التفاسير

< >
عرض

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً
١٠٣
ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً
١٠٤
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَزْناً
١٠٥
ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً
١٠٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً
١٠٧
خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً
١٠٨
-الكهف

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات الست في منزلة الاستنتاج مما تقدم من آيات السورة الشارحه لافتتان المشركين بزينة الحياة الدنيا واطمئنانهم بأولياء من دون الله وابتلائهم بما ابتلوا به من غشاوة الأبصار ووقر الآذان وما يتعقب ذلك من سوء العاقبة، وتمهيد لما سيأتي من قوله في آخر السورة: { قل إنما أنا بشر مثلكم } الآية.
قوله تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً } ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين وهو مسوق سوق الكناية وهم المعنيون بالتوصيف وسيقترب من التصريح في قوله: { أُولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } فالمنكرون للنبوة والمعاد هم المشركون.
قيل: ولم يقل: بالأخسرين عملاً، مع أن الأصل في التمييز أن يأتي مفرداً والمصدر شامل للقليل والكثير للإِيذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها.
قوله تعالى: { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } إنباء بالأخسرين أعمالاً وهم الذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبئهم بهم ويعرفهم إياهم فعرفهم بأنهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وضلال السعي خسران ثم عقبه بقوله: { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } وبذلك تم كونهم أخسرين.
بيان ذلك: أن الخسران والخسار في المكاسب والمساعي المأخوذة لغاية الاسترباح إنما يتحقق إذا لم يصب الكسب والسعي غرضه وانتهى إلى نقص في رأس المال أو ضيعة السعي وهو المعبر عنه في الآية بضلال السعي كأنه ضل الطريق فانتهى به السير إلى خلاف غرضه. والإِنسان ربما يخسر في كسبه وسعيه لعدم تدرب في العمل أو جهل بالطريق أو لعوامل أُخر اتفاقيه وهي خسران يرجى زواله فإن من المرجو أن يتنبه به صاحبه ثم يستأنف العمل فيتدارك ما ضاع منه ويقضي ما فات، وربما يخسر وهو يذعن بأنه يربح، ويتضرر وهو يعتقد أن ينتفع لا يرى غير ذلك وهو أشد الخسران لا رجاء لزواله.
ثم الإِنسان في حياته الدنيا لا شأن له إلا السعي لسعادته ولا همّ له فيما وراء ذلك فإن ركب طريق الحق وأصاب الغرض وهو حق السعادة فهو، وإن أخطأ الطريق وهو لا يعلم بخطإه فهو خاسر سعياً لكنه مرجو النجاة، وإن أخطأ الطريق وأصاب غير الحق وسكن إليه فصار كلما لاح له لائح من الحق ضربت عليه نفسه بحجاب الإعراض وزينت له ما هو فيه من الاستكبار وعصبية الجاهلية فهو أخسر عملاً وأخيب سعياً لأنه خسران لا يرجى زواله ولا مطمع في أن يتبدل يوماً سعادة وهو قوله تعالى في تفسير الأخسرين أعمالاً: { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً }.
وحسبانهم عملهم حسناً مع ظهور الحق وتبين بطلان أعمالهم لهم إنما هو من جهة انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا وزخارفها وانغمارهم في الشهوات فيحبسهم ذلك عن الميل إلى اتباع الحق والإِصغاء إلى داعي الحق ومنادي الفطرة قال تعالى:
{ { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [النمل: 14] وقال: { { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإِثم } [البقرة: 206] فاتباعهم هوى أنفسهم ومضيهم على ما هم عليه من الإِعراض عن الحق عناداً واستكباراً والانغمار في شهوات النفس ليس إلا رضى منهم بما هم عليه واستحساناً منهم لصنعهم.
قوله تعالى: { أُولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } تعريف ثان وتفسير بعد تفسير للأخسرين أعمالاً، والمراد بالآيات - على ما يقتضيه إطلاق الكلمة - آياته تعالى في الآفاق والأنفس وما يأتي به الأنبياء والرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم فالكفر بالآيات كفر بالنبوة، على أن النبي نفسه من الآيات، والمراد بلقاء الله الرجوع إليه وهو المعاد.
فآل تعريف الأخسرين أعمالاً إلى أنهم المنكرون للنبوة والمعاد وهذا من خواص الوثنيين.
قوله تعالى: { فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } وجه حبط أعمالهم أنهم لا يعملون عملاً لوجه الله ولا يريدون ثواب الدار الآخرة وسعادة حياتها ولا أن الباعث لهم على العمل ذكر يوم الحساب وقد مر كلام في الحبط في مباحث الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
وقوله: { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } تفريع على حبط أعمالهم والوزن يوم القيامة بثقل الحسنات على ما يدل عليه قوله تعالى:
{ { والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } [الأعراف: 8-9]، وإذ لا حسنة للحبط فلا ثقل فلا وزن.
قوله تعالى: { ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً } الإِشارة إلى ما أورده من وصفهم، واسم الإِشارة خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: الأمر ذلك أي حالهم ما وصفناه وهو تأكيد وقوله: { جزاؤهم جهنم } كلام مستأنف ينبئ عن عاقبه أمرهم. وقوله: { بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزواً } في معنى بما كفروا وازدادوا كفراً باستهزاء آياتي ورسلي.
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً } الفردوس يذكر ويؤنث قيل: هي البستان بالرومية، وقيل: الكرم بالنبطية وأصله فرداساً، وقيل: جنة الأعناب بالسريانية، وقيل الجنة بالحبشية، وقيل: عربية وهي الجنة الملتفة بالأشجار والغالب عليه الكرم.
وقد استفاد بعضهم من عده جنات الفردوس نزلاً وقد عد سابقاً جهنم للكافرين نزلاً أن وراء الجنة والنار من الثواب والعقاب ما لم يوصف وربما أيده أمثال قوله تعالى:
{ { لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد } [ق: 35] وقوله: { { فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين } [السجدة: 17]، وقوله: { وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون }.
قوله تعالى: { خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً } البغي الطلب، والحول التحول، والباقي ظاهر.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: سمعت علي بن أبي طالب وسأله ابن الكوا فقال: من { هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً }؟ قال: فجرة قريش.
وفي تفسير العياشي عن إمام بن ربعي قال: قام ابن الكوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرني عن قول الله: { قل هل ننبئكم } إلى قوله { صنعاً } قال: أُولئك أهل الكتاب كفروا بربهم، وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد.
أقول: وروي أنهم النصاري، القمي عن أبي جعفر عليه السلام والطبرسي في الاحتجاج عن علي عليه السلام أنهم أهل الكتاب وفي الدر المنثور عن ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي خميصة عبد الله بن قيس عن علي عليه السلام أنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري.
والروايات جميعاً من قبيل الجري، والآيتان واقعتان في سياق متصل وجه الكلام فيه مع المشركين، والآية الثالثة { أُولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } الآية وهي تفسير الثانية أوضح انطباقاً على الوثنيين منها على غيرهم كما مر فما عن القمي في تفسيره في ذيل الآية أنها نزلت في اليهود وجرت في الخوارج ليس بصواب.
في تفسير البرهان عن محمد بن العباس بإسناده عن الحارث عن علي عليه السلام قال: لكل شيء ذروة وذروة الجنة الفردوس، وهي لمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة"
]. وفي المجمع روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الجنة مائه درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس"
]. أقول: وفي هذا المعنى روايات أُخر.
وفي تفسير القمي عن جعفر بن أحمد عن عبيد الله بن موسى عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: قلت قوله: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً } قال: نزلت في أبي ذر وسلمان والمقداد وعمار بن ياسر جعل الله لهم جنات الفردوس نزلاً أي مأوى ومنزلاً.
أقول: وينبغي أن يحمل على الجري أو المراد نزولها في المؤمنين حقاً وإنما ذكر الأربعة لكونهم من أوضح المصاديق وإلا فالسورة مكية وسلمان رضي الله عنه ممن آمن بالمدينة. على أن سند الحديث لا يخلو عن وهن.