التفاسير

< >
عرض

إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً
٩
وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
١٠
وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً
١١
وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً
١٢
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً
١٣
ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
١٤
مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً
١٥
وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً
١٦
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً
١٧
مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً
١٨
وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً
١٩
كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
٢٠
ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً
٢١
لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً
٢٢
-الإسراء

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
كان القبيل السابق من الآيات يذكر كيفية جريان السنة الإِلهية في هداية الإِنسان إلى سبيل الحق ودين التوحيد ثم إسعاد من استجاب الدعوة الحقة في الدنيا والآخرة وعقاب من كفر بالحق وفسق عن الأمر في دنياه وعقباه، وكان ذكر نزول التوراة وما جرى بعد ذلك على بني إسرائيل كالمثال الذي يورد في الكلام لتطبيق الحكم الكلي على أفراده ومصاديقه، وهذا القبيل من الآيات يذكر جريان السنة المذكورة في هذه الأُمة كما جرت في أُمة موسى، وقد استنتج من الآيات لزوم التجنب عن الشرك ووجوب التزام طريق التوحيد حيث قيل: { لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً }.
قوله تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } أي للملة التي هي أقوم كما قال تعالى:
{ { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً } [الأنعام: 161]. والأقوم أفعل تفضيل والأصل في الباب القيام ضد القعود الذي هو أحد أحوال الإِنسان وأوضاعه، وهو أعدل حالاته يتسلط به على ما يريده من العمل بخلاف القعود والاستلقاء والانبطاح ونحوها ثم كنى به عن حسن تصديه للأمور إذا قوي عليها من غير عجز وعي وأحسن إدارتها للغاية يقال: قام بأمر كذا إذا تولاه وقام على أمر كذا أي راقبه وحفظه وراعى حاله بما يناسبه.
وقد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفية بالقيام كما قال:
{ { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم } [الروم: 30]، وقال: { { فأقم وجهك للدين القيم } [الروم: 43]. وذلك لكون هذا الدين مهيمناً على ما فيه خير دنياهم وآخرتهم قيماً على إصلاح حالهم في معاشهم ومعادهم، وليس إلا لكونه موافقاً لما تقتضيه الفطرة الإِنسانية والخلقه التي سواه الله سبحانه عليها وجهزه بحسبها بما يهديه إلى غايتة التي أريدت له، وسعادته التي هيئت لأجله.
وعلى هذا فوصف هذه الملة في قوله: { للتي هي أقوم } بأنها أقوم إن كان بقياسها إلى سائر الملل إنما هو من جهة أن كلاً من تلك الملل سنة حيوية اتخذها ناس لينتفعوا بها في شيء من أمور حياتهم لكنها إن كانت تنفعهم في بعضها فهي تضرهم في بعض آخر وان كانت تحرز لهم شطراً مما فيه هواهم فهي تفوت عليهم شطراً عظيماً مما فيه خيرهم وإنما ذلك الإِسلام يقوم على حياتهم وبجميع ما يهمهم في الدنيا والآخرة من غير أن يفوته فائت فالملة الحنيفية أقوم من غيرها على حياة الإِنسان.
وإن كان بالقياس إلى سائر الشرائع الإِلهية السابقة كشريعة نوح وموسى وعيسى عليهم السلام كما هو ظاهر جعلها مما يهدي إليها القرآن قبال ما تقدم من ذكر التوراة وجعلها هدى لبني إسرائيل فإنما هو من جهة أن هذه الملة الحنيفية أكمل من الملل السابقة التي تتضمنها كتب الأنبياء السابقين فهي تشتمل من المعارف الإِلهية على آخر ما تتحمله البنية الإِنسانية ومن الشرائع على ما لا يشذ منه شاذ من أعمال الإِنسان الفردية والاجتماعية، وقد قال تعالى:
{ { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [المائدة: 48] فما يهدي إليه القرآن اقوم مما يهدي إليه غيره من الكتب.
قوله تعالى: { ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً } الصالحات صفة محذوف موصوفها اختصاراً والتقدير وعملوا الأعمال الصالحات.
وفي الآية جعل حق للمؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على الله سبحانه كما يؤيده تسمية ذلك أجراً ويؤيده أيضاً قوله في موضع آخر:
{ { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } [فصلت: 8] ولا محذور في أن يكون لهم على الله حق إذا كان الله سبحانه هو الجاعل له، ونظيره قوله: { { ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقاً علينا ننج المؤمنين } [يونس: 103]. والعناية في الآية ببيان الوعد المنجز كما أن الآية التالية تعنى ببيان الوعيد المنجز وهو العذاب لمن يكفر بالآخرة، وأما من آمن ولم يعمل الصالحات فليس ممن له على الله أجر منجز وحق ثابت بل أمره مراعى بتوبة أو شفاعة حتى يلحق بذلك على معشر الصالحين من المؤمنين قال تعالى: { { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم } [التوبة: 102] وقال: { { وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم } [التوبة: 106]. نعم لهم ثبات على الحق بإيمانهم كما قال تعالى: { { وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } [يونس: 2] وقال: { { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [إبراهيم: 27]. قوله تعالى: { وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً } الإِعتاد الإِعداد والتهيئة من العتاد بالفتح وهو على ما ذكره الراغب ادّخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإِعداد.
وظاهر السياق أنه عطف على قوله في الآية السابقة: { أن لهم } الخ فيكون التقدير ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن الذين لا يؤمنون "الخ" وكون ذلك بشارة للمؤمنين من حيث إنه انتقام إلهي من أعدائهم في الدين.
وإنما خص بالذكر من أوصاف هؤلاء عدم إيمانهم بالآخرة مع جواز أن يكفروا بغيرها كالتوحيد والنبوة لأن الكلام مسوق لبيان الأثر الذي يعقبه الدين القيم، ولا موقع للدين ولا فائدة له مع إنكار المعاد وإن اعترف بوحدانية الرب تعالى وغيرها من المعارف، ولذلك عد سبحانه نسيان يوم الحساب أصلاً لكل ضلال في قوله:
{ { إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } [ص: 26]. قوله تعالى: { ويدع الإِنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإِنسان عجولاً } المراد بالدعاء على ما يستفاد من السياق مطلق الطلب سواء كان بلفظ الدعاء كقوله: اللهم ارزقني مالاً وولداً وغير ذلك أو من غير دعاء لفظي بل بطلب وسعي فإن ذلك كله دعاء وسؤال من الله سواء اعتقد به الإِنسان وتنبه له أم لا إذ لا معطي ولا مانع في الحقيقة إلا الله سبحانه، قال تعالى: { { يسأله من في السماوات والأرض } [الرحمن: 29] وقال: { { وآتاكم من كل ما سألتموه } [إبراهيم: 34] فالدعاء مطلق الطلب والباء في قوله: { بالشر } و { بالخير } للصلة والمراد أن الإِنسان يدعو الشر ويسأله دعاء كدعائه الخير وسؤاله وطلبه.
وعلى هذا فالمراد بكون الإِنسان عجولاً أنه لا يأخذ بالأناة إذا أراد شيئاً حتى يتروى ويتفكر في جهات صلاحه وفساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه ويسعى إليه بل يستعجل في طلبه بمجرد ما ذكره وتعلق به هواه فربما كان شراً فتضرر به وربما كان خيراً فانتفع به.
والآية وما يتلوها من الآيات في سياق التوبيخ واللوم متفرعة على ما تقدم من حديث المن الإِلهي بالهداية إلى التي هي أقوم كأنه قيل: إنا أنزلنا كتاباً يهدي إلى ملة هي أقوم تسوق الآخذين بها إلى السعادة والجنة وتؤديهم إلى أجر كبير، وترشدهم إلى الخير كله لكن جنس الإِنسان عجول لا يفرق لعجلته بين الخير والشر بل يطلب كل ما لاح له ويسأل كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير والشر والحق والباطل فيرد الشر كما يرد الخير ويهجم على الباطل كما يهجم على الحق.
وليس ينبغي له أن يستعجل ويطلب كل ما يهواه ويشتهيه ولا يحق له أن يرتكب كل ما له استطاعة ارتكابه، ويقترف كل ما أقدره الله عليه ومكنه منه مستنداً إلى أنه من التيسير الإِلهي ولو شاء لمنعه فهذان الليل والنهار آيتان إلهيتان وليستا على نمط واحد بل آية الليل ممحوة تسكن فيها الحركات وتهدأ فيها العيون، وآية النهار مبصرة تنتبه فيها القوى ويبتغي فيها الناس من فضل ربهم ويعلمون بها عدد السنين والحساب.
كذلك أعمال الشر والخير جميعاً كائنة في الوجود بإذن الله مقدورة للإِنسان باقداره سبحانه لكن ذلك لا يكون دليلاً على جواز ارتكاب الإِنسان الشر والخير جميعاً وأن يستعجل فيطلب كل ما بدا له فيرد الشر كما يرد الخير ويقترف المعصية كما يقترف الطاعة بل يجب عليه أن يأخذ عمل الشر ممحواً فلا يقترفه وعمل الخير مبصراً فيأتي به ويبتغي بذلك فضل ربه من سعادة الآخرة والرزق الكريم فإن عمل الإِنسان هو طائره الذي يدله على سعادته وشقائه، وهو لازم له غير مفارقة فما عمله من خير أو شر فهو لا يفارقه إلى غيره ولا يستدل به سواه.
هذا ما يعطيه السياق من معنى الآية ويتبين به:
أولاً: أن الآية وما يتلوها من الآيات مسوقة لغرض التوبيخ واللوم، وهو وجه اتصالها وما بعدها بما تقدمها من قوله: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } الآية كما أشرنا إليه آنفاً فهو سبحانه يلوم الإِنسان أنه لما به من قريحة الاستعجال لا يقدر نعمة الهداية الإِلهية حق قدرها ولا يفرق بين الملة التي هي أقوم وبين غيرها فيدعو بالشر دعاءه بالخير ويقصد الشقاء كما يقصد السعادة.
وثانياً: أن المراد بالإِنسان هو الجنس دون أفراد معينة منه كالكفار والمشركين كما قيل، وبالدعاء مطلق الطلب لا الدعاء المصطلح كما قيل، وبالخير والشر ما فيه سعادة حياته أو شقاؤه بحسب الحقيقة دون مطلق ما يضر وينفع كدعاء الإِنسان على من رضي عنه بالنجاح والفلاح وعلى من غضب عليه بالخيبة والخسران وغير ذلك. وبالعجلة حب الإِنسان أن يسرع ما يهواه إلى التحقق دون اللج والتمادى على طلب العذاب والمكروه.
وللمفسرين اختلاف عجيب في مفردات الآية، وكلمات مضطربة في بيان وجه اتصال الآية وكذا الآيات التالية بما قبلها تركنا إيرادها والغور فيها لعدم جدوى في التعرض لها من أرادها فليراجع كتبهم.
قوله تعالى: { وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } إلى آخر الآية، قال في المجمع: مبصرة أي مضيئة منيرة نيرة قال أبو عمرو: أراد يبصر بها كما يقال: ليل نائم وسر كاتم، وقال الكسائي: العرب تقول: أبصر النهار إذا أضاء. انتهى موضع الحاجة.
الليل والنهار هما النور والظلمة المتعاقبان على الأرض من جهة مواجهة الشمس بالطلوع وزوالها بالغروب وهما كسائر ما في الكون من أعيان الأشياء وأحوالها آيتان لله سبحانه تدلان بذاتهما على توحده بالربوبية.
ومن هنا يظهر أن المراد بجعلهما آيتين هو خلقهما كذلك لا خلقهما وليستا آيتين ثم جعلهما آيتين وإلباسهما لباس الدلالة فالأشياء كلها آيات له تعالى من جهة أصل وجودها وكينونتها الدالة على مكونها لا لوصف طار يطرأ عليها.
ومن هنا يظهر أيضاً أن المراد بآية الليل كآية النهار نفس الليل كنفس النهار - على أن تكون الإِضافة بيانية لا لامية - والمراد بمحو الليل إظلامه وإخفاؤه عن الأبصار على خلاف النهار.
فما ذكره بعضهم أن المراد بآية الليل القمر ومحوها ما يرى في وجهه من الكلف كما أن المراد بآية النهار الشمس وجعلها مبصرة خلو قرصها عن المحو والسواد. ليس بسديد فإن الكلام في الآيتين لا آيتي الآيتين. على أن ما فرع على ذلك من قوله: { لتبتغوا فضلاً من ربكم } الخ متفرع على ضوء النهار وظلمة الليل لا على ما يرى من الكلف في وجه القمر وخلو قرص الشمس من ذلك.
ونظيره في السقوط قول بعضهم: إن المراد بآية الليل ظلمته وبآية النهار ضوءه والمراد بمحو آية الليل إمحاء ظلمته بضوء النهار ونظيره إمحاء ضوء النهار بظلمة الليل وإنما اكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر.
ولا يخفى عليك وجه سقوطه بتذكر ما أشرنا إليه سابقاً فإن الغرض بيان وجود الفرق بين الآيتين مع كونهما مشتركتين في الآئية والدلالة، وما ذكره من المعنى يبطل الفرق.
وقوله: { لتبتغوا فضلاً من ربكم } متفرع على قوله: { وجعلنا آية النهار مبصرة } أي جعلناها مضيئة لتطلبوا فيه رزقاً من ربكم فإن الرزق فضله وعطاؤه تعالى.
وذكر بعضهم أن التقدير: لتسكنوا بالليل ولتبتغوا فضلاً من ربكم بالنهار إلا أنه حذف "لتسكنوا بالليل" لما ذكره في مواضع أُخر وفيه أن التقدير ينافي كون الكلام مسوقاً لبيان ترتب الآثار على إحدى الآيتين دون الأخرى مع كونهما معاً آيتين.
وقوله: { ولتعلموا عدد السنين والحساب } أي لتعلموا بمحو الليل وإبصار النهار عدد السنين بجعل عدد من الأيام واحداً يعقد عليه، وتعلموا بذلك حساب الأوقات والآجال، وظاهر السياق أن علم السنين والحساب متفرع على جعل النهار مبصراً نظير تفرع ما تقدمه من ابتغاء الرزق على ذلك وذلك أنا إنما نتنبه للآعدام والفقدانات من ناحية الوجودات لا بالعكس والظلمة فقدان النور ولولا النور لم ننتقل لا إلى نور ولا إلى ظلمة، ونحن وإن كنا نستمد في الحساب بالليل والنهار معاً ونميز كلاً منهما بالآخر ظاهراً لكن ما هو الوجودي منهما أعني النهار هو الذي يتعلق به إحساسنا أولاً ثم نتنبه لما هو العدمي منها أعني الليل بنوع من القياس، وكذلك الحال في كل وجودي وعدمي مقيس إليه.
وذكر الرازي في تفسيره أن الأولى أن يكون المراد بمحو آية الليل على القول بأنها القمر هو ما يعرض القمر من اختلاف النور من المحاق إلى المحاق بالزيادة والنقيصة ليلة فليلة لما فيه من الآثار العظيمة في البحار والصحاري وأمزجة الناس.
ولازم ذلك - كما أشار إليه - أن يكون قوله: { لتبتغوا فضلاً من ربكم } وقوله: { ولتعلموا عدد السنين والحساب } متفرعين على محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة جميعاً، والمعنى أنا جعلنا ذلك كذلك لتبتغوا بإضاءة الشمس واختلاف نور القمر أرزاقكم، ولتعلموا بذلك أيضاً السنين والحساب فإن الشمس هي التي تميز النهار من الليل والقمر باختلاف تشكلاته يرسم الشهور القمرية والشهور ترسم السنين فاللام في الجملتين أعني { لتبتغوا } { ولتعلموا } متعلق بالفعلين { محونا } و { وجعلنا } جميعاً.
وفيه أن الآية في سياق لا يلائمه جعل ما ذكر فيها من الغرض غرضاً مترتباً على الآيتين معاً أعني الآية الممحوة والآية المثبتة فقد عرفت أن الآيات في سياق التوبيخ واللوم، والآية أعني قوله: { وجعلنا الليل والنهار آيتين } كالجواب عما قدر أن الإِنسان يحتج به في دعائه بالشر كدعائه بالخير.
وملخصه: أن الإِنسان لمكان عجلته لا يعتني بما أنزله الله من كتاب وهداه إليه من الملة التي هي أقوم بل يقتحم الشر ويطلبه كما يطلب الخير من غير أن يتروى في عمله ويتأمل وجه الصلاح والفساد فيه بل يقتحمه بمجرد ما تعلق به هواه ويسَّرته قدرته، وهو يعتمد في ذلك على حريته الطبيعية في العمل كأنه يحتج فيه بأن الله أقدره على ذلك ولم يمنع عنه كما نقله الله من قول المشركين:
{ { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آبائنا } [النحل: 35]. فأجيب عنه بعد ما أُورد في سياق التوبيخ واللوم بأن مجرد تعلق القدرة وصحة الفعل لا يستلزم جواز العمل ولا أن إقداره على الخير والشر معاً يدل على جواز اقتحام الشر كالخير فالليل والنهار آيتان من آيات الله يعيش فيهما الإِنسان لكن الله سبحانه محى آية الليل وقدر فيها السكون والخمود، وجعل آية النهار مبصرة مدركة يطلب فيها الرزق ويعلم بها عدد السنين والحساب.
فكما أن كون الليل والنهار مشتركين في الآئية لا يوجب اشتراكهما في الحركات والتقلبات بل هي للنهار خاصة كذلك اشتراك أعمال الخير والشر في أنها جميعاً تتحقق بإذن الله سبحانه وهي مما أقدر الله الإِنسان عليه سواء لا يستلزم جواز ارتكابه لهما وإتيانه بهما على حد سواء بل جواز الإِتيان والارتكاب من خواص عمل الخير دون عمل الشر فليس للإِنسان أن يسلك كل ما بدا له من سبيل ولا أن يأتي بكل ما اشتهاه وتعلق به هواه معتمداً في ذلك على ما أُعطي من الحرية الطبيعية والإِقدار الإِلهي.
ومما تقدم يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن الآية مسوقة للاحتجاج على التوحيد فإن الليل والنهار وما يعرضهما من الاختلاف وما يترتب على ذلك من البركات من أوضح آيات التوحيد.
وفيه أن دلالتهما على التوحيد لا توجب أن يكون الغرض إفادته والاحتجاج بهما على ذلك في أي سياق وقعا.
وقوله في ذيل الآية: { وكل شيء فصلناه تفصيلاً } إشارة إلى تمييز الأشياء وأن الخلقة لا تتضمن إبهامها ولا إجمالها.
قوله تعالى: { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } قال في المجمع: الطائر هنا عمل الإِنسان شبه بالطائر الذي يسنح ويتبرك به والطائر الذي يبرح فيتشأم به، والسانح الذي يجعل ميامنه إلى مياسرك، والبارح الذي يجعل مياسره إلى ميامنك، والأصل في هذا أنه إذا كان سانحاً أمكن الرامي وإذا كان بارحاً لم يمكنه قال أبو زيد: كل ما يجري من طائر أو ظبي أو غيره فهو عندهم طائر. انتهى.
وفي الكشاف: أنهم كانوا يتفألون بالطير ويسمونه زجراً فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحاً بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وإن مر بارحاً بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاءموا ولذا سمى تطيراً. انتهى.
وقال في المفردات: تطير فلان واطير أصله التفاؤل بالطير ثم يستعمل في كل ما يتفاءل به ويتشاءم { قالوا إنا تطيرنا بكم } ولذلك قيل: لا طير إلا طيرك وقال: { إن تصبهم سيئة يطيروا } أي يتشاءموا به { ألا إنما طائرهم عند الله } أي شؤمهم ما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم، وعلى ذلك قوله: { قالوا اطيرنا بك وبمن معك } { قال طائركم عند الله } { قالوا طائركم معكم } { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } أي عمله الذي طار عنه من خير وشر ويقال: تطايروا إذا أسرعوا ويقال إذا تفرقوا. انتهى.
وبالجملة سياق ما قبل الآية وما بعدها وخاصة قوله: { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } الخ، يعطي أن المراد بالطائر ما يستدل به على الميمنة والمشأمة ويكشف عن حسن العاقبة وسوءها فلكل إنسان شيء يرتبط بعاقبة حاله يعلم به كيفيتها من خير أو شر.
وإلزام الطائر جعله لازماً له لا يفارقه، وإنما جعل الإِلزام في العنق لأنه العضو الذي لا يمكن أن يفارقه الإِنسان أو يفارق هو الإِنسان بخلاف الأطراف كاليد والرجل، وهو العضو الذي يوصل الرأس بالصدر فيشاهد ما يعلق عليه من قلادة أو طوق أو غل أول ما يواجه الإِنسان.
فالمراد بقوله: { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } أن الذي يستعقب لكل إنسان سعادته أو شقاءه هو معه لا يفارقه بقضاء من الله سبحانه فهو الذي ألزمه إياه، وهذا هو العمل الذي يعمله الإِنسان لقوله تعالى:
{ { وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى } [النجم: 39-41]. فالطائر الذي ألزمه الله الإِنسان في عنقه هو عمله، ومعنى إلزامه إياه أن الله قضى أن يقوم كل عمل بعامله ويعود إليه خيره وشره ونفعه وضره من غير أن يفارقه إلى غيره، وقد استفيد من قوله تعالى: { وإن جهنم لموعدهم أجمعين } [الحجر: 43] ... { إن المتقين في جنات وعيون } [الحجر: 45] الآيات أن من القضاء المحتوم أن حسن العاقبة للإِيمان والتقوى وسوء العاقبة للكفر والمعصية.
ولازم ذلك أن يكون مع كل إنسان من عمله ما يعين له حاله في عاقبة أمره معية لازمة لا يتركه وتعيينا قطعياً لا يخطئ ولا يغلط لما قضي به أن كل عمل فهو لصاحبه ليس له إلا هو وأن مصير الطاعة إلى الجنة ومصير المعصية إلى النار.
وبما تقدم يظهر أن الآية إنما تثبت لزوم السعادة والشقاء للإِنسان من جهة أعماله الحسنة والسيئة المكتسبة من طريق الاختيار من دون أن يبطل تأثير العمل في السعادة والشقاء بإثبات قضاء أزلي يحتم للإِنسان سعادة أو شقاء سواء عمل أم لم يعمل وسواء أطاع أم عصى كما توهمه بعضهم.
قوله تعالى: { ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً } يوضح حال هذا الكتاب قوله بعده: { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } حيث يدل أولاً على أن الكتاب الذي يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلق بغيره، وثانياً أن الكتاب متضمن لحقائق أعماله التي عملها في الدنيا من غير أن يفقد منها شيئاً كما في قوله:
{ { ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } [الكهف: 49]، وثالثاً أن الأعمال التي أحصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أو شقاء ظاهرة بنتائجها من خير أو شر ظهوراً لا يستتر بستر ولا يقطع بعذر، قال تعالى: { لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } [ق: 22]. ويظهر من قوله تعالى: { { يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء } [آل عمران: 30] أن الكتاب يتضمن نفس الأعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حد الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا فهو نفس الأعمال يطلع الله الإِنسان عليها عياناً، ولا حجه كالعيان.
وبذلك يظهر أن المراد بالطائر والكتاب في الآية أمر واحد وهو العمل الذي يعمله الإِنسان غير أنه سبحانه قال: { ونخرج له يوم القيامة كتاباً } ففرق الكتاب عن الطائر ولم يقل: (ونخرجه) لئلا يوهم أن العمل إنما يصير كتاباً يوم القيامة وهو قبل ذلك طائر وليس بكتاب أو يوهم أن الطائر خفي مستور غير خارج قبل يوم القيامة فلا يلائم كونه ملزماً له في عنقه.
وبالجملة في قوله: { ونخرج له } إشارة إلى أن كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن إدراك الإِنسان محجوب وراء حجاب الغفلة وإنما يخرجه الله سبحانه للإِنسان يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله، وهو المعنى بقوله: { يلقاه منشوراً }.
وفي ذلك دلالة على أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه فيكون تأكيداً لقوله: { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } لأن المحصل أن الإِنسان ستناله تبعة عمله لا محالة أما أولاً فلأنه لازم له لا يفارقه. وأما ثانياً فلأنه مكتوب كتاباً سيظهر له فيلقاه منشوراً.
قوله تعالى: { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } أي يقال له: اقرأ كتابك "الخ".
وقوله: { كفى بنفسك } الباء فيه زائدة للتأكيد وأصله كفت نفسك وإنما لم يؤنث الفعل لأن الفاعل مؤنث مجازي يجوز معه التذكير والتأنيث، وربما قيل: إنه اسم فعل بمعنى اكتف والباء غير زائدة، وربما وجه بغير ذلك.
وفي الآية دلالة على أن حجة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه ولو كان هو المجرم نفسه وكيف لا؟ وفيه معاينة نفس العمل وبه الجزاء، قال تعالى:
{ { لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون } [التحريم: 7]. وقد اتضح مما أوردناه في وجه اتصال قوله: { ويدع الإِنسان بالشر } الآية بما قبله وجه اتصال هاتين الآيتين أعني قوله: { وكل إنسان ألزمناه طائره } إلى قوله { حسيباً } فمحصل معنى الآيات والسياق سياق التوبيخ واللوم أن الله سبحانه أنزل القرآن وجعله هادياً إلى ملة هي أقوم جرياً على السنة الإِلهية في هداية الناس إلى التوحيد والعبودية وإسعاد من اهتدى منهم وإشقاء من ضل لكن الإِنسان لا يميز الخير من الشر ولا يفرق بين النافع والضار بل يستعجل كل ما يهواه فيطلب الشر كما يطلب الخير.
والحال أن العمل سواء كان خيراً أو شراً لازم لصاحبه لا يفارقه وهو أيضاً محفوظ عليه في كتاب سيخرج له يوم القيامة وينشر بين يديه ويحاسب عليه، وإذا كان كذلك كان من الواجب على الإِنسان أن لا يبادر إلى اقتحام كل ما يهواه ويشتهيه ولا يستعجل ارتكابه بل يتوقف في الأمور ويتروى حتى يميز بينها ويفرق خيرها من شرها فيأخذ بالخير ويتحرز الشر.
قوله تعالى: { من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أُخرى } قال في المفردات: الوزر الثقل تشبيهاً بوزر الجبل، ويعبر بذلك عن الإِثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: { ليحملوا أوزارهم كاملة } الآية كقوله: { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } قال: وقوله: { ولا تزر وازرة وزر أُخرى } أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه. انتهى.
والآية في موضع النتيجة لقوله: { وكل إنسان ألزمناه طائره } الخ والجملة الثالثة { ولا تزر وازرة وزر أُخرى } تأكيد للجملة الثانية { ومن ضل فإنما يضل عليها }.
والمعنى إذا كان العمل خيراً كان أو شراً يلزم صاحبه ولا يفارقه وهو محفوظ على صاحبه سيشاهده عند الحساب فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه وينتفع به نفسه من غير أن يتبع غيره. ومن ضل عن السبيل فإنما يضل على نفسه ويتضرر به نفسه من دون أن يفارقه فيلحق غيره، ولا تتحمل نفس حامله حمل نفس أخرى لا كما ربما يخيل لاتباع الضلال أنهم إن ضلوا فوبال ضلالهم على أئمتهم الذين أضلوهم وكما يتوهم المقلدون لآبائهم وأسلافهم أن آثامهم وأوزارهم لآبائهم وأسلافهم لا لهم.
نعم لأئمة الضلال مثل أوزار متبعيهم، ولمن سن سنة سيئة أوزار من عمل بها ولمن قال: اتبعونا لنحمل خطاياكم آثام خطاياهم لكن ذلك كله وزر الإِمامة وجعل السنة وتحمل الخطايا لا عين ما للعامل من الوزر بحيث يفارق العمل عامله ويلحق المتبوع بل إن كان عينه فمعناه أن يعذب بعمل واحد اثنان.
قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } ظاهر السياق الجاري في الآية وما يتلوها من الآيات بل هي والآيات السابقة أن يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيوي بعقوبة الاستئصال، ويؤيده خصوص سياق النفي { وما كنا معذبين } حيث لم يقل: ولسنا معذبين ولا نعذب ولن نعذب بل قال: { وما كنا معذبين } الدال على استمرار النفي في الماضي الظاهر في أنه كانت السنة الإِلهية في الأُمم الخالية الهالكة جارية على أن لا يعذبهم إلا بعد أن يبعث إليهم رسولاً ينذرهم بعذاب الله.
ويؤيده أيضاً أنه تعالى عبر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبي فلم يقل حتى نبعث نبياً، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين النبوة والرسالة أن الرسالة منصب خاص إلهي يستعقب الحكم الفصل في الأُمة إما بعذاب الاستئصال وإما بالتمتع من الحياة إلى أجل مسمى، قال تعالى:
{ { ولكل أُمة رسول فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون } [يونس: 47] وقال: { { قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } [إبراهيم: 10]. فالتعبير بالرسول لإِفادة أن المراد نفي التعذيب الدنيوي دون التعذيب الأخروي أو مطلق التعذيب.
فقوله: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } كالدفع لما يمكن أن يتوهم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها وبشارة الصالحين بالأجر الكبير والطالحين بالعذاب الأليم فيوهم أن تبعات السيئات أعم من العذاب الدنيوي والأخروي سيترتب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد وشرط.
فأُجيب أن الله سبحانه برحمته الواسعة وعنايتة الكاملة لا يعذب الناس بعذاب الاستئصال وهو عذاب الدنيا إلا بعد أن يبعث رسولاً ينذرهم به وإن كان له أن يعذبهم به لكنه برحمته ورأفته يبالغ في الموعظة ويتم الحجة بعد الحجة ثم ينزل العقوبة فقوله: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.
فالآية - كما ترى - ليست مسوقة لإِمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإِلهية أن لا يعذب قوماً بعذاب الاستئصال إلا بعد أن يبعث إليهم رسولاً فيؤكد لهم الحجة ويقرعهم بالبيان بعد البيان.
وأما النبوة التي يبلغ بها التكاليف ونبين بها الشرائع فهي التي تستقر بها المؤاخذة الإِلهية والمغفرة، ويثبت بها الثواب والعقاب الأخرويان فيما لا يتبين فيه الحق والباطل إلا من طريق النبوة كالتكاليف الفرعية، وأما الأُصول التي يستقل العقل بإدراكها كالتوحيد والنبوة والمعاد فإنما تلحق آثار قبولها وتبعات ردها الإِنسان بالثبوت العقلي من غير توقف على نبوة أو رسالة.
وبالجملة أُصول الدين وهي التي يستقل العقل ببيانها ويتفرع عليها قبول الفروع التي تتضمنها الدعوة النبوية، تستقر المؤاخذة الإِلهية على ردها بمجرد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي والرسول لأن صحة بيان النبي والرسول متوقفة عليها فلو توقف هي عليها لدارت.
وتستقر المؤاخذة الأُخروية على الفروع بالبيان النبوي ولا تتم الحجة فيها بمجرد حكم العقل، وقد فصلنا القول فيه في مباحث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، وفي غيرهما. والمؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال يتوقف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقلي يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.
وللمفسرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرض لها لخروج أكثرها عن غرض البحث التفسيري، ولعل الذي أوردناه من البحث لا يوافق ما أوردوه لكن الحق أحق بالاتباع.
قوله تعالى: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً } قال الراغب: الترفة التوسع في النعمة يقال: أُترف فلان فهو مترف - إلى أن قال في قوله: أمرنا مترفيها - هم الموصوفون بقوله سبحانه: { فأما الإِنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه } انتهى. وقال في المجمع: الترفة النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء ولا يمنع منه، وقال: التدمير الإِهلاك والدمار الهلاك. انتهى.
وقوله: { إذا أردنا أن نهلك قرية } أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم: إذا أراد العليل أن يموت كان كذا، وإذا أرادت السماء أن تمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته وإذا دنا وقت إمطارها فإن من المعلوم أنه لا يريد الموت بحقيقه معنى الإِرادة وأنها لا تريد الإِمطار كذلك، وفي القرآن: { فوجدا جداراً يريد أن ينقض } الآية.
ويمكن أن يراد به الإِرادة الفعلية وحقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشيء وتعاضدها على وقوعه، وهو قريب من المعنى الأول وحقيقته تحقق ما لهلاكهم من الأسباب وهو كفران النعمة والطغيان بالمعصية كما قال سبحانه:
{ { لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد } [إبراهيم: 7]، وقال: { { الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد } [الفجر: 11-14]. وقوله: { أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } من المعلوم من كلامه تعالى أنه لا يأمر بالمعصية أمراً تشريعياً فهو القائل: { { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [الأعراف: 28] وأما الأمر التكويني فعدم تعلقه بالمعصية من حيث إنها معصية أوضح لجعله الفعل ضرورياً يبطل معه تعلقه باختيار الإِنسان ولا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [يس: 82]. فمتعلق الأمر في قوله: { أمرنا } إن كان هو الطاعة كان الأمر بحقيقة معناه وهو الأمر التشريعي وكان هو الأمر الذي توجه إليهم بلسان الرسول الذي يبلغهم أمر ربهم وينذرهم بعذابه لو خالفوا وهو الشأن الذي يختص بالرسول كما تقدمت الإِشارة إليه فإذا خالفوا وفسقوا عن أمر ربهم حق عليهم القول وهو أنهم معذبون إن خالفوا فاهلكوا ودمروا تدميراً.
وإن كان متعلق الأمر هو الفسق والمعصية كان الأمر مراداً به الإِكثار من إفاضة النعم عليهم وتوفيرها على سبيل الإِملاء والاستدراج وتقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول وينزل عليهم العذاب.
وهذان وجهان في معنى قوله: { أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } يجوز توجيهه بكل منهما لكن يبعد أول الوجهين أولاً أن قولنا: أمرته ففعل وأمرته ففسق ظاهره تعلق الأمر بعين ما فرع عليه، وثانياً عدم ظهور وجه لتعلق الأمر بالمترفين مع كون الفسق لجميع أهل القرية وإلا لم يهلكوا.
قال في الكشاف: والأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً، ووجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صباً فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير ويتمكنوا من الإِحسان والبر كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول وهو كلمة العذاب فدمرهم.
فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ وذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه وهو كلام مستفيض يقال: أمرته فقام وأمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة ولو ذهبت تقدر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب.
ولا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يتمثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتى يجعل دالاً على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه ولا منوي لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأموراً به كأنه يقول: كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول: فلان يعطي ويمنع ويأمر وينهي غير قاصد إلى مفعول.
فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء وإنما يأمر بالقصد والخير دليلاً على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟
قلت: لا يصح ذلك لأن قوله: ففسقوا يدافعه فكأنك أظهرت شيئاً وأنت تدعي إضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى.
وهو كلام حسن في تقريب ظهور قوله: { أمرنا مترفيها ففسقوا فيها } في كون المأمور به هو الفسق وأما كونه صريحاً فيه بحيث لا يحتمل إلا ذلك كما يدعيه فلا، فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا: أمرته فعصاني حيث تكون المعصية وهي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة، والفسق والمعصية واحد فإن الفسق هو الخروج عن زي العبودية والطاعة فهو المعصية ويكون المعنى حينئذ: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا وعصوه، أو يكون الأمر في الآية مستعملاً استعمال اللازم، والمعنى توجه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.
فالحق أن الوجهين لا بأس بكل منهما وإن كان الثاني لا يخلو من ظهور، وقد أُجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنهم الرؤساء السادة والأئمة المتبوعون وغيرهم أتباعهم وحكم التابع تابع لحكم المتبوع ولا يخلو من سقم.
وذكر بعضهم في توجيه الآية أن قوله: { أمرنا مترفيها } الخ صفة لقرية وليس جواباً لإِذا وجواب إذا محذوف على حد قوله: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.
وذكر آخرون أن في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير وإذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها، وذلك أنه لا معنى لإِرادة الهلاك قبل تحقق سببه وهو الفسق، وهو وجه سخيف كسابقه.
هذا كله على القراءة المعروفة { أمرنا } بفتح الهمزة ثم الميم مخففة من الأمر بمعنى الطلب، وربما أُخذ من الأمر بمعنى الإِكثار أي أكثرنا مترفيها مالاً وولداً ففسقوا فيها.
وقرئ { آمرنا } بالمد ونسب إلى علي عليه السلام والى عاصم وابن كثير ونافع وغيرهم وهو من الإِيمان بمعنى إكثار المال والنسل أو بمعنى تكليف إنشاء فعل، وقرئ أيضاً { أمرنا } بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الإِمارة ونسب ذلك إلى علي والحسن والباقر عليهم السلام وإلى ابن عباس وزيد بن علي وغيرهم.
قوله تعالى: { وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً } قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون قال: { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم } { وكم أهلكنا من القرون } انتهى ومعنى الآية ظاهر، وفيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنة الله الجارية في إهلاك القرى بالإِشارة إلى القرون الماضية الهالكة.
والآية لا تخلو من إشعار بأن سنة الإِهلاك إنما شرعت في القرون الإِنسانية بعد نوح عليه السلام وهو كذلك، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى:
{ { كان الناس أُمة واحدة فبعث الله النبيين } [البقرة: 213] في الجزء الثاني من الكتاب أن المجتمع الإِنساني قبل زمن نوح عليه السلام كانوا على سذاجة الفطرة ثم اختلفوا بعد ذلك.
قوله تعالى: { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً } العاجلة صفة محذوفة الموصوف ولعل موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للآخرة في الآية التالية وهي الحياة الآخرة وقيل: المراد النعم العاجلة وقيل: الأعراض الدنيوية العاجلة.
وفي المفردات: أصل الصلي لإِيقاد النار. قال: وقال الخليل: صلى الكافر النار قاسى حرها { يصلونها فبئس المصير } وقيل: صلى النار دخل فيها، وأصلاها غيره قال: { فسوف نصليه ناراً } انتهى. وفي المجمع: الدحر الإِبعاد والمدحور المبعد المطرود يقال: اللهم ادحر عنا الشيطان أي أبعده انتهى.
لما ذكر سبحانه سنته في التعذيب الدنيوي إثر دعوة الرسالة وأنه يهدي الأُمم الإِنسانية إلى الإِيمان والعمل الصالح حتى إذا فسدوا وأفسدوا بعث إليهم رسولاً فإذا طغوا وفسقوا عذبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنته في التعذيب الأخروي والإِثابة فيها في هذه الآية والآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة، وفي آية ملاك ثوابها، وفي آية محصل القول والأصل الكلي في ذلك.
فقوله: { من كان يريد العاجلة } أي الذي يريد الحياة العاجلة وهي الحياة الدنيا، وإرادة الحياة الدنيا إنما هي طلب ما فيها من المتاع الذي تلتذ به النفس ويتعلق به القلب، والتعلق بالعاجلة وطلبها إنما يعد طلباً لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل التوسل بها إلى سعادة الأخرى وإلا كانت إرادة للآخرة فإن الآخرة لا يسلك إليها إلا من طريق الدنيا فلا يكون الإِنسان مريداً للدنيا إلا إذا أعرض عن الآخرة ونسيها فتمحضت إرادته في الدنيا، ويدل عليه أيضاً خصوص التعبير في الآية { من كان يريد } حيث يدل على استمرار الإِرادة.
وهذا هو الذي لا يرى لنفسه إلا هذه الحياة المادية الدنيوية وينكر الحياة الآخرة، ويلغو بذلك القول بالنبوة والتوحيد إذ لا أثر للإِيمان بالله ورسله والتدين بالدين لولا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى:
{ { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } [النجم: 29-30]. وقوله: { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } أي أسرعنا في إعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا بإعطائه ما يريده بل بإعطائه ما نريده فالأمر إلينا لا إليه والأثر لإِرادتنا لا لإِرادته، ولا بإعطاء ما نعطيه لكل من يريد بل لمن نريد فليس يحكم فينا إرادة الأشخاص بل إرادتنا هي التي تحكم فيهم.
وإرادته سبحانه الفعلية لشيء هو اجتماع الأسباب على كينونته وتحقّق العلة التامة لظهوره فالآية تدل على أن الإِنسان وهو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما تسمح له الأسباب والعوامل التي أجراها الله في الكون وقدر لها من الآثار فهو ينال شيئاً مما يريده ويسأله بلسان تكوينه لكن ليس له إلا ما تهدي إليه الأسباب والله من ورائهم محيط.
وقد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله:
{ { ولولا أن يكون الناس أُمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكؤن وزخرفاً وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } [الزخرف: 33-35] أي لولا أن الناس جميعاً يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب والعلل، ولا فرق بين الكافر والمؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى والثروة أثرته وأغنته مؤمناً كان أم كافراً، ومن كان بالخلاف فبالخلاف، خصصنا الكفار بمزيد النعم الدنيوية إذ ليس لها عندنا قدر ولا في سوق الآخرة من قيمة.
وذكر بعضهم: أن المراد بإرادة العاجلة إرادتها بعمله وهو أن يريد بعمله الدنيا دون الآخرة فهو محروم من الآخرة، وهو تقييد من غير مقيد، ولعله أخذه من قوله تعالى:
{ { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار } [هود: 15-16] لكن الآيتين مختلفتان غرضاً فالغرض فيما نحن فيه بيان أن مريد الدنيا لا ينال إلا منها، والغرض من آية سورة هود أن الإِنسان لا ينال إلا عمله فإذا كان مريداً للدنيا وفى إليه عمله فيها، وبين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك.
وقوله: { ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً } أي وجعلنا جزاءه في الآخرة جهنم يقاسي حرها وهو مذموم مبعد من الرحمة، والقيدان يفيدان أنه مخصوص بجهنم محروم من المغفرة والرحمة.
والآية وإن كانت تبين حال من تعلق بالدنيا ونسي الآخرة وأنكرها غير أن الطلب والإِنكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولاً وفعلاً ومنه ما هو كذلك فعلاً مع الاعتراف به قولاً، وتصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي: { وللآخرة أكبر درجات } الآية.
قوله تعالى: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } قال الراغب: السعي المشي السريع وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر خيراً كان أو شراً، انتهى موضع الحاجة.
وقوله: { من أراد الآخرة } أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله: { من كان يريد العاجلة } والكلام في قول من قال: يعني من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في مثله في الآية السابقة.
وقوله { وسعى لها سعيها } اللام للاختصاص وكذا إضافة السعي إلى ضمير الآخرة، والمعنى وسعى وجد للآخرة السعي الذي يختص بها، ويستفاد منه أن سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها ويحق لها كأن يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل وأخذه من عقل قطعي أو حجة شرعية.
وقوله: { وهو مؤمن } أي مؤمن بالله ويستلزم ذلك توحيده والإِذعان بالنبوة والمعاد فإن من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعده الله سبحانه في كلامه مؤمناً به وقد تكاثرت الآيات فيه.
على أن نفس التقييد بقوله: { وهو مؤمن } يكفى في التقييد المذكور فإن من أراد الآخرة وسعى لها سعيها فهو مؤمن بالله وبنشأة وراء هذه النشأة الدنيوية قطعاً فلولا أن التقييد بالإِيمان لإِفادة وجوب كون الإِيمان صحيحاً ومن صحته أن يصاحب التوحيد والإِذعان بالنبوة لم يكن للتقييد وجه فمجرد التقييد بالإِيمان يكفي مؤونة الاستعانة بآيات أُخر.
وقوله: { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } أي يشكره الله بحسن قبوله والثناء على ساعيه، وشكره تعالى على عمل العبد تفضل منه على تفضل فإن أصل إثابته العبد على عمله تفضل لأن من وظيفة العبد أن يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالإِثابة تفضل، والثناء عليه بعد الإِثابة تفضل على تفضل والله ذو الفضل العظيم.
وفي الآيتين دلالة على أن الأسباب الأخروية وهي الأعمال لا تتخلف عن غاياتها بخلاف الأسباب الدنيوية فإنه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة: { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } ويقول فيمن عمل للدنيا: { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد }.
قوله تعالى: { كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً } قال في المفردات أصل المد الجر ومنه المدة للوقت الممتد ومدة الجرح ومد النهر ومده نهر آخر ومددت عيني إلى كذا قال تعالى: { ولا تمدن عينيك } الآية ومددته في غيه... وأمددت الجيش بمدد والإِنسان بطعام قال: وأكثر ما جاء الإِمداد في المحبوب والمد في المكروه نحو { وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون } { ونمد له من العذاب مداً } { ونمدهم في طغيانهم } { وإخوانهم يمدونهم في الغي } انتهى بتلخيص منا.
فإمداد الشيء ومده أن يضاف إليه من نوعه مثلاً ما يمتد به بقاؤه ويدوم به وجوده ولولا ذلك لانقطع كالعين من الماء التي تستمد من المنبع ويضاف إليها منه الماء حيناً بعد حين ويمتد بذلك جريانها.
والله سبحانه يمد الإِنسان في أعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الآخرة فإن جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم والإِرادة والأدوات البدنية والقوى العمالة والمواد الخارجية التي يقع عليها العمل ويتصرف فيها العامل والأسباب والشرائط المربوطة بها كل ذلك أمور تكوينية لا صنع للإِنسان فيها ولو فقد كلها أو بعضها لم يكن العمل، والله سبحانه هو الذي يفيضها بفضله ويمد الإِنسان بها بعطائه، ولو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.
فأهل الدنيا في دنياهم وأهل الآخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى ولا يعود إليه سبحانه في عطائه إلا الحمد لأن الذي يعطيه نعمة على الإِنسان أن يستعمله استعمالاً حسناً في موضع يرتضيه ربه، وأما إذا فسق بعدم استعماله فيه وحرف الكلمة عن موضعها فلا يلومن إلا نفسه وعلى الله الثناء على جميل صنعه وله الحجة البالغة.
فقوله: { وكلا نمد } أي كلا من الفريقين المعجل لهم والمشكور سعيهم نمد، وإنما قدم المفعول على فعله لتعلق العناية به في الكلام فإن المقصود بيان عموم الإِمداد للفريقين جميعاً.
وقوله: { هؤلاء وهؤلاء } أي هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم بما أن لكل منهما نعته الخاص به، ويؤول المعنى إلى أن كلا من الفريقين تحت التربية الإِلهية يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أن أحدهما يستعمل النعمة الإِلهية لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، والآخر يستعملها لابتغاء العاجلة وينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلا الشقاء والخيبة.
وقوله: { من عطاء ربك } فإن جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدم لا صنع لهم ولا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها ومالكها فهي من عطائه.
ويستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكل من الفريقين من الجزاء فإن أعمالهم لما كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر والفسوق أن يصلى النار مذموماً مدحوراً، وعلى من يستعملها في الإِيمان به وطاعته أن يشكر سعيه.
وفي قوله: { ربك } التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة وقد كرر ذلك مرتين والظاهر أن النكتة فيه الإِشارة إلى أن إمدادهم من شؤون صفة الربوبية والله سبحانه هو الرب لا رب غيره غير أن الوثنيين يتخذون من دونه أرباباً ولذلك نسب ربوبيته إلى نبيه فقال: { ربك }.
وقوله: { وما كان عطاء ربك محظوراً } أي ممنوعاً - والحظر المنع - فأهل الدنيا وأهل الآخرة مستمدون من عطائه منعمون بنعمته ممنونون بمنته.
وفي الآية دلالة على أن العطاء الإِلهي مطلق غير محدود بحد لمكان إطلاق العطاء ونفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد والتقدير والمنع باختلاف الموارد فإنما هو من ناحية المستفيض وخصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض.
ومن عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن وقتادة أن المراد بالعطاء العطاء الدنيوي فهو المشترك بين المؤمن والكافر وأما العطاء الأخروي فللمؤمنين خاصة، والمعنى كما قيل: كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا الفريق الأول المريد للعاجلة فقط وما كان عطاؤه الدنيوي محظوراً من أحد.
وفيه أنه تقييد من غير مقيد مع صلاحية المورد للإِطلاق وأما ما ذكر من اختصاص العطاء الأخروي بالمؤمنين من غير مشاركة الكفار لهم فيه فخارج من مصب الكلام في الآية فإن الكلام في الإِمداد الذي يمد به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، وعطايا المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال، ونفس ما يمد به أعمال الفريقين عطايا دنيوية وأخروية على أن العطايا الأخروية أيضاً مشتركة غير محظورة والحظر فيها من قبل الكافرين كما أن الأمر في العطايا الدنيوية أيضاً كذلك فربما يمنع لكن لا من قبل محدودية العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.
وقال في روح المعاني: إن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر، والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معاً أو لم يرد شيئاً والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإِرادتان متعادلتين.
ثم أطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح ونقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، ونقل اتفاقهم على عدم قبول ما يترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين.
قال: وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا: إنه لا يتوقف، قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر. انتهى وقد سبقه إلى هذا التقسيم والبحث غيره.
وأنت خبير بأن الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الرد والقبول بالنسبة إلى كل عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الإِنسان وتعينها بحسب نشاة حياته مرة متعلقة بالحياة العاجلة ولازمه أن لا يريد بأعماله إلا مزايا الحياة الدنيوية المادية ويعرض عن الأخرى، ومرة متعلقة بالحياة الآخرة ولازمه أن يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها وهي الحياة الدنيا مقدمة للبعض الآخر وهي الحياة بعد الموت وأعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الأخرى.
ومعلوم أن هذا التقسيم لا ينتج إلا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى أقسام لم يستوف أحكامها في الآيات لعدم تعلق الغرض بها وذلك أن من أراد الآخرة ربما سعى لها سعيها وربما لم يسع لها سعيها كالفساق وأهل البدع، وعلى كلا الوجهين ربما كان مؤمناً وربما لم يكن مؤمناً، ولم يذكر في كلامه تعالى إلا حكم طائفة خاصة وهي من أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن لأن الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.
قوله تعالى: { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض والآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } إشارة إلى تفاوت الدرجات بتفاوت المساعي حتى لا يتوهم أن قليل العمل وكثيره على حد سواء ويسير السعي والسعي البالغ لا فرق بينهما فإن تسوية القليل والكثير والجيد والردي في الشكر والقبول رد في الحقيقة لما يزيد به الأفضل على غيره.
وقوله: { انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } أي بعض الناس على بعض في الدنيا، والقرينة على هذا التقييد قوله بعد: { وللآخرة أكبر } والتفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض أهلها على بعض من أعراضها وأمتعتها كالمال والجاه والولد والقوة والصيت والرئاسة والسؤدد والقبول عند الناس.
وقوله: { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } أي هي أكبر من الدنيا في الدرجات والتفضيل فلا يتوهمن متوهم أن أهل الآخرة في عيشة سواء ولا أن التفاوت بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس وذلك أن سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونية وهي محدودة والدار دار التزاحم وسبب التفضيل واختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في الإِيمان والإِخلاص وهي من أحوال القلوب، واختلاف أحوالها أوسع من اختلاف أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى:
{ { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } [البقرة: 284] وقال: { { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [الشعراء: 88-89]. ففي الآية أمره صلى الله عليه وآله وسلم أن ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل والاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات والتفاضل في المقامات فإن اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدي إلى اختلاف الإِدراكات الباطنة والنيات والأعمال التي يتيسر للإِنسان أن يأتي بها واختلاف ذلك يؤدي إلى اختلاف الدرجات في الآخرة.
قوله تعالى: { لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً } قال في المفردات: الخذلان ترك من يظن به أن ينصر نصرته انتهى.
والآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة التي ذكرت سنة الله في عباده وختمت في أن من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلى جهنم مذموماً مدحوراً، ومن أراد منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل، والمعنى لا تشرك بالله سبحانه حتى يؤديك ذلك إلى أن تقعد وتحتبس عن السير إلى درجات القرب وأنت مذموم لا ينصرك الله ولا ناصر دونه وقيل: القعود كناية عن المذلة والعجز.
(بحث روائي)
في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } قال: أي يدعو.
وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السلام: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } قال: يهدي إلى الولاية.
أقول: وهي من الجري ويمكن أن يراد به ما عند الإِمام من كمال معارف الدين ولعله المراد مما في بعض الروايات من قوله: يهدي إلى الإِمام.
وعنه: وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } يقول: خيره وشره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى كتابه بما عمل.
وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام عن الآية قال: قدره الذي قدر عليه.
وفيه عن خالد بن يحيى عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } قال يذكر العبد جميع ما عمل وما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وفيه عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { أمرنا مترفيها } مشددة منصوبة تفسيرها: كثرنا، وقال: لا قرأتها مخففة.
أقول: وفي حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها أمرنا أكابرها.
وقد روي في قوله تعالى: { ويدع الإِنسان بالشر } الآية وقوله: { وجعلنا الليل والنهار آيتين } الآية وقوله: { وكل إنسان ألزمناه طائره } الآية من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام وسلمان وغيره روايات تركنا إيرادها لعدم تأيدها بكتاب أو سنة أو حجة عقلية قاطعة مع ما فيها من ضعف الأسناد.
(كلام في القضاء في فصول)
1 - في تحصيل معناه وتحديده. إنا نجد الحوادث الخارجية والأمور الكونيه بالقياس إلى عللها والأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها والشرائط وارتفاع الموانع التي يتوقف عليها حدوثها وتحققها لا يتعين لها التحقق والثبوت ولا عدمه بل يتردد أمرها بين أن تتحقق وأن لا تتحقق من رأس.
فإذا تمت عللها الموجبة لها وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع ولم يبق لها إلا أن تتحقق خرجت من التردد والإِبهام وتعين لها أحد الطرفين وهو التحقق، أو عدم التحقق، إن فرض انعدام شيء مما يتوقف عليه وجودها. ولا يفارق تعين التحقق نفس التحقق.
والاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجية فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان متردداً بين أن يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب والأوضاع المتقضية وأتممناها بالإِرادة والإِجماع بحيث لم يبق له إلا الوقوع والصدور عينا له أحد الجانبين فتعين له الوقوع.
وكذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعية الاعتبارية كما إذا تنازع اثنان في عين يدعيه كل منهما لنفسه كان أمر مملوكيته مردداً بين أن يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعا إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإِبهام والتردد وتعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.
ثم توسع فيه ثانياً فجعل الفصل والتعيين بحسب القول كالفصل والتعيين بحسب الفعل فقول الحكم: إن المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة وتعيين لأحد الجانبين بعد التردد بينهما، وقول المخبر ان كذا كذا، فصل وتعيين، وهذا المعنى هو الذي نسميه القضاء.
ولما كانت الحوادث في وجودها وتحققها مستندة إليه سبحانه وهي فعله جرى فيها الاعتباران بعينهما فهي ما لم يرد الله تحققها ولم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها وأراد تحققها فتم لها عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها إلا أن توجد كان ذلك تعييناً منه تعالى وفصلاً لها من الجانب الآخر وقطعاً للإِبهام، ويسمى قضاء من الله.
ونظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع وحكمه القاطع بأمر وفصله القول فيه قضاء منه.
وعلى ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى:
{ { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [البقرة: 117]، وقال: { فقضاهن سبع سماوات في يومين } [فصلت: 12]، وقال: { { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } [يوسف: 41]، وقال: { { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين } [الإسراء: 4] إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة للقضاء التكويني.
ومن الآيات المتعرضة للقضاء التشريعي قوله:
{ { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً } [الإسراء: 23]، وقوله: { { إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } [الجاثية: 17] وقوله: { { وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين } [الزمر: 75] وما في الآية وما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعي بوجه وتكويني بآخر.
فالآيات الكريمة - كما ترى - تمضى صحة هذين الاعتبارين العقليين في الأشياء الكونية من جهة أنها أفعاله تعالى، وكذا في التشريع الإِلهي من جهة أنه فعله التشريعي، وكذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.
وربما عبر عنه بالحكم والقول بعناية أُخرى قال تعالى:
{ { ألا له الحكم } [الأنعام: 62]، وقال: { { والله يحكم لا معقب لحكمه } [الرعد: 41]، وقال: { { ما يبدل القول لدي } [ق: 29]، وقال: { { والحق أقول } [ص: 84]
2 - نظرة فلسفية في معنى القضاء. لا ريب أن قانون العلية والمعلولية ثابت وأن الموجود الممكن معلول له سبحانه إما بلا واسطة معها، وأن المعلول إذا نسب إلى علته التامة كان له منها الضرورة والوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، وإذا لم ينسب إليها كان له الإِمكان سواء أخذ في نفسه ولم ينسب إلى شيء كالماهية الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض أجزاء علته التامة فإنه لو أوجب ضرورته ووجوبه كان علة له تامة والمفروض خلافه.
ولما كانت الضرورة هي تعين أحد الطرفين وخروج الشيء عن الإِبهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذي يخصه قضاء عاماً منه تعالى كما أن الضرورة الخاصة بكل واحد منها قضاء خاص به منه، إذ لا نعني بالقضاء إلا فصل الأمر وتعيينه عن الإِبهام والتردد.
ومن هنا يظهر أن القضاء من صفاته الفعلية وهو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له.
3 - والروايات في تأييد ما تقدم كثيرة جداً:
ففي المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام أن الله إذا أراد شيئاً قدره فإذا قدره قضاه فإذا قضاه أمضاه.
وفيه عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق قال: قال أبو الحسن عليه السلام ليونس مولى على بن يقطين: يا يونس لا تتكلم بالقدر قال: إني لا أتكلم بالقدر ولكن أقول: لا يكون إلا ما أراد الله وشاء وقضى وقدر فقال ليس هكذا أقول ولكن أقول: لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى. ثم قال: أتدري ما المشيئة؟ فقال: لا فقال: همه بالشيء أوتدري ما أراد؟ قال: لا، قال: إتمامه على المشيئة فقال: أوتدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء ثم قال إن الله إذا شاء شيئاً أراده وإذا أراد قدره وإذا قدره قضاه وإذا قضاه أمضاه الحديث.
وفي رواية أُخرى عن يونس عنه عليه السلام قال: لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى. قلت فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل. قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله وعرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضى فذلك الذي لا مرد له.
وفي التوحيد عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال: سئل العالم عليه السلام كيف علم الله؟ قال: علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى فأمضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما أراد فبعلمه كانت المشيئة وبمشيئته كانت الإِرادة وبإرادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الإِمضاء فالعلم متقدم على المشيئة والمشيئة ثانية والإِرادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالامضاء.
فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء وفيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالامضاء فلا بداء. الحديث.
والذي ذكره عليه السلام من ترتب المشيئة على العلم والإِرادة على المشيئة وهكذا ترتب عقلي بحسب صحة الانتزاع.
وفيه بإسناده عن ابن نباتة قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل.
أقول: وذلك أن القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو أن لا يقع ما قدر أما إذا كان القضاء فلا مدفع له، والروايات في المعاني المتقدمة كثيرة من طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام.
(بحث فلسفي)
في أن الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى: { وما كان عطاء ربك محظوراً }.
أطبقت البراهين على أن وجود الواجب تعالى بما أنه واجب لذاته مطلق غير محدود بحد ولا مقيد بقيد ولا مشروط بشرط وإلا انعدم فيما وراء حده وبطل على تقدير عدم قيده أو شرطه وقد فرض واجباً لذاته فهو واحد وحدة لا يتصور لها ثان ومطلق إطلاقاً لا يتحمل تقييداً.
وقد ثبت أيضاً أن وجود ما سواه أثر مجعول له وأن الفعل ضروري المسانخة لفاعله فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقة ظلية مطلق غير محدود وإلا تركبت ذاته من حد ومحدود وتألفت من وجود وعدم وسرت هذه المناقضة الذاتية إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل وفعله، وقد فرض أنه واحد مطلق فالوجود الذي هو فعله، وأثره المجعول واحد غير كثير ومطلق غير محدود وهو المطلوب.
فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف التي تقضي بالتحديد من النقص والكمال والوجدان والفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.
وهي إن كانت في أصل وجودها النوعي أو لوازمها النوعية فمنشأها ما هيأتها القابلة للوجود بإمكانها الذاتي كالإِنسان والفرس المختلفين في نوعيهما ولوازم نوعيهما وإن كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف أفراد النوع من فاقد للكمال محروم منه وواجد له والواجد للكمال التام أو الناقص فمنشأها اختلاف الاستعدادات المادية باختلاف العلل المعدة المهيأة للاستفاضة من العلة المفيضة.
فالذي تفيضه العلة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكن القوابل المختلفة تكثره باختلاف قابليتها فمن راد له متلبس بخلافه ومن قابل يقبله تاماً ومن قابل يقبله ناقصاً ويحوله إلى ما يشاكل خصوصية ما فيه من الاستعداد كالشمس التي تفيض نوراً واحداً متشابه الأجزاء لكن الأجسام القابلة لنورها تتصرف فيه على حسب ما عندها من القوة والاستعداد.
فإن قلت لا ريب في أن هذه الاختلافات أمور واقعية فإن كان ما عد منشأ لها من الماهيات والاستعدادات أموراً وهمية غير واقعية لم يكن لإِسناد هذه الأمور الواقعية إليها معنى ورجع الأمر إلى الوجود الذي هو أثر الجاعل الحق وهو خلاف ما ادعيتموه من إطلاق الفيض، وإن كانت أموراً واقعية غير وهمية كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به فكان الاستناد أيضاً إلى فعله تعالى وثبت خلاف المدعي.
قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد ولا يبغى معه من الاختلاف أثر بل يكون هناك وجود واحد ظلي قائم بوجود واحد أصلي ولا يبقى لهذا البحث على هذا محل أصلاً.
وبعبارة أخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهية ووجود وكذا تقسيمه إلى ما بالقوة وما بالفعل هو الذي أظهر السلوب في نفس الأمر وقسم الأشياء إلى واجد وفاقد ومستكمل ومحروم وقابل ومقبول ومنشاؤه وتحليل العقل الأشياء إلى ماهية قابلة للوجود ووجود مقبول للماهية، وكذا إلى قوة فاقدة للفعلية وفعلية تقابلها أما إذا رجع الجميع إلى الوجود الذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محل وعاد أثر الجاعل وهو الفيض واحداً مطلقاً لأكثرة فيه ولا حد معه فافهم ذلك.