التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً
١٦
فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً
١٧
قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً
١٨
قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً
١٩
قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً
٢٠
قَالَ كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً
٢١
فَحَمَلَتْهُ فَٱنْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً
٢٢
فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ قَالَتْ يٰلَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً
٢٣
فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً
٢٤
وَهُزِّىۤ إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً
٢٥
فَكُلِي وَٱشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلبَشَرِ أَحَداً فَقُولِيۤ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً
٢٦
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يٰمَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً
٢٧
يٰأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً
٢٨
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً
٢٩
قَالَ إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً
٣٠
وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً
٣١
وَبَرّاً بِوَٰلِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً
٣٢
وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً
٣٣
ذٰلِكَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ ٱلْحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ
٣٤
مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
٣٥
وَإِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٣٦
فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٣٧
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَـٰكِنِ ٱلظَّالِمُونَ ٱلْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٨
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ ٱلأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٣٩
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
٤٠
-مريم

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
انتقال من قصة يحيى إلى قصة عيسى عليهما السلام وبين القصتين شبهٌ تام فولادتهما على خرق العادة، وقد أوتي عيسى الرشد والنبوة وهو صبي كيحيى، وقد أخبر أنه برّ بوالدته وليس بجبار شقي وأن السلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يُبعث حياً كما أخبر الله عن يحيى عليه السلام بذلك إلى غير ذلك من وجوه الشبه وقد صدق يحيى بعيسى وآمن به.
قوله تعالى: { واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } المراد بالكتاب القرآن أو السورة فهي جزء من الكتاب وجزء الكتاب كتاب والاحتمالان من حيث المآل واحد فلا كثير جدوى في اصرار بعضهم على تقديم الاحتمال الثاني وتعيينه.
والنبذ - على ما ذكره الراغب - طرح الشيء الحقير الذي لا يعبأ به يقال نبذه إذا طرحه مستحقراً له غير معتن به، والانتباذ الاعتزال من الناس والانفراد.
ومريم هي ابنة عمران أُمُّ المسيح عليهما السلام، والمراد بمريم نبأ مريم وقوله: { إذا } ظرف له، وقوله: { انتبذت } إلى آخر القصة تفصيل المظروف الذي هو نبأ مريم، والمعنى واذكر يا محمد في هذا الكتاب نبأ مريم حين اعتزلت من أهلها في مكان شرقي، وكأنه شرقي المسجد.
قوله تعالى: { فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً } الحجاب ما يحجب الشيء ويستره عن غيره، وكأنها اتخذت الحجاب من دون أهلها لتنقطع عنهم وتعتكف للعبادة كما يشير إليه قوله:
{ { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً } [آل عمران: 37] وقد مر الكلام في تفسير الآية.
وقيل: إنها كانت تقيم في المسجد حتى إذا حاضت خرجت منه وأقامت في بيت زكريا حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مشرفة لها في ناحيه الدار وقد ضربت بينها وبين أهلها حجاباً لتغتسل إذ دخل عليها جبرائيل في صورة شاب أمرد سويّ الخلق فاستعاذت بالله منه.
وفيه أنه لا دليل على هذا التفصيل من جهة اللفظ، وقد عرفت أن آية آل عمران لا تخلو من تأييد للمعنى السابق.
وقوله: { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً } ظاهر السياق أن فاعل { تمثّل } ضمير عائد إلى الروح فالروح المرسل إليها هو المتمثل لها بشراً سويّاً ومعنى تمثّله لها بشراً ترائيه لها، وظهوره في حاستها في صورة البشر وهو في نفسه روح وليس ببشر.
وإذ لم يكن بشراً وليس من الجن فقد كان ملكاً بمعنى الخلق الثالث الذي وصفه الله سبحانه في كتابه وسمّاه ملكاً، وقد ذكر سبحانه ملك الوحي في كلامه وسماه جبريل بقوله:
{ { من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك } [البقرة: 97] وسماه روحاً في قوله: { { قل نزله روح القدس من ربك } [النحل: 102] وقوله: { { نزل به الروح الأمين على قلبك } [الشعراء: 193] وسمّاه رسولاً في قوله: { { إنه لقول رسول كريم } [التكوير: 19]، فبهذا كله يتأيد أن الروح الذي أرسله الله إليها إنما هو جبريل.
وأما قوله:
{ { إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشّرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم } [آل عمران: 45] إلى أن قال { { قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [آل عمران: 47]. فتطبيقه على الآيات التى نحن فيها لا يدع ريباً في أن قول الملائكة لمريم ومحاورتهم معها المذكور هناك هو قول الروح لها المذكور ها هنا، ونسبة قول جبريل إلى الملائكة من قبيل نسبة قول الواحد من القوم إلى جماعتهم لاشتراكهم معه في خلق أو سنّة أو عادة، وفي القرآن منه شيء كثير كقوله تعالى: { { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [المنافقون: 8]، والقائل واحد. وقوله: { { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } [الأنفال: 32]، والقائل واحد.
وإضافة الروح إليه تعالى للتشريف مع إشعار بالتعظيم، وقد تقدم كلام في معنى الروح في تفسير قوله تعالى:
{ { ويسألونك عن الروح } [الإسراء: 85]. ومن التفسير الرديّ قول بعضهم إن المراد بالروح في الآية عيسى عليه السلام وضمير تمثل عائد على جبريل. وهو كما ترى.
ومن القراءة الردية قراءة بعضهم { روحنّا } بتشديد النون على أن روحنّا اسم الملك الذي أُرسل إلى مريم، وهو غير جبريل الروح الأمين. وهو أيضاً كما ترى.
(كلام في معنى التمثل)
كثيراً ما ورد ذكر التمثل في الروايات، وأما في الكتاب فلم يرد ذكره إلا في قصة مريم في سورتها قال تعالى: { فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً } الآية 17 من السورة، والآيات التالية التي يعرِّف فيها جبريل نفسه لمريم خير شاهد أنه كان حال تمثله لها في صورة بشر باقياً على ملكيته ولم يصر بذلك بشراً، وإنما ظهر في صورة بشر وليس ببشر بل ملك وإنما كانت مريم تراها في صورة بشر.
فمعنى تمثله لها كذلك ظهوره لها في صورة بشر وليس عليها في نفسه بمعنى أنه كان في ظرف إدراكها على صورة بشر وهو في الخارج عن إدراكها على خلاف ذلك.
وهذا هو الذي ينطبق على معنى التمثل اللغوي فإن معنى تمثل شيء لشيء في صورة كذا هو تصوره عنده بصورته وهو هو لا صيرورة الشيء شيئاً آخر فتمثل الملك بشراً هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإِنسان لا صيرورة الملك إنساناً، ولو كان التمثل واقعاً في نفسه وفي الخارج عن ظرف الإِدراك كان من قبيل صيرورة الشيء شيئاً آخر وانقلابه إليه لا بمعنى ظهوره له كذلك.
واستشكل أمر هذا التمثل بأُمور مذكورة في التفسير الكبير وغيره.
أحدها: أن جبريل شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإِنسان فإن تساقطت أجزاؤه الزائدة على مقدار جثه الإِنسان لزم أن لا يبقى جبريل، وإن لم تتساقط لزم تداخلها وهو محال.
الثاني: أنه لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي بالأمس لاحتمال التمثل.
الثالث: أنه لو جاز التمثل بصورة الإِنسان جاز التمثل بصورة غيره كالبعوض والحشرات وغيرها ومعلوم أن كل مذهب يجرّ إلى ذلك فهو باطل.
الرابع: أنه لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل هو المتمثل به.
وأُجيب عن الأول: بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة ويتمكن بالأجزاء من أن يتمثل بشراً هذا على القول بأنه جسم وأما على القول بكونه روحانياً فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأُخرى بالهيكل الصغير.
وأنت ترى أن أول الشقين في الجواب كأصل الإِشكال مبني على كون التمثل تغيّراً من المتمثل في نفسه وبطلان صورته الأُولى وانتقاله إلى صورة أُخرى، وقد تقدم أن التمثل ظهوره في صورة ما وهو في نفسه بخلافها.
والآية بسياقها ظاهرة في أن جبريل لم يخرج بالتمثل عن كونه ملكاً ولا صار بشراً في نفسه وإنما ظهر لها في صورة البشر فهو كذلك في ظرف إدراكها لا في نفسه وفي الخارج عن ظرف إدراكها، ونظير ذلك نزول الملائكة الكرام في قصة البشارة بإسحاق وتمثلهم لإِبراهيم ولوط عليهما السلام في صورة البشر، ونظيره ظهور إبليس في صورة سراقة بن مالك يوم بدر، وقد أشار تعالى إليه في سورة الأنفال الآية 48 وقد كان سراقة يومئذ بمكة.
وفي الروايات من ذلك شيء كثير كتمثل إبليس يوم الندوة للمشركين في صورة شيخ كبير، وتمثله يوم العقبة في صورة منبّه بن الحجاج، وتمثله ليحيى عليه السلام في صورة عجيبة، ونظير تمثل الدنيا لعلي عليه السلام في صورة مرأة حسناء فتانة، كما في الرواية، وما ورد من تمثل المال والولد والعمل للإِنسان عند الموت، وما ورد من تمثل الأعمال للإِنسان في القبر ويوم القيامة. ومن هذا القبيل التمثلات المنامية كتمثل العدو في صورة الكلب أو الحية أو العقرب وتمثل الزوج في صورة النعل وتمثل العلاء في صورة الفرس والفخر في صورة التاج إلى غير ذلك.
فالمتمثل في أغلب هذه الموارد - كما ترى - من المعاني التي لا صورة لها في نفسها ولا شكل، ولا يتحقق فيها تغير من صورة إلى صورة ولا من شكل إلى شكل كما عليه بناء الإِشكال والجواب.
وأجيب عن الثاني: بأنه مشترك الورود فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك لجواز أن يخلق تعالى مثل زيد مثلاً وبذلك يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على حذو ما ذكر في الإِشكال، وكذا من لم يعترف بالصانع وأسند الحوادث إلى الأسباب الطبيعية أو الأوضاع السماوية يجوز عنده أن يتحقق من الأسباب ما يستتبع حدوث مثل زيد مثلاً فيعود الإِشكال.
ولعله لما كان مثل هذه الحوادث نادراً لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإِحساس فلا يلزم الشك في كون زيد الذي نشاهده الآن هو زيد الذي شاهدناه أمس.
وأنت خبير بأن هذا الجواب لا يحسم مادة الإِشكال إذ تسليم المغايرة بين الحس والمحسوس كرؤية غير زيد في صورة زيد وإن كانت نادرة يبطل العلم الحسي ولا يبقى إلا أن يدعى أنه إنما يسمى علما لأن ندرة التخلف والخطأ تستوجب غفلة الإِنسان عن الالتفات إلى الشك فيه واحتمال المغايرة بين الحس والمحسوس.
على أنه إذا جازت المغايرة وهي محتملة التحقق في كل مورد لم يكن لنا سبيل إلى العلم بكونها نادرة فمن أين يعلم أن مثل ذلك نادر الوجود؟.
والحق أن الإِشكال و الجواب فاسدان من أصلهما:
أما الإِشكال فهو مبني على أن الذي يناله الحس هو عين المحسوس الخارجي بخارجيته دون الصورة المأخوذة منه ويتفرع على ذلك الغفلة عن معنى كون الأحكام الحسية بديهية والغفلة عن أن تحميل حكم الحس على المحسوس الخارجي إنما هو بالفكر والنظر لا بنفس الحس.
فالذي يناله الحس من العين الخارجي شيء من كيفياته وهيآته يشابهه في الجملة لا نفس الشيء الخارجي ثم التجربة والنظر يعرّفان حاله في نفسه والدليل على ذلك أقسام المغايرة بين الحس والمحسوس الخارجي وهي المسماة بأغلاط الحس كمشاهدة الكبير صغيراً والعالي سافلاً والمستقيم مائلاً والمتحرك ساكناً وعكس ذلك باختلاف المناظر وكذلك حكم سائر الحواس كما نرى الفرد من الإِنسان مثلاً مع بعد المسافة أصغر ما يمكن ونحكم بتكرر الحس وبالتجربة أنه إنسان يماثلنا في عظم الجثة، ونشاهد الشمس قدر صحفة وهي تدور حول الأرض ثم البراهين الرياضية تسوقنا إلى أنها أكبر من الأرض كذا وكذا مرة وأن الأرض هي التي تدور حول الشمس.
فتبين أن المحسوس لنا بالحقيقة هي الصورة التي في ظرف حسّنا دون الأمر الخارجي بخارجيته، ثم إنا لا نرتاب في أن الذي أحسسناه وهو في حسنا قد أحسسناه وهذا معنى بداهة الحس، وأما المحسوس وهو الذي في الخارج عنا وعن حسّنا فالحكم الذي نحكم به عليه إنما هو ناشئ عن فكرنا ونظرنا وهذا ما قلناه أن الذي نعتقده من حال الشيء الخارجي حكم ناشئ عن الفكر والنظر دون الحس هذا. وقد بيّن في العلوم الباحثة عن الحس والمحسوس أن لجهازات الحواس أنواعاً من التصرف في المحسوس.
ثم إن من الضروري عندنا أن في الخارج من إدراكنا سبباً تتأثر عنه نفوسنا فتدرك ما تدرك، وهذا السبب ربما كان خارجياً كالأجسام التي ترتبط بكيفياتها وأشكالها بنفوسنا من طريق الحواس فندرك بالحس صوراً منها ثم نحصّل بتجربة أو فكر شيئاً من أمرها في نفسها، وربما كان داخلياً كالخوف الشديد الطارئ على الإِنسان فجأة يصوّر له صوراً هائلة مهيبة على حسب ما عنده من الأوهام والخواطر المؤلمة.
وفي جميع هذه الأحوال ربما أصاب الإِنسان في تشخيصه حال المحسوس الخارجي وهو الأغلب وربما أخطأ كمن يرى سراباً فيقدّر أنه ماء أو أشباحٌ فيحسب أنها أشخاص.
فقد تبين من جميع ما تقدم أن المغايرة بين الحس والمحسوس الخارجي في نفسه - على كونها مما لا بد منه في الجملة - لا تستدعي ارتفاع الوثوق وبطلان الاعتماد على الحس فإن الأمر في ذلك يدور مدار ما حصّله الإِنسان من تجربة أو نظر أو غير ذلك وأصدقها ما صدّقته التجربة.
وأما وجه فساد الجواب فبناؤه على تسليم ما تسلمه في الأشكال من نيل الحس نفس المحسوس الخارجي بعينه، وأن العلم بالمحسوس في نفسه مستند إلى الحس نفسه مع التخلف نادراً.
وأُجيب عن الإِشكال الثالث بأن أصل تجويز تصور الملك بصور سائر الحيوان غير الإِنسان قائم في الأصل، وإنما عرف فساده بدلائل السمع.
وفيه أنه لا دليل من جهة السمع يعتدّ به نعم يرد على أصل الإِشكال أن المراد بالإِمكان إن كان هو الإِمكان المقابل للضرورة والامتناع فمن البيّن أن تمثّل الملك بصورة الإِنسان لا يستلزم إمكان تمثله بصورة غيره من الحيوان، وإن كان هو الإِمكان بمعنى الاحتمال العقلي فلا محذور في الاحتمال حتى يقوم الدليل على نفيه أو إثباته.
وأُجيب عن الإِشكال الرابع بمثل ما أُجيب به عن الثالث فإن احتمال التخلف قائم في المتواتر لكن دلائل السمع تدفعه. وفيه أن نظير الاحتمال قائم في نفس دليل السمع، فإن الطريق إليه حاسة السمع والجواب الصحيح عن هذا الإِشكال هو الذي أوردناه جواباً عن الإِشكال الثاني. والله أعلم.
فظهر مما قدمناه أن التمثل هو ظهور الشيء للإِنسان بصورة يألفها الإِنسان وتناسب الغرض الذي لأجله الظهور كظهور جبريل لمريم في صورة بشر سويّ لما أن المعهود عند الإِنسان من الرسالة أن يتحمل إنسان الرسالة ثم يأتي المرسل إليه ويلقي إليه ما تحمّله من الرسالة من طريق التكلم والتخاطب، وكظهور الدنيا لعلي عليه السلام في صورة امرأة حسناء لتغرّها لما أن الفتاة الفائقة في جمالها هي في باب الأهواء واللذائذ النفسانية أقوى سبب يتوسل به للأخذ بمجامع القلب والغلبة على العقل إلى غير ذلك من الأمثلة الواردة.
فإن قلت: لازم ذلك القول بالسفسطة فإن الإِدراك الذي ليست وراءه حقيقة تطابقه من جميع الجهات ليس إلا وهماً سرابياً وخيالاً باطلاً ورجوعه إلى السفسطة.
قلت: فرق بين أن يكون هناك حقيقة يظهر للمدرك بما يألفه من الصور وتحتمله أدوات إدراكه وبين أن لا يكون هناك إلا صورة إدراكية ليس وراءها شيء، والسفسطة هي الثاني دون الأول وتوخي أزيد من ذلك في باب العلم الحصولي طمع فيما لا مطمع فيه وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محله. والله الهادي.
قوله تعالى: { قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً } ابتدرت إلى تكليمه لما أدهشها حضوره عندها وهي تحسب أنه بشر هجم عليها لأمر يسوؤها واستعاذت بالرحمن استدراراً للرحمة العامة الإِلهية التي هي غايه آمال المنقطعين إليه من أهل القنوت.
واشتراطها بقولها: { إن كنت تقياً } من قبيل الاشتراط بوصف يدّعيه المخاطب لنفسه أو هو محقق فيه ليفيد إطلاق الحكم المشروط وعليّة الوصف للحكم، والتقوى وصف جميل يشق على الإِنسان أن ينفيه عن نفسه ويعترف بفقده فيؤول المعنى إلى مثل قولنا: إني أعوذ وأعتصم بالرحمن منك إن كنت تقياً ومن الواجب أن تكون تقياً فليردعك تقواك عن أن تتعرض بي وتقصدني بسوء.
فالآية من قبيل خطاب المؤمنين بمثل قوله تعالى:
{ { واتقوا الله إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 112]، وقوله: { { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } [المائدة: 23]. وربما احتمل في قوله: { إن كنت } أن تكون إن نافية والمعنى ما كنت تقياً إذ هتكت عليَّ ستري ودخلت بغير إذني. وأول الوجهين أوفق بالسياق. والقول بأن التقي اسم رجل طالح أو صالح لا يعبأ به.
قوله تعالى: { قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } جواب الروح لمريم وقد صدر الكلام بالقصر ليفيد أنه ليس ببشر كما حسبته فيزول بذلك روعها ثم يطيب نفسها بالبشرى، والزكي هو النامي نمواً صالحاً والنابت نباتاً حسناً.
ومن لطيف التوافق في هذه القصص الموردة في السورة أنه تعالى ذكّر زكريا وأنه وهب له يحيى، وذكر مريم وأنه وهب لها عيسى، وذكر إبراهيم وأنه وهب له إسحاق ويعقوب، وذكر موسى وأنه وهب له هارون عليه السلام.
قوله تعالى: { قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً } مسّ البشر بقرينة مقابلته للبغي وهو الزنا كناية عن النكاح وهو في نفسه أعم ولذا أكتفى في القصة من سورة آل عمران بقوله: { ولم يمسسني بشر } والاستفهام للتعجب أي كيف يكون لي ولد ولم يخالطني قبل هذا الحين رجل لا من طريق الحلال بالنكاح ولا من طريق الحرام بالزنا.
والسياق يشهد أنها فهمت من قوله: { لأهب لك غلاماً } الخ، أنه سيهبه حالاً ولذا قالت: { ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً } فنفت النكاح والزنا في الماضي.
قوله تعالى: { قال كذلك قال ربك هو عليّ هيّن } الخ، أي قال الروح الأمر كذلك أي كما وصفته لك ثم قال: { قال ربك هو عليَّ هيّن }، وقد تقدم في قصة زكريا ويحيى عليهما السلام توضيح ما للجملتين.
وقوله: { ولنجعله آية للناس ورحمة منا } ذكر بعض ما هو الغرض من خلق المسيح على هذا النهج الخارق، وهو معطوف على مقدّر أي خلقناه بنفخ الروح من غير أب لكذا وكذا ولنجعله آية للناس بخلقته ورحمة منا برسالته والآيات الجارية على يده وحذف بعض الغرض وعطف بعضه المذكور عليه كثير في القرآن كقوله تعالى:
{ { وليكون من الموقنين } [الأنعام: 75]، وفي هذه الصنعة إيهام أن الأغراض الإِلهية أعظم من أن يحيط بها فهم أو يفي بتمامها لفظ.
وقوله: { وكان أمراً مقضياً } إشارة إلى تحتم القضاء في أمر هذا الغلام الزكي فلا يُردّ بإباء أو دعاء.
قوله تعالى: { فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً } القصي البعيد أي حملت بالولد فانفردت واعتزلت به مكاناً بعيداً من أهله.
قوله تعالى: { فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة } إلى آخر الآية، الإِجاءة إفعال من جاء يُقال: أجاءه وجاء به بمعنى وهو في الآية كناية عن الدفع والإِلجاء، والمخاض والطلق وجع الولادة، وجذع النخلة ساقها، والنسي بفتح النون وكسرها كالوتر والوتر هو الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى، والمعنى - أنها لما اعتزلت من قومها في مكان بعيد منهم - دفعها وألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها - والتعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرّة - وقالت استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً وشيئاً لا يعبأ به منسياً لا يذكر فلم يقع فيه الناس كما سيقع الناس فيَّ.
قوله تعالى: { فناداها من تحتها أن لا تحزني } إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ضمير الفاعل في { ناداها } لعيسى عليه السلام لا للروح السابق الذكر، ويؤيده تقييده بقوله: { من تحتها } فإن هذا القيد أنسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك المنادي مع من يناديه، ويؤيده أيضاً احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى عليه السلام.
وقيل: الضمير للروح وأُصلح كون الروح تحتها بأنها كانت حين الوضع في أكمة وكان الروح واقفاً تحت الأكمة فناداها من تحتها، ولا دليل على شيء من ذلك من جهة اللفظ.
ولا يبعد أن يستفاد من ترتب قوله: { فناداها } على قوله: { قالت يا ليتني } الخ، إنها إنما قالت هذه الكلمة حين الوضع أو بعده فعقّبها عليه السلام بقوله: لا تحزني، الخ.
وقوله: { ألاَّ تحزني } تسلية لها لما أصابها من الحزن والغمّ الشديد لا مصيبة هي أمرّ وأشقّ على المرأة الزاهدة المتنسّكة وخاصة إذا كانت عذراء بتولاً من أن تتهم في عرضها وخاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفّة والنزاهة في حاضر حاله وسابق عهده وخاصة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها وكانت الحجَّة للخصم عليها، ولذا أشار أن لا تتكلم مع أحد وتكفّل هو الدفاع عنها وتلك حجة لا يدفعها دافع.
وقوله: { قد جعل ربك تحتك سريّاً } السريّ جدول الماء، والسريّ هو الشريف الرفيع، والمعنى الأول هو الأنسب للسياق، ومن القرينة عليه قوله بعد: { فكلي واشربي } كما لا يخفى.
وقيل: المراد هو المعنى الثاني ومصداقه عيسى عليه السلام، وقد عرفت أن السياق لا يساعد عليه، وعلى أي تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم عليها السلام.
وقوله: { وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنّياً } الهز هو التحريك الشديد، ونقل عن الفرّاء أن العرب تقول: هزَّه وهزَّ به، والمساقطة هي الإِسقاط، وضمير { تساقط } للنخلة، ونسبة الهز إلى الجذع والمساقطة إلى النخلة لا تخلو من إشعار بأن النخلة كانت يابسة وإنما اخضرَّت وأورقت وأثمرت رطباً جنيّاً لساعتها، والرطب هو نضيج البسر، والجنيّ هو المجني وذكر في القاموس - على ما نقل - أن الجني إنما يقال لما جني من ساعته.
قوله تعالى: { فكلي واشربي وقرّي عيناً } قرار العين كناية عن المسرّة يقال: أقرّ الله عليك أي سرَّك، والمعنى فكلي من الرطب الجني الذي تسقط واشربي من السريّ الذي تحتك وكوني على مسرَّة من غير أن تحزني، والتمتع بالأكل والشرب من أمارات السرور والابتهاج فإن المصاب في شغل من التمتع بلذيذ الطعام ومريء الشراب ومصيبته شاغلة، والمعنى: فكلي من الرطب الجنيّ واشربي من السريّ وكوني على مسرَّة - مما حباك الله به - من غير أن تحزني، وأما ما تخافين من تهمة الناس ومساءلتهم فالزمي السكوت ولا تكلمي أحداً فأنا أكفيكهم.
قوله تعالى: { فإما ترينَّ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أُكلم اليوم إنسياً } المراد بالصوم صوم الصمت كما يدلُ عليه التفريع الذي في قوله: { فلن أُكلم اليوم إنسياً } وكذا يستفاد من السياق أنه كان أمراً مسنوناً في ذلك الوقت ولذا أُرسل عذراً إرسال المسلم، والإِنسي منسوب إلى الإِنس مقابل الجن والمراد به الفرد من الإِنسان.
وقوله: { فإما ترينَّ } الخ، ما زائدة والأصل إن تري بشراً فقولي الخ، والمعنى: إن تري بشراً وكلمك أو سألك عن شأن الولد فقولي الخ، والمراد بالقول التفهيم بالإِشارة فربما يسمى التفهيم بالإِشارة قولاً، وعن الفرّاء أن العرب تسمّي كل ما وصل إلى الإِنسان كلاماً بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أُكِّد لم يكن إلا حقيقة الكلام.
وليس ببعيد أن يستفاد من قوله: { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } بمعونة السياق أنه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها وتنذره لله على نفسها فلا يكون إخباراً بما لا حقيقة له.
وقوله: { فإما ترينَّ } الخ، على أي حال متفرع على قوله: { وقرّي عيناً } والمراد لا تكلمي بشراً ولا تجيبي أحداً سألك عن شأني بل ردي الأمر إلي فأنا أكفيك جواب سؤالهم وأدافع خصامهم.
قوله تعالى: { فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم أنى لك هذا لقد جئت شيئاً فريّاً } الضميران في { به } و { تحمله } لعيسى، والاستفهام إنكاري حملهم عليه ما شاهدوه من عجيب أمرها مع ما لها من سابقة الزهد والاحتجاب وكانت ابنة عمران ومن آل هارون القديس، والفري هو العظيم البديع وقيل: هو من الافتراء بمعنى الكذب كناية عن القبيح المنكر والآية التالية تؤيّد المعنى الأول، ومعنى الآية واضح.
قوله تعالى: { يا أُخت هارون ما كان أبوك امرء سوء وما كانت أُمك بغيّاً } ذكر في المجمع أن في المراد من هارون أربعة أقوال:
أحدها: أنه كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل ينسب إليه كل صالح، وعلى هذا فالمراد بالاخوة الشباهة ومعنى { يا أخت هارون } يا شبيهة هارون.
والثاني: أنه كان أخاها لأبيها لا من أُمها.
والثالث: أن المراد به هارون أخو موسى الكليم وعلى هذا فالمراد بالأخوة الانتساب كما يقال: أخو تميم.
والرابع: أنه كان رجلاً معروفاً بالعهر والفساد انتهى ملخّصاً والبغي الزانية، ومعنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: { فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيّاً } إشارتها إليه إرجاع لهم إليه حتى يجيبهم ويكشف لهم عن حقيقة الأمر وهو جري منها على ما أمرها به حينما ولد بقوله: { فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً } على ما تقدم البحث عنه.
والمهد السرير الذي يهيأُ للصبي فيوضع فيه وينوّم عليه، وقيل: المراد بالمهد في الآية حجر أُمه، وقيل المرباة أي المرجحة، وقيل المكان الذي استقر عليه كل ذلك لأنها لم تكن هيأت له مهداً، والحق أن الآية ظاهرة في ذلك ولا دليل على أنها لم تكن هيأت وقتئذ له مهداً فلعل الناس هجموا عليها وكلموها بعدما رجعت إلى بيتها واستقرت فيه وهيأت له مهداً أو مرجحة وتسمى أيضاً مهداً.
وقد استشكلت الآية بأن الإِتيان بلفظة كان مخل بالمعنى فإن ما يقتضيه المقام هو أن يستغربوا تكليم من هو في المهد صبي لا تكليم من كان في المهد صبيّاً قبل ذلك فكل من يكلمه الناس من رجل أو امرأة كان في المهد صبيّاً قبل التكليم بحين ولا استغراب فيه.
وأُجيب عنه أولاً: أن الزمان الماضي منه بعيد ومنه قريب يلي الحال وإنما يفسد المعنى لو كان مدلول كان في الآية هو الماضي البعيد، وأما لو كان هو القريب المتصل بالحال وهو زمان التكليم فلا محذور فساد فيه. والوجه للزمخشري في الكشاف.
وفيه أنه وإن دفع الإِشكال غير أنه لا ينطبق على نحو إنكارهم فإنهم إنما كانوا ينكرون تكليمه وتكلمه من جهة أنه صبي في المهد بالفعل لا من جهة أنه كان قبل زمان يسير صبيّاً في المهد فيكون { كان } زائداً مستدركاً.
وأُجيب عنه ثانياً: بأن قوله: { كيف نكلم } لحكاية الحال الماضية و { من } موصولة والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي لم نكلمهم إلى الآن حتى نكلم هذا. وهذا الوجه أيضاً للزمخشري في الكشاف.
وفيه أنه وإن استحسنه غير واحد لكنه معنى بعيد عن الفهم!.
وأُجيب عنه ثالثاً: أن كان زائد للتأكيد من غير دلالة على الزمان، و { من في المهد } مبتدأ وخبر، وصبياً حال مؤكدة.
وفيه أنه لا دليل عليه، على أنه زيادة موجبة للالتباس من غير ضرورة على أنه قيل: إنّ { كان } الزائدة تدل على الزمان وإن لم تدل على الحدث.
وأُجيب عنه رابعاً: بأن { من } في الآية شرطية و { كان في المهد صبياً } شرطها وقوله: { كيف نكلم } في محل الجزاء والمعنى من كان في المهد صبياً لا يمكن تكليمه والماضي في الجملة الشرطية بمعنى المستقبل فلا إشكال.
وفيه أنه تكلف ظاهر.
ويمكن أن يقال: إن { كان } منعزلة عن الدلالة على الزمان لما في الكلام من معنى الشرط والجزاء فإنه في معنى من كان صبياً لا يمكن تكليمه أو أن كان جيء بها للدلالة على ثبوت الوصف لموصوفة ثبوتاً يقضى مضيّه عليه وتحققه فيه ولزومه له كقوله تعالى:
{ { قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً } [الإسراء: 93] أي إن البشرية والرسالة تحققا فيَّ فلا يسعني ما لا يسع البشر الرسول: وقوله تعالى: { { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لولِّيه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً } [الإسراء: 33] أي إن النصرة لازمة له بجعلنا لزوم الوصف الماضي لموصوفه ويكون المعنى كيف نكلم صبياً في المهد ممعناً في صباه من شأنه أنه لبث وسيلبث في صباه برهة من الزمان. والله أعلم.
قوله تعالى: { قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً } شروع منه عليه السلام في الجواب ولم يتعرض لمشكلة الولادة التي كانوا يكرّون بها على مريم عليها السلام لأن نطقه على صباه وهو آية معجزة وما أخبر به من الحقيقة لا يدع ريباً لمرتاب في أمره على أنه سلم في آخر كلامه على نفسه فشهد بذلك على نزاهته وأمنه من كل قذارة وخباثة ومن نزاهته طهارة مولده.
وقد بدأ بقوله: { إني عبد الله } اعترافاً بالعبودية لله ليبطل به غلوّ الغالين وتتمّ الحجة عليهم، كما ختمه بمثل ذلك إذ يقول: { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه }.
وفي قوله: { آتاني الكتاب } إخبار بإعطاء الكتاب والظاهر أنه الإِنجيل، وفي قوله: { وجعلني نبياً } إعلام بنبوَّته، وقد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب الفرق بين النبوة والرسالة، فقد كان يومئذ نبياً فحسب ثم اختاره الله للرسالة، وظاهر الكلام أنه كان أُوتي الكتاب والنبوة لا أن ذلك إخبار بما سيقع.
قوله تعالى: { وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً } كونه عليه السلام مباركاً أينما كان هو كونه محلاً لكل بركة والبركة نماء الخير كان نفاعا للناس يعلمهم العلم النافع ويدعوهم إلى العمل الصالح ويربيهم تربية زاكية ويبرئ الأكمه والأبرص ويصلح القوي ويعين الضعيف.
وقوله: { وأوصاني بالصلاة والزكاة } الخ، إشارة إلى تشريع الصلاة والزكاة في شريعته، والصلاة هي التوجُّه العبادي الخاص إلى الله سبحانه والزكاة الإِنفاق المالي وهذا هو الذي استقرّ عليه عرف القرآن كلما ذكر الصلاة والزكاة وقارن بينهما وذلك في نيّف وعشرين موضعاً فلا يعتدّ بقول من قال: إن المراد بالزكاة تزكية النفس وتطهيرها دون الإِنفاق المالي.
قوله تعالى: { وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً } أي جعلني حنيناً رؤوفاً بالناس ومن ذلك أني برٌّ بوالدتي ولست جباراً شقياً بالنسبة إلى سائر الناس، والجبار هو الذي يحمّل الناس ولا يتحمّل منهم، ونقل عن ابن عطاء أن الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا ينتصح.
قوله تعالى: { والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبعث حياً } تسليم منه على نفسه في المواطن الثلاثة الكلية التي تستقبله في كونه ووجوده، وقد تقدم توضيحه في آخر قصة يحيى المتقدمة.
نعم بين التسليمتين فرق، فالسلام في قصة يحيى نكرة يدلُّ على النوع، وفي هذه القصة محلّى بلام الجنس يفيد بإطلاقه الاستغراق، وفرق آخر وهو أن المسلّم على يحيى هو الله سبحانه وعلى عيسى هو نفسه.
قوله تعالى: { ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } الظاهر أن هذه الآية والتي تليها معترضتان، والآية الثالثة: { وإن الله ربي وربكم } من تمام قول عيسى عليه السلام.
وقوله: { ذلك عيسى ابن مريم } الإِشارة فيه إلى مجموع ما قصَّ من أمره وشرح من وصفه أي ذلك الذي ذكرنا كيفية ولادته وما وصفه هو للناس من عبوديته وإيتائه الكتاب وجعله نبياً هو عيسى بن مريم.
وقوله: { قول الحق } منصوب بمقدّر أي أقول قول الحق، وقوله: { الذي فيه يمترون } أي يشكُّون أو يتنازعون، وصف لعيسى، والمعنى: ذلك عيسى بن مريم الذي يشكون أو يتنازعون فيه.
وقيل: المراد بقول الحق كلمة الحق وهو عيسى عليه السلام لأن الله سبحانه سمّاه كلمته في قوله:
{ { وكلمته ألقاها إلى مريم } [النساء: 171] وقوله: { { يبشرك بكلمة منه } [آل عمران: 45]، وقوله: { { بكلمة من الله } [آل عمران: 39]، وعليه فقول الحق منصوب على المدح، ويؤيد المعنى الأول قوله تعالى في هذا المعنى في آخر القصة من سورة آل عمران: { { الحق من ربك فلا تكن من الممترين } [آل عمران: 60]. قوله تعالى: { ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } نفي وإبطال لما قالت به النصارى من بنوّة المسيح، وقوله: { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن } حجة أقيمت على ذلك، وقد عبر بلفظ القضاء للدلالة على ملاك الاستحالة.
وذلك أن الولد إنما يراد للاستعانة به في الحوائج، والله سبحانه غني عن ذلك لا تتخلف مراد عن إرادته إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون.
وأيضاً الولد هو أجزاء من وجود الوالد يعزلها ثم يربيها بالتدريج حتى يصير فرداً مثله، والله سبحانه غني عن التوسل في فعله إلى التدريج ولا مثل له بل ما أراده كان كما أراده من غير مهلة وتدريج من غير أن يماثله، وقد تقدم نظير هذا المعنى في تفسير قوله:
{ { وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه[البقرة: 116] في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: { وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } معطوف على قوله: { إني عبد الله } وهو من قول عيسى عليه السلام، ومن الدليل عليه وقوع الآية بعينها في المحكيّ من دعوته قومه في قصته من سورة آل عمران، ونظيره في سورة الزخرف حيث قال:
{ { إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم } [الزخرف: 64-65]. فلا وجه لما احتمله بعضهم أن الآية استئناف وابتداء كلام من الله سبحانه أو أمر منه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: إن الله ربي وربكم "الخ" على أن سياق الآيات أيضاً لا يساعد على شيء من الوجهين فهو من كلام عيسى عليه السلام ختم كلامه بالاعتراف بالمربوبية كما بدأ كلامه بالشهادة على العبودية ليقطع به دابر غلو الغالين في حقة ويتم الحجة عليهم.
قوله تعالى: { فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } الأحزاب جمع حزب وهو الجمع المنقطع في رأيه عن غيره فاختلاف الأحزاب هو قول كل منهم فيه عليه السلام خلاف ما يقوله الآخرون، وإنما قال: { من بينهم } لأن فيهم من ثبت على الحق، وربما قيل { من } زائدة والأصل اختلف الأحزاب بينهم، وهو كما ترى.
والويل كلمة تهديد تفيد تشديد العذاب، والمشهد مصدر ميمي بمعنى الشهود: هذا.
وقد تقدم الكلام في تفصيل قصص المسيح عليه السلام وكليات اختلافات النصارى فيه في الجزء الثالث من الكتاب.
قوله تعالى: { أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } أي ما أسمعهم وأبصرهم بالحق يوم يأتوننا ويرجعون الينا وهو يوم القيامة فيتبين لهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه كما حكى اعترافهم به في قوله:
{ { ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنّا موقنون } [السجدة: 12]. وأما الاستدراك الذي في قوله: { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } فهو لدفع توهم أنهم إذا سمعوا وأبصروا يوم القيامة وانكشف لهم الحق سيهتدون فيسعدون بحصول المعرفة واليقين فاستدرك أنهم لا ينتفعون بذلك ولا يهتدون بل الظالمون اليوم في ضلال مبين لظلمهم.
وذلك أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فلا يواجهون اليوم إلا ما قدموه من العمل وأثره وما اكتسبوه في أمسهم ليومهم وأما أن يستأنفوا يوم القيامة عملاً يتوقعون جزاءه غداً فليس لليوم غد، وبعبارة أُخرى هؤلاء قد رسخت فيهم ملكة الضلال في الدنيا وانقطعوا عن موطن الاختيار بحلول الموت فليس لهم إلا أن يعيشوا مضطرين على ما هيأوا لأنفسهم من الضلال لا معدل عنه فلا ينفعهم انكشاف الحق وظهور الحقيقة.
وذكر بعضهم أن المراد بالآية أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسمع القوم ويبصّرهم ببيان أنهم يوم يحضرون للحساب والجزاء سيكونون في ضلال مبين، وهو وجه سخيف لا ينطبق على الآية البتة.
قوله تعالى: { وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون } ظاهر السياق أن قوله: { إذ قضي الأمر } بيان لقوله: { يوم الحسرة } ففيه إشارة إلى أن الحسرة إنما تأتيهم من ناحية قضاء الأمر والقضاء إنما يوجب الحسرة إذا كان بحيث يفوت به عن المقضي عليه ما فيه قرة عينه وأُمنية نفسه ومخّ سعادته الذي كان يقدّر حصوله لنفسه ولا يرى طيباً للعيش دونه لتعلق قلبه به وتولهه فيه، ومعلوم أن الإِنسان لا يرضى لفوت ما هذا شأنه وإن احتمل في سبيل حفظه أي مكروه إلا أن يصرفه عنه الغفلة فيفرّط في جنبه ولذلك عقب الكلام بقوله: { وهم في غفلة وهم لا يؤمنون }.
فالمعنى - والله أعلم - وخوّفهم يوماً يقضى فيه الأمر فيتحتم عليهم الهلاك الدائم فينقطعون عن سعادتهم الخالدة التي فيها قرة أعينهم فيتحسرون عليها حسرة لا تقدّر بقدر إذ غفلوا في الدنيا فلم يسلكوا الصراط الذي يهديهم ويوصلهم إليها بالاستقامة وهو الإِيمان بالله وحده وتنزيهه عن الولد والشريك.
وفيما قدّمناه كفاية عن تفاريق الوجوه التى أوردوها في تفسير الآية والله الهادي.
قوله تعالى: { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون } قال الراغب في المفردات: الوراثة والإِرث انتقال قنيه إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد وسمّي بذلك المنتقل عن الميت - إلى أن قال - ويقال: ورثت مالاً عن زيد وورثت زيداً. انتهى.
والآية - كأنها - تثبيت ونوع تقريب لقوله في الآية السابقة: { قضي الأمر } فالمعنى وهذا القضاء سهل يسير علينا فإنا نرث الأرض وإياهم وإلينا يرجعون ووراثة الأرض أنهم يتركونها بالموت فيبقى لله تعالى ووراثة من عليها أنهم يموتون فيبقى ما بأيديهم لله سبحانه، وعلى هذا فالجملتان { نرث الأرض ومن عليها } في معنى جملة واحدة نرث عنهم الأرض.
ويمكن أن نحمل الآية على معنى أدق من ذلك وهو أن يراد أن الله سبحانه هو الباقي بعد فناء كل شيء فهو الباقي بعد فناء الأرض يملك عنها ما كانت تملكه من الوجود وآثار الوجود وهو الباقي بعد فناء الإِنسان يملك ما كان يملكه كما قصر الملك لنفسه في قوله:
{ { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [غافر: 16]، وقوله: { { ونرثه ما يقول ويأتينا فرداً } [مريم: 80]. ويرجع معنى هذه الوراثة إلى رجوع الكل وحشرهم إليه تعالى فيكون قوله: { وإلينا يرجعون } عطف تفسير وبمنزلة التعليل للجملة الثانية أو لمجموع الجملتين بتغليب أُولي العقل على غيرهم أو لبروز كل شيء يومئذ أحياء عقلاء.
وهذا الوجه أسلم من شبهة التكرار اللازم للوجه الأول فإن الكلام عليه نظير أن يقال ورثت مال زيد وزيداً.
واختتام الكلام على قصة عيسى عليه السلام بهذه الآية لا يخلو عن مناسبة فإن وراثته تعالى من الحجج على نفي الولد فإن الولد إنما يراد ليكون وارثاً لوالده فالذي يرث كل شيء في غنى عن الولد.
(بحث روائي)
في المجمع: وروي عن الباقر عليه السلام أنه يعني جبرئيل تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحم وهي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها ومضت مريم على وجهها مستحية من خالتها ومن زكريا، وقيل: كانت مدة حملها تسع ساعات وهذا مروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
أقول: وفي بعض الروايات أن مدة حملها كانت ستة أشهر.
وفي المجمع في قوله تعالى: { قالت يا ليتني مت قبل هذا } الآية وإنما تمنت الموت - إلى أن قال - وروي عن الصادق عليه السلام: لأنها لم ترَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزهها من السوء.
وفيه في قوله تعالى: { قد جعل ربك تحتك سريّاً } قيل: ضرب جبرئيل برجله فظهر ماء عذب وقيل: بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج الطبراني في الصغير وابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: { قد جعل ربك تحتك سريّاً } قال النهر.
أقول: وفي رواية أُخرى فيه عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهر أخرجه الله لها لتشرب منه.
وفي الخصال عن علي عليه السلام من حديث الأربعمائة: ما تأكل الحامل من شيء ولا تتداوى به أفضل من الرطب قال الله تعالى لمريم: { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عيناً }.
أقول: وهذا المعنى مروي في عدة روايات من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن طرق الشيعة عن الباقر عليه السلام.
وفي الكافي بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده. ثم قال: قالت مريم: { إني نذرت للرحمن صوماً } أي صوماً صمتاً - وفي نسخة أي صمتاً - فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضّوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا. الحديث.
وفي كتاب سعد السعود لابن طاوس من كتاب عبد الرحمن بن محمد الأزدي: وحدثني سماك بن حرب عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى نجران فقالوا: ألستم تقرؤن: { يا أُخت هارون } وبينهما كذا وكذا؟ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألا قلت لهم: إنهم كانوا يسمّون بأنبيائهم والصالحين منهم.
أقول: وأورد الحديث في الدر المنثور مفصلاً وفي مجمع البيان مختصراً عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى الحديث أن المراد بهارون في قوله: { يا أُخت هارون } رجل مسمّى باسم هارون النبي أخي موسى عليه السلام، ولا دلالة فيه على كونه من الصالحين كما توهمه بعضهم.
وفي الكافي ومعاني الأخبار عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: { وجعلني مباركاً أينما كنت } قال: نفّاعاً.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن أرباب الكتب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولفظ الحديث قال النبي قول عيسى عليه السلام: { وجعلني مباركاً أينما كنت } قال: جعلني نفاعاً للناس أين اتجهت.
وفي الدر المنثور أخرج ابن عدي وابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: { وجعلني مباركاً أينما كنت } قال: معلماً ومؤدباً.
وفي الكافي بإسناده عن بريد الكناسي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام أكان عيسى ابن مريم حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه؟ فقال: كان يومئذ نبياً حجة لله غير مرسل، أما تسمع لقوله حين قال: { إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً }.
قلت: فكان يومئذ حجة لله على زكريا في تلك الحال وهو في المهد؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية لله ورحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها وكان نبياً على من سمع كلامه في تلك الحال ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان وكان زكريا الحجة لله عز وجل بعد صمت عيسى بسنتين.
ثم مات زكريا فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير أما تسمع لقوله عز وجل: { يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً } فلما بلغ سبع سنين تكلم بالنبوة والرسالة حين أوحى الله إليه، فكان عيسى الحجة على يحيى وعلى الناس أجمعين.
وليس تبقى الأرض يا أبا خالد يوماً واحداً بغير حجة لله على الناس منذ يوم خلق الله آدم عليه السلام وأسكنه الأرض. الحديث.
وفيه بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا عليه السلام قد كنا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول: يهب الله لي غلاماً فقد وهب الله لك فقرّ عيوننا فلا أرانا الله يومك فإن كان كون فإلى من؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام وهو قائم بين يديه: فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين قال: وما يضره من ذلك شيء قد قام عيسى بالحجة وهو ابن ثلاث سنين.
أقول: ويقرب منه ما في بعض آخر من الروايات.
وفيه بإسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أفضل ما يتقرب به العباد إلى ربهم وأحب ذلك إلى الله عز وجل ما هو؟ فقال: ما أعلم شيئاً بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة ألا ترى أن العبد الصالح عيسى بن مريم قال: { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً }.
وفي عيون الأخبار بإسناده عن الصادق عليه السلام في حديث: ومنها عقوق الوالدين لأن الله عز وجل جعل العاقّ جباراً شقياً في قوله حكاية عن عيسى عليه السلام: { وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً }.
أقول: ظاهر الرواية أنه عليه السلام أخذ قوله: { ولم يجعلني جباراً شقياً } عطف تفسير لقوله: { وبراً بوالدتي }.
وفي المجمع وروى مسلم في الصحيح بالإِسناد عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قيل: يا أهل الجنة فيشرفون وينظرون، وقيل: يا أهل النار فيشرفون وينظرون فيجاء بالموت كأنه كبش أملح فيقال لهم: تعرفون الموت؟ فيقولون: هذا هذا وكل قد عرفه. قال: فيقدم فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت. قال: فذلك قوله: { وأنذرهم يوم الحسرة }" الآية.
قال: ورواه أصحابنا عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام ثم جاء في آخره: فيفرح أهل الجنة فرحاً لو كان أحد يومئذ ميتاً لماتوا فرحاً، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً لماتوا.
أقول: وروى هذا المعنى غير مسلم من أرباب الجوامع كالبخاري والترمذي والنسائي والطبري وغيرهم عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن مسعود وابن عباس.
وفي تفسير القمي: وقوله: { إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } قال: كل شيء خلقه الله يرثه الله يوم القيامة.
أقول: وهذا هو المعنى الثاني من معنيي الآية المتقدمة في تفسيرها.