التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ ٱلأَوَّلِينَ
١٠
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
١١
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١٢
لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ
١٣
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ
١٤
لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ
١٥
-الحجر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
لما ذكر استهزاءهم بكتابه ونبيه وما اقترحوا عليه من الإِتيان بالملائكة آية للرسالة عقّبه بثلاث طوائف من الآيات وهي المصدَّرة بقوله: { ولقد أرسلنا من قبلك } الخ وقوله: { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } الخ وقوله: { ولقد خلقنا الإِنسان من صلصال } الخ.
فبيّن في أُوليها أن هذا الاستهزاء دأب وسنة جارية للمجرمين وليسوا بمؤمنين ولو جاءتهم آية آية، وفي الثانية أن هناك آيات سماوية وأرضية كافية لمن وفّق للإِيمان وفي الثالثة أن الاختلاف بالإِيمان والكفر في نوع الإِنسان وضلال أهل الضلال مما تعين لهم يوم أبدع الله خلق الإِنسان، فخلق آدم وجرى هنالك ما جرى من أمر الملائكة بالسجود وإباء إبليس عن ذلك.
قوله تعالى: { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } إلى آخر الآيتين. الشيع جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على سنة أو مذهب يتّبعونه، قال تعالى:
{ { من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } } [الروم: 32]. وقوله: { ولقد أرسلنا } أي رسلاً وقد حذف للاستغناء عنه فإن العناية بأصل تحقق الإِرسال من قبل من غير نظر إلى من أُرسل بل بيان أن البشر الأولين كالآخرين جرت عادتهم على أن لا يحترموا الرسالة الإِلهية ويستهزؤا بمن أتى بها ويمضوا على إجرامهم لتكون في ذلك تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يضيق صدره بما قابلوه به من الانكار والاستهزاء كما سيعود إليه في آخر السورة بقوله: { { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } [الحجر: 97] الخ.
والمعنى: طب نفساً فنحن نزّلنا الذكر عليك ونحن نحفظه ولا يضيقنَّ صدرك بما يقولون فهو دأب المجرمين من الأمم الإِنسانية أُقسم لقد أرسلنا من قبلك في فرق الأولين وشيعهم وحالهم هذه الحال ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤن.
قوله تعالى: { كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } إلى آخر الآيتين. السلوك: النفاذ والإِنفاذ يقال: سلك الطريق أي نفذ فيه وسلك الخيط في الإِبرة أي أنفذه فيها وادخله وذكروا أن سلك وأسلك بمعنى.
والضميران في "نسلكه" و "به" للذكر المتقدم ذكره وهو القرآن الكريم والمعنى أن حال رسالتك ودعوتك بالذكر المنزل إليك تشبه حال الرسالة من قبلك فكما أرسلنا من قبلك فقابلوها بالرد والاستهزاء كذلك ندخل هذا الذكر وننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين، ونبّأ به: أنهم لا يؤمنون بالذكر وقد مضت طريقة الأولين وسنتهم في أنهم يستهزؤن بالحق ولا يتّبعونه فالآيتان قريبتا المعنى من قوله: { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل }.
وربما قيل: إن الضميرين للشرك أو الاستهزاء المفهوم من الآيات السابقة والباء في "به" للسببية، والمعنى كذلك ننفذ الشرك أو الاستهزاء في قلوب المجرمين لا يؤمنون بسبب الشرك أو الاستهزاء الخ.
وهو معنى بعيد، والمتبادر إلى الذهن من لفظة { لا يؤمنون به } أن الباء للتعدية دون السببية.
وربما قيل: إن الضمير الأول للاستهزاء المفهوم من سابق الكلام، والثاني للذكر المذكور سابقاً، والمعنى مثل ما سلكنا الاستهزاء في قلوب شيع الأولين نسلك الاستهزاء وننفذه في قلوب هؤلاء المجرمين لا يؤمنون بالذكر "الخ".
ولا بأس به وإن كان يستلزم التفرقة بين الضميرين المتواليين لكن إباء قوله: { لا يؤمنون به } أن يرجع ضميره إلى الاستهزاء يكفي قرينة لذلك.
وكذا لا يرد على الوجهين ما أُورد أن رجوع ضمير "نسلكه" إلى الاستهزاء يوجب كون المشركين ملجئين إلى الشرك مجبرين عليه.
وجه عدم الورود: أنه تعالى علّق السلوك على المجرمين فيكون مفاده أنهم كانوا متلبّسين بالإِجرام قبل فعل السلوك بهم ثم فعل بهم ذلك فينطبق على الإِضلال الإِلهي مجازاة ولا مانع منه، وإنما الممنوع هو الإِضلال الابتدائي ولا دليل عليه في الآية بل الدليل على خلافه، والآية من قبيل قوله تعالى:
{ { يضلُّ به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضلُّ به إلا الفاسقين } [البقرة: 26]، وقد تقدم تفصيل القول فيه.
وقد ظهر مما تقدم أن المراد بسنّة الأولين السنة التي سنَّها الأولون لا السنة التي سنَّها الله في الأولين فالسنة سنتهم دون سنة الله فيهم - كما ذكره بعض المفسرين - فهو الأنسب لمقام ذمّهم وتعزيته صلى الله عليه وآله وسلم بذكر ردّهم واستهزائهم لرسلهم.
قوله تعالى: { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سُكِّرت أبصارنا } والخ، العروج في السماء الصعود إليها والتسكير الغشاوة.
والمراد بفتح باب من السماء عليهم إيجاد طريق يتيسَّر لهم به الدخول في العالم العلوي الذي هو مأوى الملائكة وليس كما يظنّ سقفاً جرمانياً له باب ذو مصراعين يفتح ويغلق، وقد قال تعالى:
{ { ففتحنا ابواب السماء بماء منهمر } } [القمر: 11]. وقد اختار سبحانه من بين الخوارق التي يظنّ أنها ترفع عنهم الشبهة وتزيل عن نفوسهم الريب فتح باب من السماء وعروجهم فيه لأنه كان يعظم في أعينهم أكثر من غيره، ولذلك لما اقترحوا عليه أموراً من الخوارق العظيمة ذكروا الرقي في السماء في آخر تلك الخوارق المذكورة على سبيل الترقي كما حكاه الله عنهم بقوله: { وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } إلى أن قال { { أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [الإسراء: 93]، فالرقي في السماء والتصرف في أمورها كتنزيل كتاب مقروّ منها أي نفوذ البشر في العالم العلوي وتمكّنه فيه ومنه أعجب الخوارق عندهم.
على أن السماء مأوى الملائكة الكرام ومحل صدور الأحكام والأوامر الإِلهية وفيها ألواح التقادير ومنها مجاري الأمور ومنبع الوحي وإليها صعود كتب الأعمال، فعروج الإِنسان فيها يوجب اطّلاعه على مجاري الأمور وأسباب الخوارق وحقائق الوحي والنبوة والدعوة والسعادة والشقاوة وبالجملة يوجب إشرافه على كل حقيقة، وخاصة إذا كان عروجاً مستمراً لا مرة ودفعة كما يشير إليه قوله تعالى: { فظلوا فيه يعرجون } حيث عبّر بقوله: "ظلوا" ولم يقل: فعرجوا فيه.
فالفتح والعروج بهذا النعت يطلعهم على أصول هذه الدعوة الحقة وأعراقها لكنهم لما في قلوبهم من الفساد وفي نفوسهم من قذارة الريبة والشبهة المستحكمة يخّطؤن أبصارهم فيما يشاهدون بل يتهمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سحرهم فهم مسحورون من قبله.
فالمعنى: ولو فتحنا عليهم باباً من السماء ويسَّرنا لهم الدخول في عالمها فداموا يعرجون فيه عروجاً بعد عروج حتى يتكرر لهم مشاهدة ما فيه من أسرار الغيب وملكوت الأشياء لقالوا إنما غشيت أبصارنا فشاهدت أموراً لا حقيقة لها بل نحن قوم مسحورون.