ولا يأمنهم عليه، وذلك يزيد في حسدهم وغيظهم فصار يتفرس من وجوههم الشر والمكر كما مرت استفادته من قوله: { فيكيدوا لك كيداً } حتى رآى يوسف الرؤيا وقصها لأبيه فزاد بذلك إشفاق أبيه عليه وازداد حبه له ووجده فيه، وأوصاه أن يكتم رؤياه ولا يخبر إخوته بها لعله يأمن بذلك كيدهم لكن التقدير غلب تدبيره.
فاجتمع الكبار من بنى يعقوب وتذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من أمر أبيهم وما يصنعه بيوسف وأخيه حيث يشتغل بهما عنهم ويؤثرهما عليهم وهما طفلان صغيران لا يغنيان عنه بطائل وهم عصبة أولو قوة وشدة أركان حياته وأياديه الفعالة في دفع كل رزية عادية وجلب منافع المعيشة وإدارة الأموال والمواشى، وليس من حسن السيرة واستقامة الطريقة إيثار هذين الضعيفين على ضعفهما على أولئك العصبة القوية على قوتهم فذموا سيرة أبيهم وحكموا بأنه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه.
ولم يريدوا برمي أبيهم بالضلال الضلال في الدين حتى يكفروا بذلك بل الضلال في مشيئته الاجتماعية كما توفرت بذلك شواهد الآيات وقد تقدمت الإِشارة إليها.
وبذلك يظهر ما في مختلف التفاسير من الانحراف في تقرير معنى الآية:
منها: ما ذكره بعضهم أن هذا الحكم منهم بضلال أبيهم عن طريق العدل والمساواة جهل مبين وخطأ كبير لعل سببه اتهامهم إياه بإفراطه في حب أمهما من قبل فيكون مثاره الأول اختلاف الأمهات بتعدد الزوجات ولا سيما الإِماء منهن وهو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد وضعافهم وكانا أصغر أولاده.
قال: ومن فوائد القصة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة والعدل، وانقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم ومنه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً، ومنه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله تعالى بالمواهب الفطرية كمكارم الأخلاق والتقوى والعلم والذكاء.
وما كان يعقوب بالذي يخفى عليه هذا، وما نهى يوسف عن قص رؤياه عليهم إلا من علمه بما يجب فيه، ولكن ما يفعل الإِنسان بغريزته وقلبه وروحه؟ أيستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه؟ كلا. انتهى.
أما قوله: إن منشأ حسدهم وبغيهم اختلاف الأمهات وخاصة الإِماء منهن "الخ" ففيه: إن استدعاء اختلاف الأمهات اختلاف الأولاد وإن كان مما لا يسوغ إنكاره، ووجود ذلك في المورد محتمل، لكن السبب المذكور في كلامه تعالى لذلك غير هذا، ولو كان هو السبب الوحيد لفعلوا بأخى يوسف ما فعلوا به ولم يقنعوا به.
وأما قوله: وهو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد وضعافهم ومفاده أن محبة يعقوب ليوسف إنما كانت رقة وترحماً غريزياً منه لصغرهما كما هو المشهود من الآباء بالنسبة إلى صغار أولادهم ما داموا صغاراً فإذا كبروا انتقلت إلى من هو أصغر منهم.
ففيه: إن هذا النوع من الحب المشوب بالرقة والترحم مما يسلمه الكبار للصغار وينقطعون عن مزاحمتهم ومعارضتهم في ذلك، ترى كبراء الأولاد إذا شاهدوا زيادة اهتمام الوالدين بصغارهم وضعفائهم واعترضوا بأن ذلك خلاف التعديل والتسوية فأجيبوا بأنهم صغار ضعفاء يجب أن يرق لهم ويرحموا ويعانوا حتى يصلحوا للقيام على ساقهم في أمر الحياة سكتوا وانقطعوا عن الاعتراض وأقنعهم ذلك.
فلو كانت صورة حب يعقوب ليوسف وأخيه صورة الرقة والرأفة والرحمة لهما لصغرهما وهى التي يعهدها كل من العصبة في نفسه ويذكرها من أبيه له في حال صغره لم يعيبوها ولم يذموا أباهم عليها ولكان قولهم: { ونحن عصبة } دليلاً عليهم يدل على ضلالهم في نسبة أبيهم إلى الضلال لا دليلاً لهم يدل على ضلال أبيهم في زيادة حبه لهما.
على أنهم قالوا لأبيهم حينما كلموا أباهم في أمر يوسف: { ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } ومن المعلوم أن إكرامه ليوسف وضمه إليه ومراقبته له وعدم أمن أحد منهم عليه، أمر وراء المحبة بالرقة والرحمة له ولصغره وضعفه.
وأما قوله: وما كان يعقوب يخفى عليه هذا إلى آخر ما قال ومعناه أن هوى يعقوب في ابنه صرفه عن الواجب في تربية أولاده على علم منه بأن ذلك خلاف العدل والانصاف وأنه سيدفعه إلى بلوى في أولاده ثم تعذيره بأن مخالفة هوى القلب وعلقة الروح مما لا يستطيعه الإِنسان.
ففيه أنه إفساد للأصول المسلمة العقلية والنقلية التي يستنتج منها حقائق مقامات الأنبياء والعلماء بالله من الصديقين والشهداء والصالحين وما بني عليه البحث عن كرائم الأخلاق أن الإِنسان بحسب فطرته في سعة من التخلق بها ومحق الرذائل النفسانية التي أصلها وأساسها اتباع هوى النفس، وإيثار مرضاة الله سبحانه على كل مرضاة وبغية، وهذا أمر نرجوه من كل من ارتاض بالرياضات الخلقية من أهل التقوى والورع فما الظن بالأنبياء ثم بمثل يعقوب عليه السلام منهم.
وليت شعري إذا لم يكن في استطاعة الإِنسان أن يخالف هوى نفسه في أمثال هذه الأُمور فما معنى هذه الأوامر والنواهي الجمة في الدين المتعلقة بها وهل هي إلا مجازفة صريحة.
على أن فيما ذكره إزراء لمقامات أنبياء الله وأوليائه وحطاً لمواقفهم العبودية إلى درجة المتوسطين من الناس أُسراء هوى أنفسهم الجاهلين بمقام ربهم، وقد عرف سبحانه أنبياء بمثل قوله:
{ { واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم } } [الأنعام: 87] وقال في يعقوب وأبويه إبراهيم وإسحاق عليهما السلام: { وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } [الأنبياء: 72ـ73]، وقال فيهم أيضاً: { { إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } } [ص: 46]. فاخبر أنه هداهم إلى مستقيم صراطه ولم يقيد ذلك بقيد، وأنه اجتباهم وجمعهم وأخلصهم لنفسه فهم مخلصون - بفتح اللام - لله سبحانه لا يشاركه فيهم مشارك. فلا يبتغون إلا ما يريده من الحق ولا يؤثرون على مرضاته مرضاة غيره سواء كان ذلك الغير أنفسهم أو غيره، وقد كرر سبحانه في كلامه حكاية إغواء بنى آدم عن الشيطان واستثنى المخلصين: { { لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } } [ص: 82ـ83]. فالحق أن يعقوب إنما كان يحب يوسف وأخاه في الله سبحانه لما كان يتفرس منهما التقوى والكمال ومن يوسف خاصة ما كانت تدل عليه رؤياه أن الله سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، ولم يكن حبه هوى البتة.
ومنها: ما ذكره بعضهم أن مرادهم من قولهم: { إن أبانا لفى ضلال مبين } ضلاله في الدين، وقد عرفت أن سياق الآيات الكريمة يدفعه.
ويقابل هذا القول بوجه قول آخرين: إن إخوة يوسف كانوا أنبياء وإنما نسبوا أباهم إلى الضلال في سيرته والعدول في أمرهم عن العدل والاستقامة، وإذا اعترض عليهم بما ارتكبوه من المعصية والظلم في أخيهم وأبيهم. أجابوا عنه بأن ذلك كانت معصية صغيرة صدرت عنهم قبل النبوة أو لا بأس به بناء على جواز صدور الصغائر عن الأنبياء قبل النبوة وربما أُجيب بجواز أن يكونوا حين صدور المعصية صغاراً مراهقين ومن الجائز صدور أمثال هذه الأمور عن الأطفال المراهقين. وهذه أوهام مدفوعة، وليس قوله تعالى:
{ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } [النساء: 163] الظاهر في نبوة الأسباط صريحاً في إخوة يوسف.
والحق أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء بل كانوا أولاد أنبياء حسدوا يوسف وأذنبوا بما ظلموا يوسف الصديق ثم تابوا إلى ربهم وأصلحوا وقد استغفر لهم يعقوب ويوسف عليه السلام كما حكى الله عن أبيهم قوله:
{ سوف أستغفر لكم ربي } } [يوسف: 98] بعد قولهم: { يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين } وعن يوسف قوله: { يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } } [يوسف: 92] بعد اعترافهم له بقولهم: { وإن كنا لخاطئين }.
ومنها: قول بعضهم: إن إخوة يوسف إنما حسدوه بعدما قص عليهم رؤياه وقد كان يعقوب نهاه أن يقص رؤياه على إخوته والحق أن الرؤيا إنما أوجبت زيادة حسدهم وقد لحق بهم الحسد قبل ذلك كما مر بيانه.
قوله تعالى: { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين } تتمة قول إخوة يوسف والآية تتضمن الفصل الثاني من مؤامرتهم في مؤتمرهم الذي عقدوه في أمر يوسف ليرسموا بذلك خطة تريح نفوسهم منه كما ذكره تعالى بقوله:
{ وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } } [يوسف: 102]. وقد ذكر الله سبحانه متن مؤامرتهم في هذه الآيات الثلاث: { قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة } إلى قوله { إن كنتم فاعلين }.
فأوردوا أولاً ذكر مصيبتهم في يوسف وأخيه إذ صرفا وجه يعقوب عنهم إلى أنفسهما وجذبا نفسه إليهما عن سائر الأولاد فصار يلتزمهما ولا يعبأ بغيرهما ما فعلوا، وهذه محنة حالة بهم توعدهم بخطر عظيم في مستقبل الأمر فيه سقوط شخصيتهم وخيبة مسعاهم وذلتهم بعد العزة وضعفهم بعد القوة، وهو انحراف من يعقوب في سيرته وطريقته.
ثم تذاكروا ثانياً في طريق التخلص من الرزية بطرح كل منهم ما هيأه من الخطة ويراه من الرأى فأشار بعضهم إلى لزوم قتل يوسف، وآخرون إلى طرحه أرضاً بعيدة لا يستطيع معه العود إلى أبيه واللحوق بأهله فينسى بذلك اسمه ويمحو رسمه فيخلو وجه أبيهم لهم وينبسط حبه وحبائه فيهم.
ثم اتفقوا على ما يقرب من الرأى الثاني وهو أن يلقوه في قعر بئر ليلتقطه بعض السيارة ويذهبوا به إلى بعض البلاد النائية البعيدة فينقطع بذلك خبره ويعفى أثره.
فقوله تعالى: { اقتلوا يوسف } حكاية لأحد الرأيين منهم في أمره، وفي ذكرهم يوسف وحده - وقد ذكروا في مفتتح كلامهم في المؤامرة يوسف وأخاه معا: { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا } - دليل على أنه كان مخصوصاً بمزيد حب يعقوب وبلوغ عنايته واهتمامه وإن كان أخوه أيضاً محبواً بالحب والإِكرام من بينهم وكيف لا؟ ويوسف هو الذي رأى الرؤيا وبشر بأخص العنايات الإلهية والكرامات الغيبية، وقد كان أكبرهما والخطر المتوجه من قبله إليهم أقرب مما من قبل أخيه، ولعل في ذكر الأخوين معاً إشارة إلى حب يعقوب لأُمهما الموجب لحبه بالطبع لهما وتهييج حسد الإِخوة وغيظهم وحقدهم بالنسبة إليهما.
وقوله: { أو اطرحوه أرضاً } حكاية رأيهم الثاني فيه، والمعنى صيروه أو غربوه في أرض لا يقدر معه على العود إلى بيت أبيه فيكون كالمقتول ينقطع أثره ويستراح من خطره كإلقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء ونظير ذلك.
والدليل عليه تنكير "أرض" ولفظ الطرح الذي يستعمل في إلقاء الانسان المتاع أو الأثاث الذي يستغنى عنه ولا ينتفع به للإِعراض عنه.
وفي نسبة الرأيين بالترديد إليهم، دليل على أن مجموع الرأيين كان هو المرضي عند أكثر الإِخوة حتى قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف الخ.
وقوله: { يخل لكم وجه أبيكم } أي افعلوا به أحد الأمرين حتى يخلو لكم وجه أبيكم وهو كناية عن خلوص حبه لهم بارتفاع المانع الذي يجلب الحب والعطف إلى نفسه كأنهم ويوسف إذا اجتمعوا وأباهم حال يوسف بينه وبينهم وصرف وجهه إلى نفسه فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم واختص حبه بهم وانحصر إقباله عليهم. وقوله: { وتكونوا من بعده قوماً صالحين } أي وتكونوا من بعد يوسف أو من بعد قتله أو نفيه - والمآل واحد - قوماً صالحين بالتوبة من هذه المعصية.
وفي هذا دليل على أنهم كانوا يرونه ذنباً وإثماً، وكانوا يحترمون أمر الدين ويقدسونه لكن غلبهم الحسد وسولت لهم أنفسهم اقتراف الذنب وارتكاب المظلمة وآمنهم من عقوبة الذنب بتلقين طريق يمكنهم من الاقتراف من غير لزوم العقوبة الإلهية وهو أن يقترفوا الذنب ثم يتوبوا.
وهذا من الجهل فإن التوبة التي شأنها هذا الشأن غير مقبولة البتة فإن من يوطن نفسه من قبل على المعصية ثم التوبة منها لا يقصد بتوبته الرجوع إلى الله والخضوع لمقامه حقيقة بل إنما يقصد المكر بربه في دفع ما أوعده من العذاب والعقوبة مع المخالفة لأمره أو نهيه، فتوبته ذيل لما وطن عليه نفسه أولاً: أن يذنب فيتوب فهى في الحقيقة تتمة ما رامه أولاً من نوع المعصية وهو الذنب الذي تعقبه توبة وليست رجوعاً إلى ربه بالندم على ما فعل وقد تقدم البحث عن معنى التوبة في تفسير قوله تعالى:
{ { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } [النساء: 17] الآية. في الجزء الرابع من الكتاب.
وقيل المراد بالصلاح في الآية صلاح الأمر من حيث سعادة الحياة الدنيا وانتظام الأمور فيها والمعنى وتكونوا من بعده قوماً صالحين بصلاح أمركم مع أبيكم.
قوله تعالى: { قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين } الجب هو البئر التي لم يطو أي لم يبن داخلها بالحجارة، وإن بني بها سميت البئر طوياًَ، والغيابة بفتح الغين المنهبط من الأرض الذي يغيب ما فيه من الأنظار وغيابة الجب قعره الذي لا يرى لما فيه من الظلمة.
وقد اختار هذا القائل الرأى الثاني المذكور في الآية السابقة الذي يشير إليه قوله: { أو اطرحوه أرضاً } إلا أنه قيده بما يؤمن معه القتل أو أمر آخر يؤدي إلى هلاكه كأن يلقى في بئر ويترك فيها حتى يموت جوعاً أو ما يشاكل ذلك، فما أبداه من الرأى يتضمن نفي يوسف من الأرض من غير أن يتسبب إلى هلاكه بقتل أو موت أو نقص يشبهه فيكون إهلاكاً لذي رحم، وهو أن يلقى في بعض الآبار التي على طريق المارة حتى يعثروا به عند الاستقاء فيأخذوه ويسيروا به إلى بلاد نائية تعفو أثره وتقطع خبره، والسياق يشهد بأنهم ارتضوا هذا الرأي إذ لم يذكر رد منهم بالنسبة إليه وقد جرى عملهم عليه كما هو مذكور في الآيات التالية.
واختلف المفسرون في اسم هذا القائل بعد القطع بأنه كان أحد أخوته لقوله تعالى: { قال قائل منهم } فقيل: هو روبين ابن خالة يوسف، وقيل: هو يهوذا، وقد كان أسنهم وأعقلهم، وقيل: هو لاوى، ولا يهمنا البحث فيه بعد ما سكت القرآن عن تعريفه باسمه لعدم ترتب فائدة هامة عليه.
وذكر بعضهم: إن تعريف الجب باللام يدل على أنه كان جباً معهوداً فيما بينهم. وهو حسن لو لم يكن اللام للجنس، وقد اختلفوا أيضاً في أن هذا الجب أين كان هو؟ على أقوال مختلفة لا يترتب على شيء منها فائدة طائلة.
قوله تعالى: { قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } أصل { لا تأمنا } لا تأمننا ثم ادغم بالأدغام الكبير.
والآية تدل على أن الإِخوة أجمعوا على قول القائل: لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب، وأجمعوا على أن يمكروا بأبيهم فيأخذوا يوسف ويفعلوا به ما عزموا عليه وقد كان أبوهم لا يأمنهم على يوسف ولا يخليه وإياهم فكان من الواجب قبلاً أن يزكوا أنفسهم عند أبيهم ويجلّوا قلبه من كدر الشبهة والارتياب حتى يتمكنوا من أخذه والذهاب به. ولذلك جاؤوا أباهم وخاطبوه بقولهم: { يا أبانا } وفيه إثارة للعطف والرحمة وإيثار للمودة { ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } أي والحال أنا لا نريد به إلا الخير ولا نبتغي إلا ما يرضيه ويسره.
ثم سألوه ما يريدونه وهو أن يرسله معهم إلى مرتعهم الذي كانوا يخرجون إليه ماشيتهم وغنمهم ليرتع ويلعب هناك، وهم حافظون له فقالوا: { أرسله معنا } الخ.
قوله تعالى: { أرسله معنا غداً يرتع ويلعب وإنا له لحافظون } الرتع هو توسع الحيوان في الرعي والإِنسان في التنزه وأكل الفواكه ونحو ذلك.
وقولهم: { أرسله معنا غداً يرتع ويلعب } اقتراح لمسؤولهم كما تقدمت الإِشارة إليه وقولهم: { وإنا لحافظون } اكدوه بوجوه التأكيد: إن واللام والجملة الاسمية على وزان قولهم: { وإنا له لناصحون } كما يدل أن كل واحدة من الجملتين تتضمن نوعاً من التطيب لنفس أبيهم كأنهم قالوا: ما لك لا تأمنا على يوسف فإن كنت تخاف عليه ايانا معشر الإِخوة كأن نقصده بسوء فإنا له لناصحون وإن كنت تخاف عليه غيرنا مما يصيبه أو يقصده بسوء كأن يدهمه المكروه ونحن مساهلون في حفظه ومستهينون في كلاءته فإنا له لحافظون.
فالكلام مسوق على ترتيبه الطبعي: ذكروا أولاً أنه في أمن من ناحيتهم دائماً ثم سألوا أن يرسله معهم غداة غد ثم ذكروا أنهم حافظون له ما دام عندهم، وبذلك يظهر أن قولهم: { وإنا له لناصحون } تأمين له دائمي من ناحية أنفسهم، وقولهم: { وإنا له لحافظون } تأمين له موقت من غيرهم.
قوله تعالى: { قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } هذا ما ذكر أبوهم جواباً لما سألوه، ولم ينف عن نفسه أنه لا يأمنهم عليه وإنما ذكر ما يأخذه من الحالة النفسانية لو ذهبوا به فقال وقد أكد كلامه: { إني ليحزنني أن تذهبوا به } وقد كشف عن المانع أنه نفسه التي يحزنها ذهابهم به لا ذهابهم به الموجب لحزنه تلطفاً في الجواب معهم ولئلا يهيج ذلك عنادهم ولجاجهم وهو من لطائف النكت.
واعتذر إليهم في ذلك بقوله: { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } وهو عذر موجه فإن الصحاري ذوات المراتع التي تأوى إليها المواشي وترتع فيها الأغنام لا تخلو طبعاً من ذئاب أو سباع تقصدها وتكمن فيها للافتراس والاصطياد فمن الجائز أن يقبلوا على بعض شأنهم ويغفلوا عنه فيأكله الذئب.
قوله تعالى: { قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون } تجاهلوا لأبيهم كأنهم لم يفقهوا إلا أنه يأمنهم عليه لكن يخاف أن يأكله الذئب على حين غفلة منهم فردوه رد منكر مستغرب، وذكروا لتطيب نفسه أنهم جماعة أقوياء متعاضدون ذوو بأس وشدة، وأقسموا بالله إن أكل الذئب إياه وهم عصبة يقضي بخسرانهم ولن يكونوا خاسرين البتة، وإنما أقسموا - كما يدل عليه لام القسم - ليطيبوا نفسه ويذهبوا بحزنه فلا يمنعهم من الذهاب به، وهذا شائع في الكلام وفي الكلام وعد ضمني منهم له أنهم لن يغفلوا لكنهم لم يلبثوا يوماً حتى كذبوا أنفسهم فيما أقسموا له وأخلفوه ما وعدوه إذ قالوا: { يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب } الآية.
قوله تعالى: { فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب } قال الراغب: أجمعت على كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعاً يتوصل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا أمركم وشركاءكم. قال: ويقال: أجمع المسلمون على كذا اتفقت آراؤهم عليه. انتهى.
وفي المجمع: أجمعوا أي عزموا جميعاً أن يجعلوه في غيابة الجب أي قعر البئر واتفقت دواعيهم عليه فإن من دعاه داع واحد إلى الشيء لا يقال فيه إنه أجمع عليه فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعى. انتهى.
والآية تشعر بأنهم أقنعوا أباهم بما قالوا له من القول وأرضوه أن لا يمنعهم أن يخرجوا يوسف معهم إلى الصحراء فحملوه معهم لإِنفاذ ما ازمعوا عليه من إلقائه في غيابة الجب.
وجواب لما محذوف للدلالة على فجاعة الأمر وفظاعته، وهى صنعة شائعة في الكلام ترى المتكلم يصف أمراً فظيعاً كقتل فجيع يحترق به القلب ولا يطيقه السمع فيشرع في بيان أسبابه والأحوال التي تؤدي إليه فيجري في وصفه حتى إذا بلغ نفس الحادثة سكت سكوتاً عميقاً ثم وصف ما بعد القتل من الحوادث فيدل بذلك على أن صفة القتل بلغت من الفجاعة مبلغاً لا يسع المتكلم أن يصرح به ولا يطيق السامع أن يسمعه.
فكأن الذي يصف القصة - عز اسمه - لما قال: { ولما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب } سكت ملياً وأمسك عن ذكر ما فعلوا به أسى وأسفاً لأن السمع لا يطيق وعي ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبي ابن الأنبياء ولم يأت بجرم يستحق به شيئاً مما ارتكبوه فيه وهم إخوته وهم يعلمون مبلغ حب أبيه النبي الكريم يعقوب له فيا قاتل الله الحسد يهلك شقيقاً مثل يوسف الصديق بأيدي إخوته، ويثكل أباً كريما مثل يعقوب بأيدي أبنائه، ويزين بغياً شنيعاً كهذا في أعين رجال ربوا في حجر النبوة ونشأوا في بيت الأنبياء.
ولما حصل الغرض بالسكوت عن جواب لما جرى سبحانه في ذيل القصة فقال: { وأوحينا إليه } إلخ.
قوله تعالى: { وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } الضمير ليوسف وظاهر الوحي أنه من وحى النبوة، والمراد بأمرهم هذا إلقاؤهم إياه في غيابة الجب، وكذا الظاهر أن جملة { وهم لا يشعرون } حال من الإِيحاء المدلول عليه بقوله: { وأوحينا } "الخ" ومتعلق { لا يشعرون } هو الأمر أي لا يشعرون بحقيقة أمرهم هذا أو الإِيحاء أي وهم لا يشعرون بما أوحينا إليه.
والمعنى - والله أعلم - وأوحينا إلى يوسف أُقسم لتخبرنهم بحقيقة أمرهم هذا وتأويل ما فعلوا بك فإنهم يرونه نفياً لشخصك وإنساء لاسمك وإطفاء لنورك وتذليلاً لك وحطاً لقدرك وهو في الحقيقة تقريب لك إلى أريكة العزة وعرش المملكة وإحياء لذكرك وإتمام لنورك ورفع لقدرك وهم لا يشعرون بهذه الحقيقة وستنبئهم بذلك، وهو قوله لهم وقد اتكى على أريكة العزة وهم قيام أمامه يسترحمونه بقولهم: { يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين } إذ قال: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون } إلى أن قال { أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا } الخ.
انظر إلى موضع قوله: { هل علمتم } فإنه إشارة إلى أن هذا الذي تشاهدونه اليوم من الحال هو حقيقة ما فعلتم بيوسف، وقوله: { إذ أنتم جاهلون } فإنه يحاذي من هذه الآية التي نحن فيها قوله: { وهم لا يشعرون }.
وقيل في معنى الآية وجوه أُخر:
منها: إنك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك، وهو الذي أخبرهم به في مصر وهم لا يعرفونه ثم عرفهم نفسه.
ومنها: أن المراد بإنبائه إياهم مجازاتهم بسوء ما علوا كمن يتوعد من أساء إليه فيقول: لأنبئنك ولأعرفنك.
ومنها: قول بعضهم كما روي عن ابن عباس أن المراد بإنبائه إياهم بأمرهم ما جرى له مع إخوته بمصر حيث رآهم فعرفهم وهم له منكرون فأخذ جاماً فنقره فظن فقال: إن هذا الجام يخبرني أنكم كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجب وبعتموه بثمن بخس.
وهذه وجوه لا تخلو من سخافة والوجه ما قدمناه، وقد كثر ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى في معنى بيان حقيقة العمل كقوله تعالى:
{ إلى الله مرجعكم جميعاً فينبؤكم بما كنتم تعملون } } [المائدة: 105] وقوله: { { وسوف ينبؤهم الله بما كانوا يصنعون } [المائدة: 14] وقوله: { يوم يبعثهم الله جميعاً فينبؤهم بما عملوا } } [المجادلة: 6] إلى غير ذلك من الآيات وهى كثيرة.
ومنها: قول بعضهم: إن المعنى وأوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون بهذا الوحي. وهذا الوجه غير بعيد لكن الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد ولا حاجة إليه ظاهراً.
ومنها: قول بعضهم: إن معنى الآية لتخبرنهم برقي حياتك وعزتك وملكك بأمرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم ويذلهم لك ويجعل رؤياك حقاً وهم لا يشعرون يومئذ بما آتاك الله.
وعمدة الفرق بين هذا القول وما قدمناه من الوجه أن في هذا القول صرف الإِنباء عن الإِنباء الكلامي إلى الإِنباء بالحال الخارجي والوضع العيني، ولا موجب له بعد ما حكاه سبحانه عنه قوله: { هل علمتم ما فعلتم بيوسف } الخ.
قوله تعالى: { وجاؤا أباهم عشاء يبكون } العشاء آخر النهار، وقيل: من صلاة المغرب إلى العتمة، وإنما كانوا يبكون ليلبسوا الأمر على أبيهم فيصدقهم فيما يقولون ولا يكذبهم.
قوله تعالى: { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب } إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات: أصل السبق التقدم في السير نحو { والسابقات سبقاً } والاستباق التسابق وقال: { إنا ذهبنا نستبق } { واستبقا الباب } انتهى، وقال الزمخشري في الكشاف: نستبق أي نتسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل والارتماء والترامى وغير ذلك، والمعنى نتسابق في العدو أو في الرمي. انتهى.
وقال صاحب المنار في تفسيره: إنا ذهبنا نستبق أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره فالاستباق تكلف السبق وهو الغرض من المسابقة والتسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب. وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق، ومنه { فاستبقوا الخيرات } فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، وقوله الآتى في هذه السورة { واستبقا الباب } كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هرباً من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه، وصيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى، ولم يفطن الزمخشري علامة اللغة ومن تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى.
أقول: والذي مثل به من قوله تعالى: { فاستبقوا الخيرات } من موارد الغلب فإن من المندوب شرعاً أن لا يؤثر الإِنسان غيره على نفسه في الخيرات والمثوبات والقربات وأن يتقدم على من دونه في حيازة البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهراً على التسابق وكذا قوله تعالى: { واستبقا الباب } فإن المراد به قطعاً أن كلاً منهما كان يريد أن يسبق الآخر إلى الباب هذا ليفتحه وهذه لتمنعه من الفتح وهو معنى التسابق فالحق أن معنيي الاستباق والتسابق متحدان صدقاً على المورد، وفي الصحاح: سابقته فسبقته سبقاً واستبقنا في العدو أي تسابقنا. انتهى، وفي لسان العرب: سابقته فسبقته، واستبقنا في العدو أي تسابقنا. انتهى.
ولعل الوجه في تصادق استبق وتسابق أن نفس السبق معنى إضافي في نفسه، وزنة "افتعل" تفيد تأكد معنى "فعل" وإمعان الفاعل في فعله وأخذه حلية لنفسه كما يشاهد في مثل كسب واكتسب وحمل واحتمل وصبر واصطبر وقرب واقترب وخفي واختفى وجهد واجتهد ونظائرها، وطرح هذه الخصوصية على معنى السبق على ما به من الإِضافة يفيد جهد الفاعل أن يخص السبق لنفسه ولا يتم إلا مع تسابق في المورد.
وقوله: { بمؤمن لنا } أي بمصدق لقولنا، والإِيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء قال تعالى:
{ { فآمن له لوط } } [العنكبوت: 26]. والمعنى إنهم حينما جاؤوا أباهم عشاء يبكون - قالوا لأبيهم: يا أبانا إنا معشر الإِخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمي - ولعله كان في عدو - فإن ذلك أبلغ في إبعادهم من رحلهم ومتاعهم وكان عنده يوسف على ما ذكروا - وتركنا يوسف عند رحلنا ومتاعنا فأكله الذئب، ومن خيبتنا ومسكنتنا أنك لست بمصدق لنا فيما نقوله ونخبر به ولو كنا صادقين فيه.
وقولهم: { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الأسباب وانسدت عليه طرق الحيلة، للدلالة على أن كلامه غير موجه عند من يعتذر إليه وعذره غير مسموع هو يعلم بذلك لكنه مع ذلك مضطر أن يخبر بالحق ويكشف عن الصدق وإن كان غير مصدق فيه، فهو كناية عن الصدق في المقال.
قوله تعالى: { وجاؤا على قميصه بدم كذب } الكذب بالفتح فالكسر مصدر أُريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بين الكذب.
وفي الآية إشعار بأن القميص وعليه دم - وقد نكر الدم للدلالة على هو ان دلالته وضعفها على ما وصفوه - كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فإن من افترسته السباع وأكلته لم تترك له قميصاً سالماً غير ممزق: وهذا شأن الكذب لا يخلو الحديث الكاذب ولا الأحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه وتناقض بين أطرافه أو شواهد من أوضاع وأحوال خارجية تحف به وتنادي بالصدق وتكشف القناع عن قبيح سريرته وباطنه وإن حسنت صورته.
(كلام في أن الكذب لا يفلح)
من المجرب أن الكذب لا يدوم على اعتباره وأن الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو ادعاه، والوجه فيه أن الكون يجري على نظام يرتبط به بعض أجزائه ببعض بنسب وإضافات غير متغيرة ولا متبدلة فلكل حادث من الحوادث الخارجية الواقعة لوازم وملزومات متناسبة لا ينفك بعضها من بعض، ولها جميعاً فيما بينها أحكام وآثار يتصل بعضها ببعض، ولو اختل واحد منها لاختل الجميع وسلامة الواحد تدل على سلامة السلسلة. وهذا قانون كلي غير قابل لورود الاستثناء عليه.
فلو انتقل مثلاً جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه أن يفارق المكان الأول ويبتعد منه ويغيب عنه وعن كل ما يلازمه ويتصل به ويخلو عنه المكان الأول ويشغل به الثاني وأن يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم، ولو اختل واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلاً للمكان الأول اختلت جميع اللوازم المحدقة به.
وليس في وسع الإِنسان ولا أي سبب مفروض إذا ستر شيئاً من الحقائق الكونية بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات والملزومات المرتبطة به أو أن يخرجها عن محالها الواقعية أو يحرفها عن مجراها الكونية فإن ألقى ستراً على واحدة منها ظهرت الأخرى وإلا فالثالثة وهكذا.
ومن هنا كانت الدولة للحق وإن كانت للباطل جولة، وكانت القيمة للصدق وإن تعلقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى:
{ إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } [الزمر: 3] وقال: { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } [غافر: 28]. وقال: { إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون } } [النحل: 116] وقال: { { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج } [ق: 5] وذلك أنهم لما عدوا الحق كذباً بنوا على الباطل واعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض أجزائه بعضاً ويدفع طرف منه طرفاً.
قوله تعالى: { قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } هذا جواب يعقوب وقد فوجئ بنعي ابنه وحبيبه يوسف دخلوا عليه وليس معهم يوسف وهم يبكون يخبرونه أن يوسف قد أكله الذئب وهذا قميصه الملطخ بالدم، وقد كان يعلم بمبلغ حسدهم له وهم قد انتزعوه من يده بإلحاح وإصرار وجاؤوا بقميصه وعليه دم كذب ينادى بكذبهم فيما قالوه وأخبروا به.
فأضرب عن قولهم: { إنا ذهبنا نستبق } الخ بقوله: { بل سولت لكم أنفسكم أمراً } والتسويل الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمراً، وأبهم الأمر ولم يعينه ثم أخبر أنه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم وينتقم منهم لنفسه انتقاماً وإنما يكظم ما هجم نفسه كظماً.
فقوله: { بل سولت لكم أنفسكم أمراً } تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف وبيان أنه على علم من أن فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع وإنما يستند إلى مكر مكروه وتسويل من أنفسهم لهم، والكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله: { فصبر جميل } إلى آخر الآية.
وقوله: { فصبر جميل } مدح للصبر وهو من قبيل وضع السبب موضع المسبب والتقدير: سأصبر على ما أصابني فإن الصبر جميل وتنكير الصبر وحذف صفته وإبهامها للإِشارة إلى فخامة أمره وعظم شأنه أو مرارة طعمه وصعوبة تحمله.
وقد فرّع قوله: { فصبر جميل } على ما تقدم للإِشعار بأن الأسباب التي أحاطت به وأفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسع له معها إلا أن يسلك سبيل الصبر، وذلك أنه عليه السلام فقد أحب الناس إليه يوسف وهو ذا يذكر له أنه صار أُكلة للذئب. وهذا قميصه ملطخاً بالدم وهو يرى أنهم كاذبون فيما يخبرونه به، ويرى أن لهم صنعاً في افتقاده ومكراً في أمره ولا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف والتجسس مما آل إليه أمره وأين هو؟ وما حاله؟ فإنما أعوانه على أمثال هذه النوائب وأعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنما هم أبناؤه وهم عصبة أُولو قوة وشدة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة ووقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ وبماذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلا الصبر.
غير أن الصبر ليس هو أن يتحمل الإِنسان ما حمله من الرزية وينقاد لمن يقصده بالسوء انقياداً مطلقاً كالأرض الميتة التي تطؤها الأقدام وتلعب بها الأيدي فإن الله سبحانه طبع الإِنسان على دفع المكروه عن نفسه وجهزه بما يقدم به على النوائب والرزايا ما استطاع، ولا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإِلهية بل الصبر هو الاستقامة في القلب وحفظ النظام النفساني الذي به يستقيم أمر الحياة الإِنسانية من الاختلال. وضبط الجمعية الداخلية من التفرق والتلاشى ونسيان التدبير واختباط الفكر وفساد الرأى فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره، وغيرهم المنهزمون عند أول هجمة ثم لا يلوون على شيء.
ومن هنا يعلم أن الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة وكسر سورتها إلا أنه ليس تمام السبب في إعادة العافية وإرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصن به الإِنسان لدفع العدو المهاجم، وأما عود نعمة الأمن والسلامة وحرية الحياة فربما احتاج إلى سبب آخر يجر إليه الفوز والظفر، وهذا السبب في ملة التوحيد هو الله عز سلطانه فعلى الإِنسان الموحد إذا نابته نائبة ونزلت عليه مصيبة أن يتحصن أولاً بالصبر حتى لا يختل ما في داخله من النظام العبودي ولا يتلاشى معسكر قواه ومشاعره ثم يتوكل على ربه الذي هو فوق كل سبب راجياً أن يدفع عنه الشر ويوجه أمره إلى غاية صلاح حاله، والله سبحانه غالب على أمره، وقد تقدم شيء من هذا البحث في تفسير قوله تعالى:
{ { واستعينوا بالصبر والصلاة } } [البقرة: 45] في الجزء الأول من الكتاب.
ولهذا كله لما قال يعقوب عليه السلام: { فصبر جميل } عقبه بقوله: { والله المستعان على ما تصفون } فتمم كلمة الصبر بكلمة التوكل نظير ما أتى به في قوله في الآيات المستقبلة: { فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم } الآية: 83 من السورة.
فقوله: { والله المستعان على ما تصفون } - وهو من أعجب الكلام - بيان لتوكله على ربه يقول: أني أعلم أن لكم في الأمر مكراً وأن يوسف لم يأكله ذئب لكنى لا أركن في كشف كذبكم والحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة التي لا تغنى طائلاً بغير إذن من الله ولا أتشحط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر وأُوكل ربي أن يظهر على ما تصفون أن يوسف قد قضي نحبه وصار أُكلة لذئب.
فظهر أن قوله: { والله المستعان على ما تصفون } دعاء في موقف التوكل ومعناه: اللهم إني توكلت عليك في أمرى هذا فكن عوناً لي على ما يصفه بني هؤلاء، والكلمة مبنية على توحيد الفعل فإنها مسوقة سوق الحصر ومعناها أن الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لي غيره فإنه عليه السلام كان يرى أن لا حكم حقاً إلا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه: { إن الحكم إلا لله عليه توكلت }، ولتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل: سأصبر ولم يقل: والله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه وذكر اسم ربه وأن الأمر منوط بحكمه الحق وهو من كمال توحيده وهو مستغرق في وجده وأسفه وحزنه ليوسف غير أنه ما كان يحب يوسف ولا يتوله فيه ولا يجد لفقده إلا لله وفي الله.
قوله تعالى: { وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون } قال الراغب: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره. انتهى، وقال: دلوت الدلو إذا أرسلتها، وأدليتها إذا أخرجتها. انتهى، وقيل بالعكس، وقال: الإِسرار خلاف الإِعلان. انتهى.
وقوله: { قال يا بشرى هذا غلام } إيراده بالفصل مع أنه متفرع وقوعاً على إدلاء الدلو للدلالة على أنه كان أمراً غير مترقب الوقوع فإن الذي يترقب وقوعه عن الإِدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئاً لهم ولذا قال: { قال يا بشرى } ونداء البشرى كنداء الأسف والويل ونظائرهما للدلالة على حضوره وجلاء ظهوره.
وقوله: { والله عليم بما يعملون } مفاده ذم عملهم والإِبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، ويمكن أن يكون المراد به أن ذلك إنما كان بعلم من الله أراد بذلك أن يبلغ يوسف مبلغه الذي قدر له فإنه لو لم يخرج من الجب ولم يسر بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما أوتيه من الملك والعزة.
ومعنى الآية: وجاءت جماعة مارة إلى هناك فأرسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه في الجب ثم لما أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام - وقد تعلق يوسف بالحبل فخرج - فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة والحال أن الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو أن ذلك كان بعلمه تعالى وكان يسير يوسف هذا المسير ليستقر في مستقر العزة والملك والنبوة.
قوله تعالى: { وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين } الثمن البخس هو الناقص عن حق القيمة، ودراهم معدودة أي قليلة والوجه فيه - على ما قيل - أنهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها ولا يعدون إلا القليلة منها والمراد بالدراهم النقود الفضية الدائرة بينهم يومئذ، والشراء هو البيع، والزهد هو الرغبة عن الشيء أو هو كناية عن الاتقاء.
والظاهر من السياق أن ضميري الجمع في قوله: { وشروه } { وكانوا } للسيارة والمعنى أن السيارة الذين أخرجوه من الجب وأسروه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص وهى دراهم معدودة قليلة وكانوا يتقون أن يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم.
ومعظم المفسرين على أن الضميرين لإِخوة يوسف والمعنى أنهم باعوا يوسف من السيارة بعد أن ادعوا أنه غلام لهم سقط في البئر وهم إنما حضروا هناك لإخراجه من الجب فباعوه من السيارة وكانوا يتقون ظهور الحال.
أو أن أول الضميرين للإِخوة والثانى للسيارة والمعنى أن الإِخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانت السيارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد والرغبة لئلا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون أن الأمر لا يخلو من مكر وأن الغلام ليس فيه سيماء العبيد.
وسياق الآيات لا يساعد على شيء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيارة ولم يقع للإِخوة بعد ذلك ذكر صريح حتى يعود ضمير { وشروه } و{ كانوا } أو أحدهما إليهم، على أن ظاهر قوله في الآية التالية: { وقال الذي اشتراه من مصر } إنه اشتراه متحقق بهذا الشراء.
وأما ما ورد في الروايات "أن إخوة يوسف حضروا هناك وأخذوا يوسف منهم بدعوى أنه عبدهم سقط في البئر ثم باعوه منهم بثمن بخس" فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات ولا أنه يدفع الروايات.
وربما قيل: إن الشراء في الآية بمعنى الاشتراء وهو مسموع وهو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق.
قوله تعالى: { وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } السياق يدل على أن السيارة حملوا يوسف معهم إلى مصر وعرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض أهل مصر وأدخله في بيته.
وقد أعجبت الآيات في ذكرى هذا الذي اشتراه وتعريفه فذكر فيها أولاً بمثل قوله تعالى: { وقال الذي اشتراه من مصر } فأنبأت أنه كان رجلاً من أهل مصر، وثانياً بمثل قوله: { وألفيا سيدها لدى الباب } فعرفته بانه كان سيداً مصموداً إليه، وثالثاً بمثل قوله: { وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه } فأوضحت أنه كان عزيزاً في مصر يسلم له أهل المدينة العزة والمناعة، ثم أشارت إلى أنه كان له سجن وهو من شؤون مصدرية الأمور والرئاسة بين الناس، وعلم بذلك أن يوسف كان ابتيع أول يوم لعزيز مصر ودخل بيت العزة.
وبالجملة لم يعرف الرجل كل مرة في كلامه تعالى إلا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصة، ولم يكن لأول مرة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنه كان رجلاً من أهل مصر وبها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله: { وقال الذي اشتراه من مصر }.
وكيف كان، الآية تنبئ على إيجازها بأن السيارة حملوا يوسف معهم وأدخلوه مصر وشروه من بعض أهلها فأدخله بيته ووصاه امرأته قائلاً: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.
والعادة الجارية تقضي أن لا يهتم السادة والموالي بأمر أرقائهم دون أن يتفرسوا في وجه الرقيق آثار الأصالة والرشد، ويشاهد في سيماه الخير والسعادة، وعلى الخصوص الملوك والسلاطين والرؤساء الذين كان يدخل كل حين في بلاطاتهم عشرات ومئات من أحسن أفراد الغلمان والجواري فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه ولا ليتولهوا كل من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه ورجاء الانتفاع به أو اتخاذه ولداً معنى عميق وعلى الأخص من جهة أنه أمر بذلك امرأته وسيدة بيته وليس من المعهود أن تباشر الملكات والعزيزات جزئيات الأمور وسفاسفها ولا أن تتصدى السيدات المنيعة مكاناً، أمور العبيد والغلمان.
نعم: إن يوسف عليه السلام كان ذا جمال بديع يبهر العقول ويوله الألباب، وكان قد أوتى مع جمال الخلق حسن الخلق صبوراً وقوراً لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل، وهذه صفات لا تنمو في الإِنسان إلا وأعراقها ناجمة فيه أيام صباوته وآثارها لائحة من سيماه من بادئ أمره.
فهذه هي التي جذبت نفس العزيز إلى يوسف - وهو طفل صغير - حتى تمنى أن ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من أخص الناس به ينتفع به في أُموره الهامة ومقاصده العالية أو يدخل في أرومته ويكون ولداً له ولامرأته بالتبنى فيعود وارثاً لبيته.
ومن هنا يمكن أن يستظهر أن العزيز كان عقيماً لا ولد له من زوجته ولذلك ترجى أن يتبنى هو وزوجته يوسف.
فقوله: { وقال الذي اشتراه من مصر } أي العزيز { لامرأته } وهى العزيزة { أكرمي مثواه } أي تصدي بنفسك أمره واجعلي له مقاماً كريماً عندك { عسى أن ينفعنا } في مقاصدنا العالية وأمورنا الهامة { أو نتخذه ولداً } بالتبني.
قوله تعالى: { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } قال في المفردات المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء قال: ويقال: مكنته ومكنت له فتمكن، قال تعالى: { ولقد مكناهم في الأرض } { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } { أو لم نمكن لهم } { ونمكن لهم الأرض } قال: قال الخليل: المكان مفعل من الكون، ولكثرته في الكلام أُجري مجرى فعال فقيل: تمكن وتمسكن مثل تمنزل. انتهى. فالمكان هو مقر الشيء من الأرض، والإِمكان والتمكين الإِقرار والتقرير في المحل، وربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشيء من الأمور المعنوية كالمكانة في العلم وعند الناس ويقال: أمكنته من الشيء فتمكن منه أي أقدرته فقدر عليه وهو من قبيل الكناية.
ولعل المراد من تمكين يوسف في الأرض إقراره فيه بما يقدر معه على التمتع من مزايا الحياة والتوسع فيها بعد ما حرّم عليه إخوته القرار على وجه الأرض فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من أرض إلى أرض ويتغرّب عن أرضه ومستقر أبيه.
وقد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصته مرتين إحداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجب وتسيير السيارة إياه إلى مصر وبيعه من العزيز وهو قوله في هذه الآية: { ولقد مكنا ليوسف في الأرض } وثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز وانتصابه على خزائن أرض مصر حيث قال تعالى:
{ { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوء منها حيث يشاء } } [يوسف: 56] والعناية في الموضعين واحدة.
وقوله: { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } الإِشارة إلى ما ذكره من إخراجه من الجب وبيعه واستقراره في بيت العزيز فإن كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الذي حصل له من دخوله في بيت العزيز واستقراره فيه على أهنأ عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشيء بنفسه ليدل به على غزارة الأوصاف المذكورة له وليس من القسم المذموم من تشبيه الشيء بنفسه كقوله:

كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولهم ماء

بل المراد أن ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الذي وصفناه وأخبرنا عنه فهو يتضمن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمنه ما حدثناه فهو تلطف في البيان بجعل الشيء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزارة أوصافه وأهميتها وتعلق النفس بها كما هو شأن التشبيه.
ومن هذا الباب قوله تعالى:
{ ليس كمثله شيء } } [الشورى: 11] وقوله تعالى: { { لمثل هذا فليعمل العاملون } [الصافات: 61] والمراد أن كل ما اتصف من الصفات بما اتصف به الله سبحانه لا يشبهه ولا يماثله شيء، وأن كل ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنة وماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به.
وإن كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلي ببعض أفراده ليدل به على أن سائر الأفراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكل ببعض أجزائه للدلالة على أن الأجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصة خروجه من الجب ودخوله مصر واستقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإن إخوته حسدوه وحرموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجب وسلبوه نعمة التمتع في وطنه في البادية وباعوه من السيارة ليغربوه من أهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سبباً يتوسل به إلى التمكن والاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثم تعلقت به امرأة العزيز وراودته هي ونسوة مصر ليوردنه في الصبوة والفحشاء فصرف الله عنه كيدهن وجعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه وصدقه في إيمانه ثم بدا لهم أن يجعلوه في السجن ويسلبوا عنه حرية معاشرة الناس والمخالطة لهم فتسبب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكيناً يتبوّأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع.
وبالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى:
{ { كذلك يضل الله الكافرين } [غافر: 74] وقوله: { { كذلك يضرب الله الأمثال } [الرعد: 17] أي إن إضلاله تعالى للكافرين يجري دائماً هذا المجرى، وضربه الأمثال أبداً على هذا النحو من المثل المضروب وهو أُنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.
وقوله: { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } بيان لغاية التمكين المذكور واللام للغاية، وهو معطوف على مقدر والتقدير: مكنا له في الأرض لنفعل به كذا وكذا ولنعلمه من تأويل الأحاديث وإنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات أُخر لا يسعها مقام التخاطب، ومن هذا القبيل قوله تعالى:
{ وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } } [الأنعام: 75] ونظائره.
وقوله: { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } الظاهر أن المراد بالأمر الشأن وهو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى:
{ يدبر الأمر } } [الرعد: 2]، وإنما أُضيف إليه تعالى لأنه مالك كل أمر كما قال تعالى: { { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } } [الأعراف: 54]. والمعنى أن كل شأن من شؤن الصنع والإِيجاد من أمره تعالى وهو تعالى غالب عليه وهو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو يتمرد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى ويفوته، قال تعالى: { إن الله بالغ أمره } } [الطلاق: 3]. وبالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلا السمع والطاعة ولكن أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أن الأسباب الظاهرة مستقلة في تأثيرها فعالة برؤوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحولها عن وجهتها شيء وقد أخطأوا. (بحث روائي)
في المعاني بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: صليت مع علي بن الحسين عليهما السلام الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلما فرغ من صلاته وتسبيحه نهض إلى منزله وأنا معه فدعا مولاة له تسمى سكينة فقال لها: لا يعبر على بابى سائل إلا أطعمتموه فإن اليوم يوم الجمعة. قلت: ليس كل من يسأل مستحقاً فقال يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقاً فلا نطعمه ونرده فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب وآله أطعموهم.
إن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشاً فيتصدق به ويأكل هو وعياله منه، وإن سائلاً مؤمناً صواماً محقاً له عند الله منزلة - وكان مجتازاً غريباً اعتر على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه: أطعمو السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم. يهتف بذلك على بابه مراراً قد جهلوا حقه ولم يصدقوا قوله.
فلما أيس أن يطعموه وغشيه الليل استرجع واستعبر وشكى جوعه إلى الله وبات طاوياً وأصبح صائماً جائعاً صابراً حامداً لله وبات يعقوب وآل يعقوب شباعاً بطاناً، وأصبحوا وعندهم من فضل طعامهم.
قال: فأوحى الله عز وجل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلة استجررت بها غضبي، واستوجبت بها أدبى ونزول عقوبتي وبلواى عليك وعلى ولدك يا يعقوب إن أحب أنبيائي إلى وأكرمهم علي من رحم مساكين عبادي وقربهم إليه وأطعمهم وكان لهم مأوى وملجأ.
يا يعقوب ما رحمت دميال عبدي المجتهد في عبادته القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لما اعترّ ببابك عند أوان إفطاره ويهتف بكم: أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئاً فاسترجع واستعبر وشكى ما به إلي، وبات جائعاً وطاوياً حامداً وأصبح لي صائماً وأنت يا يعقوب وولدك شباع وأصبحت وعندكم فضل من طعامكم.
أو ما علمت يا يعقوب أن العقوبة والبلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ وذلك حسن النظر منى لأوليائي واستدراج منى لأعدائي. أما وعزتي لأنزلن بك بلواي، ولأجعلنك وولدك غرضاً لمصابي، ولأؤدبنك بعقوبتي فاستعدوا لبلواي وارضوا بقضائي واصبروا للمصائب.
فقلت لعلي بن الحسين عليهما السلام: جعلت فداك متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال: في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآل يعقوب شباعاً، وبات فيها دميال طاوياً جائعاً فلما رأى يوسف الرؤيا وأصبح يقصها على أبيه يعقوب - اغتم يعقوب لما سمع من يوسف وبقى مغتماً فأوحى الله إليه أن استعد للبلاء فقال يعقوب ليوسف. لا تقصص رؤياك على إخوتك فإني أخاف أن يكيدوا لك كيداً فلم يكتم يوسف رؤياه، وقصها على إخوته.
قال علي بن الحسين عليهما السلام: إن أول بلوى نزل بيعقوب وآل يعقوب الحسد ليوسف لما سمعوا منه الرؤيا. قال: فاشتدت رقة يعقوب على يوسف وخاف أن يكون ما أوحى الله عز وجل إليه من الاستعداد للبلاء إنما هو في يوسف خاصة فاشتدت رقته عليه من بين ولده.
فلما رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف، وتكرمته إياه، وإيثاره إياه عليهم اشتد ذلك عليهم وبدا البلاء فيهم فتآمروا فيما بينهم و { قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين } أي تتوبون.
فعند ذلك { قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } فقال يعقوب { إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } فانتزعه مقدراً حذراً عليه منه أن يكون البلوى من الله عز وجل على يعقوب من يوسف خاصة لموقعه في قلبه وحبه له.
قال: فغلب قدرة الله وقضاؤه ونافذ أمره في يعقوب ويوسف وإخوته فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه ولا يوسف وولده، فدفعه إليهم وهو لذلك كاره متوقع البلوى من الله في يوسف.
فلما خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعاً فانتزعه من أيديهم وضمه إليه واعتنقه وبكى ودفعه إليهم - فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم ولا يدفعه إليهم فلما أمعنوا به أتوا به غيضة أشجار فقالوا: نذبحه ونلقيه تحت هذه الشجرة فيأكله الذئب الليلة فقال كبيرهم: { لا تقتلوا يوسف } ولكن { ألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين }.
فانطلقوا به إلى الجب فألقوه فيه وهم يظنون أنه يغرق فيه فلما صار في قعر الجب ناداهم: يا ولد رومين اقرئوا يعقوب السلام منى فلما رأوا كلامه، قال بعضهم لبعض: لا تزولوا من ههنا حتى تعلموا انه قد مات فلم يزالوا بحضرته حتى أيسوا { ورجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب }.
فلما سمع مقالتهم استرجع واستعبر وذكر ما أوحى الله عز وجل إليه من الاستعداد للبلاء فصبر وأذعن للبلوى وقال لهم: { بل سولت لكم أنفسكم أمراً } وما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب من قبل أن أرى تأويل رؤياه الصادقة.
قال أبو حمزة: ثم انقطع حديث علي بن الحسين عليه السلام عند هذا.
قال أبو حمزة: فلما كان من الغد غدوت إليه وقلت له: جعلت فداك إنك حدثتني أمس بحديث ليعقوب وولده ثم قطعته فيما كان من قصة إخوة يوسف وقصة يوسف بعد ذاك؟ فقال: إنهم لما أصبحوا قالوا: انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف: أمات أم هو حي؟
فلما انتهوا إلى الجب وجدوا بحضرة الجب سيارة وقد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلق بدلوه فقال لأصحابه: يا بشرى هذا غلام فلما أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف فقالوا: هذا عبدنا سقط منا أمس في هذا الجب وجئنا اليوم لنخرجه فانتزعوه من أيديهم ونحوا به ناحية فقالوا له: إما أن تقر لنا أنك عبد لنا فنبيعك بعض السيارة أو نقتلك فقال لهم يوسف لا تقتلوني واصنعوا ما شئتم.
فأقبلوا به إلى السيارة فقالوا: من يشتري منكم هذا العبد منا؟ فاشتراه رجل منهم بعشرين درهماً وكان إخوته فيه من الزاهدين وسار به الذي اشتراه من البدو حتى أدخله مصر فباعه الذي اشتراه من البدو من ملك مصر وذلك قول الله عزوجل: { وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً }.
قال أبو حمزة: فقلت لعلي بن الحسين عليهما السلام: ابن كم كان يوسف يوم ألقوة في الجب؟ فقال ابن تسع سنين فقلت: كم كان بين منزل يعقوب يومئذ وبين مصر فقال: مسيرة اثنا عشر يوماً. الحديث.
أقول: وللحديث ذيل سنورده في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى وفيه نكات ربما لم تلائم ظاهر ما تقدم من بيان الآيات لكنها ترتفع بأدنى تأمل.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"
]. وفي تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: الأنبياء على خمسة أنواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به، ومنهم من ينبؤ في منامه مثل يوسف وإبراهيم عليهما السلام، ومنهم من يعاين، ومنهم من نكت (ينكت ظ) في قلبه ويوقر في أُذنه.
وفيه عن أبي خديجة عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: انما ابتلي يعقوب بيوسف أنه ذبح كبشاً سميناً ورجل من أصحابه يدعى بيوم { بقوم } محتاج لم يجد ما يفطر عليه فأغفله ولم يطعمه فابتلى بيوسف، وكان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادي: من لم يكن صائماً فليشهد غداء يعقوب، فإذا كان المساء نادى من كان صائماً فليشهد عشاء يعقوب.
وفي تفسير القمي قال: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } يقول: لا يشعرون أنك أنت يوسف. أتاه جبرئيل وأخبره بذلك.
وفيه وفي رواية أبى الجارود في قول الله: { وجاؤا على قميصه بدم كذب } قال: إنهم ذبحوا جدياً على قميصه.
وفي أمالي الشيخ بإسناده في قوله عز وجل: { فصبر جميل } قال: بلا شكوى.
أقول: وكأن الرواية عن الصادق عليه السلام بقرينة كونه مسبوقاً بحديث عنه، وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن حيان بن جبلة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي المضامين السابقة رويات أُخر.