التفاسير

< >
عرض

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً
٩
إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
١٠
فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي ٱلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً
١١
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً
١٢
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِٱلْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى
١٣
وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـٰهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً
١٤
هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً
١٥
وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً
١٦
وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ ٱلْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً
١٧
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً
١٨
وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً
١٩
إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٢٠
وَكَذٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ٱبْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً
٢١
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً
٢٢
وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً
٢٣
إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً
٢٤
وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَٱزْدَادُواْ تِسْعاً
٢٥
قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً
٢٦
-الكهف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات تذكر قصة أصحاب الكهف وهي أحد الأُمور الثلاثة التي أشار اليهود على قريش أن تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها وتختبر بها صدقه في دعوى النبوة: قصة أصحاب الكهف وقصة موسى وفتاه وقصة ذي القرنين على ما وردت به الرواية غير أن هذه القصة لم تصدر بما يدل على تعلق السؤال بها كما صدرت به قصة ذي القرنين: { يسألونك عن ذي القرنين } الآية وإن كان في آخرها بعض ما يشعر بذلك كقوله: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً } على ما سيجيء.
وسياق الآيات الثلاث التي افتتحت بها القصة مشعر بأن قصة الكهف كانت معلومة إجمالاً قبل نزول الوحي بذكر القصة وخاصة سياق قوله: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } وأن الذي كشف عنه الوحي تفصيل قصتهم الآخذ من قوله: { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } إلى آخر الآيات.
ووجه اتصال آيات القصة بما تقدم أنه يشير بذكر قصتهم ونفي كونهم عجباً من آيات الله أن أمر جعله تعالى ما على ارض زينة لها يتعلق بها الإِنسان ويطمئن إِليها مكباً عليها منصرفاً غافلاً عن غيرها لغرض البلاء والامتحان ثم جعل ما عليها بعد أيام قلائل صعيداً جرزاً لا يظهر للإنسان إلا سدى وسراباً ليس ذلك كله إلا آية إلهية هي نظيرة ما جرى على أصحاب الكهف حين سلط الله عليهم النوم في فجوة من الكهف ثلاث مائة سنين شمسية ثم لما بعثهم لم يحسبوا مكثهم ذلك إلا مكث يوم أو بعض يوم.
فمكث كل إنسان في الدنيا واشتغاله بزخارفها وزيناتها وتولهه إليها ذاهلاً عما سواها آية تضاهي في معناها آية أصحاب الكهف وسيبعث الله الناس من هذه الرقدة فيسألهم
{ كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } [المؤمنون: 114] { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار } [الأحقاف: 35] فما آية أصحاب الكهف ببدع عجيب من بين الآيات بل هي متكررة جارية ما جرت الأيام والليالي على الإِنسان.
فكأنه تعالى لما قال: { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } إلى تمام ثلاث آيات قال مخاطباً لنبيه: فكأنك ما تنبهت أن اشتغالهم بالدنيا وعدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلقهم بزينة الأرض آية إلهية تشابه آية مكث أصحاب الكهف في كهفهم ثم انبعاثهم ولذلك حزنت وكدت تقتل نفسك أسفاً بل حسبت أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا بدعاً عجباً من النوادر في هذا الباب.
وإنما لم يصرح بهذا المعنى صوناً لمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نسبة الغفلة والذهول إليه ولأن الكناية أبلغ من التصريح.
هذا ما يعطيه التدبر في وجه اتصال القصة وعلى هذا النمط يجري السياق في اتصال ما يتلو هذه القصة من مثل رجلين لأحدهما جنتان وقصة موسى وفتاه وسيجيء بيانه وقد ذكر في اتصاله القصة وجوه أُخر غير وجيهة لا جدوى في نقلها.
قوله تعالى: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً } الحسبان هو الظن، والكهف هو المغارة في الجبل إلا أنه أوسع منها فإذا صغر سمي غاراً، والرقيم من الرقم وهو الكتابة والخط فهو في الأصل فعيل بمعنى المفعول كالجريح والقتيل بمعنى المجروح والمقتول، والعجب مصدر بمعنى التعجب أُريد به معنى الوصف مبالغة.
وظاهر سياق القصة أن أصحاب الكهف والرقيم جماعة بأعيانهم والقصة قصتهم جميعاً فهم المسمون أصحاب الكهف وأصحاب الرقيم أما تسميتهم أصحاب الكهف فلدخولهم الكهف ووقوع ما جرى عليهم فيه.
وأما تسميتهم أصحاب الرقيم فقد قيل: إن قصتهم كانت منقوشة في لوح منصوب هناك أو محفوظ في خزانة الملوك فبذلك سموا أصحاب الرقيم، وقيل: إن الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو الوادي الذي فيه الجبل أو البلد الذي خرجوا منه إلى الكهف أو الكلب الذي كان معهم أقوال خمسة، وسيأتي في الكلام على قصتهم ما يؤيد القول الأول.
وقيل: إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم غير قصتهم ذكرهم الله مع أصحاب الكهف ولم يذكر قصتهم وقد رووا لهم قصة سنشير إليها في البحث الروائي الآتي.
وهو بعيد جداً فما كان الله ليشير في بليغ كلامه إلى قصة طائفتين ثم يفصل القول في إحدى القصتين ولا يتعرض للاخرى إجمالاً ولا تفصيلاً على أن ما أوردوه من قصة أصحاب الرقيم لا يلائم السياق السابق المستدعي لذكر قصة أصحاب الكهف.
وقد تبين مما تقدم في وجه اتصال القصة أن معنى الآية: بل ظننت أن أصحاب الكهف والرقيم - وقد أنامهم الله مئات من السنين ثم أيقظهم فحسبوا أنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم - كانوا من آياتنا آية عجيبة كل العجب؟ لا وليسوا بعجب وما يجري على عامة الإِنسان من افتتانه بزينة الأرض وغفلته عن أمر المعاد ثم بعثه وهو يستقل اللبث في الدنيا آية جارية تضاهي آية الكهف.
وظاهر السياق - كما تقدمت الإِشارة إليه - أن القصة كانت معلومة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إجمالاً عند نزول القصة وإنما العناية متعلقة بالإِخبار عن تفصيلها، ويؤيد ذلك تعقيب الآية بالآيات الثلاث المتضمنة لإِجمال القصة حيث إنها تذكر إجمال القصة المؤدي إلى عدهم آية عجيبة نادرة في بابها.
قوله تعالى: { إذ أوى الفتية إلى الكهف } إلى آخر الآية الأوي الرجوع ولا كل رجوع بل رجوع الإِنسان أو الحيوان إلى محل يستقر فيه أو ليستقر فيه والفتية جمع سماعي لفتى والفتى الشاب ولا تخلو الكلمة من شائبة مدح.
والتهيئة الإِعداد قال البيضاوي: وأصل التهيئة إحداث هيأة الشيء. انتهى والرشد بفتحتين أو الضم فالسكون الاهتداء إلى المطلوب، قال الراغب: الرشد والرشد خلاف الغي يستعمل استعمال الهداية. انتهى.
وقوله؛ { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة } تفريع لدعائهم على أويهم كأنهم اضطروا لفقد القوة وانقطاع الحيلة إلى المبادرة إلى المسألة، ويؤيده قولهم: { من لدنك } فلولا أن المذاهب أعيتهم والأسباب تقطعت بهم واليأس أحاط بهم ما قيدوا الرحمة المسؤولة أن تكون من لدنه تعالى بل قالوا: آتنا رحمة كقول غيرهم
{ ربنا آتنا في الدنيا حسنة } [البقرة: 201] { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } [آل عمران: 194] فالمراد بالرحمة المسؤولة التأييد الإِلهي إِذ لا مؤيد غيره.
ويمكن أن يكون المراد بالرحمة المسؤولة من لدنه بعض المواهب والنعم المختصة به تعالى كالهداية التي يصرح في مواضع من كلامه بأنها منه خاصة، ويشعر به التقييد بقوله { من لدنك } ويؤيده ورود نظيره في دعاء الراسخين في العلم المنقول في قوله:
{ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة } [آل عمران: 8] فما سألوا إلا الهداية.
وقوله: { وهيئ لنا من أمرنا رشداً } المراد من أمرهم الشأن الذي يخصهم وهم عليه وقد هربوا من قوم يتتبعون المؤمنين ويسفكون دماءهم ويكرهونهم على عبادة غير الله، والتجأوا إلى كهف وهم لا يدرون ماذا سيجري عليهم؟ ولا يهتدون أي سبيل للنجاة يسلكون؟ ومن هنا يظهر أن المراد بالرشد الاهتداء إلى ما فيه نجاتهم.
فالجملة أعني قوله: { وهيئ لنا من أمرنا رشداً } على أول الاحتمالين السابقين في معنى الرحمة عطف تفسير على قوله: { آتنا من لدنك رحمة } وعلى ثانيهما مسألة بعد مسألة.
قوله تعالى: { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً } قال في الكشاف أي ضربنا عليها حجاباً من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع ولا يستنبه فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يُقال: بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة. انتهى.
وقال في المجمع: ومعنى ضربنا على آذانهم سلطنا عليهم النوم، وهو من الكلام البالغ في الفصاحة يُقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرف، قال الأسود بن يعفر وقد كان ضريراً:

ومن الحوادث لا أبالك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد

وقال: هذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ انتهى، وما ذكره من المعنى أبلغ مما ذكره الزمخشري.
وهنا معنى ثالث وإن لم يذكروه: وهو أن يكون إشارة إلى ما تصنعه النساء عند إنامة الصبي غالباً من الضرب على أذنه بدق الأكف أو الأنامل عليها دقاً ناعماً لتتجمع حاسته عليه فيأخذه النوم بذلك فالجملة كناية عن إنامتهم سنين معدودة بشفقة وحنان كما تفعل الأُم المرضع بطفلها الرضيع.
وقوله: { سنين عدداً } ظرف للضرب، والعدد مصدر كالعد بمعنى المعدود فالمعنى سنين معدودة، وقيل بحذف المضاف والتقدير ذوات عدد.
وقد قال في الكشاف إن توصيف السنين بالعدد يحتمل أن يراد به التكثير أو التقليل لأن الكثير قليل عنده كقوله: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، وقال الزجاج إن الشيء إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعد وإذا كثر احتاج إلى أن يعد. انتهى ملخصاً.
وربما كانت العناية في التوصيف بالعدد هي أن الشيء إذا بلغ في الكثرة عسر عده فلم يعد عادة وكان التوصيف بالعدد أمارة كونه قليلاً يقبل العد بسهولة، قال تعالى:
{ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة } [يوسف: 20] أي قليلة.
وكون الغرض من التوصيف بالعدد هو التقليل هو الملائم للسياق على ما مر فإن الكلام مسرود لنفي كون قصتهم عجباً وإنما يناسبه تقليل سني لبثهم لا تكثيرها - ومعنى الآية ظاهر وقد دل فيها على كونهم نائمين في الكهف طول المدة لا ميتين.
قوله تعالى: { ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً } المراد بالبعث هو الايقاظ دون الاحياء بقرينة الآية السابقة، وقال الراغب: الحزب جماعة فيها غلظ. انتهى.
وقال: الأمد والأبد يتقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ولا يتقيد لا يُقال: أبد كذا، والأمد مدة لها حد مجهول إذا أُطلق، وقد ينحصر نحو أن يُقال: أمد كذا كما يُقال: زمان كذا. والفرق بين الأمد والزمان أن الأمد يُقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضهم: المدى والأمد يتقاربان. انتهى.
والمراد بالعلم، العلم الفعلي وهو ظهور الشيء وحضوره بوجوده الخاص عند الله، وقد كثر ورود العلم بهذا المعنى في القرآن كقوله:
{ { ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب } [الحديد: 25]، وقوله: { { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } [الجن: 28] وإليه يرجع قول بعضهم في تفسيره: أن المعنى ليظهر معلومنا على ما علمناه.
وقوله: { لنعلم أي الحزبين أحصى } الخ تعليل للبعث واللام للغاية والمراد بالحزبين الطائفتان من أصحاب الكهف حين سأل بعضهم بعضاً بعد البعث قائلاً: كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم على ما يفيده قوله تعالى في الآيات التالية: { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم } الخ.
وأما قول القائل: إن المراد بالحزبين الطائفتان من قومهم المؤمنون والكافرون كأنهم اختلفوا في أمد لبثهم في الكهف بين مصيب في إحصائه ومخطئ فبعثهم الله تعالى ليبين ذلك ويظهر، والمعنى أيقظناهم ليظهر أي الطائفتين المختلفتين من المؤمنين والكافرين في أمد لبثهم مصيبة في قولها، فبعيد.
وقوله: { أحصى لما لبثوا أمداً } فعل ماض من الإِحصاء، و { أمداً } مفعول والظاهر أن { لما لبثوا } قيد لقوله { أمداً } وما مصدرية أي أيّ الحزبين عد أمد لبثهم وقيل: أحصى اسم تفضيل من الاحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال وأفلس من ابن المذلق، وأمداً منصوب بفعل يدل عليه { أحصى } ولا يخلو من تكلف، وقيل غير ذلك.
ومعنى الآيات الثلاث أعني قوله: { إذ أوى الفتية } إلى قوله: { أمداً } إذ رجع الشبان إلى الكهف فسألوا عند ذلك ربهم قائلين: ربنا هب لنا من لدنك ما ننجو به مما يهددنا بالتخيير بين عبادة غيرك وبين القتل وأعد لنا من أمرنا هدى نهتدي به إلى النجاة فأنمناهم في الكهف سنين معدودة ثم أيقظناهم ليتبين أي الحزبين عد أمداً للبثهم.
والآيات الثلاث -كما تر- تذكر جمال قصتهم تشير بذلك إلى جهة كونهم من آيات الله وغرابة أمرهم؛ تشير الآية الأُولى إلى دخولهم الكهف ومسألتهم للنجاة، والثانية إلى نومهم فيه سنين عدداً، والثالثة إلى تيقظهم وانتباههم واختلافهم في تقدير زمان لبثهم.
فلإِجمال القصة أركان ثلاثة تتضمن كل واحدة من الآيات الثلاث واحداً منها وعلى هذا النمط تجري الآيات التالية المتضمنة لتفصيل القصة غير أنها تضيف إلى ذلك بعض ما جرى بعد ظهور أمرهم وتبين حالهم للناس، وهو الذي يشير إليه قوله: { وكذلك أعثرنا عليهم } إلى آخر آيات القصة.
قوله تعالى: { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } إلى آخر الآية. شروع في ذكر ما يهم من خصوصيات قصتهم تفصيلاً، وقوله: { إنهم فتية آمنوا بربهم } أي آمنوا إيماناً مرضياً لربهم ولولا ذلك لم ينسبه إليهم قطعاً.
وقوله: { وزدناهم هدى } الهدى بعد أصل الإِيمان ملازم لارتقاء درجة الإِيمان الذي فيه اهتداء الإِنسان إلى كل ما ينتهي إلى رضوان الله قال تعالى:
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به } [الحديد: 28]. قوله تعالى: { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا } إلى آخر الآيات الثلاث الربط هو الشد، والربط على القلوب كناية عن سلب القلق والاضطراب عنها، والشطط الخروج عن الحد والتجاوز عن الحق، والسلطان الحجة والبرهان.
والآيات الثلاث تحكي الشطر الأول من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنية ومخاصمتهم { إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً }.
وقد أتوا بكلام مملوء حكمة وفهماً راموا به إبطال ربوبية أرباب الأصنام من الملائكة والجن والمصلحين من البشر الذين رامت الفلسفة الوثنية إثبات أُلوهيتهم وربوبيتهم دون نفس الأصنام التي هي تماثيل وصور لاولئك الأرباب تدعوها عامتهم آلهة وأرباباً، ومن الشاهد على ذلك قوله: { عليهم } حيث أرجع إِليهم ضمير "هم" المختص بأُولي العقل.
فبدأوا بإِثبات توحيده بقولهم: { ربنا رب السماوات والأرض } فأسندوا ربوبيته الكل إلى واحد لا شريك له، والوثنية تثبت لكل نوع من أنواع الخلقية إلهاً ورباً كرب السماء ورب الأرض ورب الإِنسان.
ثم أكدوا ذلك بقولهم: { لن ندعوا من دونه إلهاً } ومن فائدته نفي الآلهة الذين تثبتهم الوثنية فوق أرباب الأنواع كالعقول الكلية التي تعبده الصائبة وبرهما وسيوا ووشنو الذين تعبدهم البراهمة والبوذية وأكدوه ثانياً بقولهم: { لقد قلنا إذاً شططاً } فدلوا على أن دعوة غيره من التجاوز عن الحد بالغلو في حق المخلوق برفعه إلى درجة الخالق.
ثم كروا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتخاذهم آلهة فقالوا: { هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين } فردوا قولهم بأنهم لا برهان لهم على ما يدعونه يدل عليه دلالة بينة.
وما استدلوا به من قولهم: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به إدراك خلقه فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة ولا التقرب إليه بالعبودية فلا يبقى لنا إلا أن نعبد بعض الموجودات الشريفة من عباده المقربين ليقربونا إليه زلفى! ‍مردود إليهم أما عدم إحاطة الإِدراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر وبين من يعبدونه من العباد المقربين، والجميع منا ومنهم يعرفونه بأسمائه وصفاته وآثاره كل على قدر طاقته فله أن يتوجه إليه بالعبادة على قدر معرفته.
على أن جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق والرزق والملك والتدبير له وحده ولا يملك غيره شيئاً من ذلك فله أن يعبد وليس لغيره ذلك.
ثم أردفوا قولهم: { لولا يأتون عليهم بسلطان بين } بقولهم { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } وهو من تمام الحجة الرادة لقولهم، ومعناه أن عليهم أن يقيموا برهاناً قاطعاً على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله وهو افتراء الكذب عليه تعالى، والافتراء ظلم والظلم على الله أعظم الظلم. هذا فقد دلوا بكلامهم هذا أنهم كانوا علماء بالله أُولي بصيرة في دينهم، وصدقوا قوله تعالى { وزدناهم هدى }.
وفي الكلام على ما به من الإِيجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها فقوله تعالى: { وربطنا على قلوبهم } يدل على أن قولهم: { ربنا رب السماوات والأرض } الخ لم يكن بإسراء النجوى وفي خلاء من عبدة الأوثان بل كان بإعلان القول والإِجهار به في ظرف تذوب منه القلوب وترتاع النفوس وتقشعر الجلود في ملأ معاند يسفك الدماء ويعذب ويفتن.
وقوله: { لن ندعوا من دونه إلهاً } بعد قوله { ربنا رب السماوات والأرض } - وهو جحد وإنكار - فيه إشعار وتلويح إلى أنه كان هناك تكليف إجباري بعبادة الأوثان ودعاء غير الله.
وقوله: { إذ قاموا فقالوا } الخ يشير إلى أنهم في بادئ قولهم كانوا في مجلس يصدر عنه الأمر بعبادة الأوثان والإِجبار عليها والنهي عن عبادة الله والسياسية المنتحلية بالقتل والعذاب كمجلس الملك أو ملأه أو ملأ عام كذلك فقاموا وأعلنوا مخالفتهم وخرجوا واعتزلوا القوم وهم في خطر عظيم يهددهم ويهجم عليهم من كل جانب كما يدل عليه قولهم: { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف }.
وهذا يؤيد ما وردت به الرواية - وسيجيء الخبر- أن ستة منهم كانوا من خواص الملك يستشيرهم في أُموره فقاموا من مجلسه وأعلنوا التوحيد ونفي الشريك عنه تعالى.
ولا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنهم كانوا يسرون إيمانهم ويعملون بالتقية لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثم يفاجؤا القوم بإعلان الإِيمان ثم يعتزلوهم من غير مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالإِيمان وإلا قتلوا بلا شك.
وربما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحق وقولهم: { ربنا رب السماوات والأرض } الخ قولاً منهم في أنفسهم وقولهم: { وإذ اعتزلتموهم } الخ قولاً منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله، وجميع ما نقل من أقوالهم إنما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة وتنحوا عن القوم وعلى الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنهم لم يخافوا عاقبة الخروج والهرب من المدينة وهجرة القوم لكن الأظهر هو الوجه الأول.
قوله تعالى: { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف } إلى آخر الآية الاعتزال والتعزل التنحي عن أمر، والنشر البسط، والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس وبفتحهما المعاملة بلطف.
هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس واعتزالهم إياهم وما يعبدون من دون الله وتنحيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف ويتستروا فيه من أعداء الدين.
وقد تفرسوا بهدي إلهي أنهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه ورحمته بما فيه نجاتهم من تحكم القوم وظلمهم والدليل على ذلك قولهم بالجزم: { فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته } الخ ولم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعل.
وهذان اللذان تفرسوا بهما من نشر الرحمة وتهيئة المرفق هما اللذان سألوهما بعد دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله - { ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً }.
والاستثناء في قوله: { وما يعبدون إلا الله } استثناء منقطع فإن الوثنيين لم يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أولاً في المستثنى منه فيكون متصلاً فقول بعضهم: إنهم يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين. وكذا قول بعض آخر: يجوز انه كان فيهم من يعبد الله مع عبادة الأصنام فيكون الاستثناء متصلاً في غير محله، إذ لم يعهد من الوثنيين عبادة الله سبحانه مع عبادة الأصنام، وفلسفتهم لا تجيز ذلك، وقد أشرنا إلى حجتهم في ذلك آنفاً.
قوله تعالى: { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } إلى آخر الآيتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل والقرض القطع، والفجوة المتسع من الأرض وساحة الدار والمراد بذات اليمين وذات الشمال الجهة التي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال وهما جهتا اليمين والشمال.
وهاتان الآيتان تمثلان الكهف ومستقرهم منه ومنظرهم وما يتقلب عليهم من الحال أيام لبثهم فيه وهم رقود والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه سامع لا بما أنه هو، وهذا شائع في الكلام، والخطاب على هذا النمط يعم كل سامع من غير أن يختص بمخاطب خاص.
فقوله: { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه } يصف موقع الكهف وموقعهم فيه وهم نائمون وأما إنامتهم فيه بعد الأويّ إليه ومدة لبثهم فيه فقد اكتفى في ذلك بما أُشير إليه في الآيات السابقة من إنامتهم ولبثهم وما سيأتي من قوله: { ولبثوا في كهفهم } "الخ" إيثاراً للإِيجاز.
والمعنى: وترى أنت وكل راء يفرض اطلاعه عليهم وهم في الكهف يرى الشمس إذا طلعت تتزاور وتتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، وإذا غربت تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه وهم في متسع من الكهف لا تناله الشمس.
وقد أشار سبحانه بذلك إلى أن الكهف لم يكن شرقياً ولا غربياً لا يقع عليه شعاع الشمس إلا في أحد الوقتين بل كان قطبياً يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس على أحد جانبيه من داخل طلوعاً وغروباً، ولا يقع عليهم لأنهم كانوا في متسع منه فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حر الشمس أو يغير ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا مرتاحين في نومتهم مستفيدين من روح الهواء المتحول عليهم بالشروق والغروب وهم في فجوة منه، ولعل تنكير فجوة للدلالة على وصف محذوف والتقدير وهم في فجوة منه لا يصيبهم فيه شعاعها.
وقد ذكر المفسرون أن الكهف كان بابه مقابلاً للقطب الشمالي يسامت بنات النعش، والجانب الأيمن منه ما يلي المغرب ويقع عليه شعاع الشمس عند طلوعها والجانب الأيسر منه ما يلي المشرق وتناله الشمس عند غروبها، وهذا مبني على أخذ جهتي اليمين والشمال للكهف باعتبار الداخل فيه، وكأن ذلك منهم تعويلاً على ما هو المشهور أن هذا الكهف واقع في بلدة إفسوس من بلاد الروم الشرقي فإن الكهف الذي هناك قطبي بابه القطب الشمالي متمايلاً قليلاً إلى المشرق على ما يقال.
والمعمول في اعتبار اليمين واليسار لمثل الكهف والبيت والفسطاط وكل ما له باب أن يؤخذ باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه فإن الإِنسان أول ما أحس الحاجة إلى اعتبار الجهات أخذها لنفسه فسمى ما يلي رأسه وقدمه علواً وسفلاً وفوق وتحت، وسمى ما يلي وجهه قدام وما يقابله خلف، وسمى الجانب القوي منه وهو الذي فيه يده القوية يميناً، والذي يخالفه شمالاً ويساراً ثم إذا مست الحاجة إلى اعتبار الجهات في شيء فرض الإِنسان نفسه مكانه فما كان من أطراف ذلك الشيء ينطبق عليه الوجه وهو الطرف الذي يستقبل به الشيء غيره تعين به قدامه وبما يقاطره خلفه، وبما ينطبق عليه يمين الإِنسان من أطرافه يمينه وكذا بيسار الإِنسان يساره.
وإذ كان الوجه في مثل البيت والدار والفسطاط وكل ما له باب طرفه الذي فيه الباب كان تعين يمينه ويساره باعتبار الخارج من الباب دون الداخل منه، وعلى هذا يكون الكهف الذي وصفته الآية بما وصفت جنوبياً يقابل بابه القطب الجنوبي لا كما ذكروه، وللكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله.
وعلى أي حال كان وضعهم هذا من عناية الله ولطفه بهم ليستبقيهم بذلك حتى يبلغ الكتاب أجله، وإليه الإِشارة بقوله عقيبه: { ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً }.
وقوله: { وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود } الأيقاظ جمع يقظ ويقظان والرقود جمع راقد وهو النائم، وفي الكلام تلويح إلى أنهم كانوا مفتوحي الأعين حال نومهم كالأيقاظ.
وقوله: { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } أي ونقلبهم جهة اليمين وجهة الشمال، والمراد نقلبهم تارة من اليمين إلى الشمال وتارة من الشمال إلى اليمين لئلا تأكلهم الأرض، ولا تبلى ثيابهم، ولا تبطل قواهم البدنية بالركود والخمود طول المكث.
وقوله: { وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد } الوصيد فناء البيت وقيل: عتبة الدار والمعنى كانوا على ما وصف من الحال والحال أن كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء الكهف وفيه إخبار بأنهم كان لهم كلب يلازمهم وكان ماكثاً معهم طول مكثهم في الكهف.
وقوله: { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً } بيان أنهم وحالهم هذا الحال كان لهم منظر موحش هائل لو أشرف عليهم الإِنسان فر منهم خوفاً من خطرهم تبعداً من المكروه المتوقع من ناحيتهم وملأ قلبه الروع والفزع رعباً وسرى إلى جميع الجوارح فملأ الجميع رعباً، والكلام في الخطاب الذي في قوله: { لوليت } وقوله: { ولملئت } كالكلام في الخطاب الذي في قوله: { وترى الشمس }.
وقد بان بما تقدم من التوضيح أولاً: الوجه في قوله: { ولملئت منهم رعباً } ولم يقل: ولملئ قلبك رعباً.
وثانياً: الوجه في ترتيب الجملتين: { لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً } وذلك أن الفرار وهو التبعد من المكروه معلول لتوقع وصول المكروه تحذراً منه، وليس بمعلول للرعب الذي هو الخشية وتأثر القلب، والمكروه المترقب يجب أن يتحذر منه سواء كان هناك رعب أو لم يكن.
فتقديم الفرار على الرعب ليس من قبيل تقديم المسبب على سببه بل من تقديم حكم الخوف على الرعب وهما حالان متغايران قلبيان، ولو كان بدل الخوف من الرعب لكان من حق الكلام تقديم الجملة الثانية وتأخير الأُولى وأما بناء على ما ذكرناه فتقديم حكم الخوف على حصول الرعب وهما جميعاً أثران للاطلاع على منظرهم الهائل الموحش أحسن وأبلغ لأن الفرار أظهر دلالة على ذلك من الامتلاء بالرعب.
قوله تعالى: { وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم } إلى آخر الآيتين التساؤل سؤال بعض القوم بعضاً، والورق بالفتح فالكسر: الدراهم، وقيل هو الفضة مضروبة كانت أو غيرها، وقوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطلعوا عليكم أو إن يظفروا بكم.
والإِشارة بقوله: { وكذلك بعثناهم } إلى إنامتهم بالصورة التي مثلتها الآيات السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهراً طويلاً على هذا الوضع العجيب المدهش الذي كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم وأيقظناهم ليتساءلوا بينهم.
وهذا التشبيه وجعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدم من دعائهم لدى ورود الكهف وإنامتهم إثر ذلك يدل على أنهم إنما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم حقيقة الأمر، وإنما انيموا ولبثوا في نومتهم دهراً ليبعثوا، وقد نومهم الله إثر دعائهم ومسألتهم رحمة من عند الله واهتداء مهيأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على مجتمعهم وظهور الباطل وإحاطة القهر والجبر وهجم عليهم اليأس والقنوط من ظهور كلمة الحق وحرية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الأرض وظهوره على الحق كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه.
وبالجملة لما غلبت عليهم هذه المزعمة واستيأسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله سنين عدداً ثم بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أو بعض يوم ثم ينكشف لهم تحول الأحوال ومرور مئات من السنين عند غيرهم وهي بنظرة اخرى كيوم أو بعض يوم فيعلموا أن طول الزمان وقصره ليس بذاك الذي يميت حقاً أو يحيي باطلاً، وإنما هو الله سبحانه جعل ما على الأرض زينة لها وجذب إليها الإِنسان وأجرى فيها الدهور والأيام ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وليس للدنيا إلا أن تغر بزينتها طالبيها ممن أخلد إلى الأرض واتبع هواه.
وهذه حقيقة لا تزال لائحة للإِنسان كلما انعطف على ما مرت عليه من أيامه السالفة وما جرت عليه من الحوادث حلوها ومرها وجدها كطائف في نومة أو سنة في مثل يوم غير أن سكر الهوى والتلهي بلهو الدنيا لا يدعه أن ينتبه للحق فيتبعه لكن لله سبحانه على الإِنسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا وزخرفها وهو يوم الموت كما عن علي عليه السلام: "الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا" ويوم آخر وهو يوم يطوى فيه بساط الدنيا وزينتها ويقضي على العالم الإِنساني بالبيد والانقراض.
وقد ظهر بما تقدم أن قوله تعالى: { ليتساءلوا بينهم } غاية لبعثهم واللام لتعليل الغاية، وتنطبق على ما مر من الغاية في قوله: { ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً }.
وذكر بعضهم: أنه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنه قيل ليتساءلوا بينهم وينجر ذلك إلى ظهور أمرهم وانكشاف الآية وظهور القدرة وهذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلف ظاهر.
وذكر آخرون: أن اللام في قوله: { ليتساءلوا } للعاقبة دون الغاية استبعاداً لأن يكون التساؤل وهو أمر هين غاية للبعث وهو آية عظيمة، وفيه أن جعل اللام للعاقبة لا يجدي نفعاً في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغي أن يجعل أمر هين للغاية مطلوبة لأمر خطير وآية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شيء يسير عاقبة لأمر ذي بال وآية عجيبة مدهشة على أنك عرفت صحة كون التساؤل علة غائية للبعث آنفاً.
وقوله: { قال قائل منهم كم لبثتم } دليل على أن السائل عن لبثهم كان واحداً منهم خاطب الباقين وسألهم عن مدة لبثهم في الكهف نائمين وكأن السائل استشعر طولاً في لبثهم مما وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقظ فقال: كم لبثتم؟.
وقوله: { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم } ترددوا في جوابهم بين اليوم وبعض اليوم وكأنهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغير محل وقوع الشمس كأن اخذوا في النوم أوائل النهار وانتبهوا في أواسطه أو أواخره ثم شكوا في مرور الليل عليهم فيكون مكثهم يوماً وعدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم وبعض يوم وهو على أي حال جواب واحد.
وقول بعضهم: إن الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم ويوم وبعض لا بين يوم وبعض يوم فالوجه أن يكون { أو } للتفصيل لا للترديد، والمعنى قال بعضهم: لبثنا يوم وقال بعض آخر: لبثنا بعض يوم.
لا يلتفت إليه أما أولاً فلأن هذا المعنى لا يتلقى من سياق مثل قوله: { لبثنا يوماً أو بعض يوم } البتة وقد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى:
{ { قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم } [البقرة: 259]. وأما ثانياً قولهم: { لبثنا يوماً } إنما أخذوه عما استدلوا به من الأُمور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكم والتهوس والمجازفة والأُمور الخارجية التي يستدل بها الإِنسان وخاصة من نام ثم انتبه من شمس وظل ونور وظلمة ونحو ذلك لا تشخص مقدار اليوم التام من غير زيادة ونقيصة سواء في ذلك الترديد والتفصيل فالمراد باليوم على أي حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة وهو استعمال شائع.
وقوله تعالى: { قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } أي قال بعض آخر منهم رداً على القائلين: { لبثنا يوماً أو بعض يوم }: { ربكم أعلم بما لبثتم } ولو لم يكن رداً لقالوا ربنا أعلم بما لبثنا.
وبذلك يظهر أن إحالة العلم إلى الله تعالى في قولهم: { ربكم أعلم } ليس لمجرد مراعاة حسن الأدب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد وهي أن العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلا لله سبحانه فإن الإِنسان محجوب عما وراء نفسه لا يملك بإذن الله إلا نفسه ولا يحيط إلا بها وإنما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلت عليه الأمارات الخارجية وبمقدار ما ينكشف بها وأما الإِحاطة بعين الأشياء ونفس الحوادث وهو العلم حقيقة فإنما هو الله سبحانه المحيط بكل شيء الشهيد على كل شيء والآيات الدالة على هذه الحقيقة لا تحصى.
فليس للموحد العهارف بمقام ربه إلا أن يسلم الأمر له وينسب العلم إليه ولا يسند إلى نفسه شيئاً من الكمال كالعلم والقدرة إلا ما اضطر إليه فيبدأ بربه فينسب إليه حقيقة الكمال ثم لنفسه ما ملكه الله إياه وأذن له فيه كما قال:
{ { علم الإِنسان ما لم يعلم } [العلق: 5] وقال: { { قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } [البقرة: 32] إلى آيات أُخرى كثيرة.
ويظهر بذلك أن القائلين منهم: { ربكم أعلم بما لبثتم } كانوا أعلى كعباً في مقام المعرفة من القائلين: { لبثنا يوماً أو بعض يوم } ولم يريدوا بقولهم هذا مجرد إظهار الأدب وإلا لقالوا: "ربنا أعلم بما لبثنا" ولم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق: { ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً } فإن إظهار الأدب لا يسمى قولاً وإحصاء ولا الآتي به ذا قول وإحصاء.
والظاهر أن القائلين منهم: { ربكم أعلم بما لبثتم } غير القائلين: { لبثنا يوماً أو بعض يوم } فإن السياق سياق المحاورة والمجاوبة كما قيل ولازمه كون المتكلمين ثانياً غير المتكلمين أولاً ولو كانوا هم الأولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يُقال: ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا بدل قوله: { ربكم أعلم } الخ.
ومن هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم { قال } مرة و { قالوا } مرتين وأقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم من سبعة.
وقوله تعالى: { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه } من تتمة المحاورة وفيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولاً منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً يتغذون به والضمير في { أيها } راجع إلى المدينة والمراد بها أهلها من الكسبة استخداماً.
وزكاء الطعام كونه طيباً وقيل: كونه حلالاً وقيل: كونه طاهراً ووروده بصيغة أفعل التفضيل { أزكى طعاماً } لا يخلو من إشعار بالمعنى الأول.
والضمير في { منه } للطعام المفهوم من الكلام وقيل: للأزكى طعاماً و "من" للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الأزكى برزق ترتزقون به، وقيل الضمير للورق و "من" للبداية وهو بعيد لإِحواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة وكونه ضمير التذكير وقد أُشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل.
قوله تعالى: { وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً } التلطف إعمال اللطف والرفق وإظهاره فقوله: { ولا يشعرن بكم أحداً } عطف تفسيري له والمراد على ما يعطيه السياق: ليتكلف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه ومجيئه ومعاملته لهم كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدي إلى معرفتهم بحالكم وإشعارهم بكم، وقيل المعنى ليتكلف اللطف في المعاملة وإطلاق الكلام يدفعه.
وقوله تعالى: { إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً } تعليل للأمر بالتلطف وبيان لمصلحته.
ظهر على الشيء بمعنى اطلع عليه وعلم به وبمعنى ظفر به وقد فسرت الآية بكل من المعنيين والكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن فكان هو الأصل ثم استعير للأرض فقيل: ظهر الأرض مقابل بطنها ثم أخذ منه الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمة بين الكون على وجه الأرض وبين الرؤية والاطلاع وكذا بينه وبين الظفر وكذا بينه وبين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطلع عليه وعلم بمكانه أو ظفر به أو غلبه ثم اتسعوا في الاشتقاق فقالوا: أظهر وظاهر وتظاهر واستظهر إلى غير ذلك.
وظاهر السياق أن يكون { يظهروا عليكم } بمعنى يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم فإنه أجمع المعاني لأن القوم كانوا ذوي أيد وقوة وقد هربوا واستخفوا منهم فلو اطلعوا عليهم ظفروا بهم وغلبوهم على ما أرادوا.
وقوله: { يرجموكم } أي يقتلوكم بالحجارة وهو شر القتل ويتضمن معنى النفرة والطرد، وفي اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأن أهل المدينة عامة كانوا يعادونهم لدينهم فلو ظهروا عليهم بادروا إليهم وتشاركوا في قتلهم والقتل الذي هو شأنه يكون بالرجم عادة.
وقوله: { أو يعيدوكم في ملتهم } الظاهر أن الإِعادة مضمن معنى الإِدخال ولذا عدي بفي دون إلى.
وكان لازم دخولهم في ملتهم عادة وقد تجاهروا برفضها وسموها شططاً من القول وافتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرد اعترافهم بحقية الملة صورة دون أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف ويراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الأوثان والإِتيان بجميع الوظائف الدينية التي لهم والحرمان عن العمل بشيء من شرائع الدين الإِلهي والتفوه بكلمة الحق.
وهذا كله لا بأس به على من اضطر على الإِقامة في بلاد الكفر والانحصار بين أهله كالأسير المستضعف بحكم العقل والنقل وقد قال تعالى:
{ { إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان } [النحل: 106] وقال تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقاة } [آل عمران: 28] فله أن يؤمن بقلبه وينكره بلسانه وأما من كان بنجوة منهم وهو حر في اعتقاده وعمله ثم ألقى بنفسه في مهلكة الضلال وتسبّب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم يستطع التفوه بكلمة الحق وحرم التلبس بالوظائف الدينية الإِنسانية فقد حرم على نفسه السعادة ولن يفلح أبداً قال تعالى: { { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً } [النساء: 97]. وبهذا يظهر وجه ترتب قوله: { ولن تفلحوا إذاً أبداً } على قوله: { أو يعيدوكم في ملتهم } ويندفع ما قيل: إن إظهار الكفر بالاكراه مع إبطان الإِيمان معفو عنه في جميع الأزمان فكيف رتب على العود في ملتهم عدم الفلاح أبداً مع أن الظاهر من حالهم الكره هذا فانهم لو عرضوا بأنفسهم عليهم أو دلوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في ملتهم ولو على كره كان ذلك منهم تسبباً اختيارياً إلى ذلك ولم يعذروا البتة.
وقد أجابوا عن الإِشكال بوجوه أُخر غير مقنعة:
منها: أن الإكراه على الكفر قد يكون سبباً لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه وفيه أن لازم هذا الوجه أن يُقال: ويخاف عليكم أن لا تفلحوا أبداً إلا أن يقضى بعدم الفلاح قطعاً.
ومنها: أنه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإِكراه وأنت خبير بأن سياق القصة لا يساعد عليه.
ومنها: أنه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية بإظهار الكفر مطلقاً وفيه عدم الدليل على ذلك.
وسياق ما حكي من محاورتهم أعني قوله: { لبثتم } إلى تمام الآيتين سياق عجيب دال على كمال تحابهم في الله ومواخاتهم في الدين وأخذهم بالمساواة بين أنفسهم ونصح بعضهم لبعض وإشفاق بعضهم على بعض فقد تقدم أن قول القائلين: { ربكم أعلم بما لبثتم } تنبيه ودلالة على موقع من التوحيد أعلى وأرفع درجة مما يدل عليه قول الآخرين { لبثنا يوماً أو بعض يوم }.
ثم قول القائل: { فابعثوا } حيث عرض بعث الرسول على الجميع ولم يستبد بقول: ليذهب أحدكم وقوله: { أحدكم } ولم يقل اذهب يا فلان أو ابعثوا فلاناً وقوله: { بورقكم هذه } فأضاف الورق إلى الجميع كل ذلك دليل المواخاة والمساواة.
ثم قوله: { فلينظر أيها أزكى طعاماً } الخ وقوله: { وليتلطف } الخ نصح وقوله: { إنهم إن يظهروا عليكم } الخ نصح لهم وإشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون على دينهم.
وقوله تعالى: { بورقكم هذه } على ما فيه من الإِضافة والإِشارة المعنية لشخص الورق مشعر بعناية خاصة بذكرها فإن سياق استدعاء أن يبعثوا أحداً لاشتراء طعام لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق التي يشترى بها الطعام والإِشارة إليها بشخصها ولعلها إنما ذكرت في الآية مع خصوصية الإِشارة لأنها كانت هي السبب لظهور أمرهم وانكشاف حالهم لأنها حين أخرجها رسومها ليدفعها ثمناً للطعام كانت من مسكوكات عهد مرت عليها ثلاثة قرون وليس في آيات القصة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم وانكشاف حالهم إلا هذه اللفظة.
قوله تعالى: { وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم } قال في المفردات: عثر الرجل يعثر عثراً وعثوراً إذا سقط ويتجوز به فيمن يطلع على أمر من غير طلبه قال تعالى: فإِن عثر على أنهما استحقا إثماً. يُقال عثرت على كذا قال: { وكذلك أَعثرنا عليهم } أي وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا. انتهى.
والتشبيه في قوله: { وكذلك أعثرنا عليهم } كنظيره في قوله: { وكذلك بعثناهم } أي وكما أنساهم دهراً ثم بعثناهم لكذا وكذا كذلك أعثرنا عليهم ومفعول أعثرنا هو الناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الآية وقوله: { ليعلموا أن وعد الله حق } ضمير الجمع للناس والمراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث ويكون قوله: { وأن الساعة لا ريب فيها } عطفاً تفسيرياً لسابقه.
وقوله: { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } ظرف لقوله: { أعثرنا } أو لقوله { ليعلموا } والتنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم وهو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه، وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء } انتهى.
والمراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث وإنما اضيف إليهم إشعاراً باهتمامهم واعتنائهم بشأنه فهذه حال الآية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض.
والمعنى على ما مر: وكما أنمناهم ثم بعثناهم لكذا وكذا أطلعنا الناس عليهم في زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق وأن الساعة لا ريب فيها.
أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارناً لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث أن وعد الله بالبعث حق.
وأما دلالة بعثهم عن النوم على أن البعث يوم القيامة حق فإنما هو من جهة أن انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل وتعطيل شعورهم وركود حواسهم عن أعمالها وسقوط آثار القوى البدنية كالنشو والنماء ونبات الشعر والظفر وتغير الشكل وظهور الشيب وغير ذلك وسلامة ظاهر أبدانهم وثيابهم عن الدثور والبلى ثم رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الأرواح عن الأجساد بالموت ثم رجوعها إلى ما كانت عليها، وهما معاً من خوارق العادة لا يدفعهما إلا الاستبعاد من غير دليل.
وقد حدث هذا الأمر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحد يرى مفارقة الأرواح والأجساد عند الموت ثم رجوعها إليها في البعث ومشرك يرى مغايرة الروح البدن ومفارقتها له عند الموت لكنه لا يرى البعث وربما رأى التناسخ.
فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريباً لأُلئك الناس أنها آية إلهية قصد بها إزالة الشك عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل ورفع الاستبعاد بالوقوع.
ويقوى هذا الحدس منهم ويشتد بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلا سويعات لم تسع أزيد من اطلاع الناس على حالهم واجتماعهم عليهم واستخبارهم عن قصتهم وإخبارهم بها.
ومن هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى: { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } وهو رجوع الضميرين الأولين إلى الناس والثالث إلى أصحاب الكهف وكون { إذا } ظرفاً لقوله { ليعلموا } ويؤيده قوله بعده: { ربهم أعلم بهم } على ما سيجيء.
والاعتراض على هذا الوجه أولاً: بأنه يستدعي كون التنازع بعد الإِعثار وليس كذلك، وثانياً بأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع بأن التنازع على هذا الوجه في الآية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف وقد كان بعد الإِعثار ومقارناً للعلم زماناً، والذي كان قبل الإِعثار وقبل العلم تنازعهم في أمر البعث وليس بمراد على هذا الوجه.
وقوله تعالى: { فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم } القائلون هم المشركون من القوم بدليل قوله بعده: { قال الذين غلبوا على أمرهم } والمراد ببناء البنيان عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه ويسترون عن الناس فلا يطلع عليهم مطلع منهم كما يقال: بنى عليه جداراً إذا حوطه وجعله وراءه.
وهذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله: { وكذلك بعثناهم } { وكذلك أعثرنا عليهم } يلوح إلى تمام القصة كأنه قيل: ولما أن جاء رسولهم إلى المدينة وقد تغيرت الأحوال وتبدلت الأوضاع بمرور ثلاثة قرون على دخولهم في الكهف وانقضت سلطة الشرك وأُلقي زمام المجتمع إلى التوحيد وهو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره وشاع خبره فاجتمع عليه الناس ثم هجموا وازدحموا على باب الكهف فاستنبؤوهم قصتهم وحصلت الدلالة الإِلهية ثم إن الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلا سويعات ارتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث وعندئذ قال المشركون ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم.
وفي قوله: { ربهم أعلم بهم } إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم أمرهم، فإنه كلام آيس من العلم بهم واستكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه أن القوم تنازعوا في شيء مما يرجع إليهم فتبصر فيه بعضهم ولم يسكن الآخرون إلى شيء ولم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنياناً ربهم أعلم بهم.
فمعنى الجملة أعني قوله: { ربهم أعلم بهم } يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدمين في قوله: { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } إذ للجملة على أي حال نوع تفرع على تنازع بينهم كما عرفت آنفاً فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله: { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } هو التنازع في أمر البعث بالإِقرار والإِنكار لكون ضمير { أمرهم } للناس كان المعنى أنهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها لكن المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الآية فقالوا ابنوا على أصحاب الكهف بنياناً واتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شيء ولم نظفر فيهم على يقين ربهم أعلم بهم، وقال الموحدون أمرهم ظاهر وآيتهم بينة ولنتخذن عليهم مسجداً يعبد فيه الله ويبقى ببقائه ذكرهم.
وإن كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف وضمير { أمرهم } راجعاً إليهم كان المعنى أنا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها عندما توفاهم الله بعد اعثار الناس عليهم وحصول الغرض وهم أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم اي أمر أصحاب الكهف كأنهم اختلفوا: أنيام القوم أم أموات؟ وهل من الواجب أن يدفنوا ويقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنياناً واتركوهم على حالهم ربهم أعلم بهم أنيام أم أموات؟ قال الموحدون: { لنتخذن عليهم مسجداً }.
لكن السياق يؤيد المعنى الأول لأن ظاهره كون قول الموحدين: { لنتخذن عليهم مسجداً } رداً منهم لقول المشركين: { ابنوا لهم بنياناً } الخ والقولان من الطائفتين إنما يتنافيان على المعنى الأول، وكذا قولهم: { ربهم أعلم بهم } وخاصة حيث قالوا: { ربهم } ولم يقولوا: ربنا أنسب بالمعنى الأول.
وقوله: { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً } هؤلاء القائلون هم الموحدون ومن الشاهد عليه التعبير عما اتخذوه بالمسجد دون المعبد فإن المسجد في عرف القرآن هو المحل المتخذ لذكر الله والسجود له قال تعالى:
{ ومساجد يذكر فيها اسم الله } [الحج: 40]. وقد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزلة جواب عن سؤال مقدر كأن قائلاً يقول فماذا قال غير المشركين؟ فقيل: قال الذين غلبوا الخ، وأما المراد بغلبتهم على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هو الأمر المذكور في قوله: { إذ يتنازعون بينهم أمرهم } والضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبة الموحدين بنجاحهم بالآية التي قامت على حقية البعث، وان كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدي لامرهم والغالبون هم الموحدون وقيل: الملك وأعوانه، وقيل: أولياؤهم من أقاربهم وهو أسخف الأقوال.
وإن كان المراد بأمرهم غير الأمر السابق والضمير للناس فالغلبة أخذ زمام أُمور المجتمع بالملك وولاية الأُمور، والغالبون هم الموحدون أو الملك وأعوانه وإن كان الضمير عائداً إلى الموصول فالغالبون هم الولاة والمراد بغلبتهم على أُمورهم أنهم غالبون على ما أرادوه من الأُمور قادرون هذا، وأحسن الوجوه أولها.
والآية من معارك آراء المفسرين ولهم في مفرداتها وفي ضمائر الجمع التي فيها وفي جملها اختلاف عجيب والاحتمالات التي ابدوها في معاني مفرداتها ومراجع ضمائرها واحوال جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الألوف، وقد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق وعلى الطالب لازيد من ذلك أن يراجع المطولات.
قوله تعالى: { سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم } إلى قوله { وثامنهم كلبهم } يذكر تعالى اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف وأقوالهم فيه، وهي على ما ذكره تعالى - وقوله الحق - ثلاثة مترتبة متصاعدة أحدها أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم والثاني أنهم خمسة وسادسهم كلبهم وقد عقبه بقوله: { رجماً بالغيب } أي قولاً بغير علم.
وهذا التوصيف راجع إلى القولين جميعاً: ولو اختص بالثاني فقط كان من حق الكلام أن يقدم القول الثاني ويؤخر الأول ويذكر مع الثالث الذي لم يذكر معه ما يدل على عدم ارتضائه.
والقول الثالث أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، وقد ذكره الله سبحانه ولم يعقبه بشيء يدل على تزييفه، ولا يخلو ذلك من اشعار بأنه القول الحق، وقد تقدم في الكلام على محاورتهم المحكية بقوله تعالى: { قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } أنه مشعر بل دال على أن عددهم لم يكن بأقل من سبعة.
ومن لطيف صنع الآية في عد الأقوال نظمها العدد من ثلاثة إلى ثمانية نظماً متوالياً ففيها ثلاثة رابعها خمسة سادسها سبعة وثامنها.
وأما قوله: { رجماً بالغيب } تمييز يصف القولين بأنهما من القول بغير علم والرجم هو الرمي بالحجارة وكأن المراد بالغيب الغائب وهو القول الذي معناه غائب عن العلم لا يدرى قائله أهو صدق أم كذب؟ فشبه الذي يلقي كلاماً ما هذا شأنه بمن يريد الرجم بالحجارة فيرمي ما لا يدري أحجر هو يصيب غرضه أم لا؟ ولعله المراد بقول بعضهم: رجماً بالغيب أي قذفاً بالظن لأن المظنون غائب عن الظان لا علم له به.
وقيل: معنى { رجماً بالغيب } ظناً بالغيب وهو بعيد.
وقد قال تعالى: { ثلاثة رابعهم كلبهم } وقال: { خمسة سادسهم كلبهم } فلم يأت بواو ثم قال: { سبعة وثامنهم كلبهم } فأتى بواو قال في الكشاف: وثلاثة خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلاثة، وكذلك خمسة وسبعة، رابعهم كلبهم جملة من مبتدأ وخبر واقعة صفة لثلاثة، وكذلك سادسهم كلبهم وثامنهم كلبهم.
فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة؟ ولم دخلت عليها دون الأوليين؟
قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وبيده سيف، ومنه قوله تعالى: { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر.
وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الأولين قوله: رجماً بالغيب، وأتبع القول الثالث قوله: ما يعلمهم إلا قليل، وقال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات انتهى.
وقال في المجمع في ذيل ما لخص به كلام أبي علي الفارسي: وأما من قال: هذه الواو واو الثمانية واستدل بقوله: { حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها } لأن للجنة ثمانية أبواب فشيء لا يعرفه النحويون انتهى.
قوله تعالى: { قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل } إلى آخر الآية أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقضي في عدتهم حق القضاء وهو أن الله أعلم بها وقد لوح في كلامه السابق إلى القول وهذا نظير ما حكي عن الفتية في محاورتهم وارتضاء إذ قال قائل منهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم. قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم.
ومع ذلك ففي الكلام دلالة على أن بعض المخاطبين بخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم { ربي أعلم بعدتهم } الخ كان على علم من ذلك فإن قوله: { وما يعلمهم } ولم يقل: لا يعلمهم يفيد نفي الحال فالاستثناء منه بقوله: { إلا قليل } يفيد الإِثبات في الحال واللائح منه على الذهن أنهم من أهل الكتاب.
وبالجملة مفاد الكلام أن الأقوال الثلاثة كانت محققة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا فقوله: { سيقولون ثلاثة } الخ المفيد للاستقبال، وكذا قوله: { ويقولون خمسة } الخ، وقوله: { ويقولون سبعة } الخ إن كانا معطوفين على مدخول السين في { سيقولون } تفيد الاستقبال القريب بالنسبة إلى زمن نزول الآيات أو زمن وقوع الحادثة فأفهم ذلك.
وقوله تعالى: { فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً } قال الراغب: المرية التردد في الأمر وهو أخص من الشك، قال: والامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية قال: وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب. انتهى. فتسمية الجدال مماراة لما فيه من اصرار المماري بالبحث ليفرغ خصمه كل ما عنده من الكلام فينتهي عنه.
والمراد بكون المراء ظاهراً أن لا يتعمق فيه بالاقتصار على ما قصه القرآن من غير تجهيل لهم ولا رد كما قيل، وقيل: المراء الظاهر ما يذهب بحجة الخصم يقال: ظهر إذا ذهب، قال الشاعر:

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

والمعنى: وإذا كان ربك أعلم وقد أنبأك نبأهم فلا تحاجهم في الفتية إلا محاجة ظاهرة غير متعمق فيها - أو محاجة ذاهبة لحجتهم - ولا تطلب الفتيا في الفتية من أحد منهم فربك حسبك.
قوله تعالى: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } الآية الكريمة سواء كان الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أو له ولغيره متعرضة للأمر الذي يراه الإِنسان فعلاً لنفسه ويخبر بوقوعه منه في مستقبل الزمان.
والذي يراه القرآن في تعليمه الإِلهي أن ما في الوجود من شيء ذاتاً كان أو فعلاً وأثراً فإنما هو مملوك لله وحده له أن يفعل فيه ما يشاء ويحكم فيه ما يريد لا معقب لحكمه، وليس لغيره أن يملك شيئاً إلا ما ملكه الله تعالى منه واقدره عليه وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه اقدره والآيات القرآنية الدالة على هذه الحقيقة كثيرة جداً لا حاجة إلى ايرادها.
فما في الكون من شيء له فعل أو أثر - وهذه هي التي نسميها فواعل وأسباباً وعللاً فعّالة - غير مستقل في سببيته ولا مستغن عنه تعالى في فعله وتأثيره لا يفعل ولا يؤثر إلا ما شاء الله أن يفعله ويؤثره أي أقدره عليه ولم يسلب عنه القدرة عليه بإرادة خلافه.
وبتعبير آخر كل سبب من الأسباب الكونية ليس سبباً من تلقاء نفسه وباقتضاء من ذاته بل بإقداره تعالى على الفعل والتأثير وعدم إرادته خلافه، وإن شئت فقل: بتسهيله تعالى له سبيل الوصول إليه، وإن شئت فقل بإذنه تعالى فالإذن هو الإِقدار ورفع المانع وقد تكاثرت الآيات الدالة على أن كل عمل من كل عامل موقوف على اذنه تعالى قال تعالى:
{ { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } [الحشر: 5] وقال: { { ما أصاب من مصيبة إلا بإِذن الله } [التغابن: 11] وقال: { { والبلد الطيب يخرج نباته بإِذن ربه } [الأعراف: 58] وقال: { { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } [آل عمران: 145] وقال: { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } [يونس: 100] وقال: { { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } [النساء: 64] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
فعلى الإِنسان العارف بمقام ربه المسلم له أن لا يرى نفسه سبباً مستقلاً لفعله مستغنياً فيه عن غيره بل مالكاً له بتمليك الله قادراً عليه بإقداره وأن القوة لله جميعاً وإذا عزم على فعل أن يعزم متوكلاً على الله قال تعالى: { فإذا عزمت فتوكل على الله } وإذا وعد بشيء أو أخبر عما سيفعله أن يقيده بإذن الله أو بعدم مشيئته خلافه.
وهذا المعنى هو الذي يسبق إلى الذهن المسبوق بهذه الحقيقة القرآنية إذا قرع بابه قوله تعالى: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } وخاصة بعدما تقدم في آيات القصة من بيان توحده تعالى في ألوهيته وربوبيته وما تقدم قبل آيات القصة من كون ما على الأرض زينة لها سيجعله الله صعيداً جرزاً. ومن جملة ما على الأرض أفعال الإِنسان التي هي زينة جالبة للإِنسان يمتحن بها وهو يراها مملوكة لنفسه.
وذلك أن قوله: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً } نهي عن نسبته فعله إلى نفسه، ولا بأس بهذه النسبة قطعاً فإنه سبحانه كثيراً ما ينسب في كلامه الأفعال إلى نبيه وإلى غيره من الناس وربما يأمره أن ينسب أفعالاً إلى نفسه قال تعالى:
{ { فقل لي عملي ولكم عملكم } [يونس: 41]، وقال: { { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } [القصص: 55]. فأصل نسبة الفعل إلى فاعله مما لا ينكره القرآن الكريم وإنما ينكر دعوى الاستقلال في الفعل والاستغناء عن مشيئته وإذنه تعالى فهو الذي يصلحه الاستثناء أعني قوله: { إلا أن يشاء الله }.
ومن هنا يظهر أن الكلام على تقدير باء الملابسة وهو استثناء مفرغ عن جميع الأحوال أو جميع الأزمان، وتقديره: ولا تقولن لشيء - أي لأجل شيء تعزم عليه - إني فاعل ذلك غداً في حال من الأحوال أو زمان من الأزمنة إلا في حال أو في زمان يلابس قولك المشيئة بأن تقول: إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله أن أفعله أو إلا أن يشاء الله أن لا أفعله، والمعنى على أي حال: إن أذن الله في فعله.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية ويؤيده ذيلها وللمفسرين فيها توجيهات أُخرى.
منها أن المعنى هو المعنى السابق إلا أن الكلام بتقدير القول في الاستثناء وتقدير الكلام: إلا أن تقول إن شاء الله، ولما حذف "تقول" نقل "إن شاء الله" إلى لفظ الاستقبال، فيكون هذا تأديباً من الله للعباد وتعليماً لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوه لمانع والوجه منسوب إلى الأخفش.
وفيه أنه تكلف من غير موجب. على أن التبديل المذكور يغير المعنى وهو ظاهر.
ومنها أن الكلام على ظاهره غير أن المصدر المؤوّل إليه { أن يشاء الله } بمعنى المفعول، والمعنى لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا ما يشاؤه الله ويريده، وإذ كان الله لا يشاء إلا الطاعات فكأنه قيل: ولا تقولن في شيء إني سأفعله إلا الطاعات، والنهي للتنزيه لا للتحريم حتى يعترض عليه بجواز العزم على المباحات والإِخبار عنه.
وفيه أنه مبني على حمل المشيئة على الإِرادة التشريعية ولا دليل عليه ولم يستعمل المشيئة في كلامه تعالى بهذا المعنى قط، وقد استعمل استثناء المشيئة التكوينية في مواضع من كلامه كما حكى من قول موسى للخضر:
{ { ستجدني إن شاء الله صابراً } [الكهف: 69]، وقول شعيب لموسى: { { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } [القصص: 27]، وقول اسماعيل لأبيه: { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [الصافات: 102]، وقوله تعالى: { { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } [الفتح: 27] إلى غير ذلك من الآيات.
والوجه مبني على أصول الاعتزال وعند المعتزلة أن لا مشيئة لله سبحانه في أعمال العباد إلا الإرادة التشريعية المتعلقة بالطاعات، وهو مدفوع بالعقل والنقل.
ومنها أن الاستثناء من الفعل دون القول من غير حاجة إلى تقدير، والمعنى ولا تقولن لشيء هكذا وهو أن تقول: إني فاعل ذلك غداً باستقلالي إلا أن يشاء الله خلافه بإبداء مانع على ما تقوله المعتزلة إن العبد فاعل مستقل للفعل إلا أن يبدئ الله مانعاً دون أقوى منه، ومآل المعنى أن لا تقل في الفعل بقول المعتزلة.
وفيه أن يتعلق الاستثناء بالفعل دون القول بما مر من البيان أتم فلا وجه للنهي عن تعليق الاستثناء على الفعل، وقد وقع تعليقه على الفعل في مواضع من كلامه من غير أن يرده كقوله حكاية عن إبراهيم:
{ { ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً } [الأنعام: 80] وقوله حكاية عن شعيب: { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله } [الأعراف: 89]، وقوله: { وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } [الأنعام: 111] إلى غير ذلك من الآيات. فلتحمل الآية التي نحن فيها على ما يوافقها.
ومنها: أن الاستثناء من أعم الأوقات إلا أن مفعول { يشاء } هو القول والمعنى ولا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقوله، والمراد بالمشيئة الاذن أي لا تقل ذلك إلا أن يؤذن له فيه بالاعلام.
وفيه أنه مبني على تقدير شيء لا دليل عليه من جهة اللفظ وهو الإِعلام ولو لم يقدر لكان تكليفاً بالمجهول.
ومنها: أن الاستثناء للتأبيد نظير قوله:
{ خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ } [هود: 108] والمعنى: لا تقولن ذلك أبداً.
وفيه أنه مناف للآيات الكثيرة المنقولة آنفاً التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى سائر الناس أعمالهم ماضية ومستقبلة بل تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينسب أعماله إلى نفسه كقوله:
{ { فقل لي عملي ولكم عملكم } [يونس: 41]، وقوله: { { قل سأتلو عليكم منه ذكراً } [الكهف: 83]. قوله تعالى: { واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً } اتصال الآية واشتراكها مع ما قبلها في سياق التكليف يقضي أن يكون المراد من النسيان نسيان الاستثناء، وعليه يكون المراد من ذكر ربه ذكره بمقامه الذي كان الالتفات إليه هو الموجب للاستثناء وهو أنه القائم على كل نفس بما كسبت الذي ملكه الفعل وأقدره عليه وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره.
والمعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت أنك نسيته فاذكر ربك متى كان ذلك بما لو كنت ذاكراً لذكرته به وهو تسليم الملك والقدرة إليه وتقييد الأفعال بإذنه ومشيئته.
وإذ كان الأمر بالذكر مطلقاً لم يتعين في لفظ خاص فالمندوب إليه هو ذكره تعالى بشأنه الخاص سواء كان بلفظ الاستثناء بأن يلحقه بالكلام، إن ذكره ولما يتم الكلام أو يعيد الكلام ويستثني أو يضمر الكلام ثم يستثني إن كان فصل قصير أو طويل كما ورد في بعض الروايات أنه لما نزلت الآيات قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن شاء الله أو كان الذكر باستغفار ونحوه.
ويظهر مما مر أن ما ذكره بعضهم أن الآية مستقلة عما قبلها وأن المراد بالنسيان نسيانه تعالى أو مطلق النسيان، والمعنى: واذكر ربك إذا نسيته ثم ذكرته أو واذكر ربك إذا نسيت شيئاً من الأشياء، وكذا ما ذكره بعضهم بناء على الوجه السابق أن المراد بذكره تعالى خصوص الاستثناء وإن طال الفصل أو خصوص الاستغفار أو الندم على التفريط، كل ذلك وجوه غير سديدة.
وقوله: { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً } حديث الاتصال والاشتراك في سياق التكليف بين جمل الآية يقضي هنا أيضاً أن تكون الإِشارة بقوله: { هذا } إلى الذكر بعد النسيان، والمعنى وارج أن يهديك ربك إلى أمر هو أقرب رشداً من النسيان ثم الذكر وهو الذكر الدائم من غير نسيان فيكون من قبيل الآيات الداعية له صلى الله عليه وآله وسلم إلى دوام الذكر كقوله تعالى:
{ واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين } [الأعراف: 205] وذكر الشيء كلما نسي ثم ذكر والتحفظ عليه كرة بعد كرة من أسباب دوام ذكره.
ومن العجيب أن المفسرين أخذوا قوله: { هذا } في الآية إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف وذكروا أن معنى الآية: قل عسى أن يعطيني ربي من الآيات الدالة على نبوتي ما هو أقرب إرشاداً للناس من نبأ أصحاب الكهف، وهو كما ترى.
وأعجب منه ما عن بعض أن هذا إشارة إلى المنسي وأن معنى الآية: ادع الله إذا نسيت شيئاً أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك ما نسيته: عسى أن يهديني ربي لشيء هو أقرب خيراً ومنفعة من المنسي.
وأعجب منه ما عن بعض آخر أن قوله: { وقل عسى أن يهدين } الخ عطف تفسيري لقوله: { واذكر ربك إذا نسيت } والمعنى إذا وقع منك النسيان فتب غلى ربك توبتك أن تقول: عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً، ويمكن أن يجعل الوجهان الثاني والثالث وجهاً واحداً وبناؤهما على أي حال على كون المراد بقوله: { إذا نسيت } مطلب النسيان، وقد عرفت ما فيه.
قوله تعالى: { ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً } بيان لمدة لبثهم في الكهف على حال النوم فإن هذا اللبث هو متعلق العناية في آيات القصة وقد أشير إلى أجمال مدة اللبث بقوله في أول الآيات: { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً }.
ويؤيده تعقيبه بقوله في الآية التالية: { قل الله أعلم بما لبثوا } ثم قوله: { واتل ما أُوحي إليك } الخ ثم قوله: { وقل الحق من ربكم } ولم يذكر عدداً غير هذا فقوله: { قل الله أعلم بما لبثوا } بعد ذكر مدة اللبث كقوله: { قل ربي أعلم بعدتهم } يلوح إلى صحة العدد المذكور.
فلا يصغى إلى قول القائل إن قوله: { ولبثوا في كهفهم } الخ محكي قول أهل الكتاب وقوله: { قل الله أعلم بما لبثوا } رد له، وكذا قول القائل إن قوله: { ولبثوا } الخ قول الله تعالى وقوله: { وازدادوا تسعاً } إشارة إلى قول أهل الكتاب والضمير لهم والمعنى أن أهل الكتاب زادوا على العدد الواقعي تسع سنين ثم قوله: { قل الله أعلم بما لبثوا } رد له. على أن المنقول عنهم أنهم قالوا بلبثهم مائتي سنة أو أقل لا ثلاثمائة وتسعة ولا ثلاثمائة.
وقوله: { سنين } ليس بمميز للعدد وإلا لقيل: ثلاثمائة سنة بل هو بدل من ثلاثمائة كما قالوا، وفي الكلام مضاهاة لقوله فيما أجمل في صدر الآيات: { سنين عدداً }.
ولعل النكتة في تبديل { سنة } من { سنين } استكثار مدة اللبث، وعلى هذا فقوله: { وازدادوا تسعاً } لا يخلو من معنى الإِضراب كأنه قيل: ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة هذه السنين المتمادية والدهر الطويل بل ازدادوا تسعاً، ولا ينافي هذا ما تقدم في قوله: { سنين عدداً } أن هذا لاستقلال عدد السنين واستحقاره لأن المقامين مختلفان بحسب الغرض فإن الغرض هناك كان متعلقاً بنفي العجب من آية الكهف بقياسها إلى آية جعل ما على ارض زينة لها فالأنسب به استحقار المدة، والغرض ها هنا بيان كون اللبث آية من آياته وحجة على منكري البعث والأنسب به استكثار المدة، والمدة بالنسبتين تحتمل الوصفين فهي بالنسبة إليه تعالى شيء هين وبالنسبة إلينا دهر طويل.
وإضافة تسع سنين إلى ثلاثمائة سنة مدة اللبث تعطي أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية فإن التفاوت في ثلاثمائة سنة إذا أخذت تارة شمسية وأُخرى قمرية بالغ هذا المقدار تقريباً ولا ينبغي الارتياب في أن المراد بالسنين في الآية السنون القمرية لأن السنة في عرف القرآن هي القمرية المؤلفة من الشهور الهلالية وهي المعتبرة في الشريعة الإِسلامية.
وفي التفسير الكبير شدد النكير على ذلك لعدم تطابق العددين تحقيقاً وناقش في ما روي عن علي عليه السلام في هذا المعنى مع أن الفرق بين العددين الثلاث مائة شمسية والثلاث مائة وتسع سنين قمرية أقل من ثلاثة أشهر والتقريب في أمثال هذه النسب ذائع في الكلام بلا كلام.
قوله تعالى: { قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض } إلى آخر الآية مضي في حديث أصحاب الكهف بالإِشارة إلى خلاف الناس في ذلك وأن ما قصه الله تعالى من قصتهم هو الحق الذي لا ريب فيه.
فقوله: { قل الله أعلم بما لبثوا } مشعر بأن مدة لبثهم المذكورة في الآية السابقة لم تكن مسلمة عند الناس فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتج في ذلك بعلم الله وأنه أعلم بهم من غيره.
وقوله: { له غيب السماوات والأرض } تعليل لكونه تعالى أعلم بما لبثوا، واللام للاختصاص الملكي والمراد أنه تعالى وحده يملك ما في السماوات والأرض من غيب غير مشهود فلا يفوته شيء وإن فات السماوات والأرض، وإذ كان ملكاً للغيب بحقيقة معنى الملك وله كمال البصر والسمع فهو أعلم بلبثهم الذي هو من الغيب.
وعلى هذا فقوله: { أبصر به وأسمع } - وهما من صيغ التعجب معناهما كمال بصره وسمعه - لتتميم التعليل كأنه قيل: وكيف لا يكون أعلم بلبثهم وهو يملكهم على كونهم من الغيب وقد رأى حالهم وسمع مقالهم.
ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: إن اللام في { له غيب } الخ للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علماً، ويلزم منه ثبوت علمه لسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بطريق أولى. انتهى، غير سديد لأن ظاهر قوله: { أبصر به وأسمع } أنه للتأسيس دون التأكيد، وكذا ظاهر اللام مطلق الملك دون الملك العلمي.
وقوله: { ما لهم من دونه من ولي } الخ المراد بالجملة الأُولى منه نفي ولاية غير الله لهم مستقلاً بالولاية دون الله، وبالثانية نفي ولاية غيره بمشاركته إياه فيها أي ليس لهم ولي غير الله لا مستقلاً بالولاية ولا غير مستقل.
ولا يبعد أن يستفاد من النظم - بالنظر إلى التعبير في الجملة الثانية { ولا يشرك في حكمه أحداً } بالفعل دون الوصف وتعليق نفي الإِشراك بالحكم دون الولاية - أن الجملة الأُولى تنفي ولاية غيره تعالى لهم سواء كانت بالاستقلال فيستقل بتدبير أمرهم دون الله أو بالشركة بأن يلي بعض أمورهم دون الله، والجملة الثانية تنفي شركة غيره تعالى في الحكم والقضاء في الحكم بأن تكون ولايتهم لله تعالى لكنه وكل عليهم غيره وفوض إليه أمرهم والحكم فيهم كما يفعله الولاة في نصب الحكام والعمال في الشعب المختلفة من أُمورهم فيباشر الحكام والعمال من الأحكام ما لا علم به من الولاة.
ويؤول المعنى إلى أنه كيف لا يكون تعالى أعلم بلبثهم وهو تعالى وحده وليهم المباشر للحكم الجاري فيهم وعليهم.
والضمير في قوله: { لهم } لاصحاب الكهف أو لجميع ما في السماوات والأرض المفهوم من الجملة السابقة بتغليب جانب أُولي العقل أو لمن في السماوات والأرض والوجوه الثلاثة مترتبة جودة وأجودها أولها.
وعليه فالآية تتضمن حجتين على أن الله أعلم بما لبثوا إحداهما: حجة عامة لهم ولغيرهم وهي قوله: { له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع } فهو أعلم بجميع الأشياء ومنها لبث أصحاب الكهف، وثانيتهما حجة خاصة بهم وهي قوله: { ما لهم } إلى آخر الآية فهو تعالى وليهم المباشر للقضاء الجاري عليهم فكيف لا يكون أعلم بهم من غيره؟ ولمكان العلية في الجملتين جيء بهما مفصولتين من غير عطف.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { أم حسبت أن أصحاب الكهف } الآية قال: يقول: قد أتيناك من الآيات ما هو أعجب منه، وهم فتية كانوا في الفترة بين عيسى ابن مريم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأما الرقيم فهما لوحان من نحاس مرقوم أي مكتوب فيهما أمر الفتية وأمر إسلامهم وما أراد منهم دقيانوس الملك وكيف كان أمرهم وحالهم.
وفيه حدثنا أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان سبب نزول سورة الكهف أن قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط والعاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود مسائل يسألونها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم اسألوه عن مسألة واحدة فإن ادعى علمها فهو كاذب.
قالوا: وما هذا المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا وغابوا وناموا، كما بقوا في نومهم حتى انتبهوا؟ وكم كان عددهم؟ وأي شيء كان معهم من غيرهم؟ وما كان قصتهم؟ وسلوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم ويتعلم منه من هو؟ وكيف تبعه؟ وما كان قصته معه؟ وسلوه عن طايف طاف مغرب الشمس ومطلعها حتى بلغ سد يأجوج ومأجوج من هو؟ وكيف كان قصته؟ ثم أملوا عليهم أخبار هذه المسائل الثلاث وقالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، وإن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه.
قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة! فإن ادعى علمها فهو كاذب فإن قيام الساعة لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.
فرجعوا إلى مكة واجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق وإن لم يخبرنا علمنا أنه كاذب فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم فسألوه عن الثلاث المسائل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداً أُخبركم ولم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً حتى اغتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشك أصحابه الذين كانوا آمنوا به، وفرحت قريش واستهزؤوا وآذوا، وحزن أبو طالب.
فلما كان بعد أربعين يوماً نزل عليه سورة الكهف فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرئيل لقد أبطأت فقال: إنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله فأنزل الله تعالى: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً ثم قص قصتهم فقال: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشداً.
قال: فقال الصادق عليه السلام: إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبار عات، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله، وكان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزّ وجلّ، ووكل الملك بباب المدينة ولم يدع أحداً يخرج حتى يسجد للاصنام فخرجوا هؤلاء بعلة الصيد وذلك أنهم مروا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب وخرج معهم.
قال عليه السلام: فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلة الصيد هرباً من دين ذلك الملك فلما أمسوا دخلوا غلى ذلك الكهف والكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس كما قال الله: { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً } فناموا حتى أهلك الله ذلك الملك وأهل المدينة وذهب ذلك الزمان وجاء زمان آخر وقوم آخرون.
ثم انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا ها هنا؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم ثم قالوا لواحد منهم: خذ هذه الورق وادخل المدينة متنكراً لا يعرفونك فاشتر لنا طعاماً فإنهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردونا في دينهم.
فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف التي عهدها ورأى قوماً بخلاف أولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغته ولم يعرف لغتهم فقالوا له: من أنت، ومن أين جئت؟ فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف وأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، وقال بعضهم: سبعة وثامنهم كلبهم.
وحجبهم الله بحجاب من الرعب فلم يكن يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنه لما دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكونوا أصحاب دقيانوس شعروا بهم فأخبرهم صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، وأنهم آية للناس فبكوا وسألوا الله أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا.
ثم قال الملك: ينبغي أن نبني ها هنا مسجداً نزوره فإن هؤلاء قوم مؤمنون. فلهم في كل سنة تقلبان ينامون ستة أشهر على جنوبهم اليمنى وستة أشهر على جنوبهم اليسرى والكلب معهم باسط ذراعيه بفناء الكهف وذلك قوله تعالى: { نحن نقص عليك نبأهم بالحق } إلى آخر الآيات.
أقول: والرواية من أوضح روايات القصة متناً وأسلمها من التشوش وهي مع ذلك تتضمن أن الذين اختلفوا في عددهم فقالوا: ثلاثة أو خمسة أو سبعة هم أهل المدينة الذين اجتمعوا على باب الكهف بعد انتباه الفتية وهو خلاف ظاهر الآية، وتتضمن أن أصحاب الكهف لم يموتوا ثانياً بل عادوا إلى نومتهم وكذلك كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد وأن لهم في كل سنة تقلبين من اليمين إلى اليسار وبالعكس وأنهم بعد على هيئتهم. ولا كهف معهوداً على وجه الأرض وفيه قوم نيام على هذه الصفة.
على أن في ذيل هذه الرواية. وقد تركنا نقله ها هنا لاحتمال أن يكون من كلام القمي أو رواية أُخرى - أن قوله تعالى: { ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعاً } من كلام أهل الكتاب، وأن قوله بعده: { قل الله أعلم بما لبثوا } رد له، وقد عرفت في البيان المتقدم أن السياق يدفعه والنظم البليغ لا يقبله.
وقد تكاثرت الروايات في بيان القصة من طرق الفريقين لكنها متهافتة مختلفة لا يكاد يوجد منها خبران متوافقا المضمون من جميع الجهات.
فمن الاختلاف ما في بعض الروايات كالرواية المتقدمة أن سؤالهم كان عن أربعة نبأ أصحاب الكهف ونبأ موسى والعالم ونبأ ذي القرنين وعن الساعة متى تقوم؟ وفي بعضها أن السؤال كان عن خبر أصحاب الكهف وذي القرنين وعن الروح وقد ذكروا أن آية صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يجيب آخر الأسئلة فأجاب عن نبأ أصحاب الكهف ونبأ ذي القرنين، ونزل { قل الروح من أمر ربي } الآية فلم يجب عنها، وقد عرفت في بيان آية الروح أن الكلام مسوق سوق الجواب وليس بتجاف.
ومن ذلك ما في أكثر الروايات أنهم جماعة واحدة سموا أصحاب الكهف والرقيم، وفي بعضها أن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف، وأن الله سبحانه أشار في كلامه إليهما معاً لكنه قص قصة أصحاب الكهف وأعرض عن قصة أصحاب الرقيم، وذكروا لهم قصة وهي أن قوماً وهم ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم فأخذتهم السماء فأووا إلى كهف وانحطت صخرة من أعلى الجبل وسدت بابه.
فقال بعضهم لبعض: ليذكر كل منا شيئاً من عمله الصالح وليدع الله به لعله يفرج عنا فذكر واحد منهم منه عمله لوجه الله ودعا الله به فتنحت الصخرة قدر ما دخل عليهم الضوء ثم الثاني فتنحت حتى تعارفوا ثم الثالث ففرج الله عنهم فخرجوا؟ رواه النعمان بن بشير مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والمستأنس بأُسلوب الذكر الحكيم يأبى أن يظن به أن يشير في دعوته إلى قصتين ثم يفصل القول في إحداهما وينسى الأُخرى من أصلها.
ومن ذلك ما تذكره الروايات أن الملك الذي هرب منه الفتية هو دقيانوس (ديوكليس 285-305م) ملك الروم وفي بعضها كان يدعي الألوهية، وفي بعض أنه كان دقيوس (دسيوس 249-254م) ملك الروم وبينهما عشرات من السنين وكان الملك يدعو إلى عبادة الأصنام ويقتل أهل التوحيد، وفي بعض الروايات كان مجوسياً يدعو إلى دين المجوس، ولم يذكر التاريخ شيوع المجوسية هذا الشيوع في بلاد الروم، وفي بعض الروايات أنهم كانوا قبل عيسى عليه السلام.
ومن ذلك أن بعض الروايات تذكر أن الرقيم اسم البلد الذي خرجوا منه وفي بعضها اسم الوادي، وفي بعضها اسم الجبل الذي فيه الكهف، وفي بعضها اسم كلبهم، وفي بعضها هو لوح من حجر، وفي بعضها من رصاص، وفي بعضها من نحاس وفي بعضها من ذهب رقم فيه أسماؤهم وأسماء آبائهم وقصتهم ووضع على باب الكهف وفي بعضها داخله، وفي بعضها كان معلقاً على باب المدينة، وفي بعضها في بعض خزائن الملوك، وفي بعضها هما لوحان.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أن الفتية كانوا من أولاد الملوك، وفي بعضها من أولاد الأشراف، وفي بعضهم من أولاد العلماء، وفي بعضها أنهم سبعة سابعهم كان راعي غنم لحق بهم هو وكلبه في الطريق، وفي حديث وهب بن منبه أنهم كانوا حماميين يعملون في بعض حمامات المدينة وساق لهم قصة دعوة الملك إلى عبادة الأصنام وفي بعضها أنهم كانوا من وزراء الملك يستشيرهم في أُموره.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أنهم أظهروا المخالفة وعلم بها الملك قبل الخروج وفي بعضها أنه لم يعلم إلا بعد خروجهم وفي بعضها أنهم تواطؤوا على الخروج فخرجوا وفي بعضها أنهم خرجوا على غير معرفة من بعضهم لحال بعض وعلى غير ميعاد ثم تعارفوا واتفقوا في الصحراء وفي بعضها أن راعي غنم لحق بهم وهو سابعهم وفي بعضها أنه لم يتبعهم وتبعهم كلبه وسار معهم.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أنهم لما هربوا واطلع الملك على أمرهم افتقدهم ولم يحصل منهم على أثر، وفي بعضها أنه فحص عنهم فوجدهم نياماً في كهفهم فأمر أن يبنى على باب الكهف بنيان ليحتبسوا فيموتوا جوعاً وعطشاً جزاء لعصيانهم فبقوا على هذه الحال حتى إذا أراد الله أن ينبههم بعث راعي غنم فخرب البنيان ليتخذ حظيرة لغنمه وعند ذلك بعثهم الله أيقاظاً وكان أمرهم ما قصه الله.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أنه لما ظهر أمرهم أتاهم الملك ومعه الناس فدخل عليهم الكهف فكلمهم فبينا هو يكلمهم ويكلمونه إذ ودعوه وسلموا عليه وقضوا نحبهم، وفي بعضها أنهم ماتوا أو ناموا قبل أن يدخل الملك عليهم وسد باب الكهف وغاب عن أبصارهم فلم يهتدوا للدخول فبنوا هناك مسجداً يصلون فيه.
ومن ذلك ما في بعض الروايات أنهم قبضت أرواحهم، وفي بعضها أن الله أرقدهم ثانياً فهم نيام إلى يوم القيامة، ويقلبهم كل عام مرتين من اليمين إلى الشمال وبالعكس.
ومن ذلك اختلاف الروايات في مدة لبثهم ففي أكثرها أن الثلاثة مائة وتسع سنين المذكور في الآية قول الله تعالى، وفي بعضها أنه محكي قول أهل الكتاب، وقوله تعالى: { قل الله أعلم بما لبثوا } رد له، وفي بعضها أن الثلاثمائة قوله سبحانه وزيادة التسع قول أهل الكتاب.
إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف بين الروايات، وقد جمعت أكثرها من طرق أهل السنة في الدر المنثور، ومن طرق الشيعة في البحار وتفسيري البرهان ونور الثقلين من أراد الاطلاع عليها فليراجعها، والذي يمكن أن تعد الروايات متفقة أو كالمتفقة عليه أنهم كانوا قوماً موحدين هربوا من ملك جبار كان يجبر الناس على الشرك فأووا إلى الكهف فناموا إلى آخر ما قصه الله تعالى.
وفي تفسير العياشي عن سليمان بن جعفر الهمداني قال: قال لي جعفر بن محمد عليه السلام يا سليمان من الفتى؟ فقلت له: جعلت فداك الفتى عندنا الشاب. قال لي: أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كلهم كهولاً فسماهم الله فتية بإيمانهم يا سليمان من آمن بالله واتقى فهو الفتى.
أقول: وروي ما في معناه في الكافي عن القمي مرفوعاً عن الصادق عليه السلام، وقد روي عن ابن عباس أنهم كانوا شباناً.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر قال: كان أصحاب الكهف صيارفة.
أقول: وروى القمي أيضاً بإسناده عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان أصحاب الكهف صيارفة لكن في تفسير العياشي عن درست عن أبي عبد الله عليه السلام أنه ذكر أصحاب الكهف فقال: كانوا صيارفة كلام ولم يكونوا صيارفة دراهم.
وفي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أصحاب الكهف أسروا الإِيمان وأظهروا الكفر فآجرهم الله مرتين.
أقول: وروي في الكافي ما في معناه عن هشام بن سالم عنه عليه السلام وروى ما في معناه العياشي عن الكاهلي عنه عليه السلام، وعن درست في خبرين عنه عليه السلام وفي أحد الخبرين: أنهم كانوا ليشدون الزنانير ويشهدون الأعياد.
ولا يرد عليه أن ظاهر قوله تعالى حكاية عنهم: { إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً } الآية أنهم كانوا لا يرون التقية كما احتمله المفسرون في تفسير قوله تعالى حكاية عنهم: { أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً } الآية وقد تقدم.
وذلك لأنك عرفت أن خروجهم من المدينة كان هجرة من دار الشرك التي كانت تحرمهم إظهار كلمة الحق والتدين بدين التوحيد غير أن تواطيهم على الخروج وهم ستة من المعاريف وأهل الشرف وإعراضهم عن الأهل والمال والوطن لم يكن لذلك عنوان إلا المخالفة لدين الوثنية فقد كانوا على خطر عظيم لو ظهر عليهم القوم ولم ينته أمرهم إلا إلى أحد أمرين الرجم أو الدخول في ملة القوم.
وبذلك يظهر أن قيامهم أول مرة وقولهم: { ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً } لم يكن بتظاهر منهم على المخالفة وتجاهر على ذم ملة القوم ورمي طريقتهم فما كانت الأوضاع العامة تجيز لهم ذلك، وإنما كان ذلك منهم قياماً لله وتصميماً على الثبات على كلمة التوحيد ولو سلم دلالة قوله: { إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض } على التظاهر ورفض التقية فقد كان في آخر أيام مكثهم بين القوم وكانوا قبل ذلك سائرين على التقية لا محالة، فقد بان أن سياق شيء من الآيتين لا ينافي كون الفتية سائرين على التقية ما داموا بين القوم وفي المدينة.
وفي تفسير العياشي أيضاً عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خرج أصحاب الكهف على غير معرفة ولا ميعاد فلما صاروا في الصحراء أخذ بعضهم على بعض العهود والمواثيق فأخذ هذا على هذا وهذا على هذا ثم قالوا: أظهروا أمركم فأظهروه فإذا هم على أمر واحد.
أقول: وفي معناه ما عن ابن عباس في الخبر الآتي.
في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذي ذكر الله في القرآن فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس ذلك لك قد منع الله ذلك عمن هو خير منك فقال: { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً } فقال معاوية: لا انتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالاً فقال: اذهبوا فادخلوا الكهف فانظروا فذهبوا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم فبلغ ذلك ابن عباس فأنشأ يحدث عنهم.
فقال: إنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة فجعلوا يعبدون حتى عبدوا الأوثان وهؤلاء الفتية في المدينة فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي على بعض لأنه لا يدري هذا على ما خرج هذا ولا يدري هذا فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضاً فإن اجتمعوا على شيء وإلا كتم بعضهم بعضاً فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا: { ربنا رب السماوات والأرض } إلى قوله { مرفقاً }.
قال: فقعدوا فجاء أهلهم يطلبونهم لا يدرون أين ذهبوا؟ فرفع أمرهم إلى الملك فقال: ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن، ناس خرجوا لا يدرى أين ذهبوا في غير خيانة ولا شيء يعرف؟ فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه اسماءهم ثم طرح في خزانته فذلك قول الله: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم } والرقيم هو اللوح الذي كتبوا، فانطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم فناموا فلو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، ولولا أنهم يقلبون لأكلتهم الأرض، وذلك قول الله: { وترى الشمس } الآية.
قال: ثم إن ذلك الملك ذهب وجاء ملك آخر فعبد الله وترك تلك الأوثان وعدل في الناس فبعثهم الله لما يريد فقال قائل منهم: كم لبثم؟ فقال بعضهم: يوماً وقال بعضهم: يومين وقال بعضهم: أكثر من ذلك فقال كبيرهم: لا تختلفوا فإنه لم يختلف قوم قط إلا هلكوا فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة.
فرأى شارة أنكرها ورأى بنياناً أنكره ثم دنا إلى خباز فرمى إليه بدرهم وكانت دراهمهم كخفاف الربع يعني ولد الناقة فأنكر الخباز الدرهم فقال: من أين لك هذا الدرهم؟ لقد وجدت كنزاً لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الأمير فقال: أو تخوفني بالأمير؟ وأتى الدهقان الأمير قال: من أبوك؟ قال: فلان فلم يعرفه قال: فمن الملك؟ قال: فلان فلم يعرفه فاجتمع عليهم الناس فرفع إلى عالمهم فسأله فأخبره فقال: علي باللوح فجيء به فسمى أصحابه فلاناً وفلاناً وهم مكتوبون في اللوح فقال للناس: إن الله قد دلكم على إخوانكم.
وانطلقوا وركبوا حتى أتوا إلى الكهف فلما دنوا من الكهف قال الفتى: مكانكم أنتم حتى أدخل أنا على أصحابي، ولا تهجموا فيفزعون منكم وهم لا يعلمون أن الله قد اقبل بكم وتاب عليكم فقالوا: لتخرجن علينا؟ قال: نعم إن شاء الله فدخل فلم يدروا أين ذهب؟ وعمي عليهم فطلبوا وحرضوا فلم يقدروا على الدخول عليهم فقالوا: لنتخذن عليهم مسجداً فاتخذوا عليهم مسجداً يصلون عليهم ويستغفرون لهم.
أقول: والرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم وتلقوها بالقبول وهي بعد غير خالية عن أشياء منها أن ظاهرها أنهم بعد على هيئة النيام لا يمكن الاطلاع عليهم بصرف إلهي، والكهف الذي في المضيق وهو كهف إفسوس المعروف اليوم ليس على هذا النعت.
والآية التي تمسك بها ابن عباس إنما تمثل حالهم وهم رقود قبل البعث لا بعده وقد وردت عن ابن عباس رواية أُخرى تخالف هذه الرواية وهي ما في الدر المنثور عن عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة وقد ذكرت فيها القصة وفي آخرها: فركب الملك وركب معه الناس حتى انتهى إلى الكهف فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي فلما أبصروه وأبصرهم ضرب على آذانهم فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل الناس معه فإذا أجساد لا يبلى منها شيء غير أنها لا أرواح فيها فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.
فغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس ذهبت عظامهم أكثر من ثلاثمائة سنة الحديث.
وتزيد هذه الرواية إشكالاً أن قوله: ذهبت عظامهم "الخ" يؤدي إلى وقوع القصة في أوائل التاريخ الميلادي أو قبله فتخالف حينئذ عامة الروايات إلا ما تقول إنهم كانوا قبل المسيح.
ومنها ما في قوله: "فقال بعضهم: يوماً وقال بعضهم: يومين" الخ والذي وقع في القرآن: { قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم } وهو المعقول الموافق للاعتبار من قوم ناموا انتبهوا وتكلموا في مدة لبثهم أخذاً بشواهد الحال وأما احتمال اليومين وأزيد فمما لا سبيل إليه ولا شاهد يشهد عليه عادة على أن اختلافهم في تشخيص مدة اللبث لم يكن من الاختلاف المذموم الذي هو الاختلاف في العمل في شيء حتى يؤدي إلى الهلاك فينهي عنه وإنما هو اختلاف في النظر ولا مناص.
ومنها ما في آخرها أنه دخل فلم يدروا أين ذهب؟ وعمي عليهم "الخ" كأن المراد به ما في بعض الروايات أن باب الكهف غاب عن أنظارهم بأن مسحه الله وعفاه، ولا يلائم ذلك ما في صدر الرواية أنه كان ظاهراً معروفاً في تلك الديار فهل مسحه الله لذلك الملك وأصحابه ثم أظهره للناس؟.
وما في صدر الرواية من قول ابن عباس: "إن الرقيم لوح من رصاص مكتوب فيه أسماؤهم" روى ما في معناه العياشي في تفسيره عن أحمد بن علي عن أبي عبد الله عليه السلام وقد روي في روايات أُخرى عن ابن عباس إنكاره كما في الدر المنثور عن سعيد بن منصور وعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والزجاجي في أماليه وابن مردويه عن ابن عباس قال: لا أدري ما الرقيم؟ وسألت كعباً فقال: اسم القرية التي خرجوا منها.
وفيه أيضاً عن عبد الرزاق عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه إلا أربعاً: غسلين وحناناً وأواه ورقيم.
وفي تفسير القمي: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: { لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذا شططاً } يعني جوراً على الله إن قلنا له شريك.
وفي تفسير العياشي عن محمد بن سنان عن البطيخي عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله: { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً } قال: إن ذلك لم يعن به النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما عنى به المؤمنون بعضهم لبعض لكنه حالهم التي هم عليها.
وفي تفسير روح المعاني أسماهم على ما صح عن ابن عباس: مكسلمينا ويمليخا ومرطولس وثيبونس ودردونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب اسمه قطمير.
قال: وروي عن علي كرم الله وجهه أن أسماءهم: يمليخا ومكسلينيا ومسلينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك، ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش، وهؤلاء أصحاب يساره، وكان يستشير الستة والسابع الراعي ولم يذكر في هذه الرواية اسمه وذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير.
قال: وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله وجهه مقال وذكر العلامة السيوطي في حواشي البيضاوي أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط بإسناده صحيح، والذي في الدر المنثور، رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس.
قال: وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء، وذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن في النطق بأسمائهم اختلافاً كثيراً ولا يقع الوثوق من ضبطها، وفي البحر أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط والسند في معرفتها ضعيف انتهى كلامه.
والرواية التي نسبها إلى علي عليه السلام هي التي رواها الثعلبي في العرائس والديلمي في كتابه مرفوعة وفيها أعاجيب.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"أصحاب الكهف أعوان المهدي"
]. وفي البرهان عن ابن الفارسي قال الصادق عليه السلام: يخرج للقائم عليه السلام من ظهر الكعبة سبعة وعشرين رجلاً من قوم موسى الذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون وسبعة من أهل الكهف، ويوشع بن نون، وأبو دجانة الأنصاري، ومقداد بن الأسود ومالك الأشتر فيكونون بين يديه أنصاراً وحكاماً.
وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام قال: إذا حلف رجل بالله فله ثنياها إلى أربعين يوماً وذلك أن قوماً من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء فقال: ائتونى غداً - ولم يستثن - حتى أخبركم فاحتبس عنه جبرئيل أربعين يوماً ثم أتاه وقال: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت }.
أقول: الثنيا بالضم فالسكون مقصوراً اسم الاستثناء وفي هذا المعنى روايات أُخر عن الصادقين عليه السلام والظاهر من بعضها أن المراد بالحلف بت الكلام وتأكيده كما يلوح إليه استشهاده عليه السلام في هذه الرواية بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما البحث في تقييد اليمين به بعد انعقاده ووقوع الحنث معه وعدمه فموكول إلى الفقه.
(كلام حول قصه أصحاب الكهف في فصول)
1 - وردت قصة الكهف مفصلة كاملة في عدة روايات عن الصحابة والتابعين وأئمه أهل البيت عليهم السلام كرواية القمي ورواية ابن عباس ورواية عكرمة ورواية مجاهد وقد أوردها في الدر المنثور ورواية ابن اسحاق في العرائس وقد أوردها في البرهان ورواية وهب بن منبه وقد أوردها في الدر المنثور وفي الكامل من غير نسبة ورواية النعمان بن بشير في أصحاب الرقيم وقد أوردها في الدر المنثور.
وهذه الروايات - وقد أوردنا في البحث الروائي السابق بعضها وأشرنا إلى بعضها الآخر - من الاختلاف في متونها بحيث لا تكاد تتفق في جهة بارزه من جهات القصة، وأما الروايات الواردة في بعض جهات القصة كالمتعرضة لزمان قيامهم والملك الذي قاموا في عهده ونسبهم وسمتهم وأسمائهم ووجه تسميتهم بأصحاب الرقيم إلى غير ذلك من جزئيات القصة فالاختلاف فيها أشد والحصول فيها على ما تطمئن إليه النفس أصعب.
والسبب العمدة في اختلاف هذه الأحاديث مضافاً إلى ما تطرق إلى أمثال هذه الروايات من الوضع والدس أمران.
أحدهما: أن القصة مما اعتنت به أهل الكتاب كما يستفاد من رواياتها أن قريشاً تلقتها عنهم وسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها بل يستفاد من التماثيل وقد ذكرها أهل التاريخ عن النصارى ومن الصور الموجودة في كهوف شتى في بقاع الأرض المختلفة من آسيا وأوروبا وأفريقيا أن القصة اكتسبت بعداً وشهرة عالمية، ومن شأن القصص التي كذلك أن تتجلى لكل قوم في صورة تلائم ما عندهم من الآراء والعقائد وتختلف رواياتها.
ثم إن المسلمين بالغوا في أخذ الرواية وضبطها وتوسعوا فيه وأخذوا ما عند غيرهم كما أخذوا ما عند أنفسهم وخاصة وقد اختلط بهم قوم من علماء أهل الكتاب دخلوا في الإِسلام كوهب بن منبه وكعب الأحبار وأخذ عنهم الصحابة والتابعون كثيراً من أخبار السابقين ثم أخذ الخلف عن السلف وعاملوا مع رواياتهم معاملة الأخبار الموقوفة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانت بلوى.
وثانيهما: أن دأب كلامه تعالى فيما يورده من القصص أن يقتصر على مختارات من نكاتها المهمة المؤثرة في إيفاء الغرض من غير أن يبسط القول بذكر متنها بالاستيفاء والتعرض لجميع جهاتها والأوضاع والأحوال المقارنة لها فما كتاب الله بكتاب تاريخ وإنما هو كتاب هدى.
وهذا من أوضح ما يعثر عليه المتدبر في القصص المذكورة في كلامه تعالى كالذي ورد فيه من قصة أصحاب الكهف والرقيم فقد أورد أولاً شطراً من محاورتهم يشير إلى معنى قيامهم لله وثباتهم على كلمة الحق واعتزالهم الناس إثر ذلك ودخولهم الكهف ورقودهم فيه وكلبهم معهم دهراً طويلاً ثم يذكر بعثهم من الرقدة ومحاورة ثانية لهم هي المؤدية إلى انكشاف حالهم وظهور أمرهم للناس. ثم يذكر إعثار الناس عليهم بما يشير إلى توفيهم ثانياً بعد حصول الغرض الإِلهي وما صنع بعد ذلك من اتخاذ مسجد عليهم هذا هو الذي جرى عليه كلامه تعالى.
وقد أضرب عن ذكر أسمائهم وأنسابهم وموالدهم وكيفية نشأتهم وما اتخذوه لأنفسهم من المشاغل وموقعهم من مجتمعهم وزمان قيامهم واعتزالهم واسم الملك الذي هربوا منه والمدينة التي خرجوا منها والقوم الذين كانوا فيهم واسم الكلب الذي لازمهم وهل كان كلب صيد لهم أو كلب غنم للراعي؟ وما لونه؟ - وقد أمعنت فيه الروايات - إلى غير ذلك من الأُمور التي لا يتوقف غرض الهداية على العلم بشيء منها كما يتوقف عليه غرض البحث التاريخي.
ثم إن المفسرين من السلف لما أخذوا في البحث عن آيات القصص راموا بيان اتصال الآيات بضم المتروك من أطراف القصص إلى المختار المأخوذ منها لتصاغ بذلك قصة كاملة الأجزاء مستوفاة الأطراف فأدى اختلاف أنظارهم إلى اختلاف يشابه اختلاف النقل فآل الأمر إلى ما نشاهده.
2 - قصة أصحاب الكهف في القرآن: وقد قال تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم { ولا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً } كانت أصحاب الكهف والرقيم فتية نشأوا في مجتمع مشرك لا يرى إلا عبادة الأوثان فتسرب في المجتمع دين التوحيد فآمن بالله قوم منهم فأنكروا عليهم ذلك وقابلوهم بالتشديد والتضييق والفتنة والعذاب، وأجبروهم على عبادة الأوثان ورفض دين التوحيد فمن عاد إلى ملتهم تركوه ومن أصر على المخالفة قتلوه شر قتلة.
وكانت الفتية ممن آمن بالله إيماناً على بصيرة فزادهم الله هدى على هداهم وأفاض عليهم المعرفة والحكمة وكشف بما آتاهم من النور عما يهمهم من الأمر وربط على قلوبهم فلم يخشوا إلا الله ولا أوحشهم ما يستقبلهم من الحوادث والمكاره فعلموا أنهم لو أداموا المكث في مجتمعهم الجاهل المتحكم لم يسعهم دون أن يسيروا بسيرتهم فلا يتفوهوا بكلمه الحق ولا يتشرعوا بشريعة الحق، وعلموا أن سبيلهم أن يقوموا على التوحيد ورفض الشرك ثم اعتزال القوم، وعلموا أن لو اعتزلوهم ودخلوا الكهف أنجاهم الله مما هم فيه من البلاء.
فقاموا وقالوا رداً على القوم في اقتراحهم وتحكمهم: { ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً }.
ثم قالوا: { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً }.
ثم دخلوا الكهف واستقروا على فجوة منه وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فدعوا ربهم بما تفرسوا من قبل أنه سيفعل بهم ذلك فقالوا: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشداً فضرب الله على آذانهم في الكهف سنين ولبثوا في كهفهم - وكلبهم معهم - ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود ويقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو أطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً.
ثم إن الله بعثهم بعد هذا الدهر الطويل وهو ثلاثمائة وتسع سنين من يوم دخلوا الكهف ليريهم كيف نجاهم من قومهم فاستيقظوا جميعاً ووجدوا أن الشمس تغير موقعها وفيهم شيء من لوثة نومهم الثقيل قال قائل منهم: كم لبثتم؟ قال قوم منهم: لبثنا يوماً أو بعض يوم لما وجدوا من تغير موقع الشعاع وترددوا هل مرت عليهم ليله أو لا؟ وقال آخرون منهم: بل ربكم أعلم بما لبثتم ثم قال: فابعثوا بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه فإنكم جياع وليتلطف الذاهب منكم إلى المدينة في مسيره إليها وشرائه الطعام ولا يشعرن بكم أحداً إنهم إن علموا بمكانكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذاً أبداً.
وهذا أوان أن يعثر الله سبحانه الناس عليهم فإن القوم الذين اعتزلوهم وفارقوهم يوم دخلوا الكهف قد انقرضوا وذهب الله بهم وبملكهم وملتهم وجاء بقوم آخرين الغلبة فيهم لأهل التوحيد والسلطان وقد اختلفوا أعني أهل التوحيد وغيرهم في أمر المعاد فأراد الله سبحانه أن يظهر لهم آية في ذلك فأعثرهم على أصحاب الكهف.
فخرج المبعوث من الفتية وأتى المدينة وهو يظن أنها التي فارقها البارحة لكنه وجد المدينة قد تغيرت بما لا يعهد مثله في يوم ولا في عمر والناس غير الناس والأوضاع والأحوال غير ما كان يشاهده بالأمس فلم يزل على حيرة من الأمر حتى أراد أن يشتري طعاماً بما عنده من الورق وهي يومئذ من الورق الرائجة قبل ثلاثه قرون فأخذت المشاجرة فيها ولم تلبث دون أن كشفت عن أمر عجيب وهو أن الفتى ممن كانوا يعيشون هناك قبل ذلك بثلاثة قرون، وهو أحد الفتية كانوا في مجتمع مشرك ظالم فهجروا الوطن واعتزلوا الناس صوناً لإِيمانهم ودخلوا الكهف فأنامهم الله هذا الدهر الطويل ثم بعثهم، وها هم الآن في الكهف في انتظار هذا الذي بعثوه إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً يتغذون به.
فشاع الخبر في المدينة لساعته واجتمع جم غفير من أهلها فساروا إلى الكهف ومعهم الفتى المبعوث من أصحاب الكهف فشاهدوا ما فيه تصديق الفتى فيما أخبرهم من نبأ رفقته وظهرت لهم الآية الإِلهية في أمر المعاد.
ولم يلبث أصحاب الكهف بعد بعثهم كثيراً دون أن توفاهم الله سبحانه وعند ذلك اختلف المجتمعون على باب الكهف من أهل المدينة ثانياً فقال المشركون منهم: ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم وهم الموحدون لنتخذن عليهم مسجداً.
3 - القصة عند غير المسلمين: معظم أهل الرواية والتاريخ على أن القصة وقعت في الفتره بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المسيح عليه السلام ولذلك لم يرد ذكرها في كتب العهدين ولم يعتوره اليهود وإن اشتملت عدة من الروايات على أن قريشاً تلقت القصة من اليهود، وإنما اهتم بها النصارى واعتوروها قديماً وحديثاً، وما نقل عنهم في القصة قريب مما أورده ابن إسحاق في العرائس عن ابن عباس غير أن رواياتهم تختلف عن روايات المسلمين في أُمور:
أحدها: أن المصادر السريانية تذكر عدد أصحاب الكهف ثمانية في حين يذكره المسلمون وكذا المصادر اليونانية والغربيه سبعة.
ثانيها: أن قصتهم خالية من ذكر كلب أصحاب الكهف.
وثالثها: أنهم ذكروا أن مدة لبث أصحاب الكهف فيه مائتا سنة أو أقل والمسلمون يذكر معظمهم أنه ثلاثمائة وتسع سنين على ما هو ظاهر القرآن الكريم والسبب في تحديدهم ذلك أنهم ذكروا أن الطاغية الذي كان يجبر الناس على عبادة الأصنام وقد هرب منه الفتية هو دقيوس الملك 449 - 451 وقد استيقظ أهل الكهف على ما ذكروا سنة 425 م أو سنه 437 م أو سنة 439 م فلا يبقى للبثهم في الكهف إلا مائتا سنة أو أقل وأول من ذكره من مؤرخيهم على ما يذكر هو "جيمس" الساروغي السرياني الذي ولد سنه 451 م ومات سنه 521 م ثم أخذ عنه الآخرون وللكلام تتمة ستوافيك.
4 - أين كهف أصحاب الكهف؟ عثر في مختلف بقاع الأرض على عدة من الكهوف والغيران وعلى جدرانها تماثيل رجال ثلاثة أو خمسة أو سبعة ومعهم كلب وفي بعضها بين أيديهم قربان يقربونه، ويتمثل عند الإِنسان المطلع عليها قصص أصحاب الكهف ويقرب من الظن أن هذه النقوش والتماثيل إشاره إلى قصة الفتية وأنها انتشرت وذاعت بعد وقوعها في الأقطار فأخذت ذكرى يتذكر بها الرهبان والمتجردون للعبادة في هذه الكهوف.
وأما الكهف الذي التجأ إليه واستخفى فيه أهل الكهف فجرى عليهم ما جرى فالناس فيه في اختلاف وقد ادعي ذلك في عدة مواضع:
أحدها: كهف إفسوس وإفسوس هذا مدينة خربة أثرية واقعة في تركيا على مسافة 73 كيلو متراً من بلدة إزمير، والكهف على مساحة كيلو متر واحد أو أقل من إفسوس بقرب قرية "اياصولوك" بسفح جبل "ينايرداغ".
وهو كهف وسيع فيه - على ما يُقال - مآت من القبور مبنية من الطوب وهو في سفح الجبل وبابه متجه نحو الجهة الشمالية الشرقية وليس عنده أثر من مسجد أو صومعة أو كنيسة، وهذا الكهف هو الأعرف عند النصارى، وقد ورد ذكره في عدة من روايات المسلمين.
وهذا الكهف - على الرغم من شهرته البالغة - لا ينطبق عليه ما ورد في الكتاب العزيز من المشخصات.
أما أولاً: فقد قال تعالى: { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } وهو صريح في أن الشمس يقع شعاعها عند الطلوع على جهة اليمين من الكهف وعند الغروب على الجانب الشمالي منه، ويلزمه أن يواجه باب الكهف جهة الجنوب، وباب الكهف الذي في إفسوس متجه نحو الشمال الشرقي.
وهذا الأمر أعني كون باب كهف إفسوس متجهاً نحو الشمال وما ورد من مشخص إصابة الشمس منه طلوعاً وغروباً هو الذي دعا المفسرين إلى أن يعتبروا يمين الكهف ويساره بالنسبة إلى الداخل فيه لا الخارج منه مع أنه المعروف المعمول - كما تقدم في تفسير الآية - قال البيضاوي في تفسيره: إن باب الكهف في مقابلة بنات النعش، وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن وهو الذي يلي المغرب، وتغرب محاذية لجانبه الايسر فيقع شعاعها على جانبه ويحلل عفونته ويعدل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم ويبلي ثيابهم. انتهى ونحو منه ما ذكره غيره.
على أن مقابلة الباب للشمال الشرقي لا للقطب الشمالي وبنات النعش كما ذكروه تستلزم عدم انطباق الوصف حتى على الاعتبار الذي اعتبروه فإن شعاع الشمس حينئذ يقع على الجانب الغربي الذي يلي الباب عند طلوعها وأما عند الغروب فالباب وما حوله مغمور تحت الظل وقد زال الشعاع بعيد زوال الشمس وانبسط الظل.
اللهم إلا أن يدعى أن المراد بقوله: { وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } عدم وقوع الشعاع أو وقوعه خلفهم لا على يسارهم هذا.
وأما ثانياً: فلأن قوله تعالى: { وهم في فجوة منه } أي في مرتفع منه ولا فجوة في كهف إفسوس - على ما يُقال - وهذا مبني على كون الفجوة بمعنى المرتفع وهو غير مسلم وقد تقدم أنها بمعنى الساحة.
وأما ثالثاً: فلأن قوله تعالى: { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً } ظاهر في أنهم بنوا على الكهف مسجداً، ولا أثر عند كهف إفسوس من مسجد أو صومعة أو نحوهما، وأقرب ما هناك كنيسة على مسافة ثلاث كيلو مترات تقريباً ولا جهة تربطها بالكهف أصلاً.
على أنه ليس هناك شيء من رقيم أو كتابة أو أمر آخر يشهد ولو بعض الشهادة على كون بعض هاتيك القبور وهي مآت هي قبور أصحاب الكهف أو أنهم لبثوا هناك صفه من الدهر راقدين ثم بعثهم الله ثم توفاهم.
الكهف الثاني: كهف رجيب وهذا الكهف واقع على مسافة ثمانية كيلو مترات من مدينه عمان عاصمة الأردن بالقرب من قرية تسمى رجيب والكهف في جبل محفوراً على الصخرة في السفح الجنوبي منه، وأطرافه من الجانبين الشرقي والغربي مفتوحة يقع عليه شعاع الشمس منها، وباب الكهف يقابل جهة الجنوب وفي داخل الكهف صفة صغيرة تقرب من ثلاثة أمتار في مترين ونصف على جانب من سطح الكهف المعادل لثلاثة في ثلاثة تقريباً وفي الغار عدة قبور على هيئة النواويس البيزنطية كأنها ثمانية أو سبعة.
وعلى الجدران نقوش وخطوط باليوناني القديم والثمودي منمحية لا تقرأ وأيضاً صورة كلب مصبوغة بالحمرة وزخارف وتزويقات أُخرى.
وفوق الغار آثار صومعة بيزنطيه تدل النقود والآثار الأُخرى المكتشفة فيها على كونها مبنية في زمان الملك جوستينوس الأول 418 - 427 وآثار أُخرى على أن الصومعة بدلت ثانياً بعد استيلاء المسلمين على الأرض مسجداً إسلامياً مشتملاً على المحراب و المأذنة والميضأة، وفي الساحة المقابلة لباب الكهف آثار مسجد آخر بناه المسلمون في صدر الإِسلام ثم عمروها وشيدوها مرة بعد مرة، وهو مبني على أنقاض كنيسة بيزنطية كما أن المسجد الذي فوق الكهف كذلك.
وكان هذا الكهف - على الرغم من اهتمام الناس بشأنه وعنايتهم بأمره كما تكشف عنه الآثار - متروكاً منسياً وبمرور الزمان خربة وردماً متهدماً حتى اهتمت دائرة الآثار الاردنية أخيراً بالحفر والتنقيب فيه فاكتشفته فظهر ثانياً بعد خفائه قروناً، وقامت عدة من الأمارات والشواهد الأثرية على كونه هو كهف أصحاب الكهف المذكورين في القرآن.
وقد ورد كون كهف أصحاب الكهف بعمان في بعض روايات المسلمين كما أشرنا إليه فيما تقدم وذكره ياقوت في معجم البلدان وأن الرقيم اسم قرية بالقرب من عمان كان فيها قصر ليزيد بن عبد الملك وقصر آخر في قرية أُخرى قريبة منها تسمى الموقر وإليهما يشير الشاعر بقوله:

يزرن على تنانبه يزيداً بأكناف الموقر والرقيم

وبلدة عمان أيضاً مبنية في موضع مدينة "فيلادلفيا" التي كانت من أشهر مدن عصرها وأجملها قبل ظهور الدعوة الإِسلامية وكانت هي وما والاها تحت استيلاء الروم منذ أوائل القرن الثاني الميلادي حتى فتح المسلمون الأرض المقدسة.
والحق أن مشخصات كهف أهل الكهف أوضح انطباقاً على هذا الكهف من غيره.
والكهف الثالث: كهف بجبل قاسيون بالقرب من الصالحية بدمشق الشام ينسب إلى أصحاب الكهف.
والكهف الرابع: كهف بالبتراء من بلاد فلسطين ينسبونه إلى أصحاب الكهف.
والكهف الخامس: كهف اكتشف - على ما قيل - في شبه جزيرة اسكاندنافية من الأوربة الشمالية عثروا فيه على سبع جثث غير بالية على هيئة الرومانيين يظن أنهم الفتية أصحاب الكهف.
وربما يذكر بعض كهوف أخر منسوب إلى أصحاب الكهف كما يذكر أن بالقرب من بلدة نخجوان من بلاد قفقاز كهفاً يعتقد أهل تلك النواحي أنه كهف أصحاب الكهف وكان الناس يقصدونه ويزورونه.
ولا شاهد يشهد على كون شيء من هذه الكهوف هو الكهف المذكور في القرآن الكريم. على أن المصادر التاريخية تكذب الأخيرين إذ القصة على أي حال قصة رومانية، وسلطتهم حتى في أيام مجدهم وسؤددهم لم تبلغ هذه النواحي نواحي أوروبة الشمالية وقفقاز.