التفاسير

< >
عرض

نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ
٤٩
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلْعَذَابُ ٱلأَلِيمُ
٥٠
وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ
٥١
إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
٥٢
قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ
٥٣
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ ٱلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ
٥٤
قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِٱلْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ ٱلْقَانِطِينَ
٥٥
قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ ٱلضَّآلُّونَ
٥٦
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
٥٧
قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ
٥٨
إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ
٥٩
إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ ٱلْغَابِرِينَ
٦٠
فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ ٱلْمُرْسَلُونَ
٦١
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ
٦٢
قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ
٦٣
وَآتَيْنَاكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٦٤
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ ٱلَّيلِ وَٱتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَٱمْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ
٦٥
وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ
٦٦
وَجَآءَ أَهْلُ ٱلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ
٦٧
قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ
٦٨
وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ
٦٩
قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ
٧٠
قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ
٧١
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
٧٢
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ
٧٣
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
٧٤
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
٧٥
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ
٧٦
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
٧٧
وَإِن كَانَ أَصْحَابُ ٱلأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ
٧٨
فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ
٧٩
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ ٱلحِجْرِ ٱلْمُرْسَلِينَ
٨٠
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٨١
وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ
٨٢
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ
٨٣
فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨٤
-الحجر

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
بعدما تكلم سبحانه حول استهزائهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل إليه من الكتاب واقتراحهم عليه أن يأتيهم بالملائكة وهم ليسوا بمؤمنين وإن سمح لهم بأوضح الآيات أتى سبحانه في هذه الآيات ببيان جامع في التبشير والإِنذار وهو ما في قوله: { نّبئ عبادي } إلى آخر الآيتين ثم أوضحه وأيده بقصة جامعة للجهتين متضمنة للأمرين معاً وهي قصة ضيف إبراهيم وفيها بشرى إبراهيم بما لا مطمع فيه عادة وعذاب قوم لوط بأشد أنواع العذاب.
ثم أيده تعالى بإشارة إجمالية إلى تعذيب أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب وأصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح عليه السلام.
قوله تعالى: { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } المراد بقوله: { عبادي } على ما يفيده سياق الآيات مطلق العباد ولا يعبؤ بما ذكره بعضهم: أن المراد بهم المتقون السابق ذكرهم أو المخلصون.
وتأكيد الجملتين بالإِسمية وإنّ وضمير الفصل واللام في الخبر يدل على أن الصفات المذكورة فيها أعني المغفرة والرحمة وألم العذاب بالغة في معناها النهاية بحيث لا تقدّر بقدر ولا يقاس بها غيرها، فما من مغفرة أو رحمة إلا ويمكن أن يفرض لها مانع يمنع من إرسالها أو مقدّر يقدّرها ويحدّها، لكنه سبحانه يحكم لا معقّب لحكمه ولا مانع يقاومه فلا يمنع عن إنجاز مغفرته ورحمته شيء ولا يحدّهما أمر إلا أن يشاء ذلك هو جلّ وعز، فليس لأحد أن ييأس من مغفرته أو يقنط من روحه ورحمته استناداً إلى مانع يمنع أو رادع يردع إلا أن يخافه تعالى نفسه كما قال:
{ { لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم } } [الزمر: 53]. وليس لأحد أن يحقّر عذابه أو يؤمّل عجزه أو يأمن مكره والله غالب على أمره ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
قوله تعالى: { ونبئهم عن ضيف إبراهيم } الضيف معروف ويطلق على المفرد والجمع وربما يجمع على أضياف وضيوف وضيفان لكن الأفصح - كما قيل - أن لا يثنّى ولا يجمع لكونه مصدراً في الأصل.
والمراد بالضيف الملائكة المكرمون الذين أُرسلوا لبشارة إبراهيم بالولد ولهلاك قوم لوط سمَّاهم ضيفاً لأنهم دخلوا عليه في صورة الضيف.
قوله تعالى: { إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشّرك بغلام عليم } ضمير الجمع في { دخلوا وقالوا } في الموضعين للملائكة فقولهم: "سلاماً" تحية وتقديره نسلم عليك سلاماً وقول إبراهيم عليه السلام: { إنا منكم وجلون } أي خائفون والوجل: الخوف.
وإنما قال لهم إبراهيم ذلك بعدما استقر بهم المجلس وقدم إليهم عجلاً حنيذاً فلم يأكلوا منه فلما رآى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة كما في سورة هود فالقصة مذكورة على نحو التلخيص.
وقولهم: { لا توجل } تسكين لوجله وتأمين له وتطييب لنفسه بأنهم رسل ربه وقد دخلوا عليه ليبشِّروه بغلام عليم أي بولد يكون غلاماً وعليماً، ولعل المراد كونه عليماً بتعليم الله ووحيه فيقرب من قوله في موضع آخر:
{ { وبشَّرناه بإسحاق نبياً } } [الصافات: 112]. قوله تعالى: { قال أبشّرتموني على أن مسَّني الكبر فبم تبشّرون } تلقى إبراهيم عليه السلام البشرى وهو شيخ كبير هرم لا عقب له من زوجه وقد أيأسته العادة الجارية عن الولد وإن كان يجلّ أن يقنط منرحمه الله ونفوذ قدرته، ولذا تعجب من قولهم واستفهمهم كيف يبشّرونه بالولد وحاله هذه الحال؟ وزوجه عجوز عقيم كما وقع في موضع آخر من كلامه تعالى.
فقوله: { أبّشرتموني على أن مسّني الكبر } الكبر كناية عن الشيخوخة ومسه هو نيله منه ما نال بإفناء شبابه وإذهاب قواه، والمعنى إني لأتعجب من بشارتكم إياي والحال أني شيخ هرم فني شبابي وفقدت قوى بدني، والعاده تستدعي أن لا يولد لمن هذا شأنه ولد.
وقوله: { فبم تبشّرون } تفريع على قوله: { مسني الكبر } وهو استفهام عمّا بشّروه به كأنه يشكّ في كون بشارتهم بشرى بالولد مع تصريحهم بذلك لا استبعاد ذلك فيسأل ما هو الذي تبشّرون به؟ فإن الذي يدل عليه ظاهر كلامكم أمر عجيب، وهذا شائع في الكلام يقول الرجل إذا أُخبر بما يستبعده أو لا يصدقه: ما تقول؟ وما تريد؟ وماذا تصنع؟
قوله تعالى: { قالوا بشرناك بالحق إلى قوله { إلا الضالّون } الباء في { بالحق } للمصاحبة أي إن بشارتنا ملازمة للحق غير منفكة منه فلا تدفعها بالاستبعاد فتكون من القانطين من رحمة الله، وهذا جواب للملائكة وقد قابلهم إبراهيم عليه السلام على نحو التكنية فقال: { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } والاستفهام إنكاري أي إن القنوط من رحمة الله مما يختص بالضالين ولست أنا بضالّ فليس سؤالي سؤال قانط مستبعد.
قوله تعالى: { قال فما خطبكم أيها المرسلون } الخطب الأمر الجليل والشأن العظيم، وفي خطابهم بالمرسلين دلالة على أنهم ذكروا له ذلك قبلاً، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { قالوا إنا أُرسلنا إلى قوم مجرمين } إلى قوله { لمن الغابرين } قال في المفردات: الغابر الماكث بعد مضيّ من هو معه قال تعالى: { إلا عجوزاً في الغابرين } يعني فيمن طال أعمارهم، وقيل: فيمن بقي ولم يسر مع لوط، وقيل: فيمن بقي بعد في العذاب، وفي آخر: { إلا امرأتك كانت من الغابرين } وفي آخر: { قدرنا إنها لمن الغابرين } إلى أن قال - والغبار ما يبقى من التراب المثار وجعل على بناء الدخان والعثار ونحوهما من البقايا. انتهى ولعله من هنا ما ربما يسمى الماضي والمستقبل معاً غابراً أما الماضي فبعناية أنه بقي فيما مضى ولم يتعد إلى الزمان الحاضر وأما المستقبل فبعناية أنه باق لم يفن بعد كالماضي.
والآيات جواب الملائكة لسؤال إبراهيم { قالوا إنا أُرسلنا } من عند الله سبحانه { إلى قوم مجرمين } نكروهم ولم يسموهم صوناً للسان عن التصريح باسمهم تنفراً منه ومستقبل الكلام يعينهم ثم استثنوا وقالوا: { إلا آل لوط } وهم لوط وخاصته وظهر به أن القوم قومه { إنا لمنجّوهم } أي مخلصوهم من العذاب { أجمعين } وظاهر السياق كون الاستثناء منقطعاً.
ثم استثنوا امرأة لوط من آله للدلالة على أن النجاة لا تشملها وأن العذاب سيأخذها ويهلكها فقالوا: { إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين } أي الباقين من القوم بعد خروج آل لوط من قريتهم.
وقد تقدم تفصيل القول في ضيف إبراهيم عليه السلام في سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب وعقدنا هناك بحثاً مستقلاً فيه.
قوله تعالى: { فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون } إنما قال لهم لوط عليه السلام ذلك لكونهم ظاهرين بصور غلمان مرد حسان وكان يشقه ما يراه منهم وشأن قومه شأنهم من الفحشاء كما تقدم في سورة هود، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: { قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون } الامتراء من المرية وهو الشكّ، والمراد بما كانوا فيه يمترون العذاب الذي كان ينذرهم به لوط وهو يشكون فيه، والمراد بإتيانهم بالحق إتيانهم بقضاء حق في أمر القوم لا معدل عنه كما وقع في موضع آخر من قولهم:
{ { وإنهم آتيهم عذاب غير مردود } [هود: 76]، وقيل: المراد { وأتيناك بالعذاب الذي لا شك فيه } وما ذكرناه هو الوجه.
وفى آيات القصة تقديم وتأخير لا بمعنى اختلال ترتيبها بحسب النزول عند التأليف بوضع ما هو مؤخر في موضع المقدم وبالعكس بل بمعنى ذكره تعالى بعض أجزاء القصة في غير محله الذي يقتضيه الترتيب الطبعي وتعيّنه له سنة الاقتصاص لنكتة توجب ذلك.
وترتيب القصة بحسب أجزائها على ما ذكرها الله سبحانه في سورة هود وغيرها والاعتبار يساعد ذلك مقتضاه أن يكون قوله: { فلما جاء آل لوط } إلى تمام آيتين قبل سائر الآيات. ثم قوله: { وجاء أهل المدينة } إلى تمام ستّ آيات. ثم قوله: { قالوا بل جئناك } إلى تمام أربع آيات. ثم قوله: { فأخذتهم الصيحة مشرقين } إلى آخر الآيات.
وحقيقة هذا التقديم والتأخير أن للقصة فصولاً أربعة وقد أُخذ الفصل الثالث منها فوضع بين الأول والثاني أعني أن قوله: { وجاء أهل المدينة } إلى آخره أُخّر في الذكر ليتصل آخره وهو قوله: { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } بأول الفصل الأخير: { فأخذتهم الصيحة مشرقين } وذلك ليتمثل به الغرض في الاستشهاد بالقصة وينجلي أوضح الانجلاء وهو نزول عذاب هائل كعذابهم في حال سكرة منهم وأمن منه لا يخطر ببالهم شيء من ذلك وذلك أبلغ في الدهشة وأوقع في الحسرة يزيد في العذاب ألماً على ألم.
ونظير هذا في التلويح بهذه النكتة ما في آخر قصة أصحاب الحجر الآتية من اتصال قوله: { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين } بقوله: { فأخذتهم الصيحة مصبحين } كل ذلك ليجلّي معنى قوله تعالى في صدر المقال: { وأن عذابي هو العذاب الأليم } فافهم ذلك.
قوله تعالى: { فأسر بأهلك بقطع من الليل } إلى آخر الآية، الإِسراء هو السير بالليل، فقوله: { بقطع من الليل } يؤكده وقطع الليل شطر مقطوع منه، والمراد باتباعه أدبارهم وهو أن يسير وراءهم فلا يترك أحداً يتخلّف عن السير ويحملهم على السير الحثيث كما يشعر به قوله: { ولا يلتفت منكم أحد }.
والمعنى: وإذ جئناك بعذاب غير مردود وأمر من الله ماض يجب عليك أن تسير بأهلك ليلاً وتأخذ أنت وراءهم لئلا يتخلفوا عن السير ولا يساهلوا فيه ولا يلتفت أحد منكم إلى ورائه { وامضوا حيث تؤمرون }، وفيه دلالة على أنه كانت أمامهم هداية إلهية تهديهم وقائد يقودهم.
قوله تعالى: { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } القضاء مضمّن معنى الوحي ولذا عدّي بإلى - كما قيل - والمراد بالأمر أمر العذاب كما يفسره قوله: { أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } والإِشارة اليه بلفظة "ذلك" للدلالة على عظم خطره وهول أمره.
والمعنى: وقضينا أمرنا العظيم في عذابهم موحياً ذلك إلى لوط وهو أن دابر هؤلاء وأثرهم الذي من شأنه أن يبقى بعدهم من نسل وبناء وعمل مقطوع حال كونهم مصبحين أو التقدير أوحينا إليه قاضياً، الخ.
قوله تعالى: { وجاء أهل المدينة يستبشرون } إلى قوله { إن كنتم فاعلين } يدلّ نسبة المجيء إلى أهل المدينة على كونهم جماعة عظيمة يصحّ عدّهم أهل المدينة لكثرتهم.
فالمعنى { وجاء } إلى لوط { أهل المدينة } جمع كثير منهم يريدون أضيافه وهم { يستبشرون } لولعهم بالفحشاء وخاصة بالداخلين في بلادهم من خارج فاستقبلهم لوط مدافعاً عن أضيافه { قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون } بالعمل الشنيع بهم { واتقوا الله ولا تخزون قالوا } المهاجمون من أهل المدينة: ألم نقطع عذرك في إيوائهم { أولم ننهك عن العالمين } أن تؤويهم وتشفع فيهم وتدافع عنهم فلما يئس لوط عليه السلام منهم عرض عليهم بناته أن ينصرفوا عن أضيافه بنكاحهن - كما تقدم بيانه في سورة هود - { قال إن هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين }.
قوله تعالى: { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } - إلى قوله - { من سجّيل }، قال في المفردات: العمارة ضدّ الخراب. قال: والعمر اسم لمدة عمارة البدن بالحياة فهو دون البقاء فإذا قيل: طال عمره فمعناه عمارة بدنه بروحه، وإذا قيل: بقاؤه فليس يقتضي ذلك فإن البقاء ضد الفناء ولفضل البقاء على العمر وصف الله به وقلّما وصف بالعمر قال: والعمر - بالضم - والعمر - بالفتح - واحد لكن خصّ القسم بالعمر - بالفتح - دون العمر - بالضم - نحو { لعمرك إنهم لفي سكرتهم }، انتهى.
والخطاب في { لعمرك } للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو قسم ببقائه وقول بعضهم: إنه خطاب من الملائكة للوط عليه السلام وقسم بعمره لا دليل عليه من سياق الآيات.
والعمه هو التردد على حيرة والسجّيل حجارة العذاب وقد تقدم تفصيل القول في معناه في تفسير سورة هود.
والمعنى أُقسم بحياتك وبقائك يا محمد إنهم لفي سكرتهم وهي غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء والمنكر يتردّدون متحيرين { فأخذتهم الصيحة } وهي الصوت الهائل { مشرقين } أي حال كونهم داخلين في إشراق الصبح فجعلنا عالي بلادهم سافلها وفوقها تحتها وأمطرنا وأنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجّيل.
قوله تعالى: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } إلى قوله { للمؤمنين } الآية العلامة والمراد بالآيات أولاً العلامات الدالّة على وقوع الحادثة من بقايا الآثار وبالآية ثانيا العلامة الدالة للمؤمنين على حقيّة الإِنذار والدعوة الإِلهية، والتوسّم التفرّس والانتقال من سيماء الأشياء على حقيقة حالها.
والمعنى: أن في ذلك أي فيما جرى من الأمر على قوم لوط وفي بلادهم لعلامات من بقايا الآثار للمتفرّسين وإن تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف ولم تنمحِ بالكلية بعد، إن في ذلك لآية للمؤمنين تدلّ على حقيّة الإِنذار والدعوة وقد تبيّن بذلك وجه إيراد الآيات جمعاً ومفرداً في الموضعين.
قوله تعالى: { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين } الأيكة واحدة الأيك وهو الشجر الملتف بعضه ببعض فقد كانوا - كما قيل - في غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار.
وهؤلاء - كما ذكروا - هم قوم شعيب عليه السلام أو طائفة من قومه كانوا يسكنون الغيضة، ويؤيده قوله تعالى ذيلاً: { وإنهما لبإمام مبين } أي مكانا قوم لوط وأصحاب الأيكة لفي طريق واضح فإن الذي على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط وقوم شعيب الخربة اهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم لدعوة شعيب عليه السلام وقد تقدمت قصتهم في سورة هود. وقوله: { فانتقمنا منهم } الضمير لأصحاب الأيكة وقيل: لهم ولقوم لوط. ومعنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: { ولقد كذّب أصحاب الحجر المرسلين } إلى قوله { ما كانوا يكسبون } أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح، والحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها وعدّهم مكذبين لجميع المرسلين وهم إنما كذبوا صالحاً المرسل إليهم إنما هو لكون دعوة الرسل دعوة واحدة، والمكذّب لواحد منهم مكذّب للجميع.
وقوله: { وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين } إن كان المراد بالآيات المعجزات والخوارق - كما هو الظاهر - فالمراد بها الناقة وشربها وما ظهر لهم بعد عقرها إلى أن أُهلكوا، وقد تقدمت القصة في سورة هود، وإن كان المراد بها المعارف الإِلهية التي بلّغها صالح عليه السلام ونشرها فيهم أو المجموع من المعارف الحقّة والآية المعجزة فالأمر واضح.
وقوله: { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين } أي كانوا يسكنون الغيران والكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الأرضية والسماوية بزعمهم.
وقوله: { فأخذتهم الصيحة مصبحين } أي صيحة العذاب التي كان فيها هلاكهم، وقد تقدّمت الإِشارة إلى مناسبة اجتماع الأمن مع الصيحة في الآيتين لقوله في صدر الآيات: { وإن عذابي هو العذاب الأليم }.
وقوله: { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } أي من الأعمال لتأمين سعادتهم في الحياة.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
"عن مصعب بن ثابت قال: مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناس من أصحابه يضحكون قال: اذكروا الجنة واذكروا النار فنزلت: { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم }" .
أقول: وفي معناه روايات أُخر لكن في انطباق معنى الآية على ما ذكر فيها من السبب خفاء.
وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } قال: هم المتفرِّسون.
وفيه أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم معاً في الطب وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين }" قال المتفرسين.
وفي اختصاص المفيد بإسناده عن أبي بكر بن محمد الحضرمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: ما من مخلوق إلا وبين عينيه مكتوب مؤمن أو كافر وذلك محجوب عنكم وليس بمحجوب عن الأئمة من آل محمد ثم ليس يدخل عليهم أحد إلا عرفوه مؤمناً أو كافراً ثم تلا هذه الآية: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } فهم المتوسمون.
أقول: والروايات في هذا المعنى متظافرة متكاثرة، وليس معناها نزول الآية فيهم عليهم السلام.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً"
]. أقول: وقد أوردنا ما يجب إيراده من الروايات في قصة بشرى إبراهيم وقصص لوط وشعيب وصالح عليه السلام في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب واكتفينا بذلك عن إيرادها ههنا فليرجع إلى هناك.