التفاسير

< >
عرض

مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠٦
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
١٠٧
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ
١٠٨
لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ
١٠٩
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١١٠
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١١١
-النحل

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
في الآيات وعيد على الكفر بعد الإِيمان وهو الارتداد ووعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين في الله، وفيها تعرّض لحكم التقيّة.
قوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره } الاطمئنان السكون والاستقرار، والشرح البسط، قال في المفردات: أصل الشرح بسط اللحم ونحوه، يقال: شرحت اللحم وشرّحته، ومنه شرح الصدر أي بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله وروح منه، قال تعالى: { رب اشرح لي صدري } { ألم نشرح لك صدرك } { أفمن شرح الله صدره } وشرح المشكل من الكلام بسطه وإظهار ما يخفى من معانيه. انتهى.
وقوله: { من كفر بالله من بعد إيمانه } شرط جوابه قوله: { فعليهم غضب من الله } وعطف عليه قوله: { ولهم عذاب عظيم } وضمير الجمع في الجزاء عائد إلى اسم الشرط "من" لكونه بحسب المعنى كلياً ذا أفراد.
وقوله: { إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإِِيمان } استثناء من عموم الشرط والمراد بالإِكراه الإِجبار على كلمة الكفر والتظاهر به فإن القلب لا يقبل الإِكراه والمراد أستثني من أُكره على الكفر بعد الإِيمان فكفر في الظاهر وقلبه مطمئن بالإِيمان.
وقوله: { ولكن من شرح بالكفر صدراً } أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى ووعاه، والجملة استدراك من الاستثناء فيعود إلى معنى المستثنى منه فإن المعنى ما أُريد بقولي: { من كفر بالله من بعد إيمانه } من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان ولكن أُريد به من شرح بالكفر صدراً، وفي مجموع الاستثناء والاستدراك بيان كامل للشرط، وهذه هي النكتة لاعتراض الاستثناء بين الشرط والجزاء وعدم تأخيره إلى أن تتم الشرطيّة.
وقيل: قوله: { من كفر } بدل من { الذين لا يؤمنون بآيات الله } في الآية السابقة، وقوله: { وأُولئك هم الكاذبون } جملة معترضة، وقوله: { إلا من أكره } استثناء من ذلك وقوله: { ولكن من شرح } مبتدأ خبره أو القائم مقام خبره قوله: { فعليهم غضب من الله }.
والمعنى - على هذا - إنما يفتري الكذب الذين كفروا من بعد إيمانهم إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإِيمان، وعند ذلك تم الكلام ثم بدأ فقال: ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله.
والذوق السليم يكفي مؤنة هذا الوجه على ما به من السخافة.
قوله تعالى: { ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين } بيان لسبب حلول غضب الله بهم وثبوت العذاب العظيم عليهم وهو أنهم اختاروا الحياة الدنيا وهي الحياة المادية التي لا غاية لها الا التمتع الحيوانى والاشتغال بمشتهيات النفس على الآخرة التي هي حياة دائمة مؤبدة في جوار رب العالمين وهي غاية الحياة الإِنسانية.
وبعبارة أُخرى هؤلاء لم يريدوا إلا الدنيا وانقطعوا عن الآخرة وكفروا بها والله لا يهدي القوم الكافرين واذ لم يهدهم الله ضلوا عن طريق السعادة والجنة والرضوان فوقعوا في غضب من الله وعذاب عظيم.
قوله تعالى: { أُولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأُولئك هم الغافلون } إشارة إلى أن اختيار الحياة الدنيا على الآخرة والحرمان من هداية الله سبحانه هو الوصف الذي يوصف به الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم والذين يسمّون غافلين.
فإنهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية لأنفسهم وحرمانهم من الإِهتداء إلى الأُخرى انقطعوا عن الآخرة وتعلقوا بالدنيا وجعلوها غاية لأنفسهم فوقف حسهم وعقلهم فيها دون أن يتعدياها إلى ما وراءها وهو الآخرة فليسوا يبصرون ما يعتبرون به ولا يسمعون عظة يتعظون بها ولا يعقلون حجة يهتدون بها إلى الآخرة.
فهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم فلا تنال قلوبهم ولا سمعهم وأبصارهم ما يدلهم على الآخرة، وهم غافلون عنها لا يتنبهون لشيء من أمرها.
فظهر أن ما في الآية السابقة من الوصف بمنزلة المعرّف لما في هذه الآية من الطبع ومن الغفلة فعدم هداية الله إياهم إثر ما تعلقوا بالدنيا هو معنى الطبع والغفلة، والطبع صنع إلهي منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة والغفلة صفة منسوبة إليهم أنفسهم.
قوله تعالى: { لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } لأنهم ضيعوا رأس مالهم في الدنيا فبقوا لا زاد لهم يعيشون به في أخراهم، وقد وقع في نظير المقام من سورة هود:
{ { لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون } [هود: 22]، ولعل وجه التشديد هناك أنه تعالى أضاف إلى صفاتهم هناك أنهم صدوا عن سبيل الله فراجع.
قوله تعالى: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } الفتنة في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق البلاء والتعذيب، وقد كانت قريش ومشركوا مكة يفتنون المؤمنين ليردوهم عن دينهم ويعذبونهم بأنواع العذاب حتى ربما كانوا يموتون تحت العذاب كما فتنوا عماراً وأباه وأُمه فقتل أبواه وارتد عمار ظاهراً فتفصى منهم بالتقية، وفي ذلك نزلت الآيات السابقة كما سيأتي إن شاء الله في البحث الروائي.
ومن هنا يظهر أن للآية اتصالاً بما قبلها من قوله: { إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان } وهي في معنى قولنا: وبعد ذلك كله إن الله غفور رحيم للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا.
فقوله: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا بالمغفرة والرحمة يوم القيامة قبال ما أُوعد غيرهم بالخسران التام يومئذ وقد قيّد ذلك بالجهاد والصبر بعد المهاجرة.
وقوله: { إن ربك من بعدها لغفور رحيم } بمنزلة تلخيص صدر الكلام - لطوله - ليلحق به ذيله، ويفيد فائدة التأكيد كقولنا: زيد في الدار زيد في الدار كذا وكذا، ويفيد أن لما ذكر من قيود الكلام دخلاً في الحكم فالله سبحانه لا يرضى عنهم إلا أن يهاجروا ولا عن هجرتهم إلا أن يجاهدوا بعدها ويصبروا.
قوله تعالى: { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفّى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } إتيان النفس يوم القيامة كناية عن حضورها عند الملك الديّان، كما قال:
{ { فإنهم لمحضرون } [الصافات: 127]، والضمير في قوله: { عن نفسها } للنفس ولا ضير في إضافة النفس إلى ضمير النفس فإن النفس ربما يراد بها الشخص الإِنساني كقوله: { { من قتل نفساً بغير نفس } [المائدة: 32]، وربما يراد بها التأكيد ويتحدد معناها بما تقدمها من المؤكد سواء كان إنساناً أو غيره، كما يقال: الإِنسان نفسه والفرس نفسه والحجر نفسه والسواد نفسه، ويقال: نفس الإِنسان ونفس الفرس ونفس الحجر ونفس السواد، وقوله: { عن نفسها } المراد فيه بالمضاف المعنى الثاني وبالمضاف إليه المعنى الأول، وقد دفع التعبير بالضمير بشاعة تكرار اللفظ بالإِضافة، وفي هذا المقدار كفاية عن الأبحاث الطويلة التي أوردها المفسرون.
وقوله: { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: { لغفور رحيم } ومجادلة النفس عن نفسها دفاعها عن نفسها وقد نسيت كل شيء وراء نفسها على خلاف ما كانت عليه في الدنيا من التعلق بكل شيء دون نفسها بنسيانها وليس ذلك إلا لظهور حقيقة الأمر عليها وهي أن الإِنسان لا سبيل له إلى ما وراء نفسه، وليس له في الحقيقة إلا أن يشتغل بنفسه.
فاليوم تأتي النفس وتحضر للحساب وهي تجادل وتصر على الدفاع عن نفسها بما تقدر عليه من الأعذار.
وقوله: { وتوفّى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } التوفية إعطاء الحق تاماً من غير تنقيص، وقد علَّق التوفية على نفس العمل إذ قيل: { ما عملت } فأفيد أن الذي أُعطيته نفس العمل من غير أن يتصرف فيه بتغيير أو تعويض، وفيه كمال العدل حيث لم يضف إلى ما استحقته شيء ولا نقص منه ولذلك عقَّبه بقوله: { وهم لا يظلمون }.
ففي الآية إشارة:
أولاً: إلى أن نفساً لا تدافع يوم القيامة ولا تجادل عن غيرها بل إنما تشتغل بنفسها لا فراغ لها لغيرها كما قال:
{ { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً } [الدخان: 41]، وقال: { { يوم لا ينفع مال ولا بنون } [الشعراء: 88]، وقال: { { يوم لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة } } [البقرة: 254]. وثانياً: إلى أن الجدال لا ينفعها في صرف ما استحقتها من الجزاء شيئاً فان الذي تجزاه هو عين ما عملت ولا سبيل إلى تغيير هذه النسبة وليس من الظلم في شيء.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال:
"لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: تفرّقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل فإذا سمعتم بى قد استقرت بي الأرض فالحقوا بي.
فأصبح بلال المؤذن وخبَّاب وعمار - وجاريه من قريش كانت أسلمت فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه فإذا ألبسوها إياه قال: أحد أحد، وأما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك.
وأما عمار فقال لهم كلمه أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدّها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ثم خلّوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بالذي [كان] من أمرهم واشتدّ على عمار الذي كان تكلم به فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال: لا. قال: وأنزل الله: { إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان }"
.
أقول: والجارية المذكورة في الرواية هي سمية أُم عمار، وكان معهم ياسر أبو عمار، وقيل: وكان أبو عمار أول شهيدين في الإِسلام، وقد استفاضت الروايات على قتلهما بالفتنة وإظهار عمار الكفر تقية ونزول الآية فيه.
وفيه أخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصحَّحه والبيهقي في الدلائل من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه.
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما وراءك شيء؟ قال: شر. ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإِيمان. قال: إن عادوا فعد، فنزلت: { إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان }.
وفي المجمع عن ابن عباس وقتاده: إن الآية نزلت في جماعة أُكرهوا وهم عمار وياسر أبوه وأُمه سمية وصهيب وبلال وخباب عذّبوا وقتل أبو عمار وأُمه وأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ثم أخبر سبحانه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قوم: كفر عمار فقال صلى الله عليه وآله وسلم كلا إن عماراً مليء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإِيمان بلحمه ودمه.
"وجاء عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكي فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما وراءك؟ فقال: شرٌّ يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الآية" .
وفي الدر المنثور أخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذّب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال وعامر وابن فهيرة وقوم من المسلمين وفيهم نزلت هذه الآية: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا }.
أقول: وسمّي منهم في بعض الروايات عباس بن أبي ربيعة وفي بعضها الآخر هو والوليد بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد بن المغيرة وأبو جندل بن سهيل بن عمرو وأجمع رواية في ذلك ما عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت فيمن كان يفتن من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا }.
وفي الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: فأما ما فرض على القلب من الإِيمان الإِقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً عبده ورسوله، والإِقرار بما جاء به من عند الله من نبي أو كتاب: فذلك ما فرض الله على القلب من الإِقرار والمعرفة وهو عمله وهو قول الله عز وجل: { إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً }.
وفيه بإسنادة عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: إن الناس يروون أن علياً عليه السلام قال على منبر الكوفة: يا أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبّي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرؤوا مني. قال: ما أكثر ما يكذبون الناس على علي عليه السلام ثم قال: إنكم ستدعون إلى سبّي ستدعون إلى سبّي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة وإني لعلي دين محمد ولم يقل: ولا تبرؤوا مني.
فقال له السائل: أرأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ قال: والله ما ذاك عليه وما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة وقلبه مطمئن بالإِيمان فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندها: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك { إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان } وآمرك أن تعود إن عادوا.
أقول: وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن معمر بن يحيى بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام، وقوله عليه السلام: { وأمرك أن تعود إن عادوا } يستفاد ذلك من الآية حيث لم يرد الاستثناء فيها من الشخص بل وردت على العنوان وهو إكراه من اطمأن قلبه بالإِيمان، وأما كونه أمراً منه تعالى كما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلعل الوجه أن صريح الاستثناء هو الجواز ومع جواز ذلك لا مساغ للإِباء الذي هو عرض النفس للقتل وإلقاؤها في التهلكة فيجامع هذا الجواز الوجوب دون الإِباحة.
وفي تفسير العياشي عن عمرو بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"رفع عن أُمتى أربعة خصال: ما أخطأوا وما نسوا وما أكرهوا عليه وما لم يطيقوا" ، وذلك في كتاب الله { إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان }.