التفاسير

< >
عرض

ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ
٩٣
وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ
٩٤
قَالُواْ تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ ٱلْقَدِيمِ
٩٥
فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَٱرْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٩٦
قَالُواْ يٰأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ
٩٧
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٩٨
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ
٩٩
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
١٠٠
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ٱلْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ فَاطِرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي ٱلدُّنُيَا وَٱلآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِٱلصَّالِحِينَ
١٠١
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوۤاْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ
١٠٢
-يوسف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
ختام قصة يوسف عليه السلام وتتضمن الآيات أمر يوسف إخوته بحمل قميصه إلى أبيه وإتيانهم بأهلهم أجمعين ثم دخولهم مصر ولقاؤه أبويه.
قوله تعالى: { اذهبوا بقميصي هذا وألقوه على وجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين } تتمة كلام يوسف عليه السلام يأمر فيه إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه فيلقوه على وجهه ليشفي الله به عينيه ويأتي بصيراً بعدما صار من كثرة الحزن والبكاء ضريراً لا يبصر.
وهذا آخر العنايات البديعة التي أظهرها الله سبحانه في حق يوسف عليه السلام على ما يقصه في هذه السورة مما غلب الله الأسباب فحولها إلى خلاف الجهة التي كانت تجري إليها حسده إخوته فاستذلوه وغربوه عن مستقره بالقائه في الجب وبيعه من السيارة بثمن بخس فجعل الله سبحانه هذا السبب بعينه سبباً لقراره في بيت عزيز مصر في أكرم مثوى ثم أقره في أريكة عزة تضرع إليه أمامها إخوته بقولهم { يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين }.
ثم أحبته امرأة العزيز ونسوة مصر فراودنه عن نفسه ليوردنه في مهلكة الفجور فحفظه الله وجعل ذلك سبباً لظهور براءة ساحته وكمال عفته، ثم استذلوه فسجنوه فجعله الله سبباً لعزته وملكه.
وجاء إخوته إلى أبيه يوم ألقوه في غيابة الجب بقميصه الملطخ بالدم فأخبروه بموته كذباً فكان القميص سبباً لحزن أبيه وبكائه في فراق ابنه حتى ابيضت عيناه وذهب بصره فرد الله سبحانه به بصره إليه وبالجملة اجتمعت الأسباب على خفضه وأراد الله سبحانه رفعه فكان ما أراد الله دون الذي توجهت إليه الأسباب والله غالب على أمره.
وقوله: { وأتوني بأهلكم أجمعين } أمر منه بانتقال بيت يعقوب من يعقوب وأهله وبنيه وذراريه جميعاً من البدو إلى مصر ونزولهم بها.
قوله تعالى: { ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } الفصل القطع والانقطاع والتفنيد تفعيل من الفند بفتحتين وهو ضعف الرأي، والمعنى لما خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر وانقطعت عنها قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه: إني لأجد ريح يوسف لولا أن ترموني بضعف الرأي إني لأحس بريحه وأرى أن اللقاء قريب ومن حقه أن تذعنوا بما أجده لولا أن تخطئوني لكن من المحتمل أن تفندوني فلا تذعنوا بقولي.
قوله تعالى: { قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم } القديم مقابل الجديد والمراد به المتقدم وجوداً، وهذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده، وهو من سيئ حظهم في هذه القصة تفوّهوا بمثله في بدء القصة إذ قالوا: { إن أبانا لفي ضلال مبين } وفي ختمها وهو قولهم هذا: { تالله إنك لفي ضلالك القديم }.
والظاهر أن مرادهم بالضلال ههنا هو مرادهم بالضلال هناك وهو المبالغة في حب يوسف وذلك أنهم كانوا يرون أنهم أحق بالحب من يوسف وهم عصبة إليهم تدبير بيته والدفاع عنه لكن أباهم قد ضل عن مستوى طريق الحكمة وقدم عليهم في الحب طفلين صغيريه لا يغنيان عنه شيئاً فأقبل بكله إليهما ونسيهم، ثم لما فقد يسف جزع له ولم يزل يجزع ويبكي حتى ذهبت عيناه وتقوّس ظهره.
فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتى يصيروا بذلك كافرين:
أما أولاً: فلأن ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصة يشهد على أنهم كانوا موحدين على دين آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام.
وأما ثانياً: فلأن المقام ههنا وكذا في بدء القصة حين قالوا: إن أبانا لفي ضلال مبين لا مساس له بالضلال في الدين حتى يحتمل رميهم أباهم فيه، وإنما يمس أمراً عملياً حيوياً وهو حب أب لبعض أولاده وتقديمه في الكرامة على آخرين فهو المعنى بالضلال.
قوله تعالى: { فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون } البشير حامل البشارة وكان حامل القميص وقوله { ألم أقل لكم إني أعلم } يشير عليه السلام إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف: { إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون }، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين } القائلون بنو يعقوب بدليل قولهم: { يا أبانا } ويريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف وأخيه، وأما يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.
قوله تعالى: { قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم } أخر عليه السلام الاستغفار لهم كمنا هو مدلول قوله: { سوف أستغفر لكم ربي } ولعله إنما أخره ليتم له النعمة بلقاء يوسف وتطيب نفسه به كل الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثم يستغفر لهم وفي بعض الأخبار: إنه أخره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء وسيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى: { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال أُدخلوا مصر إن شاء الله آمنين } في الكلام حذف والتقدير فخرج يعقوب وآله من أرضهم وساروا إلى مصر ولما دخلوا "الخ".
وقوله: { آوى إليه أبويه } فسروه بضمهما إليه، وقوله: { وقال أُدخلوا مصر } الخ، ظاهر في أن يوسف خرج من مصر لاستقبالهما وضمهما إليه هناك ثم عرض لهما دخول مصر إكراماً وتأدباً وقد أبدع عليه السلام في قوله: { إن شاء الله آمنين } حيث أعطاهم الأمن وأصدر لهم حكمه على سنة الملوك وقيد ذلك بمشيئة الله سبحانه للدلالة على أن المشيئة الإِنسانية لا تؤثر أثرها كسائر الأسباب إلا إذا وافقت المشيئة الإِلهية على ما هو مقتضى التوحيد الخالص، وظاهر هذا السياق أنه لم يكن لهم الدخول والاستقرار في مصر إلا بجواز من ناحية الملك، ولذا أعطاهم الأمن في مبتدئ الأمر.
وقد ذكر سبحانه { أبويه } والمفسرون مختلفون في أنهما كانا والديه أباه وأمه أو أنهما يعقوب وزوجه خالة يوسف بالبناء على أن أُمه ماتت وهو صغير، ولا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيد أحد المحتملين غير أن الظاهر من الأبوين هما الحقيقيان.
ومعنى الآية { ولما دخلوا } أي أبواه وإخوته وأهلهم { على يوسف } وذلك في خارج مصر { آوى } وضم { إليه أبويه وقال } لهم مؤمناً لهم { ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين }.
قوله تعالى: { ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجداً وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي } إلى آخر الآية، العرش هو السرير العالي ويكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك ويختص به، والخرور السقوط على الأرض والبدو البادية فإن يعقوب كان يسكن البادية.
وقوله: { ورفع أبويه على العرش } أي رفع يوسف أبويه على عرش الملك الذي كان يجلس عليه ومقتضى الاعتبار وظاهر السياق أنهما رفعا على العرش بأمر يوسف تصداه خدمه لا هو بنفسه كما يشعر به قولهم: { وخرّوا له سجداً } فإن الظاهر أن السجدة إنما وقعت لأول ما طلع عليهم يوسف فكأنهم دخلوا البيت واطمأن بهم المجلس ثم دخل عليهم يوسف فغشيهم النور الإِلهي المتلألئ من جماله البديع فلم يملكوا أنفسهم دون أن خرّوا له سجداً.
وقوله: { وخروا له سجداً } الضمير ليوسف كما يعطيه السياق فهو المسجود له، وقوله بعضهم: إن الضمير لله سبحانه نظراً إلى عدم جواز السجود لغير الله لا دليل عليه من جهة اللفظ، وقد وقع نظيره في القرآن الكريم في قصة آدم والملائكة قال تعالى:
{ { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } } [البقرة: 34]. والدليل على أنها لم تكن منهم سجدة عبادة ليوسف أن بين هؤلاء الساجدين يعقوب عليه السلام وهو ممن نصّ القرآن الكريم على كونه مخلصاً - بالفتح - لله لا يشرك به شيئاً، ويوسف عليه السلام وهو المسجود له منهم بنص القرآن وهو القائل لصاحبيه في السجن: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ولم يردعهم.
فليس إلا أنهم إنما أخذوا يوسف آية لله فاتخذوه قبلة في سجدتهم وعبدوا الله بها لا غير كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلى إليها فيعبد بها الله دون الكعبة، ومن المعلوم أن الآية من حيث إنها آية لا نفسية لها أصلاً فليس المعبود عندها إلا الله سبحانه وتعالى. وقد تكرر الكلام في هذا المعنى فيما تقدم من أجزاء الكتاب.
ومن هنا يظهر أن ما ذكروه في توحيد الآية كقول بعضهم: إن تحية الناس يومئذ كانت هي السجدة كما أنها في الإِسلام السلام، وقول بعضهم: إن سنة التعظيم كانت إذ ذاك السجدة ولم ينه عنا لغير الله بعد كما في الإِسلام، وقول بعضهم: كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعله الأعاجم كل ذلك غير وجيه.
قوله تعالى: قال يا أبت هذا تأويل رؤياي { من قبل قد جعلها ربي حقاً } إلى آخر الآية لما شاهد عليه السلام سجدة أبويه وإخوته الأحد عشر ذكر الرؤيا التى رأى فيها أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين وأخبر بها أباه وهو صغير فأولها له، فأشار إلى سجودهم له وقال: { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها } أي الرؤيا { ربي حقاً }.
ثم أثنى على ربه شاكراً له فقال: { وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن } فذكر إحسان ربه به في إخراجه من السجن وهو ضرّاء وبلاء دفعه الله عنه بتبديله سراء ونعمة من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيلة العزة والملك.
ولم يذكر إخراجه من الجب قبل ذلك لحضور إخوته عنده وكان لا يريد أن يذكر ما يسوؤهم ذكره كرماً وفتوة بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن أن يشار به إِليه من غير أن يتضمن طعناً وشنآناً فقال: { وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } والنزغ هو الدخول في أمر لإِفساده.
والمراد: وقد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي فكان من الأمر ما كان فأدَّى إلى فراق بيني وبينكم فساقني ربي إلى مصر فأقرّني في أرغد عيش وأرفع عزة وملك ثم قرّب بيننا بنقلكم من البادية إليّ في دار المدنية والحضارة.
يعني أنه كانت نوائب نزلت بي إثر إفساد الشيطان بيني وبين إخوتي ومما أخصه بالذكر من بينها فراق بيني وبينكم ثم رزية السجن فأحسن بي ربي ودفعها عني واحدة بعد أُخرى ولم يكن من المحن والحوادث العادية بل رزايا صماء وعقوداً لا تنحل لكن ربي نفذ فيها بلطفه ونفوذ قدرته فبدلها أسباب حياة ونعمة بعد ما كانت أسباب هلاك وشقاء ولهذه الثلاثة الأخيرة عقب قوله: { وقد أحسن بي } الخ بقوله: { إن ربي لطيف لما يشاء }.
فقوله: { إن ربي لطيف لما يشاء } تعليل لإِخراجه من السجن ومجيئهم من البدو، ويشير به إلى ما خصه الله به من العناية والمنة وأن البلايا التي أحاطت به لم تكن لتنحل عقدتها أو لتنحرف عن مجراها لكن الله لطيف لما يشاء نفذ فيها فجعل عوامل الشدة عوامل رخاء وراحة وأسباب الذلة والرقية وسائل عزة وملك.
واللطيف من أسمائه تعالى يدل على حضوره وإحاطته تعالى بما لا سبيل إلى الحضور فيه والإِحاطة به من باطن الأشياء وهو من فروع إحاطته تعالى بنفوذ القدرة والعلم قال تعالى:
{ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [الملك: 14] والأصل في معناه الصغر والدقة والنفوذ يقال: لطف الشيء بالضم يلطف لطافة إذا صغر ودق حتى نفذ في المجاري والثقب الصغار، ويكنى به عن الإِرفاق والملاءمة والاسم اللطف.
وقوله: { وهو العليم الحكيم } تعليل لجميع ما تقدم من قوله: { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً } الخ، وقد علل عليه السلام الكلام وختمه بهذين الاسمين محاذاة لأبيه حيث تكلم في رؤياه وقال: { وكذلك يجتبيك ربك } إلى أن قال { إن ربك عليم حكيم } وليس يبعد أن يفيد اللام في قوله: { العليم الحكيم } معنى العهد فيفيد تصديقه لقول أبيه عليهما السلام والمعنى: وهو ذاك العليم الحكيم الذي وصفته لي يوم أولت رؤياي.
قوله تعالى: { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث } إلى آخر الآية لما أثنى عليه السلام على ربه وعدَّ ما دفع عنه من الشدائد والنوائب أراد أن يذكر ما خصه به من النعم المثبتة وقد هاجت به المحبة الإِلهية وانقطع بها عن غيره تعالى فترك خطاب أبيه وانصرف عنه وعن غيره ملتفتاً إلى ربه وخاطب ربه عز اسمه فقال: { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث }.
وقوله: { فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة } إضراب وترق في الثناء، ورجوع منه عليه السلام إلى ذكر أصل الولاية الإِلهية بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجلية كإخراجه من السجن والمجيء بأهله من البدو وإيتانه من الملك وتعليمه من تأويل الأحاديث فإن الله سبحانه رب فيما دق وجلّ معاً، ولي في الدنيا والآخرة جميعاً.
وولايته تعالى أعني كونه قائماً كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله منشؤها إيجاده تعالى إياها جميعاً وإظهاره لها من كتم العدم فهو فاطر السماوات والأرض ولذا يتوجه إليه تعالى قلوب أوليائه والمخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الذي يفيد وجوده تعالى لذاته وإيجاده لغيره تعالى:
{ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } } [إبراهيم: 10]. ولذا بدأ به يوسف عليه السلام وهو من المخلصين في ذكر ولايته فقال: { فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة } أي إني تحت ولايتك التامة من غير أن يكون لي صنع في نفسي واستقلال في ذاتي وصفاتي وأفعالي أو أملك لنفسي شيئاً من نفع أو ضر أو موت أو حياة أو نشور.
وقوله: { توفني مسلماً وألحقني بالصالحين } لما استغرق عليه السلام في مقام الذلة قبال رب العزة وشهد بولايته له في الدنيا والآخرة سأله سؤال المملوك المولى عليه أن يجعله كما يستدعيه ولايته عليه في الدنيا والآخرة وهو الإِسلام ما دام حياً في الدنيا والدخول في زمرة الصالحين في الآخرة فإن كمال العبد المملوك أن يسلم لربه ما يريده منه ما دام حياً ولا يظهر منه ما يكرهه ولا يرتضيه فيما يرجع إليه من الأعمال الاختيارية وأن يكون صالحاً لقرب مولاه لائقاً لمواهبه السامية فيما لا يرجع إلى العبد واختياره، وهو سؤاله عليه السلام الإِسلام في الدنيا والدخول في زمرة الصالحين في الآخرة وهو الذي منحه الله سبحانه لجده إبراهيم عليه السلام:
{ { ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } } [البقرة: 130ـ131]. وهذا الإِسلام الذي سأله عليه السلام أقصى درجات الإِسلام وأعلى مراتبه، وهو التسليم المحض لله سبحانه، وهو أن لا يرى العبد لنفسه ولا لآثار نفسه شيئاً من الاستقلال حتى لا يشغله شيء من نفسه ولا صفاتها ولا أعمالها من ربه، وإذا نسب إليه تعالى كان إخلاصه عبده لنفسه.
ومما تقدم يظهر أن قوله: { توفني مسلماً } سؤال منه لبقاء الإِخلاص واستمرار الإِسلام ما دام حياً وبعبارة أخرى أن يعيش مسلماً حتى يتوفاه الله فهو كناية عن أن يثبته الله على الإِسلام حتى يموت، وليس يراد به أن يموت في حال الإِسلام ولو لم يكن قبل ذلك مسلماً، ولا سؤالاً للموت وهو مسلم حتى يكون المعنى أني مسلم فتوفني.
ويتبين بذلك فساد ما روي عن عدة من قدماء المفسرين أن قوله: { توفني مسلماً } دعاء منه يسأل به الموت من الله سبحانه حتى قال بعضهم: لم يسأل أحد من الأنبياء الموت من الله ولا تمناه إلا يوسف عليه السلام.
قوله تعالى: { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } الإِشارة إلى نبأ يوسف عليه السلام، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضمير الجمع لإِخوة يوسف والإِجماع العزم والإِرادة.
وقوله: { وما كنت لديهم } الخ، حال من ضمير الخطاب من { إليك } وقوله: { نوحيه إليك وما كنت } إلى آخر الآية بيان لقوله: { ذلك من أنباء الغيب } والمعنى أن نبأ يوسف من أنباء الغيب فإنا نوحيه إليك والحال أنك ما كنت عند إخوة يوسف إذ عزموا على أمرهم وهم يمكرون في أمر يوسف.
(بحث روائي)
في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل قال: قال يوسف لإِخوته: { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا بقميصي هذا } الذي بلته دموع عيني { فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً } لو قد نشر ريحي { وأتوني بأهلكم أجمعين } وردهم إلى يعقوب في ذلك اليوم، وجهزهم بجميع ما يحتاجون إليه فلما فصلت عيرهم من مصر وجد يعقوب ريح يوسف فقال لمن بحضرته من ولده إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون.
قال: وأقبل ولده يحثون السير بالقميص فرحاً وسروراً بما رأوا من حال يوسف والملك الذي آتاه الله والعز الذي صاروا إليه في سلطان يوسف، وكان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيام فلما أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيراً، وقال لهم: ما فعل ابن يامين؟ قالوا: خلفناه عند أخيه صالحاً.
قال: فحمد الله يعقوب عند ذلك، وسجد لربه سجدة الشكر ورجع إليه بصره وتقوَّم له ظهره، وقال لولده: تحملوا إلى يوسف في يومكم هذا بأجمعكم فساروا إلى يوسف ومعهم يعقوب وخالة يوسف (ياميل) فأحثوا السير فرحاً وسروراً فساروا تسعة أيام إلى مصر.
أقول: كون امرأة يعقوب التي سارت معه إلى مصر وهي أُم بنيامين خالة يوسف لا أُمه الحقيقية وقعت في عدة روايات وظاهر الكتاب وبعض الروايات أنها كانت أُم يوسف وأنه وبنيامين كانا أخوين لأم وإن لم يكن ظهوراً يدفع به تلك الروايات.
وفي المجمع عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } قال: وجد يعقوب ريح يوسف حين فصلت من مصر وهو بفلسطين من مسيرة عشرة أميال.
أقول: وقد ورد في عدة روايات من طرق العامة والخاصة أن القميص الذي أرسله يوسف إلى يعقوب عليهما السلام كان نازلاً من الجنة، وأنه كان قميص إبراهيم أنزله إليه جبريل حين ألقى في النار فألبسه إياه فكانت عليه برداً وسلاماً ثم أورثه إسحاق ثم ورثه يعقوب ثم جعله يعقوب تميمة وعلقه على يوسف حين ولد فكان على عنقه حتى أخرجه يوسف من التميمة ففاحت ريح الجنة فوجدها يعقوب، هذه أخبار لا سبيل لنا إلى تصحيحها مضافاً إلى ما فيها من ضعف الأسناد.
ومثلها روايات أخرى من الفريقين تتضمن كتاباً كتبه يعقوب إلى يوسف وهو يحسبه عزيز آل فرعون لاستخلاص بنيامين يذكر فيها أنه ابن إسحاق ذبيح الله الذي أمر الله جده إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم. وقد تقدم في الجزء السابق من الكتاب أن الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق.
وفي تفسير العياشي عن نشيط بن ناصح البجلي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أكان إخوة يوسف أنبياء؟ قال: لا ولا بررة أتقياء وكيف؟ وهم يقولون لأبيهم: تالله إنك لفي ضلالك القديم.
أقول: وفي الروايات من طرق أهل السنة وفي بعض الضعاف من روايات الشيعة أنهم كانوا أنبياء، وهذه الروايات مدفوعة بما ثبت من طريق الكتاب والسنة والعقل من عصمة الأنبياء عليهما السلام، وما ورد في الكتاب مما ظاهره كون الأسباط أنبياء كقوله تعالى:
{ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } [النساء: 163] غير صريح في كون المراد بالأسباط هم إخوة يوسف، والأسباط تطلق على جميع الشعوب من بني إسرائيل الذي ينتهي نسبهم إلى يعقوب عليه السلام قال تعالى: { وقطعناهم اثنتي عشر أسباطاً أُمماً } } [الأعراف: 160]. وفي الفقيه بإِسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول يعقوب لبنيه: { سوف أستغفر لكم ربي } قال: أخرهم إلى السحر من ليلة الجمعة.
أقول: وفي هذا المعنى بعض روايات أُخر، وفي الدر المنثور عن ابن جرير وأبي الشيخ عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"قول أخي يعقوب لبنيه: { سوف أستغفر لكم ربي } يقول: حتى يأتي ليلة الجمعة"
]. وفي الكافي بإِسناده عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله وآله وسلم: "خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار، وتلا هذه الآية في قول يعقوب { سوف أستغفر لكم ربي } أخرهم إلى السحر"
]. أقول: وروي نظيره في الدر المنثور عن أبي الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل لم أخر يعقوب بنيه في الاستغفار؟ قال: أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب.
وقد تقدم في بيان الآيات كلام في وجه التأخر ولقد أقبل يوسف عليه السلام على إخوته حين عرفوه بالفتوة والكرامة من غير أن يجبههم بأدنى ما يسوؤهم ولازم ذلك أن يعفو عنهم ويستغفر لهم بلا مهل ولم يكن موقف يعقوب معهم حين ارتد إليه بصره بإِلقاء القميص عليه ذاك الموقف.
وفي تفسير القمي حدثني محمد بن عيسى أن يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضها على أبي الحسن، وكان أحدها: أخبرني عن قول الله: { ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً } أسجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟.
فأجاب أبو الحسن عليه السلام: أما سجود يعقوب وولده ليوسف فإنه لم يكن ليوسف وإنما كان ذلك من يعقوب وولده طاعة لله وتحية ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم ولم يكن لآدم وإنما كان ذلك منهم طاعة لله وتحية لآدم فسجد يعقوب وولده ويوسف معهم شكراً لله تعالى لاجتماع شملهم ألم تر أنه يقول في شكره ذلك الوقت: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين. الحديث.
أقول: وقد تقدم بعض الكلام في سجدتهم ليوسف في بيان الآيات، وظاهر الحديث أن يوسف أيضاً سجد معهم كما سجدوا وقد استدل عليه بقول يوسف في شكره: رب قد آتيتني من الملك "الخ" وفي دلالته على ذلك إِبهام.
وقد روى الحديث العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الأزدي صاحب موسى بن محمد بن الرضا عليه السلام قال لأخيه: إن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فأخبرني عن قول الله: { ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً } أسجد يعقوب وولده ليوسف؟.
قال: فسألت أخي عن ذلك فقال: أما سجود يعقوب وولده ليوسف فشكراً لله تعالى لاجتماع شملهم ألا ترى أنه يقول في شكر ذلك الوقت: { رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث } الآية.
وما رواه العياشي أوفق بلفظ الآية وأسلم من الإِشكال مما رواه القمي.
وفي تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله: { ورفع أبويه على العرش } قال: العرش السرير، وفي قوله: { وخروا له سجداً } قال: كان سجودهم ذلك عبادة لله.
وفيه عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: فسار تسعة أيام إلى مصر فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه فقبله وبكى، ورفع خالته على سرير الملك ثم دخل منزله فادهن واكتحل ولبس ثياب العز والملك ثم رجع إليهم - وفي نسخة ثم خرج إليهم- فلما رأوه سجدوا جميعاً إعظاماً وشكراً لله فعند ذلك قال: { يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل } إلى قوله { بيني وبين إخوتي }.
قال: ولم يكن يوسف في تلك العشرين السنة يدهن ولا يكتحل ولا يتطيب ولا يضحك ولا يمس النساء حتى جمع الله ليعقوب شمله، وجمع بينه وبين يعقوب وإخوته.
وفي الكافي بإسناده عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن عليه السلام عنه قول: قلت له: جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب ويلبس الخشن ويخشع. فقال: أما علمت أن يوسف نبي ابن نبي كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب فكان يجلس في مجالس آل فرعون يحكم فلم يحتج الناس إلى لباسه وإنما احتاجوا إلى قسطه.
وإنما يحتاج من الإِمام إلى (أن ظ) إذا قال صدق، وإذا وعد أنجز، وإذا حكم عدل لأن الله لا يحرم طعاماً ولا شراباً من حلال وحرم الحرام قل أو كثر وقد قال الله: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر بعد ما جمع الله ليعقوب شمله، وأراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة قال: عاش حولين. قلت: فمن كان يومئذ الحجة لله في الأرض؟ يعقوب أم يوسف؟ قال: كان يعقوب الحجة وكان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس ثم كان يوسف بن يعقوب الحجة.
أقول: والروايات في قصته عليه السلام كثيرة اقتصرنا منها بما فيها مساس بالآيات الكريمة على أن أكثرها لا يخلو من تشوش في المتن وضعف في السند.
ومما ورد في بعضها أن الله سبحانه جعل النبوة من آل يعقوب في صلب لاوي وهو الذي منع إخوته عن قتل يوسف حيث قال: { لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب } الآية وهو القائل لإِخوته حين أخذ يوسف أخاه باتهام السرقة: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } فشكر الله له ذلك.
ومما ورد في عدة منها أن يوسف عليه السلام تزوج بامرأة العزيز وهي التي راودته عن نفسه، وذلك بعدما مات العزيز في خلال تلك السنين المجدبة، ولا يبعد أن يكون ذلك شكراً منه تعالى لها حين صدقت يوسف بقولها: { الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } لو صح الحديث.
(كلام في قصة يوسف في فصول)
1 - قصته في القرآن: هو يوسف النبي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل كان أحد أبناء يعقوب الاثني عشر وأصغرإخوته غير أخيه بنيامين أراد الله سبحانه أن يتم عليه نعمته بالعلم والحكم والعزة والملك ويرفع به قدر آل يعقوب فبشره وهو صغير برؤيا رآها كأن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدة له فذكر ذلك لأبيه فوصاه أبوه ان لا يقص رؤياه على إخوته فيحسدوه ثم أول رؤياه أن الله سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق.
كانت هذه الرؤيا نصب عين يوسف آخذة بمجامع قلبه، ولا يزال تنزع نفسه إلى حب ربه والتوله إليه على ما به من علو النفس وصفاء الروح والخصائص الحميدة، وكان ذا جمال بديع يبهر القول ويدهش الألباب.
وكان يعقوب يحبه حباً شديداً لما يشاهد فيه من الجمال البديع ويتفرس فيه من صفاء السريرة ولا يفارقه ولا ساعة فثقل ذلك على إخوته الكبار واشتد حسدهم له حتى اجتمعوا وتآمروا في أمره فمن مشير على قتله، ومن قائل: اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين، ثم اجتمع رأيهم على ما أشار به عليهم بعضهم وهو أن يلقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة وعقدوا على ذلك.
فلقوا أباهم وكلموه أن يرسل يوسف معهم غداً يرتع ويلعب وهم له حافظون فلم يرض به يعقوب واعتذر أنه يخاف أن يأكله الذئب فلم يزالوا به يراودونه حتى أرضوه واخذوه منه وذهبوا به معهم إلى مراتع أغنامهم بالبر فألقوه في جب هناك وقد نزعوا قميصه.
ثم جاؤا بقميصه ملطخاً بدم كذب إلى أبيهم وهم يبكون فأخبروه أنهم ذهبوا اليوم للاستباق وتركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب وهذا قميصه الملطخ بدمه.
فبكى يعقوب وقال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، ولم يقل ذلك الا بتفرس إلهي ألقي في روعه، ولم يزل يعقوب يذكر يوسف ويبكي عليه ولا يتسلى عنه بشيء حتى ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.
ومضى بنوه يراقبون الجب حتى جاءت سيارة فأرسلوا واردهم للاستقاء فأدلى دلوه فتعلق يوسف بالدلو فخرج فاستبشروا به فدنى منهم بنو يعقوب وادّعوا أنه عبد لهم ثم ساوموهم حتى شروه بثمن بخس دراهم معدودة.
وسارت به السيارة إلى مصر وعرضوه للبيع فاشتراه عزيز مصر وأدخله بيته وقال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً وذلك لما كان يشاهد في وجهه من آثار الجلال وصفاء الروح على ما له من الجمال البديع فاستقر يوسف في بيت العزيز في كرامة وأهنأ عيش، وهذا أول ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف وعزيز ولايته له حيث توسل إخوته بإلقائه في الجب وبيعه من السيارة إلى إماتة ذكره وتحريمه كرامة الحياة في بيت أبيه أما إماتة الذكر فلم ينسه ابوه قط، وأما مزية الحياة فإن الله سبحان بدل له بيت الشعر وعيشة البدوية قصراً ملكياً وحياة حضرية راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا أن يحطوه ويضعوه، وعلى ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث.
وعاش يوسف في بيت العزيز في أهنأ عيش حتى كبر وبلغ أشده ولم يزل تزكو نفسه ويصفو قلبه ويشتغل بربه حتى توله في حبه وأخلص له فصار لا هم له إلا فيه فاجتباه الله وأخلصه لنفسه وآتاه حكماً وعلماً وكذلك يفعل بالمحسنين.
وعشقته امرأة العزيز وشغفها حبه حتى راودته عن نفسه وغلقت الأبواب ودعته إلى نفسها وقالت: هيت لك فامتنع يوسف واعتصم بعصمة إلهية وقال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، واستبقا الباب واجتذبته وقدَّت قميصه من خلف وألفيا سيدها لدى الباب فاتهمت يوسف بأنه كان يريد بها سوءاً وأنكر يوسف ذلك غير أن العناية الإِلهية أدركته فشهد صبي هناك في المهد ببراءته فبرأه الله.
ثم ابتلي بحب نساء مصر ومراودتهن وشاع أمر امرأة العزيز حتى آل الأمر إلى دخوله السجن، وقد توسلت امرأة العزيز بذلك إلى تأديبه ليجيبها إلى ما تريد، والعزيز إلى أن يسكت هذه الأراجيف الشائعة التي كانت تذهب بكرامه بيته وتشوه جميل ذكره.
فدخل يوسف السجن ودخل معه السجن فتيان للملك فذكر أحدهما أنه رأى في منامه أنه يعصر خمراً، والآخر رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل الطير منه، وسألاه أن يؤول منامهما فأول رؤيا الأول أنه سيخرج فيصير ساقياً للملك، ورؤيا الثاني أنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه فكان كما قال: وقال يوسف للذي رأى أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين.
وبعد بضع من السنين رأى الملك رؤيا هالته فذكرها لملئه وقال: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، وعند ذلك ادّكر الساقي يوسف وتعبيره لمنامه فذكر ذلك للملك واستأذنه أن يراجع السجن ويستفتي يوسف في أمر الرؤيا فأذن له في ذلك وأرسله إليه.
ولما جاءه واستفتاه في أمر الرؤيا وذكر أن الناس ينتظرون أن يكشف لهم أمرها قال: تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحسنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون.
فلما سمع الملك ما أفتى به يوسف أعجبه ذلك وأمر بإطلاقه وإحضاره ولما جاءه الرسول لتنفيذ أمر الملك أبى الخروج والحضور إلا أن يحقق الملك ما جرى بينه وبين النسوة ويحكم بينه وبينهن ولما أحضرهن وكلمهن في أمره اتفقن على تبرئته من جميع ما اتهم به وقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء، وقالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين فاستعظم الملك أمره في علمه وحكمه واستقامته وأمانته فأمر بإطلاقه وإحضاره معززاً وقال: ائتونى به استخلصه لنفسي فلما حضر وكلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين وقد محصت أحسن التمحيص واختبرت أدق الاختبار.
قال يوسف: اجعلني على خزائن أرض مصر إني حفيظ عليم حتى أُهيئ الدولة في هذه السنين السبع المخصبة التي تجري على الناس لإِنجائهم مما يهددهم من السنين السبع المجدبة فأجابه الملك على ذلك فقام يوسف بالأمر وأمر بإجادة الزرع وإكثاره وجمع الطعام والميرة وحفظه في المخازن بالحزم والتدبير حتى إذا دهمهم السنون المجدبة وضع فيهم الأرزاق وقسم بينهم الطعام حتى أنجاهم الله بذلك من المخمصة، وفي هذه السنين انتصب يوسف لمقام عزة مصر، واستولى على سرير الملك فكان السجن طريقاً له يسلك به إلى أريكة العزة والملك بإذن الله، وقد كانوا تسببوا به إلى إخماد ذكره، وإنسائه من قلوب الناس، وإخفائه من أعينهم.
وفي بعض تلك السنين المجدبة دخل على يوسف إخوته لأخذ الطعام فعرفهم وهم له منكرون فاستفسرهم عن شأنهم وعن أنفسهم فذكروا له أنهم أبناء يعقوب وأنهم أحد عشر أخاً أصغرهم عند أبيهم يأنس به ولا يدعه يفارقه قط فأظهر يوسف أنه يشتاق أن يراه فيعرف ما باله يخصه أبوه بنفسه فأمرهم أن يأتوه به إن رجعوا إليه ثانيا للامتيار، وزاد في إكرامهم وإيفاء كيلهم فأعطوه العهد بذلك، وأمر فتيانه أن يدسوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون.
ولما رجعوا إلى أبيهم حدثوه بما جرى بينهم وبين عزيز مصر وأنه منع منهم الكيل إلا أن يرجعوا إليه بأخيهم بنيامين فامتنع أبوهم من ذلك ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم فراجعوا أباهم وذكروا له ذلك وأصروا على إرسال بنيامين معهم إلى مصر وهو يأبى حتى وافقهم على ذلك بعد أن أخذ منهم موثقاً من الله ليأتنه به إلا أن يحاط بهم.
ثم تجهزوا ثانياً وسافروا إلى مصر ومعهم بنيامين ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه وعرفه نفسه وقال: إني أنا أخوك وأخبره أنه يريد أن يحبسه عنده فعليه أن لا يبتئس بما سيشاهده من الكيد.
ولما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه فأذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا - وأقبلوا عليهم - ماذا تفقدون قالوا: نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين. قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي السارق فيما بيننا فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ثم أمر بالقبض عليه واسترقه بذلك.
فراجعه إخوته في إطلاقه حتى سألوه أن يأخذ أحدهم مكانه رحمة بأبيه الشيخ الكبير فلم ينفع فرجعوا إلى أبيهم آيسين غير أن كبيرهم قال لهم: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين فبقى بمصر وساروا.
فلما رجعوا إلى أبيهم وقصوا عليه القصص قال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً ثم تولى عنهم وقال، يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم فلما لاموه على حزنه الطويل ووجده ليوسف قال: إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، ثم قال لهم: يا بنّي اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله فإني أرجو أن تظفروا بهما.
فسار نفر منهم إلى مصر واستأذنوا على يوسف فلما شخصوا عنده تضرعوا إليه واسترحموه في أنفسهم وأهلهم وأخيهم الذي استرقه قائلين: يا أيها العزيز قد مسنا وأهلنا الضر بالجدب والسنة وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا بأخينا الذي تملكته بالاسترقاق إن الله يجزي المتصدقين.
وعند ذلك حقت كلمته تعالى ليعزن يوسف بالرغم من استذلالهم له وليرفعن قدره وقدر أخيه وليضعن الباغين الحاسدين لهما فأراد يوسف أن يعرفهم نفسه وقال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا: ءإنك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف وهذا أخي قد منّ الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين فاعترفوا بذنبهم وشهدوا أن الأمر إلى الله يعز من يشاء ويذل من يشاء وأن العاقبة للمتقين وأن الله مع الصابرين. فقابلهم يوسف بالعفو والاستغفار وقال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وقربهم إليه وزاد في إكرامهم.
ثم أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم ويذهبوا بقميصه فيلقوه على وجه أبيه يأت بصيراً فتجهزوا للسير ولما فصلت العير قال يعقوب لمن عنده من بنيه: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قال من عنده من بنيه: تالله إنك لفي ضلالك القديم، ولما جاءه البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيراً فرد الله سبحانه إليه بصره بعين ما ذهب به وهو القميص قال يعقوب لبنيه: ألم أقل لكم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال: سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم.
ثم تجهزوا للمسير إلى يوسف واستقبلهم يوسف وضم إليه أبويه وأعطاهم الأمن وأدخلهم دار الملك ورفع أبويه على العرش وخروا له سجداً يعقوب وامرأته وأحد عشر من ولده، قال يوسف يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً ثم شكر الله على لطيف صنعه في دفع النوائب العظام عنه وإيتائه الملك والعلم.
وبقي آل يعقوب بمصر، وكان أهل مصر يحبون يوسف حباً شديداً لفضل نعمته عليهم وحسن بلائه فيهم، وكان يدعوهم إلى دين التوحيد وملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام (كما ورد في قصة السجن وفي سورة المؤمن).
2 - ما أثنى الله عليه ومنزلته المعنوية -: كان عليه السلام من المخلصين وكان صديقاً وكان من المحسنين، وقد آتاه الله حكماً وعلماً وعلمه من تأويل الأحاديث وقد اجتباه الله وأتم نعمته عليه وألحقه بالصالحين (سورة يوسف) وأثنى عليه بما أثنى على آل نوح وإبراهيم عليهما السلام من الأنبياء وقد ذكره فيهم سورة الأنعام).
3 - قصته في التوراة الحاضرة -: قالت التوراة: وكان بنو يعقوب اثني عشر: بنو ليئة رأُوبين بكر يعقوب وشمعون ولاوي ويهودا ويساكر وزنولون، وابنا راحيل يوسف، وبنيامين، وابنا بلهة جارية راحيل دان، ونفتالى، وابنا زلفة جارية ليئة جاد، وأشير. هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فدان أرام.
قالت يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إخوته الغنم وهو غلام عند بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه، وأتى يوسف بنميمتهم الردية إلى أبيهم، وأما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته فصنع له قميصاً ملوناً فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام.
وحلم يوسف حلماً فأخبر إخوته فازدادوا أيضاً بغضاً له فقال لهم: اسمعوا هذا الحلم الذي حلمت: فها نحن حازمون حزماً في الحفل وإذا حزمتي قامت وانتصبت فاحتاطت حزمكم وسجدت لحزمتي. فقال له إخوته ألعلك تملك علينا ملكاً أم تتسلط علينا تسلطاً، وازدادوا أيضاً بغضاً له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه.
ثم حلم أيضاً حلماً آخر وقصه على إخوته فقال: إني قد حلمت حلماً أيضاً وإذا الشمس والقمر واحد عشر كوكباً ساجدة لي، وقصه على أبيه وعلى إخوته فانتهره أبوه وقال له: ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل يأتي أنا وأُمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض فحسده إخوته وأما أبوه فحفظ الأمر.
ومضى إخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم فقال إسرائيل ليوسف: أليس إخوتك يرعون عند شكيم؟ تعال فأرسلك إليهم، فقال له: ها أناذا فقال له: اذهب انظر سلامة إخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبراً فأرسله من وطاء حبرون فأتى إلى شكيم فوجده رجل وإذا هو ضال في الحفل فسأله الرجل قائلاً: ماذا تطلب؟ فقال: أنا طالب إخوتي أخبرني أين يرعون؟ فقال الرجل: قد ارتحلوا من هنا لأني سمعتهم يقولون: لنذهب إلى دوثان فذهب يوسف وراء إخوته فوجدهم في دوثان.
فلما أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض: هو ذا هذا صاحب الأحلام قادم فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى هذه الآبار ونقول: وحش ردي أكله فنرى ماذا يكون أحلامه؟ فسمع رأوبين وأنقذه من أيديهم وقال: لا نقتله وقال لهم رأوبين: لا تسفكوا دماً اطرحوه في هذه البئر التي في البرية ولا تمدوا إليه يداً لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه وأخذوه وطرحوه في البئر وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء.
ثم جلسوا ليأكلوا طعاماً فرفعوا عيونهم ونظروا وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، وجمالهم حاملة كتيراء وبلساناً ولادناً ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر فقال يهوذا لإِخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه للإِسماعيليين ولا تكن أيدينا عليه لأنه أخونا ولحمنا فسمع له إخوته.
واجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر وباعوا يوسف للاسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر، ورجع رأوبين إلى البئر وإذا يوسف ليس في البئر فمزق ثيابه ثم رجع إلى إخوته وقال: الولد ليس موجوداً، وأنا إلى أين أذهب؟.
فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيساً من المعزى وغمسوا القميص في الدم، وأرسلوا القميص الملون وأحضروه إلى أبيهم وقالوا: وجدنا هذا، حقق أقميص ابنك هو أم لا؟ فتحققه وقال: قميص ابني وحش ردي أكله افترس يوسف افتراساً فمزق يعقوب ثيابه ووضع مسحاً على حقويه وناح على ابنه أياماً كثيرة فقام جميع بنيه وجميع بناته ليعزوه فأبى أن يتعزى وقال: إني أنزل إلى ابني نائحاً إلى الهاوية وبكى عليه أبوه.
قالت التوراة: وأما يوسف فأنزل إلى مصر واشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط رجل مصري من يد الإِسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك، وكان الرب مع يوسف فكان رجلاً ناجحاً وكان في بيت سيده المصري.
ورأى سيده أن الرب معه، وأن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده فوجد يوسف نعمة في عينيه وخدمه فوكله إلى بيته ودفع إلى يده كل ما كان له، وكان من حين وكله على بيته وعلى كل ما كان له أن الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف، وكانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت وفي الحفل فترك كل ما كان له في يد يوسف ولم يكن معه يعرف شيئاً إلا الخبز الذي يأكل وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر.
وحدث بعد هذه الامور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت: اضطجع معي فأبى وقال لامرأة سيده: هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ماله قد دفعه إلى يدي ليس هو في هذا البيت، ولم يمسك عني شيئاً غيرك لأنك امرأته فكيف أصنع هذا الشر العظيم؟ وأُخطئ إلى الله؟ وكان إذ كلمت يوسف يوماً فيوماً أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها.
ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت فأمسكته بثوبه قائله: اضطجع معي فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج، وكان لما رأت أنه ترك ثوبه في يدها وهرب إلى خارج أنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة: انظروا! قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا. دخل إلى ليضطجع معى فصرخت بصوت عظيم، وكان لما سمع أني رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب وخرج إلى خارج.
فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة: دخل الي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني وكان لما رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب إلى خارج.
فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بى عبدك أن غضبه حمي فأخذ يوسف سيده ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه، وكان هناك في بيت السجن.
ولكن الرب كان مع يوسف وبسط إليه لطفاً وجعل نعمة له في عيني رئيس بيت السجن فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى الذين في بيت السجن، وكل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل، ولم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئاً البتة مما في يده لأن الرب كان معه، ومهما صنع كان الرب ينجحه.
ثم ساقت التوراة قصة صاحبي السجن ورؤياهما ورؤيا فرعون مصر وملخصه أنهما كانا رئيس سقاة فرعون ورئيس الخبازين أذنباه فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند يوسف فرأى رئيس السقاة في منامه أنه يعصر خمراً، والآخر أن الطير تأكل من طعام حمله على رأسه فاستفتيا يوسف فعبر رؤيا الأول برجوعه إلى سقى فرعون شغله السابق، والثانى بصلبه وأكل الطير من لحمه، وسأل الساقى أن يذكره عند فرعون لعله يخرج من السجن لكن الشيطان أنساه ذلك.
ثم بعد سنتين رأى فرعون في منامه سبع بقرات سمان حسنة المنظر خرجت من نهر وسبع بقرات مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشاطئ فأكلت المهازيل السمان فاستيقظ فرعون ثم نام فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة وسبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها فأكلت الرقيقة السمينة فهال فرعون ذلك وجمع سحرة مصر وحكماءها وقص عليهم رؤياه فعجزوا عن تعبيره.
وعند ذلك ادكر رئيس السقاة يوسف فذكره لفرعون وذكر ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام فأمر فرعون بإحضاره فلما أُدخل عليه كلمه واستفتاه فيما رآه في منامه مرة بعد أُخرى فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد قد أخبر الله فرعون بما هو صانع: البقرات السبع الحسنة في سبع سنين وسنابل سبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد، والبقرات السبع الرقيقة القبيحة التي طلعت وراءها هي سبع سنين والسنابل السبع الفارغة الملفوحة بالريح الشرقية يكون سبع سنين جوعاً.
هو الأمر الذي كلمت به فرعون قد أظهر الله لفرعون ما هو صانع، هوذا سبع سنين قادمة شعباً عظيماً في كل أرض مصر ثم تقوم بعدها سبع سنين جوعاً فينسى كل السبع في أرض مصر ويتلف الجوع الأرض، ولا يعرف الشبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده لأنه يكون شديداً جداً، وأما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين فلأن الأمر مقرر من عند الله والله مسرع لصنعه.
فالآن لينظر فرعون رجلاً بصيراً وحكيماً ويجعله على أرض مصر يفعل فرعون فيوكل نظاراً على الأرض. ويأخذ خمس غلة أرض مصر في سبع سني الشبع فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة ويخزنون قمحاً تحت يد فرعون طعاماً في المدن ويحفظونه فيكون الطعام ذخيرة للأرض لسبع سني الجوع التي تكون في أرض مصر فلا تنقرض الأرض بالجوع.
قالت التوراة ما ملخصه أن فرعون استحسن كلام يوسف وتعبيره وأكرمه وأعطاه إمارة المملكة في جميع شؤونها وخلع عليه بخاتمه وألبسه ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقه وأركبه في مركبته الخاصة ونودي أمامه: أن اركعوا، وأخذ يوسف يدبر الأمور في سني الخصب ثم في سني الجدب أحسن إدارة.
ثم قالت التوراة ما ملخصه أنه لما عمت السنة أرض كنعان أمر يعقوب بنيه أن يهبطوا إلى مصر فيأخذوا طعاماً فساروا ودخلوا على يوسف فعرفهم وتنكر لهم وكلمهم بجفاء وسألهم من أين جئتم؟ قالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاماً قال يوسف: بل جواسيس أنتم جئتم إلى أرضنا لتفسدوها قالوا: نحن جميعاً أبناء رجل واحد في كنعان كنا اثني عشر أخاً فقد منا واحد وبقي أصغرناها هو اليوم عند أبينا، والباقون بحضرتك ونحن جميعا أمناً لا نعرف الفساد والشر.
قال يوسف: لا وحياة فرعون نحن نراكم جواسيس ولا نخلي سبيلكم حتى تحضرونا أخاكم الصغير حتى نصدقكم فيما تدعون فأمر بهم فحبسوا ثلاثة أيام ثم أحضرهم وأخذ من بينهم شمعون وقيده أمام عيونهم وأذن لهم أن يرجعوا إلى كنعان ويجيئوا بأخيهم الصغير.
ثم أمر أن يملأ أوعيتهم قمحاً وترد فضة كل واحد منهم إلى عدله ففعل فرجعوا إلى أبيهم وقصوا عليه القصص فأبى يعقوب أن يرسل بنيامين معهم وقال. أعدمتموني الأولاد يوسف مفقود وشمعون مفقود وبنيامين تريدون أن تأخذوه لا يكون ذلك أبداً وقال: قد أسأتم في قولكم للرجل: إن لكم أخاً تركتموه عندي قالوا: إنه سأل عنا وعن عشيرتنا قائلا: هل أبوكم حي بعد؟ وهل لكم أخ آخر فأخبرناه كما سألنا وما كنا نعلم أنه سيقول. جيئوا إلي بأخيكم.
فلم يزل يعقوب يمتنع حتى أعطاه يهوذا الموثق أن يرد إليه بنيامين فأذن في ذهابهم به معهم، وأمرهم أن يأخذوا من أحسن متاع الأرض هدية إلى الرجل وأن يأخذوا معهم أصرة الفضة التي ردت إليهم في أوعيتهم ففعلوا.
ولما وردوا مصر لقوا وكيل يوسف على أموره وأخبروه بحاجتهم وأن بضاعتهم ردت إليهم في رحالهم وعرضوا له هديتهم فرحب بهم وأكرمهم وأخبرهم أن فضتهم لهم وأخرج إليهم شمعون الرهين ثم أدخلهم على يوسف فسجدوا له وقدموا إليه هديتهم فرحب بهم واستفسرهم عن حالهم وعن سلامة أبيهم وعرضوا عليه أخاهم الصغير فأكرمه ودعا له ثم أمر بتقديم الطعام فقدم له وحده، ولهم وحدهم ولمن عنده من المصريين وحدهم.
ثم أمر وكيله أن يملأ أوعيتهم طعاماً وأن يدس فيها هديتهم وأن يضع طاسة في عدل أخيهم الصغير ففعل فلما أضاء الصبح من غد شدوا الرحال على الحمير وانصرفوا.
فلما خرجوا من المدينة ولما يبتعدوا قال لوكيله أدرك القوم وقل لهم: بئس ما صنعتم جازيتم الإِحسان بالإِساءة سرقتم طاس سيدي الذي يشرب فيه ويتفاءل به فتبهتوا من استماع هذا القول، وقالوا: حاشانا من ذلك، هوذا الفضة التي وجدناها في أفواه عدالنا جئنا بها إليكم من كنعان فكيف نسرق من بيت سيدك فضة أو ذهباً من وجد الطاس في رحله يقتل ونحن جميعاً عبيد سيدك فرضي بما ذكروا له من الجزاء فبادروا إلى عدولهم، وأنزل كل واحد منهم عدله وفتحه فأخذ يفتشها وابتدأ من الكبير حتى انتهى إلى الصغير وأخرج الطاس من عدله.
فلما رأى ذلك إخوته مزقوا ثيابهم ورجعوا إلى المدينة ودخلوا على يوسف وأعادوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذنب وعليهم سيماء الصغار والهوان والخجل فقال: حاشا أن نأخذ إلا من وجد متاعنا عنده، وأما أنتم فارجعوا بسلام إلى أبيكم.
فتقدم إليه يهوذا وتضرع إليه واسترحمه وذكر له قصتهم مع أبيهم حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين فسألوا أباهم ذلك فأبى أشد الإِباء حتى آتاه يهوذا الميثاق على أن يرد بنيامين إليه وذكر أنهم لا يستطيعون أن يلاقوا أباهم وليس معهم بنيامين، وأن أباهم الشيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته ثم سأله أن يأخذه مكان بنيامين عبداً لنفسه ويطلق بنيامين لتقر بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من أمه يوسف.
قالت التوراة: فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده فصرخ أخرجوا كل إنسان عنب فلم يقف أحد عنده حين عرف يوسف إخوته بنفسه فأطلق صوته بالبكاء فسمع المصريون وسمع بيت فرعون، وقال يوسف لإِخوته: أنا يوسف أحي أبي بعد؟ فلما يستطع إخوته ان يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه.
وقال يوسف لإِخوته: تقدموا إلي، فتقدموا فقال: أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر والآن لا تتأسفوا ولا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم لأن للجوع في الأرض الآن سنتين وخمس سنين أيضاً لا يكون فيها فلاحة ولا حصاد فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض وليستبقى لكم نجاة عظيمة فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا بل الله وهو قد جعلني أباً لفرعون وسيداً لكل بيته ومتسلط على كل أرض مصر.
أسرعوا واصعدوا إلى أبي وقولوا له هكذا يقول ابنك يوسف: انزل إلي لا تقف فتسكن في أرض جاسان وتكون قريباً مني أنت وبنوك وبنو بيتك وغنمك وبقرك وكل مالك، وأعولك هناك لأنه يكون أيضاً خمس سنين جوعاً لئلا تفتقر أنت وبيتك وكل مالك، وهوذا عيونكم ترى وعينا أخي بنيامين أن فمي هو الذي يكلمكم، وتخبرون أني بكل مجدي في مصر وبكل ما رأيتم وتستعجلون وتنزلون بأبي إلى هنا ثم وقع على عين بنيامين أخيه وبكى، وبكى بنيامين على عنقه وقبل جميع إخوته وبكى عليهم.
ثم قالت التوراة: ما ملخصه أنه جهزهم أحسن التجهيز وسيرهم إلى كنعان فجاؤوا أباهم وبشروه بحياة يوسف وقصوا عليه القصص فسر بذلك وسار بأهله جميعاً إلى مصر وهم جميعاً سبعون نسمة ووردوا أرض جاسان من مصر وركب يوسف إلى هناك يستقبل أباه ولقيه قادماً فتعانقا وبكى طويلاً ثم أنزله وبنيه وأقرهم هناك وأكرمهم فرعون إكراماً بالغاً وآمنهم وأعطاهم ضيعة في أفضل بقاع مصر وعالهم يوسف ما دامت السنون المجدبة وعاش يعقوب في أرض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنة.
هذا ما قصته التوراة من قصة يوسف فيما يحاذي القرآن أوردناها ملخصة إلا في بعض فقراتها لمسيس الحاجة.
(كلام في الرؤيا في فصول)
1 - الاعتناء بشأنها: كان الناس كثير العناية بأمر الرؤى والمنامات منذ عهود قديمة لا يضبط لها بدء تاريخي، وعند كل قوم قوانين وموازين متفرقة متنوعة يزنون بها المنامات ويعبرونها بها ويكشفون رموزها، ويحلون بها مشكلات إشاراتها فيتوقعون بذلك خيراً أو شراً أو نفعاً أو ضراً بزعمهم.
وقد اعتنى بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه عليهما السلام قال: { فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر } - إلى أن قال -
{ وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } } [الصافات: 105]. ومنها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف عليه السلام: { { إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } } [يوسف: 4]. ومنها رؤيا صاحبي يوسف في السجن قال أحدهما: { { إني أراني أعصر خمراً وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } } [يوسف: 36]. ومنها رؤيا الملك: { وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي } } [يوسف:43]. ومنها رؤيا أم موسى قال تعالى: { { إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم } [طه: 38ـ39] على ما ورد في الروايات أنه كان رؤيا.
ومنها ما ذكر من رؤى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى:
{ { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر } [الأنفال: 43]، وقال: { { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون } [الفتح: 27] وقال: { { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } } [الإسراء: 60]. وقد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل البيت عليهم السلام تصدق ذلك وتؤيده.
لكن الباحثين من علماء الطبيعة من أوربا لا يرون لها حقيقة ولا للبحث عن شأنها وارتباطها بالحوادث الخارجية وزنا علمياً، إلا بعضهم من علماء النفس ممن اعتنى بأمرها، واحتج عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تنبئ عن حوادث مستقبلة أو أُمور خفية إنباء عجيباً لا سبيل إلى حمله على مجرد الاتفاق والصدفة، وهي منامات كثيرة جداً مروية بطرق صحيحة لا يخالطها شك، كاشفة عن حوادث خفية أو مستقبلة أوردها في كتبهم.
2 - وللرؤيا حقيقة: ما منا واحد إلا وقد شاهد من نفسه شيئاً من الرؤى والمنامات دله على بعض الأمور الخفية أو المشكلات العلمية أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو الشر أو قرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل، ولا سبيل إلى حمل ذلك على الاتفاق وانتفاء أي رابطة بينها وبين ما ينطبق عليها من التأويل. وخاصة في المنامات الصريحة التي لا تحتاج إلى تعبير.
نعم مما لا سبيل أيضاً إلى إنكاره أن الرؤيا أمر إدراكي وللخيال فيها عمل، والمتخيلة من القوى الفعالة دائماً ربما تدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحس كاللمس والسمع، وربما تأخذ صوراً بسيطة أو مركبة من الصور والمعاني المخزونة عندها فتحلل المركبات كتفصيل صورة الإِنسان التامة إلى رأس ويد ورجل وغير ذلك وتركب البسائط كتركيبها إنساناً مما اختزن عندها من أجزائه وأعضائه فربما ركبته بما يطابق الخارج وربما ركبته بما لا يطابقه كتخيل إنسان لا رأس له أوله عشرة رؤوس.
وبالجملة للأسباب والعوامل الخارجية المحيطة بالبدن كالحر والبرد ونحوها، والداخلية الطارئة عليه كأنواع الأمراض والعاهات وانحرافات المزاج وامتلاء المعدة والتعب وغيرها تأثير في المتخيلة فلها تأثير في الرؤيا.
فترى أن من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيراناً مؤججة أو الشتاء والجمد ونزول الثلوج، وأن من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام وبركان الماء ونزول الأمطار ونحو ذلك، وأن من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوشة لا ترجع إلى طائل.
وكذلك الأخلاق والسجايا الإِنسانية شديدة التأثير في نوع تخيله فالذي يحب إنساناً أو عملاً لا ينفك يتخيله في يقظته ويراه في نومته والضعيف النفس الخائف الذعران إذا فوجئ بصوت يتخيل إثره أُموراً هائلة لا إلى غاية، وكذلك البغض والعداوة والعجب والكبر والطمع ونظائرها كل منها يجر الإِنسان إلى تخيله صوراً متسلسلة تناسبه وتلائمه، وقل ما يسلم الإِنسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه.
ولذلك كان أغلب الرؤى والمنامات من التخيلات النفسانية التي ساقها إليها شيء من الأسباب الخارجية والداخلية الطبيعية أو الخلقية ونحوها فلا تحكى النفس بحسب الحقيقة الا كيفية عمل تلك الأسباب وأثرها فيها فحسب لا حقيقة لها وراء ذلك.
وهذا هو الذي ذكره منكروا حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في إدراك الإنسان.
ومن المسلم ما أورده غير أنه لا ينتج إلا أن كل الرؤيا ليس ذا حقيقة، وهو غير المدعى وهو أن كل منام ليس ذا حقيقة فإن هناك منامات صالحة ورؤيا صادقة تكشف عن حقائق ولا سبيل إلى إنكارها ونفي الرابطة بينها وبين الحوادث الخارجية والأمور المستكشفة كما تقدم.
فقد ظهر مما بينا أن جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى أن هذه الإِدراكات المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الإِنسانية في المنام وهى المسماة بالرؤى لها أصول وأسباب تستدعي وجودها للنفس وظهورها للخيال وهى على اختلافها تحكي وتمثل بأصولها وأسبابها التي استدعتها فلكل منام تأويل وتعبير غير أن تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في البدن في حال النوم، وتأويل بعضها السبب الخلقي وبعضها أسباب متفرقة اتفاقية كمن يأخذه النوم وهو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهناً له.
وإنما البحث في نوع واحد من هذه المنامات، وهى الرؤى التي لا تستند إلى أسباب خارجية طبيعية، أو مزاجية أو اتفاقية ولا إلى أسباب داخلية خلقية أو غير ذلك، ولها ارتباط بالحوادث الخارجية والحقائق الكونية.
3 - المنامات الحقة: المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية وخاصة المستقبلة منها لما كان أحد طرفي الارتباط أمراً معدوماً بعد كمن يرى أن حادثة كذا وقعت ثم وقعت بعد حين كما رأى. ولا معنى للارتباط الوجودي بين موجود ومعدوم أو أمراً غائباً عن النفس لم يتصل بها من طريق شيء من الحواس كمن رأى أن في مكان كذا دفيناً فيه من الذهب المسكوك كذا ومن الفضة كذا في وعاء صفته كذا وكذا ثم مضى إليه وحفر كما دل عليه فوجده كما رأى، ولا معنى للارتباط الإِدراكى بين النفس وبين ما هو غائب عنها لم ينله شيء من الحواس.
ولذا قيل: إن الارتباط إنما استقر بينها وبين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة ومن طريق سببها بنفسها.
توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة وهو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه والأشياء الموجودة فيها صور مادية تجرى على نظام الحركة والسكون والتغير والتبدل.
وثانيها: عالم المثال وهو فوق عالم الطبيعة وجوداً، وفيه صور الأشياء بلا مادة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعية وإليها تعود، وله مقام العلية ونسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة.
وثالثها: عالم العقل وهو فوق عالم المثال وجوداً وفيه حقائق الأشياء وكلياتها من غير مادة طبيعية ولا صورة، وله نسبة السببية لما في عالم المثال.
والنفس الإِنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال وعالم العقل فإذا نام الإِنسان وتعطلت الحواس انقطعت النفس طبعاً عن الأمور الطبيعية الخارجية ورجعت إلى عالمها المسانخ لها وشاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد والإِمكان.
فإن كانت النفس كاملة متمكنة من إدراك المجردات العقلية أدركتها واستحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية والنورية، وإلا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور والأشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة، ونحكي مفهوم العظمة بالجبل، ومفهوم الرفعة والعلو بالسماء وما فيها من الأجرام السماوية ونحكي الكائد المكار بالثعلب والحسود بالذئب والشجاع بالأسد إلى غير ذلك.
وإن لم تكن متمكنة من إدراك المجردات على ما هي عليها والارتقاء إلى عالمها في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها وأسبابها من غير أن تتصرف فيها بشيء من التغيير، ويتفق ذلك غالباً في النفوس السليمة المتخلفة بالصدق والصفاء، وهذه هي المنامات الصريحة.
وربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الازدواج بالاكتساء والتلبس، والفخار بالتاج والعلم بالنور والجهل بالظلمة وخمود الذكر بالموت، وربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى وانتقالنا من تصور النار إلى تصور الجمد ومن تصور الحياة إلى تصور الموت. وهكذا، ومن أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أن رجلاً رأى في المنام أن بيده خاتماً يختم به أفواه الناس وفروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال: إنك ستصير مؤذناً في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك.
وقد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم انقساماً أولياً إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مؤونة، ومنامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال والانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده، وهذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأوّلى للنفس كرد التاج إلى الفخار، ورد الموت إلى الحياة والحياة إلى الفرج بعد الشدة ورد الظلمة إلى الجهل والحيرة أو الشقاء.
ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشيء إلى ما يناسبه أو يضاده ووقفت في المرة والمرتين مثلاً بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة. وثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كأن تنتقل مثلاً من الشيء إلى ضده ومن الضد إلى مثله ومن مثل الضد إلى ضد المثل وهكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود، وهذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الاحلام ولا تعبير لها لتعسره أو تعذره.
وقد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية: وهى المنامات الصريحة ولا تعبير لها لعدم الحاجة إليه، وأضغاث الاحلام ولا تعبير فيها لتعذره أو تعسره والمنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهى التي تقبل التعبير.
هذا إجمال ما أورده علماء النفس من قدمائنا في أمر الرؤيا واستقصاء البحث فيها أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن.
4 - وفي القرآن ما يؤيد ذلك -: قال تعالى:
{ وهو الذي يتوفاكم بالليل } } [الأنعام: 60]، وقال: { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى } [الزمر: 43] وظاهره أن النفوس متوفاة ومأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعاً من الرجوع يضاهي الموت.
وقد أُشير في كلامه إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم عليهم السلام ورؤيا أُم موسى وبعض رؤى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن القسم الثاني ما في قوله تعالى:
{ { قالوا أضغاث أحلام } } [يوسف: 44]، ومن القسم الثالث رؤيا يوسف ومناما صاحبيه في السجن ورؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.