التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
١٩
وَمَا ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ
٢٠
وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ
٢١
وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوۤاْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ ٱلظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٢
وَأُدْخِلَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ
٢٣
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ
٢٤
تُؤْتِيۤ أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٥
وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ
٢٦
يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ
٢٧
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ
٢٨
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ
٢٩
وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى ٱلنَّارِ
٣٠
قُل لِّعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ
٣١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلأَنْهَارَ
٣٢
وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ
٣٣
وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
٣٤
-إبراهيم

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تشتمل الآيات على تذكرة الناس في صورة خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة بعد مرة بقوله: { ألم ترَ كيف خلق الله السماوات والأرض بالحق } { ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً } { ألم ترَ إلى الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً }.
يذكِّر تعالى بها أن الخلقة مبنية على الحق فهم سيبرزون جميعاً فالذين ساروا بالحق وآمنوا بالحق وعملوا الحق ينالون السعادة والجنة، والذين اتَّبعوا الباطل وعبدوا الشيطان وأطاعوا الطغاة المستكبرين منهم غروراً بظاهر عزتهم وقدرتهم لزمهم شقاء لازم وتبرَّأ منهم متبوعوهم من الجن والإِنس ولله العزة والحمد.
ثم يذكِّر أن هذا التقسُّم إلى فريقين إنما هو لانقسام سلوكهم إلى قسمين: سلوك هدى وسلوك ضلال، والذي يلزمه الهدى هو المؤمن والذي يلزمه الضلال هو الظالم والقاضي بذلك هو الله سبحانه يفعل ما يشاء وله العزة والحمد.
ثم يذكِّر بالأمم الماضية الهالكة وما وقعوا فيه من البوار بسبب كفرانهم بنعمة الله العزيز الحميد، ويعاتب الإِنسان بظلمه وكفره بالنعم الإِلهية التي ملأت الوجود وإن تعدّوها لا تحصوها.
قوله تعالى: { ألم ترَ أنَّ الله خلق السماوات والأرض بالحق } المراد بالرؤية هو العلم القاطع، فإنه الصالح لأن يتعلّق بكيفية خلق السماوات والأرض دون الرؤية البصرية.
ثم الفعل الحق ويقابله الباطل هو الذي يكون لفاعله فيه غاية مطلوبة يسلك إليه بذاته فمن المشهود أن كل واحد من الأنواع من أول تكونه متوجه إلى غاية مؤجلة لا بغية له دون أن يصل إليها ثم البعض منها غاية للبعض ينتفع به في طريق كينونته ويصلح به في حدوثه وبقائه كالعناصر الأرضية التي ينتفع بها النبات، والنبات الذي ينتفع به الحيوان وهكذا قال تعالى:
{ { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الدخان: 38ـ39]. وقال: { { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا } } [ص: 27]. فلا تزال الخلقة تقع مرحلة بعد مرحلة وتنال غاية بعد غاية حتى تتوقف في غاية لا غاية بعدها، وذلك رجوعها إلى الله سبحانه قال تعالى: { { وأن إلى ربك المنتهى } } [النجم: 42]. وبالجملة الفعل إنما يكون فعلاً حقاً إذا كان له أمر يقصده الفاعل بفعله وغاية يسلك بالفعل إليها، وأما إذا كان فعلاً لا يقصد به إلا نفسه من غير أن يكون هناك غرض مطلوب فهو الفعل الباطل، وإذا كان الفعل الباطل ذا نظام وترتيب فهو الذي يسمى لعباً كما يلعب الصبيان بإتيان حركات منظمة مرتبة لا غاية لهم وراءها ولا إن لهم همّاً إلا إيجاد ما تخيلوه من صورة الفعل لشوق نفساني منهم إلى ذلك.
وفعله تعالى ملازم للحق مصاحب له فخلق السماوات والأرض يخلف عالماً باقياً بعد زواله، ولو لم يكن كذلك كان باطلاً لا أثر له ولا خلف يخلفه، وكان العالم المشهود بما فيه من النظام البديع لعباً منه سبحانه اتخذه لحاجة منه إليه كالتنفس من كرب وسأمة والتفرج من همّ أو التخلص من وحشة وحدة ونحو ذلك وهو سبحانه العزيز الحميد لا تمسّه حاجة ولا يذله فقر وفاقة.
وبما مرّ يظهر أن الباء في قوله: { بالحق } للمصاحبة وأن قول بعضهم: أن الباء للسببيّة أو الآلة وأن المعنى كيف خلقها بقوله الحق أو للغرض الحق ليس على ما ينبغي.
قوله تعالى: { إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز } أي بشاق صعب، والخطاب لعامة البشر بجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثالاً لهم يمثلون به لان الخطاب متوجه إليه في قوله قبل وبعد: { ألم تر } { وما ذلك }.
قد تقدم أن كون الخلقة بالحق هو مقتضى كونه تعالى عزيزاً غنياً بالذات إذ لو لم يقتض غناه ذلك وأمكن صدور اللعب منه تعالى وكان هذا الخلق المشهود بما له من النظام البديع لعباً لا يقصد به إلا حدوث وفناء كان ذلك لشوق خيالي منه إليه وحاجة داخلية كتنفيس كرب وتفريج همّ أو أُنس عن وحشة وسأمة ونحو ذلك وغناه تعالى بالذات يدفع ذلك.
ولعل هذه النكتة هي التي أوجبت تعقيب قوله: { كيف خلق الله السماوات والأرض } بقوله: { إن يشأ يذهبكم } الخ، فقوله: { إن يشأ يذهبكم } الخ، في موضع البيان لما تقدمه والمعنى ألم تعلم أن الله خلق هذا الخلق المشهود عن عزة منه وغنى وأنه إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك عليه تعالى بعزيز وهو الله عز اسمه له الأسماء الحسنى وكل العزة والكبرياء.
وبهذا يظهر أن وضع الظاهر في موضع المضمر في قوله: { على الله } للدلالة على الحجة وأن عدم عزة ذلك عليه تعالى من جهة كونه هو الله عز اسمه.
فإن قلت: لو كان الإِتيان بقوله: { إن يشأ } الخ، للدلالة على غناه المطلق وعدم كونه لاعباً بالخلق لكان الأنسب الاقتصار على قوله: { إن يشأ يذهبكم } وترك قوله: { ويأت بخلق جديد } فإن إذهاب القديم والإِتيان بجديد لا ينفي اللعب لجواز أن يكون نفس إذهاب بعض وإتيان بعض لعباً.
قلت: هذا كذلك لو قيل: إن يشأ يُذهبْ جميع الخلق ويأتِ بخلق جديد ولكن لما قيل: { إن يشأ يُذهبكم } الخ والخطاب لعامة البشر أو لأمّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط أو للموجودين في عصره كان من اللازم أن يعقبه بقوله: { ويأتِ بخلق جديد } فإن هذا الخلق المشهود بما بين أجزائه من الإِرتباط والتعلق لا يتم الغرض منه إلا بهذه الصفة الموجودة والتركّب والتألف الخاص، ولو أُذهب الناس على بقاء من السماوات والأرض بحالها الحاضرة كان ذلك باطلاً ولعباً من جهة أخرى.
وبعبارة أخرى إذهاب الإِنسان فقط من غير إتيان بخلق جديد على إبقاء لسائر الخلق المشهود لعب باطل كما أن إذهاب الخلق من أصله من غير غاية مترتبة لعب باطل، وإنما الحق الذي يكشف عن غناه تعالى أن يذهب قوماً ويأتي بآخرين وهو الذي تذكره الآية الكريمة، فافهم ذلك.
قوله تعالى: { وبرزوا لله جميعاً } إلى آخر الآية، البروز هو الخروج إلى البراز بفتح الباء وهو الفضاء، يقال: برز إليه إذا خرج إليه بحيث لا يحجبه عنه حاجب، ومنه المبارزة والبراز كخروج المقاتل من الصف إلى كفؤه من العدو.
والتبع بفتحتين جمع تابع كخدم وخادم، وقيل: اسم جمع، وقيل: مصدر جيء به للمبالغة، والإِغناء الإِفادة وضمّن معنى الدفع ولذا عدّي بعن كما قيل، والجزع والصبر متقابلان، والمحيص اسم مكان من حاص يحيص حيصاً وحيوصاً إذا زال عن المكروه كما في المجمع فالمحيص هو المكان الذي يزول إليه الانسان عن المكروه والشدة.
وقوله: { وبرزوا لله جميعاً } أي ظهروا له تعالى ظهوراً لا يحجبهم عنه حاجب وهذا بالنسبة إلى أنفسهم حيث كانوا يتوهمون في الدنيا إن ربهم في غيبة عنهم وهم غائبون عنه، فإذا كان يوم القيامة زال كل ستر متوهم وشاهدوا أن لا حاجب هناك يحجبهم عنه، وأما هو تعالى فلا ساتر يستر عنه في دنيا ولا آخرة، قال تعالى:
{ { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } } [آل عمران: 5]. ويمكن أن تكون الجملة كناية عن خلوصهم لحساب الأعمال وتعلق المشيئة الإِلهية بانقطاع الأعمال وإنجاز الجزاء الموعود كما قال: { { سنفرغ لكم أيه الثقلان } } [الرحمن: 31]. وقوله: { فقال الضعفاء للذين استكبروا } إلى قوله { من شيء } تخاصم بين الكفار يوم القيامة - على ما يعطيه السياق - فالضعفاء هم المقلدون المطيعون لأوليائهم من الكفار، والمستكبرون هم أولياؤهم المتبوعون أُولوا الطَّوْل والقوة المستنكفون عن الإِيمان بالله وآياته.
والمعنى فقال الضعفاء المقلدون للذين استكبروا منهم إنا كنا في الدنيا لكم تابعين مطيعين من غير أن نسألكم حجة على ما تأمروننا به فهل أنتم مفيدون لنا اليوم تدفعون عنا شيئاً من عذاب الله الذي قضي علينا.
وعلى هذا فلفظة "من" في قوله { من عذاب الله } للبيان، وفي قوله { من شيء } زائدة للتأكيد كما في قولنا: ما جاءني من أحد، والنفي والاستفهام متقاربان حكماً ولا دليل على امتناع تقدم البيان على المبين وخاصة مع اتصالهما وعدم الفصل بينهما.
وقوله: { قالوا لو هدانا الله لهديناكم } ظاهر السياق أن المراد بالهداية هنا الهداية إلى طريق التخلص من العذاب ويمكن أن يكون المراد بها الهداية إلى الدين الحق في الدنيا، والمآل واحد لما بين الدنيا والآخرة من التطابق، ولا يبرز في الأخرى إلا ما كان كامناً في الأولى، قال تعالى حكاية عن أهل الجنة:
{ { وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رُسل ربنا بالحق } [الأعراف: 43]، مزجوا الهدايتين بعضاً ببعض كما هو ظاهر.
وقوله: { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } سواء والاستواء والتساوي واحد، وسواء خبر لمبتدأ محذوف والجملة الاستفهامية بيان لذلك، وقوله: { ما لنا من محيص } بيان آخر للتساوي، والمعنى الأمران متساويان علينا وبالنسبة إلينا وهما الجزع والصبر لا مهرب لنا عن العذاب اللازم.
قوله تعالى: { وقال الشيطان لما قُضي الأمر } إلى آخر الآية في المجمع الإِصراخ الإِغاثة بإجابة الصارخ ويقال: استصرخني فلان فأصرخته أي استغاث بى فأغثته. انتهى.
وهذا كلام جامع يلقيه الشيطان يوم القيامة إلى الظالمين يبيّن فيه موقعه منهم وينبّئ أهل الجمع منهم بوجه الحق في الرابطة التي كانت بينه وبينهم في الدنيا وقد وعد الله سبحانه أنه سينبؤهم يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون، وأن الحق سيظهر يوم القيامة عن قبل كل من كان له من قبله خفاء أو التباس، فالملائكة يتبرّؤن من شركهم والجن والقرناء من الشياطين يطردونهم، والأصنام والآلهة التي اتخذوها أرباباً من دون الله يكفرون بشركهم، وكبراؤهم وأئمة الضلال لا يستجيبون لهم، والمجرمون أنفسهم يعترفون بضلالهم وجرمهم، كل ذلك واقعة في آيات كثيرة غير خفيّة على المتتبّع المتدبر فيها.
والشيطان وإن كان بمعنى الشرير وربما أُطلق في كلامه تعالى على كل شرير من الجن والإِنس كقوله:
{ { وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإِنس والجن } } [الأنعام: 112] لكن المراد به في الآية الشيطان الذي هو مصدر كل غواية وضلال في بني آدم وهو إبليس فإن ظاهر السياق أنه يخاطب بكلامه هذا عامة الظالمين من أهل الجمع ويعترف أنه كان يدعوهم إلى الشرك، وقد نص القرآن على أن الذي له هذا الشأن هو إبليس وقد ادَّعى هو ذلك ولم يردّ الله ذلك عليه كما في قوله: { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } إلى أن قال: { { لأملأنَّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } } [ص: 85]. وأما ذريته وقبيله الذين يذكرهم القرآن بقوله: { { إنه يراكم وهو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } [الأعراف: 27]، وقوله: { { أفتتخذونه وذريته أولياء } [الكهف: 50] فولاية الواحد منهم إما لبعض الناس دون بعض أو في بعض الأعمال دون بعض، وإما ولاية على نحو العونية فهو العون، والأصل الذي ينتهي إليه أمر الإِضلال والإِغواء هو إبليس.
فهذا القائل: { إن الله وعدكم وعد الحق } الخ هو إبليس يريد بكلامه ردّ اللوم على فعل المعاصي إليهم والتبرِّي من شركهم فقوله: إن الله وعدكم وعد الحق { ووعدتكم فأخلفتكم } أي وعدكم الله وعداً حققه الوقوع وصدَّقته المشاهدة من البعث والجمع والحساب وفصل القضاء والجنة والنار، ووعدتكم أنا أن لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار ولم أفِ بما وعدت حيث ظهر خلاف ما وعدت. كذا ذكره المفسرون.
وعلى هذا فالموعود جميع ما يرجع إلى المعاد إثباتاً ونفياً أثبته الله سبحانه ونفاه إبليس، وإخلاف الوعد كناية عن ظهور الكذب وعدم الوقوع من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.
ومن الممكن - بل هو الوجه - أن يشمل الوعد ما يترتب على الإِيمان والشرك في الدنيا والآخرة جميعاً لأنهما متطابقتان فقد وعد الله أهل الإِيمان حياة طيبة وعيشة سعيدة، وأهل الشرك المعرضين عن ذكره معيشة ضنكاً وتحرُّجاً في صدورهم وعذاباً في قلوبهم في الدنيا، ووعد الجميع بعثاً وحساباً وجنة وناراً في الآخرة.
ووعد إبليس أولياءه بالأهواء اللذيذة والآمال الطويلة وأنساهم الموت وصرفهم عن البعث والحساب وخوَّفهم الفقر والذلّة وملامة الناس، وكان مفتاحه في جميع ذلك إغفالهم عن مقام ربهم وتزيين ما بين أيديهم من الأسباب مستقلة بالتأثير خالقة لآثارها وتصوير نفوسهم لهم في صورة الاستقلال مهيمنة على سائر الأسباب تدبرها كيف شاءت فتغريهم على الاعتماد بأنفسهم دون الله وتسخير الأسباب في سبيل الآمال والأماني.
وبالجملة وعدهم الله فيما يرجع إلى الدنيا والآخرة بما وفى لهم فيه، ودعاهم إبليس من طريق الإِغفال والتزيين إلى الأوهام والأماني وهي بين ما لا يناله الإِنسان قطعاً وما إذا ناله وجده غير ما كان يظنه، فيتركه إلى ما يظنه كما يريد هذا في الدنيا وأما الآخرة فينسيه شؤونها كما تقدَّم. وقوله: { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } السلطان - كما ذكره الراغب - هو السلاطة وهو التمكن من القهر، وتسمى الحجة أيضاً سلطاناً لما فيها من التمكن من قهر العقول على ما لها من النتائج، وكثيراً ما يطلق ويراد به ذو السلطان كالملك وغيره.
والظاهر أن المراد ما هو أعم من السلطة الصورية والمعنوية فالمعنى وما كان في الدنيا لي عليكم من تسلط لا من جهة أشخاصكم وأعيانكم فاجبركم على معصية الله بسلب اختياركم وتحميل إرادتي عليكم، ولا من جهة عقولكم فأقيم لكم الحجة على الشرك كيفما شئت فتضطر عقولكم لقبوله وتطيعها نفوسكم فيما تأمرها به.
والظاهر أيضاً أن يكون الاستثناء في قوله: { إلا أن دعوتكم } منقطعاً والمعنى لكن دعوتكم من غير أي سلطان فاستجبتم لي، ودعوة الناس إلى الشرك والمعصية وإن كانت باذن الله لكنها لم تكن تسليطاً فإن الدعوة إلى فعل ليست تسلطاً من الداعي على فعل المدعو وإن كان نوع تسلط على نفس الدعوة، ومن الدليل عليه قوله تعالى فيما يأذن له { واستفزز من استطعت منهم بصوتك } إلى أن قال
{ { وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربّك وكيلاً } } [الإسراء: 64ـ65]. ومن هنا يظهر سقوط ما وجه به الرازي في تفسيره كون الاستثناء متصلاً إذ قال: إن القدرة على حمل الإِنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه، وذلك بإلقاء الوسواس إليه، وهذا نوع من أنواع التسلط فكأنه قال: ما كان لي تسلط عليكم إلا بالوسوسة لا بالضرب ونحوه.
وجه السقوط: أن عدم كون مجرد الدعوة سلطاناً وتمكناً من القهر على المدعو بديهي لا يقبل التشكيك فعدة من أنواع التسلط مما لا يصغى إليه.
نعم: ربما انبعثت من المدعو ميل نفساني إلى المدعو إليه فانقاد للدعوة وسلط الداعي بدعوته على نفسه، لكنه تسليط من المدعو لا تسلط من الداعي وبعبارة أخرى هي سلطة يملكها المدعو من نفسه فيملكها الداعي وليس الداعي يملكها عليه من نفسه، وإبليس إنما ينفي التسلط الذي يملكه من نفسه لا ما يسلطونه على انفسهم بالانقياد بقرينة قوله { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم }.
وهذا هو التسلط الذي يثبته الله سبحانه له في قوله:
{ { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } [النحل: 99ـ100]، أو قوله: { { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } [الحجر: 42]، والآيات - كما ترى - ظاهرة في أن سلطانه متفرع على الاتّباع والتولي والإِشراك لا بالعكس.
ولانتفاء سلطانه عليهم بالمرة استنتج قوله بعد: { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } والفاء للتفريع أي إذا لم يكن لي عليكم سلطان بوجه من الوجوه - كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي والتأكيد بمن في قوله: { وما كان لي عليكم من سلطان } - فلا يعود إلى شيء من اللوم العائد إليكم من جهة الشرك والمعصية فلا يحق لكم أن تلوموني بل الواجب عليكم أن تلوموا أنفسكم لأن لكم السلطان على عملكم.
وقوله: { ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي } أي ما أنا بمغيثكم ومنجيكم وما أنتم بمغيثي ومنجيّ فلا أنا شافع لكم ولا أنتم شافعون لي اليوم.
وقوله: { إني كفرت بما أشركتمون من قبل } أي اني تبرأت من إشراككم إياي في الدنيا، والمراد بالإِشراك الإِشراك في الطاعة دون الإِشراك في العبادة كما يظهر من قوله تعالى خطاباً لأهل الجمع:
{ { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني } } [يس: 60ـ61]. وهذا الكلام منه تبرّ من شركهم كما حكى سبحانه تبري كل متبوع باطل من تابعه يوم القيامة وهو إظهار أن إشراكهم إياه بالله في الدنيا لم يكن إلا وهماً سرابياً قال تعالى: { { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } [فاطر: 14]، وقال: { { وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فَنَتَبَرَّأ منهم كما تبرءُواْ منا } [البقرة: 167]، وقال: { { قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } } [القصص: 63ـ64]. وقوله: { إن الظالمين لهم عذاب أليم } من تمام كلام إبليس على ما يعطيه السياق يسجّل عليهم العذاب الأليم لأنهم ظالمون ظلماً لا يرجع إلا إلى أنفسهم.
وظاهر السياق أن قوله: { ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ } كناية عن انتفاء الرابطة بينه وبين تابعيه كما يشير تعالى إليه في مواضع أخرى بمثل قوله:
{ { لقد تقطّع بينكم وضلَّ عنكم ما كنتم تزعمون } [الأنعام: 94]، وقوله: { { فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } } [يونس: 28]. وذلك لظهور أنه لو لم يكن كناية لكان قوله: { وما أنتم بمصرخيّ } مستدركاً مستغنى عنه لعدم تعلق غرض به فلا هم يتوهمون أنهم قادرون على إغاثة إبليس والشفاعة له ولا هو يتوهم ذلك ولا المقام يوهم ذلك فهو يقول: { لا تلوموني ولوموا أنفسكم } لأن الرابطة مقطوعة بيني وبينكم لا ينفعكم أني كنت متبوعكم ولا ينفعني أنكم كنتم أتباعي إني تبرّأت من شرككم فلست بشريك له تعالى، وإنما تبرّأت لأنكم ظالمون في أنفسكم والظالمون لهم عذاب أليم لا مسوّغ يومئذ للحماية عنهم والتقرب منهم.
وهذا السياق - كما ترى - يشهد أن تابعي إبليس يلومونه يوم القيامة على ما أصابهم من المصيبة على اتباعه متوقعين منه أن يشاركهم في مصابهم بنحو، وهو يردّ عليهم ذلك بأنه لا رابط بينه وبينهم فلا يلحق لومهم إلا بأنفسهم ولا يسعه أن يماسّهم ويقترب منهم لأنه يخاف العذاب الأليم الذي هُيِّئ للظالمين وهم ظالمون، فهو قريب المعنى من قوله تعالى:
{ { كمثل الشيطان إذ قال للإِنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين } } [الحشر: 16]. ولعله من هنا قال بعضهم: إن المراد بقوله: { إني كفرت } الخ... كفره في الدنيا على أن يكون { من قبل } متعلقاً بقوله: "كفرت" فقط، أو به وبقوله: "أشركتموني" على سبيل التنازع.
وبالجملة المطلوب العمدة في الآية إن الإِنسان هو المسؤول عن عمله لأن السلطان له لا لغيره فلا يلومنَّ إلا نفسه، وأما رابطة التابعية والمتبوعية فهي وهمية لا حقيقة لها وسيظهر هذه الحقيقة يوم القيامة عندما يتبرّء منه الشيطان ويعيد لائمته إلى نفسه كما بّين في الآية السابقة أن الرابطة بين الضعفاء والمستكبرين وهمية لا تغني عنهم شيئاً عندما تقع إليها الحاجة يوم القيامة حين انكشاف الحقائق.
وللمفسرين في فقرات الآية أقوال شتى مختلفة أغمضنا عن إيرادها، ومن أراد الإِطلاع عليها فليراجع مطوّلات التفاسير.
وفي الآية دلالة واضحة على أن للإِنسان سلطاناً على عمله هو الذي يوجب ارتباط الجزاء به ويسلبه عن غيره، وهو الذي يعيد اللائمة إليه لا إلى غيره، وأما كونه مستقلاً بهذا السلطان فلا دلالة فيها على ذلك البتة، وقد تكلمنا في ذلك في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله:
{ { وما يضلُّ به إلا الفاسقين } } [البقرة: 26]. قوله تعالى: { وأُدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات } الخ بيان ما ينتهي إليه حال السعداء من المؤمنين، وفي قوله: { تحيتهم فيها سلام } مقابلة حالهم من انعكاس السلام والتحية المباركة من بعضهم إلى بعض مع حال غيرهم المذكورين في الآيتين السابقتين من الخصام وتجبيه بعضهم بعضاً بالكفر والتبرّي والإِيآس.
قوله تعالى: { ألم ترَ كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلَها كل حين بإذن ربها } ذكروا أن "كلمة" بدل اشتمال من "مثلاً" و "كشجرة" صفة بعد صفة لقوله "كلمة" أو خبر مبتدأ محذوف والتقدير هي كشجرة، وقيل: إن "كلمة" مفعول أول متأخر لضرب و "مثلاً" مفعوله الثاني قدّم لدفع محذور الفصل بين "كلمة" وصفتها وهي "كشجرة" والتقدير ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة الخ.... مثلاً.
وقيل: "ضرب" متعدّ لواحد و "كلمة" منصوب بفعل مقدّر كجعل واتخذ والتقدير ضرب الله مثلاً جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة الخ، وأظن أن هذا أحسن الوجوه لو وجّه بكون "كلمة طيبة" الخ عطف بيان لقوله: { ضرب الله مثلاً } من بيان الجملة للجملة، ويتعيّن حينئذ نصب "كلمة" بمقدّر هو جعل أو اتخذ لأن المدلول أنه مثّل الكلمة بالشجرة وشبّهها بها وهو معنى قولنا: اتخذ كلمة طيبة كشجرة الخ. وقوله: { أصلها ثابت } أي مرتكز في الأرض ضارب بعروقه فيها، وقوله: { وفرعها في السماء } أي ما يتفرع على ذلك الأصل من أغصانها في جهة العلو فكل ما علا وأظلّ سماء، وقوله: { تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها } أي تثمر ثمرها المأكول كل زمان بإذن الله، وهذا نهاية ما تفيده شجرة من البركات.
واختلفوا في الآية أولاً في المراد من الكلمة الطيبة فقيل: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل: الإِيمان، وقيل: القرآن، وقيل: مطلق التسبيح والتنزيه، وقيل: الثناء على الله مطلقاً، وقيل: كل كلمة حسنة، وقيل: جميع الطاعات، وقيل المؤمن.
وثانياً في المراد من الشجرة الطيبة فقيل: النخلة وهو قول الأكثرين، وقيل: شجرة جوز الهند، وقيل: كل شجرة تثمر ثمرة طيبة كالتين والعنب والرمان، وقيل: شجرة صفتها ما وصفه الله وإن لم تكن موجودة بالفعل.
ثم اختلفوا في المراد بالحين فقيل: شهران، وقيل: ستة أشهر، وقيل: سنة كاملة، وقيل: كل غداة وعشي، وقيل: جميع الأوقات.
والاشتغال بأمثال هذه المشاجرات مما يصرف الإِنسان عما يهمه من البحث عن معارف كتاب الله والحصول على مقاصد الآيات الكريمة وأغراضها.
والذي يعطيه التدبر في الآيات أن المراد بالكلمة الطيبة التي شبّهت بشجرة طيبة من صفتها كذا وكذا هو الاعتقاد الحق الثابت فإنه تعالى يقول بعد وهو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل: { يثّبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } الآية والقول هي الكلمة ولا كل كلمة بما هي لفظ بل بما هي معتمدة على اعتقاد وعزم يستقيم عليه الإِنسان ولا يزيغ عنه عملاً.
وقد تعرّض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع من كلامه كقوله:
{ { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [الأحقاف: 13]، وقوله: { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا } [فصلت: 30]، وقوله: { { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } } [فاطر: 10]. وهذا القول والكلمة الطيبة هو الذي يرتّب تعالى عليه تثبيته في الدنيا والآخرة أهله وهم الذين آمنوا ثم يقابله بإضلال الظالمين ويقابله بوجه آخر بشأن المشركين، وبهذا يظهر أن المراد بالممثّل هو كلمة التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله حق شهادته.
فالقول بالوحدانية والاستقامة عليه هو حق القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كل تغير وزوال وبطلان وهو الله عز اسمه أو أرض الحقائق، وله فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيي بها المؤمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الإِنساني حق عمارته وهي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدى إلى ظهور الإِنسان بوجوده المفطور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح.
والكمّل من المؤمنين وهم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فتحققوا بهذا القول الثابت والكلمة الطيبة مثلهم كمثل قولهم الذي ثبتوا لا يزال الناس منتفعين بخيرات وجودهم ومنعّمين ببركاتهم.
وكذلك كل كلمة حقة وكل عمل صالح مثله هذا المثل، له أصل ثابت وفروع رشيدة وثمرات طيبة مفيدة نافعة.
فالمثل المذكور في الآية يجري في الجميع كما يؤيده التعبير بكلمة طيبة بلفظ النكرة غير أن المراد في الآية على ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرع عليه سائر الاعتقادات الحقة، وينمو عليه الأخلاق الزاكية وتنشأ منه الأعمال الصالحة.
ثم ختم الله سبحانه الآية بقوله: { ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون } ليتذكر به المتذكر أن لا محيص لمريد السعادة عن التحقق بكلمة التوحيد والاستقامة عليها.
قوله تعالى: { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } الاجتثاث الاقتلاع، يقال: جثته واجتثته أي قلعته واقتلعته، والجث بالضم ما ارتفع من الأرض كالأكمة، وجثة الشيء شخصه الناتئ. كذا في المفردات.
والكلمة الخبيثة ما يقابل الكلمة الطيبة ولذا اختلفوا فيها فقال كل قوم فيها ما يقابل ما قاله في الكلمة الطيبة وكذا اختلفوا في المراد بالشجرة الخبيثة فقيل: هي الحنظلة، وقيل الكشوث وهو نبت يلتف على الشوك والشجر لا أصل له في الأرض ولا ورق عليه، وقيل: شجرة الثوم، وقيل شجرة الشوك، وقيل: الطحلب، وقيل الكمأة، وقيل: كل شجرة لا تطيب لها ثمرة.
وقد عرفت حال هذه الاختلافات في الآية السابقة، وعرفت أيضاً ما يعطيه التدبر في معنى الكلمة الطيبة وما مثلت به ويجرى ما يقابله في الكلمة الخبيثة وما مثلت به حرفاً بحرف فإنما هي كلمة الشرك مثلت بشجرة خبيثة مفروضة اقتلعت من فوق الأرض ليس لها أصل ثابت وما لها من قرار وإذ كانت خبيثة فلا أثر لها إلا الضرّ والشرّ.
قوله تعالى: { يثّبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } إلى آخر الآية الظاهر أن "بالقول" متعلق بقوله: "يثبت" لا بقوله: "آمنوا"، والباء للآلة أو السببية لا للتعدية، وأن قوله: { في الحياة الدنيا وفي الآخرة } متعلق أيضا بقوله: "يثبت" لا بقوله: "الثابت".
فيعود المعنى إلى أن الذين آمنوا إذا ثبتوا على إيمانهم واستقاموا ثبتهم الله عليه في الدنيا والآخرة، ولولا تثبيته تعالى لهم لم ينفعهم الثبات من أنفسهم شيئاً ولم يستفيدوا شيئاً من فوائده فإليه تعالى يرجع الأمر كله، فقوله تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت }، في باب الهداية يوازن قوله:
{ { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [الصف: 5]، في باب الإِضلال.
غير أن بين البابين فرقاً وهو أن الهدى يبتديء من الله سبحانه ويترتب عليه اهتداء العبد، والضلال يبتدئ من العبد بسوء اختياره فيجازيه الله بالضلال على الضلال، كما قال:
{ { وما يضلّ به إلا الفاسقين } [البقرة: 26]، وقد تكاثرت الآيات القرآنية أن الهداية من الله سبحانه ليس لغيره فيها صنع.
وتوضيح المقام أن الله سبحانه خلق الإِنسان على فطرة سليمة ركز فيها معرفة ربوبيته وألهمها فجورها وتقواها، وهذه هداية فطرية أوليّة ثم أيدها بالدعوة الدينية التي قام بها أنبياؤه ورسله.
ثم إن الإِنسان لو جرى على سلامة فطرته واشتاق إلى المعرفة والعمل الصالح هداه الله فاهتدى العبد للإِيمان عن هدايته تعالى، وأما جريه على سلامة الفطرة فلو سمّي اهتداء فإنما هو اهتداء متفرّع على السلامة الفطرية لو سميّت هداية.
ولو انحرف الإِنسان عن صراط الفطرة بسوء اختياره وجهل مقام ربه وأخلد إلى الأرض واتبَّع الهوى وعاند الحق فهو ضلال منه غير مسبوق بإضلال من الله وحاشاه سبحانه - لكنه يستعقب إضلاله عن الطريق مجازاة وتثبيته على ما هو عليه بقطع الرحمة منه وسلب التوفيق عنه وهذا إضلال مسبوق بضلاله من نفسه بسوء اختياره وأزاغة له عن زيغ منه.
ومن هنا وجه اختلاف السياق في الآيتين، أما قوله: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } فقد فرض فيه زيغ منهم ثم إزاغه منه تعالى، وأما قوله: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } فقد فرض فيه إيمان ثابت على التثبيت وهو في نفسه يستلزم هداية منه واهتداء منهم ثم أُضيف إلى ذلك القول الثابت وهو ثباتهم واستقامتهم بحسن اختيارهم على ما آمنوا به وهو فعلهم فيعقبه الله بتثبيتهم بسبب ذاك القول الثابت وحفظهم من الزيغ والزلل يدفع عنهم بذلك مخاطر الحياة في الدنيا والآخرة وهذا هداية منه تعالى غير مسبوقة باهتداء من عند أنفسهم يرتبط بها فافهم ذلك.
وكيف كان فهذا التثبيت بالنظر إلى التمثيل بمنزلة إحكام الشجرة الطيبة من جهة ثبوت أصلها في الأرض، وإذا ثبت أصل الشجرة نمت وتفرعت بالفروع وأتت بالأثمار في كل حين والدنيا والآخرة تحاذيان: "كل حين" فإن الدنيا والآخرة تشملان جميع الأحيان فهذا ما يعطيه السياق من معنى الآية.
وقيل: إن المعنى يثبّت الله الذين آمنوا ويقرّهم في كرامته وثوابه بالقول الثابت الذي وجد منهم وهو كلمة الإِيمان لأنه ثابت بالحجج والأدلة فالمراد بتثبيتهم تقريبهم منه وإسكانهم الجنة وبثبوت قولهم تأيّده بالحجة والبرهان، وفيه أنه تقييد من غير مقيّد.
وقيل: المعنى أنه يثبتهم بالتمكين في الأرض والنصرة والغلبة في الدنيا وإسكان الجنة في الآخرة. وهو بعيد من السياق.
وقوله: { ويضلّ الله الظالمين } ظاهر المقابلة بين الظالمين والذين آمنوا في الجملة السابقة أن المراد بهم أهل الكفر بالله وبآياته على أنه تعالى فسّر الظالمين بقول مطلق في بعض كلامه بما يقرب منه إذ قال:
{ { أن لعنة الله على الظالمين * الذين يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة كافرون } } [الأعراف: 44ـ45]. والجملة كالنتيجة المستخرجة من المثل الثاني المذكور: { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض ما لها من قرار } والمعنى أن الله يضلّ أهل الكفر بحرمانهم من صراط الهداية فلا يهتدون إلى عيشة سعيدة في الدنيا ولا إلى نعمة باقية ورضوان من الله في الآخرة فلا يوجد عندهم إن كشف عن قلوبهم إلا الشك والتردد والقلق والإِضطراب والأسى والأسف والحسرة.
وقوله: { ويفعل الله ما يشاء } أي يجري تثبيت هؤلاء وإضلال أولئك على ما تقتضيه مشيئته لا مانع له ولا دافع فلا حائل بين مشيئته وفعله.
ويظهر من ذلك أن الله تعالى قد شاء تثبيت هؤلاء وإضلال أولئك وهو فاعلهما لا محاله فمن القضاء المحتوم سعادة المؤمن وشقاء الكافر وقد وردت به الرواية.
ووقوع لفظ الجلالة في قوله: { ويضلّ الله } وقوله: { ويفعل الله } من وقوع الظاهر موقع المضمر ويدلّ على فخامة الأمر ومهابة الموقف كما قيل.
قوله تعالى: { ألم ترَ إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار } قال في المجمع: الإِحلال وضع الشيء في محل إما بمجاورة إن كان من قبيل الأجسام أو بمداخلة إن كان من قبيل الأعراض، والبوار الهلاك يقال: بار الشيء يبور بوراً إذا هلك ورجل بور أي هالك وقوم بور أيضاً. انتهى.
وقال الراغب: البوار فرط الكساد ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل: كسد حتى فسد، عبّر بالبوار عن الهلاك يقال: بار الشيء يبور بوراً وبؤراً قال عز وجل: { تجارة لن تبور } انتهى.
والآية تذكر حال أئمة الكفر ورؤساء الضلال في ظلمهم وكفرانهم نعمة الله سبحانه التي أحاطت بهم من كل جهة بدل أن يشكروها ويؤمنوا بربهم، وقد ذكر قبل كيفية خلقه تعالى السماوات والأرض على غنى منه وهي نعمة، ثم ذكر كلمة الحق التي يدعو إليها وما لها من الاثار الثابتة الطيبة وهي نعمة.
والآية مطلقة لا دليل على تقييدها بكفار مكة أو كفار قريش وإن كان الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان في ذيلها مثل قوله: { قل تمتّعوا فإن مصيركم إلى النار } لظهور أن ذلك لا يوجب تقييداً في الآية مع إطلاق مضمونها وشمولها للطواغيت من الأمم وما صنعوا بأقوامهم.
فقوله: { ألم ترَ إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً } يذكر حال أئمة الكفر ورؤساء الضلال من الأمم السابقة ومن هذه الأمة والدليل على اختصاصه بهم قوله: { وأحلّوا قومهم دار البوار } المشعر بكونهم نافذي الكلمة مطاعين في قومهم فهم الأئمة والرؤساء.
والمراد بتبديلهم نعمة الله كفراً تبديلهم شكر نعمته الواجب عليهم كفراً ففي الجملة مضاف محذوف والتقدير: بدّلوا شكر نعمة الله كفراً ويمكن أن يراد تبديل نفس النعمة كفراً بنوع من التجوّز، ونظير الآية في هذه العناية قوله تعالى:
{ { وتجعلون رزقكم أنكم تكذّبون } } [الواقعة: 82]. وذكر إحلالهم قومهم دار البوار يستلزم إحلال أنفسهم فيها لأنهم أئمة الضلال ضلُّوا ثم أضلُّوا والتبعة تبعة الضلال، ونظير الآية في هذا المعنى قوله في فرعون: { { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } } [هود: 98]. والمعنى ألم تنظر إلى الأئمة والرؤساء من الأمم السابقة ومن أُمتك الذين بدَّلوا شكر نعمة الله كفراً واتبعتهم قومهم فحلُّوا وأحلُّوا قومهم دار الهلاك وهو الشقاء والنار.
قوله تعالى: { جهنم يصلونها وبئس القرار } بيان لدار البوار، واحتمال بعضهم أن يكون "جهنم" منصوباً بالاشتغال، والتقدير يصلون جهنم يصلونها والجملة مستأنفة خال عن الوجه لأن النصب مرجوح ولا نكتة تستوجب الاستئناف.
ومن هنا يظهر فساد قول من قال إن الآيات مدنية، والمراد بالذين كفروا هم عظماء مكة وصناديد قريش الذين جمعوا الجموع على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه ببدر فقتلوا وأحلُّوا قومهم دار البوار.
وذلك أنك عرفت من معنى الآية أنها مطلقة ولا موجب لتخصيصها بقتلى بدر من الكفار أصلاً، بل الآية تشمل كل إمام ضلال أحلَّ قومه دار البوار ممن تقدم وتأخر، والمراد بإحلال دار البوار إقرارهم في شقاء النار، وإن لم يقتلوا ولا ماتوا ولا دخلوا النار بعد.
على أن ظاهر الآية التالية { وجعلوا لله أنداداً ليضلُّوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } أن ضمير الجمع راجع إلى الذين كفروا المذكورين في هذه الآية ولازمه كون خطاب قل تمتعوا خطاباً للباقين منهم وهم الذين أسلموا يوم الفتح وهو إيعاد بشقاء قطعي منجّز من غير استثناء.
قوله تعالى: { وجعلوا لله أنداداً ليضلُّوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار } الأنداد جمع ندّ وهو المثل وهم الآلهة الذين اتخذوهم آلهة من دون الله من الملائكة والجن والإنس.
وإنما جعلوها أنداداً مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله سبحانه من جهة أنهم سمُّوهم آلهة وأرباباً ونسبوا إليهم تدبير أمر العالم ثم عبدوهم خوفاً وطمعاً مع أن الأمر والخلق كله لله وقد اعترفت بذلك فطرتهم وأيَّد الله ذلك بما ألهمه أنبياءه ورسله من الآيات والحجج الدالَّة على وحدانيته.
فهم كانوا على بصيرة من أمر التوحيد لم يتخذوا الأنداد عن غفلة أو خطأ بل عمدوا إلى ذلك ابتغاء عرض الحياة الدنيا وليستعبدوا الناس ويستدرّوهم بإضلالهم عن سبيل الله، ولذلك علَّل اتخاذهم الأنداد بقوله: { ليضلُّوا عن سبيله } ثم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يوعدهم بالنار التي إليها مرجعهم لا مرجع لهم سواها، فقال: { قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار }.
وكان من طبع الكلام أن يقال لهم: اتخذوا الأنداد أو أضلُّوا عن سبيل الله فإن مصيركم إلى النار، لكن بدل من قوله: "تمتعوا" ليصرّح بغرضهم الفاسد الذي كانوا يخفونه ليكون أبلغ في فضاحتهم.
قوله تعالى: { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال } لما توعَّدهم على لسان رسوله بعذاب يوم القيامة لإِضلالهم الناس عن سبيل الله، أمره أن يأمر عباده الذين آمنوا بالتزام سبيله من قبل أن يأتي يوم القيامة فلا يسعهم تدارك ما فات منهم من السعادة بشيء من الأسباب الدائرة بينهم لذلك وهي ترجع إلى أحد شيئين: إما المعاوضة بإعطاء شيء وأخذ ما يعادله وهو البيع بالمعنى الأعمّ، وإما الخلّة والمحبة، ولا أثر من هذه الأسباب في يوم محض للحساب والجزاء فإن ذلك شأن يوم القيامة لا شأن له دون ذلك.
ومن هنا يظهر أن قوله: { يقيموا الصلاة وينفقوا } بيان لسبيل الله وقد اكتفى بهذين الركنين اللذين بهما يلحق سائر الوظائف الشرعية مما يصلح حياة الإِنسان الدنيوية فيما بينه وبين ربه وما بينه وبين سائر أفراد نوعه.
وقوله: { يقيموا الصلاة وينفقوا } الخ مجزومان لوقوعهما في جواب الأمر ومقول القول محذوف لدلالة الفعلين عليه، والتقدير: قل: أقيموا الصلاة وأنفقوا "الخ" يقيموا الصلاة وينفقوا "الخ".
والإِشكال فيه بأن المجزوم في جواب الأمر يجب أن يكون مترتباً عليه ولا يلزم من الأمر بالصلاة والإِنفاق أن يطيعوا ذلك ساقط فإن اللازم فيه أن يكون الجواب مما يقتضيه الأمر بوجه، وأمر عباده المؤمنين وهم عباد مؤمنون مما يقتضي الطاعة بلا إشكال.
والإِنفاق المذكور في الآية مطلق الإِنفاق في سبيل الله فإن السورة مكيّة ولم تنزل آية الزكاة بعد، والمراد بالإِنفاق سراً وعلانية أن يجري الانفاق على ما يقتضيه الأدب الديني الحق فيسر به فيما يحسن الاسرار ويعلن فيما يحسن الإِعلان، والمطلوب بذلك على أيّ حال الاتيان بما يصلح ما في مظنّة الفساد ويقيم أود المجتمع من أُمور المسلمين.
ولا ينافي ما في هذه الآية من نفي المخالة قوله تعالى:
{ { الإِخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [الزخرف: 67]، فإن النسبة بين الآيتين نسبة العموم والخصوص المطلق فتخصص هذه الآية بتلك الآية ويتحصل المراد من الآيتين أن كل خلة من غير جهة التقوى ترتفع يوم القيامة، وأما الخلة التي من جهتها وهي الخلة في ذات الله فإنها تثبت وتنفع فنفي الخلال مطلقاً ثم إثبات بعضه في الآيتين نظير نفي الشفاعة مطلقاً في قوله: { { ولا خلة ولا شفاعة } [البقرة: 254]، ثم إثباتها فيما كان بإذن الله كما في قوله: { { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } } [الزخرف: 86]. وما قيل في نفي التنافي: إن المراد بالخلال في الآية النافية المخالة التي هي من الأسباب الدنيوية لتدارك ما فات بخلاف ما في الآية المثبتة، وكذا ما قيل: أن المراد بالمخالة المنفية هي التي تكون بحسب ميل الطبع ورغبة النفس بخلاف المخالة المثبتة فإنها التي تكون في ذات الله، مرجعهما بالحقيقة إلى ما ذكرناه.
قوله تعالى: { الله الذي خلق السماوات والأرض } الخ، لما ذكر سبحانه جعلهم لله أنداداً لإِضلال الناس عن سبيل الله وأوعد عليه أورد في هذه الآية إلى تمام ثلاث آيات الحجة على اختصاص الربوبية بنفسه تعالى وتقدس من طريق اختصاص التدبير العام به من نظم الخلقة وإنزال الماء وإخراج الرزق وتسخير البحار - الفلك - والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار.
وأشار في آخر الآيات إلى أنها وما لا تحصى من غيرها نعمة منه تعالى للإِنسان لأن البيان في هذه السورة - كما تقدمت الإِشارة إليه - يجري في ضوء الاسمين: العزيز الحميد.
فقوله: { الله الذي خلق } الخ، في معنى قولنا: فهوالربّ وحده دون الذين جعلتموهم أنداداً له.
وقوله: { وأنزل من السماء ماء فأخرج به } الخ، المراد بالسماء جهة العلو وهو معناها اللغوي، والماء النازل منها هو المطر النازل منها فإليه ينتهي الماء في الأرض الذي تعيش به ذوات الحياة من النبات والحيوان.
قوله تعالى: { وسخّر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار } تسخير الفلك للناس هو جعلها بحيث تنفعهم في مقاصدهم وهي العبور بأنفسهم وأحمالهم وغير ذلك من غير أن ترسب في الماء أو تمتنع عن الحركة.
وأما قول بعضهم: تسخيرها لهم هو إقدارهم على صنعتها واستعمالها بإلهامهم طريق ذلك بعيد، فإن الظاهر من تسخير شيء للإِنسان هو التصرف فيه بجعله موافقاً لما يقصده من منافع نفسه دون التصرف في الإِنسان نفسه بإلهام ونحوه.
وكان من طبع الكلام أن يقال: وسخر لكم البحر لتجري فيه الفلك بأمره وسخر لكم الأنهار غير أنه عكس، وقيل وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره لكون الفلك من أوضح النعم البحرية وإن لم تنحصر فيها نعمه ولعل ذلك هو السبب في العكس، لأن المقام مقام عدّ النعمة والنعمة في الفلك أوضح وإن كانت في البحر أعظم.
وإسناد جريها في البحر إلى أمره تعالى مع كونه مستنداً إلى الأسباب الطبيعية العاملة كالريح والبخار وسائر الأسباب، لكونه تعالى هو السبب المحيط الذي إليه ينتهي كل سبب.
وقوله: { وسخَّر لكم الأنهار } وهي المياه الجارية في مختلف أقطار الأرض وتسخيرها هو تذليلها بحيث ينتفع بها الإِنسان بالشرب والغسل وإزالة الأوساخ وغير ذلك ويعيش بها الحيوان والنبات المسخَّران له.
قوله تعالى: { وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الليل والنهار } قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأباً، قال تعالى: { وسخّر لكم الشمس والقمر دائبين } والدأب العادة المستمرة دائماً على حالة، قال تعالى: { كدأب آل فرعون } أي كعادتهم التي يستمرون عليها. انتهى، ومعنى الآية واضح.
قوله تعالى: { وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدّوا نِعمَتَ الله لا تحصوها إن الإِنسان لظلوم كفّار } السؤال هو الطلب ويفارقه أن السؤال إنما يكون ممن يعقل والطلب أعمّ وإنما تنّبه الإِنسان للسؤال من جهة الحاجة الداعية إليه فأظهر له أن يرفع ما حلَّت به من حاجة وكانت الوسيلة العادية إليه هي اللفظ فتوسل به إليه وربما توسل إليه بإشارة أو كتابة وسمى سؤالاً حقيقة من غير تجوّز.
وإذ كان الله سبحانه هو الذي يرفع حاجة كل محتاج ممن سواه لا يتعلق شيء بذاته فيما يحتاج إليه في وجوده وبقائه إلا بذيل جوده وكرمه سواء أقرّ به أو أنكره وهو تعالى أعلم بهم وبحاجاتهم ظاهرة وباطنة من أنفسهم كان كل من سواه عاكفاً على باب جوده سائلاً يسأله رفع ما حلَّت به من حاجة سواءً أعطاه أو منعه وسواء أجابه في جميع ما سأل أو بعضه.
هذا هو حق السؤال وحقيقته يختص به تعالى لا يتعدّاه إلى غيره، ومن السؤال ما هو لفظي - كما تقدم - ربما يسأل به الله سبحانه وربما يسأل به غيره فهو تعالى مسؤول يسأله كل شيء بحقيقة السؤال ويسأله بعض الناس من المؤمنين به بالسؤال اللفظيّ.
هذا بالنسبة إلى السؤال أما بالنسبة إلى الإِيتاء وهو الإِعطاء فقد أُطلق من غير أن يقيد باستثناء ونحوه فيدل على أنه ما من سؤال إلا وعنده إعطاء، وهذه قرينة أن الخطاب للنوع كما يؤيده أيضاً قوله ذيلاً: { إن الإِنسان لظلوم كفَّار }.
والمعنى: أن النوع الإِنساني لم يحتج بنوعيته إلى نعمة من النعم إلا رفع الله حاجته إما كلاً أو بعضاً وإن كان الفرد منه ربما احتاج وسأل ولم يقض حاجته.
وهذا المعنى هو الذي يؤيده قوله تعالى:
{ { أُجيب دعوة الداع إذا دعان } } [البقرة: 186] فقد مرّ في تفسير الآية أنه تعالى لا يردّ دعاء من دعاه إلا أن لا يكون دعاء حقيقة أو يكون دعاء إلا أنه ليس دعاءه بل دعاء غيره، والفرد من الإِنسان ربما لم يواطئ لسانه قلبه أو لغى في دعائه لكن النوع بنوعيته لا يعرف هذراً ولا نفاقاً ولا يعرف رباً غيره سبحانه فكلما مسَّته حاجة فإنه يسأله حقيقة ولا يسأله إلا من ربه فجميع أدعيته مستجابة وسؤالاته مؤتاة وحاجاته مقضية.
وقد ظهر مما تقدم أن "من" في قوله: { من كل ما سألتموه } ابتدائية تفيد أن الذي يؤتيه الله مأخوذ مما سألوه سواء كان جميع ما سألوه كما في بعض الموارد أو بعضه كما في بعضها الآخر، ولو كانت من تبعيضية لأفادت أنه تعالى يؤتي في كل سؤال بعض المسؤول والواقع خلافه كما أنه لو قيل: وآتاكم كل ما سألتموه أفاد إيتاء الجميع وليس كذلك، ولو قيل: مما سألتموه أفاد أن من الجائز أن لا يستجاب بعض الأدعية ويرد بعض الأسئلة من أصله والآية -وهي في مقام الامتنان - تأبى ذلك.
فبالجملة معنى الآية أن الله تعالى أعطى النوع الإِنساني ما سأله فما من حاجة من حوائجه إلا رفع كلها أو بعضها حسب ما تقتضيه حكمته البالغة.
وربما قيل: إن تقدير الكلام: وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه وهو مبني على كون المراد بالسؤال هو السؤال اللفظي وقد تقدم خلافه، وسياق الآية لا يساعد عليه.
وقوله: { وإن تعدّوا نِعمَتَ الله لا تحصوها } قال الراغب: الإحصاء: التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا وذلك من لفظ الحصا واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه بالعدّ كاعتمادنا فيه على الأصابع. انتهى.
وفي الجملة إشارة إلى خروج النعم عن طوق الإِحصاء ولازمه كون حوائج الانسان التي رفعها الله بنعمه غير مقدور للإِنسان إحصاؤها.
وكيف يمكن إحصاء نعمه تعالى وعالم الوجود بجميع أجزائه وما يلحق بها من الأوصاف والأحوال مرتبطة منتظمة نافع بعضها في بعض متوقف بعضها على بعض، فالجميع نعمه بالنسبة إلى الجميع وهذا أمر لا يحيط به إحصاء.
ولعل ذلك هو السر في إفراد النعمة في قوله: { نعمة الله } فإن الحق أن ليس هناك إلا النعمة فلا حاجة إلى تفخيمها بالجمع ليدلّ على الكثرة، والمراد بالنعمة جنس المنعم فيفيد ما يفيده الجمع.
وقوله: { إن الإِنسان لظلوم كفّار } أي كثير الكفران يظلم نفسه فلا يشكر نعمة الله ويكفر بها فيؤديه ذلك إلى البوار والخسران، أو كثير الظلم لنعم الله لا يشكرها ويكفر بها، والجملة استئناف بياني يؤكد بها ما يستفاد من البيان السابق، فإن الواقف على ما مرَّ بيانه من حال نعمه تعالى وما آتى الإِنسان من كل ما سأله منها لا يرتاب في أن الإِنسان وهو غافل عنها طبعاً ظالم لنفسه كافر بنعمة ربه.
(بحث روائي)
في الدرّ المنثور أخرج الترمذي والنسائي والبزّار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبّان والحاكم وصحّحه وابن مردويه عن أنس قال: أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من بسر فقال: مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة - حتى بلغ - تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها. قال هي النخلة. ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة - حتى بلغ - ما لها من قرار. قال: هي الحنظلة.
أقول: وكون الشجرة الطيبة هي النخلة مروي في عدة روايات عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وهي لا تدل على أزيد من انطباق المثل عليها، وذيل الرواية ينافي الرواية التالية.
وفيه أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال:
"قعد ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا هذه الآية: { اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } فقالوا: يا رسول الله نراه الكمأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين، والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم"
]. أقول: والكلام يجري في الحنظلة فإن لها خواص طبية هامة.
وفيه أخرج البيهقي في سننه عن عليّ قال: الحين ستة أشهر.
أقول: والكلام فيه كالكلام في سابقه.
وفي الكافي بإسناده عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: { كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء } قال: فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصلها وأمير المؤمنين فرعها والأئمة من ذرّيتهما أغصانها وعلم الائمة ثمرتها وشيعتهم المؤمنون ورقها، هل في هذا فضل؟ قال: قلت: لا والله. قال والله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، وإن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها.
أقول: والرواية مبنيّة على كون المراد بالكلمة الطيبة هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أُطلقت الكلمة في كلامه على الإِنسان كقوله:
{ { بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم } [آل عمران: 45] ومع ذلك فالرواية من باب التطبيق ومن الدليل عليه اختلاف الروايات في كيفية التطبيق ففي بعضها أن الأصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والفرع علي عليه السلام والأغصان الأئمة عليهم السلام والثمرة علمهم والورق الشيعة كما في هذه الرواية، وفي بعضها أن الشجرة رسول الله وفرعها علي والغصن فاطمة وثمرها أولادها وورقها شيعتنا كما فيما رواه الصدوق عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام، وفي بعضها أن النبي والأئمة هم الأصل الثابت والفرع الولاية لمن دخل فيها كما في الكافي بإسناده عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي المجمع روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام أن هذا - يعني قوله: كشجرة خبيثة الخ - مثل بني أُمية.
وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمن بن سالم الأشلّ عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام { ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة } الآيتين قال: هذا مثل ضربه الله لأهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ولمن عاداهم هو مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
أقول: قال الآلوسي في تفسير روح المعاني ما لفظه: وروى الإِمامية وأنت تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله عنه تفسيرها - يعني الشجرة الخبيثة - ببني أُمية وتفسير الشجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي كرَّم الله وجهه وفاطمة رضي الله عنها وما تولَّد منهما، وفي بعض روايات أهل السنَّة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أُمية، فقد أخرج ابن مردويه عن عديّ بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن الله تعالى قلبَ العباد ظهراً وبطناً فكان خير عباده العرب وقلبَ العرب ظهراً وبطناً فكان خير العرب قريشاً وهي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه: { مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة } لأن بني أُمية من قريش" انتهى موضع الحاجة.
وهو عجيب فإن كون أُمة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جميع الشعَب المنشعبة منها كذلك فالرواية على تقدير تسليمها لا تدلُّ إلا على أن قريشاً شجرة مباركة أما أن جميع الشعَب المنشعبة منها مباركة طيبة كبني عبد الدار مثلاً أو كون كل فرد منهم كذلك كأبي جهل وأبي لهب فلا قطعاً فأي ملازمة بين كون شجرة بحسب أصلها مباركة طيبة وبين كون بعض فروعها التي انفصلت منها ونمَتْ نماءً فاسداً، مباركاً طيباً؟
وقد روى ابن مردويه هذا عن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأبيك وجدّك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
وروى أصحاب التفاسير كالطبري وغيره عن سهل بن ساعد وعبد الله بن عمر ويعلى بن مرَّة والحسين بن علي وسعيد بن المسيّب أنهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن } الآية، ولفظ سعد: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكاً حتى مات، وأنزل الله { وما جعلنا الرؤيا } الآية.
وستأتي الرواية عن عمرو عن علي في تفسير قوله: { الذين بدَّلوا نعمة الله كفراً } أنهم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أُمية.
وفي تفسير العيّاشي عن صفوان بن مهران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا فيأتيه عند موته ويأتيه عن يمينه وعن يساره ليصدّه عما هو عليه فيأبى الله ذلك، وكذلك قال الله: { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }.
وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام قالا: إذا وضع الرجل في قبره أتاه ملكان ملك عن يمينه وملك عن شماله وأُقيم الشيطان بين يديه عيناه من نحاس فيقال له: ما تقول في هذا الرجل الذي خرج من بين ظهرانيّكم يزعم أنه رسول الله؟ فيفزع لذلك فزعة فيقول إن كان مؤمناً محمد رسول الله فيقال عند ذلك: نم نومة لا حلم فيها ويفسح له في قبره تسعة أذرع ويرى مقعده من الجنة وهو قول الله: { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا } وإن كان كافراً قالوا: من هذا الرجل الذي كان بين ظهرانيّكم يقول: إنه رسول الله؟ فيقول: ما أدري فيخلّي بينه وبين الشيطان.
وفي الدرّ المنثور أخرج الطيالسي والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فذلك قوله سبحانه: { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة }"
]. وفيه أخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في هذه الآية: { يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } قال: في الآخرة القبر.
أقول: وهناك روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة وردت في تفصيل سؤال القبر وإتيان الملكين منكر ونكير وثبات المؤمن وضلال الكافر عند ذلك وقد وقع في كثير منها التمسك بالآية.
وظاهرها أن المراد بالآخرة هو القبر وعالم الموت، ولعل ذلك مبني على ظاهر معنى التثبيت فإن الظاهر من إعطاء الثبات أن يكون في مقام يجوز فيه الزلل والخبط، وهذا إنما يتصور في غير يوم القيامة الذي ليس فيه إلا المجازاة بالأعمال وأما بالنظر إلى أن كل ثابت في الوجود فإنما ثباته بالله سبحانه سواء كان مما يجوز عليه الزوال أم لا فلا فرق بين البرزخ والقيامة في أن المؤمن ثابت بتثبيت الله سبحانه والأولى أخذ الروايات من قبيل التطبيق.
وفي تفسير العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: { ألم ترَ إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً } قال: نحن نعمة الله التي أنعم الله بها على العباد.
أقول: وهو من الجري والتطبيق.
وفيه عن معصم المسرف عن علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: { وأحلوا قومهم دار البوار } قال: هما الأفجران من قريش بنو أُمية وبنو المغيرة.
أقول: ورواه أيضاً في البرهان عن ابن شهر آشوب عن أبي الطفيل عنه عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه والحاكم وصححه من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: { ألم ترَ إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } قال: هما الأفجران من قريش بنو أُمية وبنو المغيرة فأما بنو المغيره فقطع الله دابرهم يوم بدر وأما بنو أُمية فمتعوا إلى حين.
أقول: وهو مرويّ عن عمر كما يأتي.
وفيه أخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } قال: هما الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أُمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أُميّة فمتعوا إلى حين.
وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين هذه الآية: { الذين بدلوا نعمة الله كفراً } قال: هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين.
وفي تفسير العياشي عن ذريح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: جاء ابن الكوّاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فسأله عن قول الله: { ألم تر إلى الذين بدلوا } الآية قال: تلك قريش بدلوا نعمة الله كفراً وكذبوا نبيّه يوم بدر.
أقول: واختلاف التطبيق في كلامه عليه السلام من الشاهد على أنه من باب بيان انطباق الآية لا من قبيل سبب النزول.
وفي الكافي عن علي بن محمد عن بعض أصحابه رفعه قال: كان على بن الحسين عليه السلام إذا قرأ هذه الآية: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } يقول: سبحان الذي لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل في أحد [من ظ] معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه فشكر عز وجل معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكراً كما علم علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله علماً. الحديث.