التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
١٢٥
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٢٦
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
١٢٧
رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١٢٨
رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ
١٢٩
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً }، إشارة إلى تشريع الحجّ والأمن في البيت، والمثابة هي المرجع، من ثاب يثوب إذا رجع.
قوله تعالى: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }، كأنه عطف على قوله: { جعلنا البيت مثابة }، بحسب المعنى، فإن قوله: { جعلنا البيت مثابة }، لما كان إشارة إلى التشريع كان المعنى: وإذ قلنا للناس ثوبوا إلى البيت وحجوا إليه، واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي، وربما قيل إن الكلام على تقدير القول، والتقدير: وقلنا اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، والمصلى اسم مكان من الصلاة بمعنى الدعاء أي اتخذوا من مقامه عليه السلام مكاناً للدعاء والظاهر أن قوله: { جعلنا البيت مثابة } إلخ، بمنزلة التوطئة اشير به إلى مناط تشريع الصلاة ولذا لم يقل: وصلوا في مقام إبراهيم، بل قال: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }، فلم يعلق الأمر بالصلاة في المقام، بل علق على اتخاذ المصلى منه.
قوله تعالى: { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا }، العهد هو الأمر والتطهير إما تخليص البيت لعبادة الطائفين والعاكفين والمصلين ونسكهم فيكون من الاستعارة بالكناية، وأصل المعنى: أن خلصا بيتي لعبادة العبّاد، وذلك تطهير وإما تنظيفه من الأقذار والكثافات الطارئة من عدم مبالات الناس، { والركع السجود } جمع راكع وساجد وكان المراد به المصلون.
قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم رب اجعل }، هذا دعاء دعا به إبراهيم يسأل به الأمن على أهل مكة والرزق وقد أُجيبت دعوته، وحاشا لله سبحانه أن ينقل في كلامه دعاء لا يستجيبه ولا يردّه في كلامه الحق فيشتمل كلامه على هجاء لغو لغى به لاغ جاهل، وقد قال تعالى:
{ { والحق أقول } [ص: 84]، وقال تعالى: { { إنه لقول فصل وما هو بالهزل } [الطارق: 13-14]. وقد نقل القرآن العظيم عن هذا النبي الكريم دعوات كثيرة دعا بها، وسألها ربه كدعائه لنفسه في بادئ أمره، ودعائه عند مهاجرته إلى سورية ودعائه ومسألته بقاء الذكر الخير، ودعائه لنفسه وذريته ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، ودعائه لأهل مكة بعد بناء البيت، ودعائه ومسألته بعثة النبي من ذريته، ومن دعواته ومسائله التي تجسم آماله وتشخص مجاهداته ومساعيه في جنب الله وفضائل نفسه المقدسة، وبالجملة تعرف موقعه وزلفاه من الله عزّ اسمه، وسائر قصصه وما مدحه به ربه، يستنبط شرح حياته الشريفة، وسنتعرض للميسور من ذلك في سورة الأنعام.
قوله تعالى: { من آمن منهم }، لما سأل عليه السلام لبلد مكة الأمن، ثم سأل لأهلة أن يرزقوا من الثمرات، استشعر أن الأهل سيكون منهم مؤمنون، وكافرون ودعائه للأهل بالرزق يعم الكافر والمؤمن، وقد تبرأ من الكافرين وما يعبدونه، قال تعالى:
{ { فلما تبيّن له أنه عدو لله تبرء منه } [التوبة: 114]، فشهد تعالى له: بالبرائة والتبري عن كل عدو لله، حتى أبيه، ولذلك لما استشعر ما استشعره من عموم دعوته قيدها بقوله من آمن منهم - وهو يعلم أن رزقهم من الثمرات لا يتم من دون شركة الكافرين، على ما يحكم به ناموس الحياة الدنيوية الاجتماعية - غير أنه خص مسألته - والله أعلم - بما يحكم لسائر عباده، ويريد في حقهم، فأجيب عليه السلام بما يشمل المؤمن والكافر، وفيه بيان أن المستجاب من دعوته ما يجري على حكم العادة وقانون الطبيعة من غير خرق للعادة، وإبطال لظاهر حكم الطبيعة، ولم يقل: وارزق من آمن من أهلة من الثمرات لأن المطلوب استيهاب الكرامة للبلد لكرامة البيت المحرم، ولا ثمرة تحصل في واد غير ذي زرع، وقع فيه البيت، ولولا ذلك لم يعمر البلد، ولا وجد أهلاً يسكنونه.
قوله تعالى: { ومن كفر فامتعه قليلاً }، قرىء فامتعه من باب الإِفعال والتفعيل والامتاع والتمتيع بمعنى واحد.
قوله تعالى: { ثم اضطره إلى عذاب النار } الخ، فيه إشارة إلى مزيد إكرام البيت وتطييب لنفس إبراهيم عليه السلام، كأنه قيل: ما سألته من إكرام البيت برزق المؤمنين من أهل هذا البلد استجبته وزيادة، ولا يغتر الكافر بذلك أن له كرامة على الله، وإنما ذلك إكرام لهذا البلد، وإجابة لدعوتك بأزيد مما سألته، فسوف يضطر إلى عذاب النار، وبئس المصير.
قوله تعالى: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل }، القواعد جمع قاعدة وهي ما قعد من البناء على الأرض، واستقر عليه الباقي، ورفع القواعد من المجاز بِعَدّ ما يوضع عليها منها، ونسبة الرفع المتعلق بالمجموع إلى القواعد وحدها. وفي قوله تعالى: { من البيت } تلميح إلى هذه العناية المجازية.
قوله تعالى: { ربنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم }، دعاء لإِبراهيم وإسماعيل، وليس على تقدير القول، أو ما يشبهه، والمعنى يقولان: { ربنا تقبّل منا } الخ، بل هو في الحقيقة حكاية المقول نفسه، فإن قوله: { يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل }، حكاية الحال الماضية، فهما يمثلان بذلك تمثيلاً كأنهما يشاهدان وهما مشتغلان بالرفع، والسامع يراهما على حالهما ذلك ثم يسمع دعاءهما بألفاظهما من غير وساطة المتكلم المشير إلى موقفهما وعملهما، وهذا كثير في القرآن، وهو من أجمل السياقات القرآنية - وكلها جميل - وفيه من تمثيل القصة وتقريبه إلى الحس ما لا يوجد ولا شيء من نوع بداعته في التقبل بمثل القول ونحوه.
وفي عدم ذكر متعلق التقبل - وهو بناء البيت - تواضع في مقام العبودية، واستحقار لما عملا به والمعنى ربنا تقبّل منا هذا العمل اليسير إنك أنت السميع لدعوتنا، العليم بما نويناه في قلوبنا.
قوله تعالى: { ربنا واجعلنا مسلمين لك }، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، من البديهي أن الإِسلام على ما تداول بيننا من لفظه، ويتبادر إلى أذهاننا من معناه أول مراتب العبودية، وبه يمتاز المنتحل من غيره، وهو الأخذ بظاهر الاعتقادات والأعمال الدينية، أعم من الإِيمان والنفاق، وإبراهيم عليه السلام - وهو النبي الرسول أحد الخمسة أولي العزم، صاحب الملة الحنيفية - أجل من أن يتصور في حقه أن لا يكون قد ناله إلى هذا الحين، وكذا ابنه إسماعيل رسول الله وذبيحه، أو يكونا قد نالاه ولكن لم يعلما بذلك، أو يكونا علما بذلك وأرادا البقاء على ذلك، وهما فيما هما فيه من القربى والزلفى، والمقام مقام الدعوة عند بناء البيت المحرم، وهما أعلم بمن يسألانه، وأنه من هو، وما شأنه، على أن هذا الإِسلام من الأمور الاختيارية التي يتعلق بها الأمر والنهى كما قال تعالى:
{ { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [البقرة: 131]، ولا معنى لنسبة ما هو كذلك إلى الله سبحانه أو مسألة ما هو فعل اختياري للإِنسان من حيث هو كذلك من غير عناية يصح معها ذلك.
فهذا الإِسلام المسؤول غير ما هو المتداول المتبادر عندنا منه، فإن الإِسلام مراتب والدليل على أنه ذو مراتب قوله تعالى: { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت } الآية، حيث يأمرهم إبراهيم بالإِسلام وقد كان مسلماً، فالمراد بهذا الإِسلام المطلوب غير ما كان عنده من الإِسلام الموجود، ولهذا نظائر في القرآن.
فهذا الإِسلام هو الذي سنفسره من معناه، وهو تمام العبودية وتسليم العبد كل ما له إلى ربه، وهو إن كان معنى اختيارياً للإِنسان من طريق مقدماته إلاَّ أنه إذا أُضيف إلى الإِنسان العادي وحاله القلبي المتعارف كان غير اختياري بمعنى كونه غير ممكن النيل له - وحاله حاله - كسائر مقامات الولاية ومراحله العالية، وكسائر معارج الكمال البعيدة عن حال الإِنسان المتعارف المتوسط الحال بواسطة مقدماته الشاقة، ولهذا يمكن أن يعد أمراً إلهياً خارجاً عن اختيار الإِنسان، ويسأل من الله سبحانه أن يفيض به، وأن يجعل الإِنسان متصفاً به.
على أن هنا نظراً أدق من ذلك، وهو أن الذي ينسب إلى الإِنسان ويعد اختيارياً له، هو الأفعال، وأما الصفات والملكات الحاصلة من تكرر صدورها فليست اختيارية بحسب الحقيقة، فمن الجائز أو الواجب أن ينسب إليه تعالى، وخاصة إذا كانت من الحسنات والخيرات التي نسبتها إليه تعالى أولى من نسبتها إلى الإِنسان، وعلى ذلك جرى ديدن القرآن، كما في قوله تعالى:
{ رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي } [إبراهيم: 40]، وقوله تعالى: { { وألحقني بالصالحين } [يوسف: 101] وقوله تعالى: { { رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه } [الأحقاف: 15]، وقوله تعالى: { ربنا واجعلنا مسلمين لك } الآية، فقد ظهر أن المراد بالإِسلام غير المعنى الذي يشير إليه قوله تعالى: { { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإِيمان في قلوبكم } [الحجرات: 14]، بل معنى أرقي وأعلى منه سيجيء بيانه.
قوله تعالى: { وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التوّاب الرَّحيم }، يدل على ما مرّ من معنى الإِسلام أيضاً، فإن المناسك جمع منسك بمعنى العبادة، كما في قوله تعالى:
{ { ولكل أُمة جعلنا منسكاً } [الحج: 34]، أو بمعنى المتعبد، أعني الفعل المأتي به عبادة وإضافة المصدر يفيد التحقق، فالمراد بمناسكنا هي الأفعال العبادية الصادرة منهما والأعمال التي يعملانها دون الأفعال، والأعمال التي يراد صدورها منهما، فليس قوله: أرنا بمعنى علمنا أو وفقنا، بل التسديد بإراءة حقيقة الفعل الصادر منهما، كما أشرنا إليه في قوله تعالى: { { وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } [الأنبياء: 73]، وسنبينه في محله: أن هذا الوحي تسديد في الفعل، لا تعليم للتكليف المطلوب، وكأنه إليه الإِشارة بقوله تعالى: { { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار * إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار } [ص: 45-46]. فقد تبيّن أن المراد بالإِسلام والبصيرة في العبادة، غير المعنى الشائع المتعارف، وكذلك المراد بقوله تعالى: { وتب علينا }، لأن إبراهيم وإسماعيل كانا نبيين معصومين بعصمة الله تعالى، لا يصدر عنهما ذنب حتى يصح توبتهما منه، كتوبتنا من المعاصي الصادر عنّا.
فإن قلت: كل ما ذكر من معنى الإِسلام وإراءة المناسك والتوبة مما يليق بشأن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، لا يلزم أن يكون هو مراده في حق ذريته فإنه لم يشرك ذريته معه ومع ابنه إسماعيل إلاَّ في دعوة الإِسلام وقد سأل لهم الإِسلام بلفظ آخر في جملة أُخرى، فقال: ومن ذريتنا أُمة مسلمة لك ولم يقل: واجعلنا ومن ذريتنا مسلمين، أو ما يؤدي معناه، فما المانع أن يكون مراده من الإِسلام ما يعم جميع مراتبه حتى ظاهر الإِسلام، فإن الظاهر من الإِسلام أيضاً له آثار جميلة، وغايات نفيسة في المجتمع الإِنساني، يصح أن يكون بذلك بغية لإِبراهيم عليه السلام يطلبها من ربه كما كان كذلك عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث اكتفى صلى الله عليه وآله وسلم من الإِسلام بظاهر الشهادتين الذي به يحقن الدماء، ويجوز التزويج، ويملك الميراث، وعلى هذا يكون المراد بالإِسلام في قوله تعالى: { ربنا واجعلنا مسلمين لك }، ما يليق بشأن إبراهيم وإسماعيل، وفي قوله: { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }، ما هو اللائق بشأن الأمة التي فيها المنافق، وضعيف الإِيمان وقويّه، والجميع مسلمون.
قلت: مقام التشريع ومقام السؤال من الله مقامان مختلفان، لهما حكمان متغايران لا ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر، فما اكتفى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أُمته بظاهر الشهادتين من الإِسلام، إنما هو لحكمة توسعة الشوكة والحفظ لظاهر النظام الصالح، ليكون ذلك كالقشر يحفظ به اللب الذي هو حقيقة الإِسلام، ويصان به عن مصادمة الآفات الطارئة.
وأما مقام الدعاء والسؤال من الله سبحانه فالسلطة فيها للحقائق والغرض متعلق هناك بحق الأمر، وصريح القرب والزلفى ولا هوى للأنبياء في الظاهر من جهة ما هو ظاهر ولا هوى لإِبراهيم عليه السلام في ذريته ولو كان له هوى لبدأ فيه لأبيه قبل ذريته ولم يتبرأ منه لما تبيّن أنه عدو لله، ولم يقل في ما حكى الله من دعائه
{ { ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلاَّ من أتى الله بقلب سليم } [الشعراء: 87-88]، ولم يقل: { { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } [الشعراء: 84]، بل اكتفى بلسان ذكر في الآخرين إلى غير ذلك.
فليس الإِسلام الذي سأله لذريته إلاَّ حقيقة الإِسلام، وفي قوله تعالى: { أمة مسلمة لك }، إشارة إلى ذلك فلو كان المراد مجرد صدق اسم الإِسلام على الذرية لقيل: امة مسلمة، وحذف قوله: لك، هذا.
قوله تعالى: { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } الخ، دعوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
"أنا دعوة إبراهيم"
]. (بحث روائي)
في الكافي عن الكتاني: قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام إبراهيم في طواف الحج والعمرة، فقال عليه السلام: إن كان بالبلد صلَّى الركعتين عند مقام إبراهيم، فإن الله عزّ وجلّ يقول: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى }، وإن كان قد ارتحل فلا آمره أن يرجع.
أقول: وروى قريباً منه، الشيخ في التهذيب، والعياشي في تفسيره بعدة أسانيد وخصوصيات الحكم - وهو الصلاة عند المقام أو خلفه، كما في بعض الروايات ليس لأحد أن يصلي ركعتي الطواف إلاَّ خلف المقام، الحديث - مستفادة من لفظة من، ومصلى من قوله تعالى: { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } الآية.
وفي تفسير القمي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { أن طهرا بيتي للطائفين } الآية، يعني: "نح عنه المشركين".
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام قال: إن الله عزّ وجل يقول في كتابه: { طهرا بيتى للطائفين والعاكفين والركّع السجود }، فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلاَّ وهو طاهر قد غسل عرقه، والأذى وتطهر.
أقول: وهذا المعنى مروي في روايات أُخر، واستفادة طهارة الوارد من طهارة المورد، ربما تمّت من آيات أُخر، كقوله تعالى:
{ { الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات } [النور: 26]، ونحوها.
وفي المجمع عن ابن عباس قال: لما أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر، فوضعهما بمكة واتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون، وتزوج إسماعيل امرأه منهم، وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة، فأذنت له، وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت له: ليس هو ها هُنا، ذهب يتصيد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم يتصيد ويرجع، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ فقالت: ليس عندي شيء، وما عندي أحد، فقال لها إبراهيم: إذا جاء زوجك، فاقرئيه السلام وقولي له: فليغير عتبة بابه وذهب إبراهيم فجاء إسماعيل، ووجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا، كالمستخفة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال لي: اقرأي زوجك السلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه، فطلقها وتزوج أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل وأذنت له، واشترطت عليه: أن لا ينزل فجاء إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب يتصيد وهو يجيء الآن إن شاء الله، فانزل، يرحمك الله، قال لها: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم، فجاءت باللبن واللحم، فدعا لها بالبركة، فلو جاءت يومئذٍ بخبز أو بر أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض الله براً وشعيراً وتمراً، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءت بالمقام فوضعته على شقه فوضع قدمه عليه، فبقى أثر قدمه عليه، فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت المقام إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدمه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام، وقولي له: قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل عليه السلام وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم شيخ أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم ريحاً، فقال لي كذا وكذا، وقلت له كذا وغسلت رأسه، وهذا موضع قدميه على المقام، فقال إسماعيل لها: ذاك إبراهيم.
أقول: وروى القمي، في تفسيره: ما يقرب منه.
وفي تفسير القمي، عن الصادق عليه السلام قال: إن إبراهيم كان نازلاً، في بادية الشام، فلما ولد له من هاجر إسماعيل اغتمت سارة من ذلك غماً شديداً، لأنه لم يكن لها ولد، وكانت تؤذي إبراهيم في هاجر وتغمه، فشكى إبراهيم ذلك إلى الله عزّ وجل، فأوحى الله إليه: "مثل المرأة مثل الضلع العوجاء، إن تركتها استمتعت بها، وإن أقمتها كسرتها" ثم أمره: أن يخرج إسماعيل وأُمه، فقال: يا رب إلى أيّ مكان؟ فقال إلى حرمي وأمني، وأول بقعة خلقتها من الأرض، وهي مكة فأنزل الله عليه جبرائيل بالبراق فحمل هاجر وإسماعيل وإبراهيم وكان إبراهيم لا يمر بموضع حسن فيه شجر وزرع ونخل إلاَّ وقال إبراهيم: يا جبرائيل إلى ها هُنا، إلى ها هُنا، فيقول جبرائيل لا امض، امض، حتى وافى مكة فوضعه في موضع البيت، وقد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع إليها، فلما نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلوا تحته، فلما سرحهم إبراهيم ووضعهم أراد الإِنصراف عنهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا إبراهيم أتدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟ فقال إبراهيم: الله الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان هو يكفيكم ثم انصرف عنهم، فلما بلغ كداء، (وهو جبل بذي طوى) التفت إبراهيم، فقال: { رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلَّهم يشكرون }، ثم مضى وبقيت هاجر، فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في موضع السعي فصعدت على الصفاء، ولمع لها السراب في الوادي، فظنت أنه ماء، فنزلت في بطن الوادي، وسَعَت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل، عادت حتى بلغت الصفاء، فنظرت حتى فعلت ذلك سبع مرات، فلما كان في الشوط السابع، وهي على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه فعادت حتى جمعت حوله رملاً، فإنه كان سائلاً، فزمَّته بما جعلت حوله، فلذلك سميت زمزم وكانت جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء بمكة عكفت الطير والوحش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكف الطير والوحش على ذلك المكان فاتبعتها حتى نظروا إلى امرأة وصبي نازلين في ذلك الموضع، قد استظلا بشجرة، وقد ظهر الماء لهما، فقالوا لهاجر: من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن، وهذا ابنه، أمره الله أن ينزلنا ها هُنا، فقالوا له: أتأذنين لنا أن نكون بالقرب منكم؟ فقالت لهم: حتى يأتي إبراهيم، فلما زارهم إبراهيم في اليوم الثالث قالت هاجر: يا خليل الله إن ها هُنا قوماً من جرهم يسألونك أن تأذن لهم، حتى يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك؟ قال إبراهيم: نعم، فأذنت هاجر لهم، فنزلوا بالقرب منهم، وضربوا خيامهم، فأنست هاجر وإسماعيل بهم، فلما زارهم إبراهيم في المرة الثانية نظر إلى كثرة الناس حولهم فسر بذلك سروراً شديداً، فلما تحرك إسماعيل وكانت جرهم قد وهبوا لإِسماعيل كل واحد منهم شاة وشاتين فكانت هاجر وإسماعيل يعيشان بها فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال، أمر الله إبراهيم: أن يبني البيت إلى أن قال: فلما أمر الله إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أي مكان يبنيه، فبعث الله جبرائيل، وخط له موضع البيت إلى أن قال: فبنى إبراهيم البيت، ونقل إسماعيل من ذي طوى فرفعه في السماء تسعة أذرع، ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم، ووضعه في موضعه الذي هو فيه الآن، فلما بنى جعل له بابين باباً إلى الشرق، وباباً إلى الغرب، والباب الذي إلى الغرب، يسمّى المستجار، ثم ألقى عليه الشجر والإِذخر، وألقت هاجر على بابها كساءاً كان معها وكانوا يكونون تحته، فلما بنى وفرغ منه، حج إبراهيم وإسماعيل، ونزل عليهما جبرائيل يوم التروية لثمان من ذي الحجة فقال: يا إبراهيم قم وارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى وعرفات ماء، فسميت التروية لذلك ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم، فقال إبراهيم لما فرغ من بناء البيت: { رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم } الآية، قال عليه السلام: من ثمرات القلوب، أي حببهم إلى الناس، ليستأنسوا بهم، ويعودوا إليهم.
أقول: هذا الذي لخصناه من أخبار القصة هو الذي تشتمل عليه الروايات الواردة في خلاصه القصة، وقد اشتملت عدة منها، وورد في أخبار أُخرى: أن تاريخ بناء البيت يتضمن أموراً خارقة للعادة، ففي بعض الأخبار، أن البيت أول ما وضع كان قبة من نور، نزلت على آدم، واستقرت في البقعة التي بنى إبراهيم عليها البيت، ولم تزل حتى وقع طوفان نوح، فلما غرقت الدنيا رفعه الله تعالى، ولم تغرق البقعة، فسمى لذلك البيت العتيق.
وفي بعض الأخبار: ان الله أنزل قواعد البيت من الجنة.
وفي بعضها ان الحجر الأسود نزل من الجنة - وكان أشد بياضاً من الثلج - فاسودت: لما مسته أيدي الكفار.
وفي الكافي أيضاً عن أحدهما عليه السلام قال: إن الله أمر إبراهيم ببناء الكعبة، وان يرفع قواعدها ويرى الناس مناسكهم، فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت كل يوم ساقاً، حتى انتهى إلى موضع الحجر الأسود، وقال أبو جعفر عليه السلام: فنادى أبو قبيس: ان لك عندي وديعة، فأعطاه الحجر، فوضعه موضعه.
وفي تفسير العياشي عن الثوري عن أبي جعفر عليه السلام، قال سألته عن الحجر، فقال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنة، الحجر الأسود استودعه إبراهيم، ومقام إبراهيم، وحجر بني إسرائيل.
وفي بعض الأخبار: أن الحجر الأسود كان ملكاً من الملائكة.
أقول: ونظائر هذه المعاني كثيرة واردة في أخبار العامة والخاصة، وهي وإن كانت آحاداً غير بالغة حد التواتر لفظاً، أو معنى، لكنها ليست بعادمة النظير في أبواب المعارف الدينية ولا موجب لطرحها من رأس.
أما ما ورد من نزول القبة على آدم، وكذا سير إبراهيم إلى مكة بالبُراق، ونحو ذلك مما هو كرامة خارقة لعادة الطبيعة، فهي أُمور لا دليل على استحالتها، مضافاً إلى أن الله سبحانه خص أنبياءه بكثير من هذه الآيات المعجزة، والكرامات الخارقة، والقرآن يثبت موارد كثيرة منها.
وأما ما ورد من نزول قواعد البيت من الجنة ونزول الحجر الأسود من الجنة، ونزول حجر المقام - ويقال: انه مدفون تحت البناء المعروف اليوم بمقام إبراهيم - من الجنة وما أشبه ذلك، فذلك كما ذكرنا كثير النظائر، وقد ورد في عدة من النباتات والفواكه وغيرها: أنها من الجنة، وكذا ما ورد: أنها من جهنم، ومن فورة الجحيم، ومن هذا الباب أخبار الطينة القائلة: إن طينة السعداء من الجنة، وإن طينة الأشقياء من النار، أو هما من عليّين، وسجّين، ومن هذا الباب أيضاً ما ورد: إن جنة البرزخ في بعض الأماكن الأرضية، ونار البرزخ في بعض آخر، وإن القبر اما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، إلى غير ذلك، مما يعثر عليه المتتبع البصير في مطاوي الأخبار، وهي كما ذكرنا بالغة في الكثرة حداً ليس مجموعها من حيث المجموع بالذى يطرح أو يناقش في صدوره أو صحة انتسابه وإنما هو من الهيات المعارف التي سمح بها القرآن الشريف، وانعطف إلى الجري على مسيرها الأخبار الذي يقضي به كلامه تعالى: ان الأشياء التي في هذه النشأه الطبيعية المشهودة جميعاً نازلة إليها من عند الله سبحانه، فما كانت منها خيراً جميلاً، أو وسيلة خير، أو وعاء لخير، فهو من الجنة، وإليها تعود، وما كان منها شراً، أو وسيلة شر، أو وعاء لشر، فهو من النار، وإليها ترجع، قال تعالى:
{ { وإن من شيء إلاَّ عندنا خزائنه وما ننزله إلاَّ بقدر معلوم } [الحجر: 21]، أفاد: ان كل شيء موجود عنده تعالى وجوداً غير محدود بحد، ولا مقدر بقدر، وعند التنزيل - وهو التدريج في النزول - يتقدر بقدره ويتحدد بحده، فهذا على وجه العموم، وقد ورد بالخصوص أيضاً أمثال قوله تعالى: { { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [الزمر: 6]، وقوله تعالى: { { وأنزلنا الحديد } [الحديد: 25]، وقوله تعالى: { { وفي السماء رزقكم وما توعدون } [الذاريات: 22]، على ما سيجيء من توضيح معناها إن شاء الله العزيز، فكل شيء نازل إلى الدنيا من عند الله سبحانه، وقد أفاد في كلامه: ان الكل راجع إليه سبحانه، فقال: { { وأنَّ إلى ربك المنتهى } [النجم: 42]، وقال تعالى: { { إلى ربك الرجعى } [العلق: 8]، وقال: { وإليه المصير } [التغابن: 3]، وقال تعالى: { { ألا إلى الله تصير الأمور } [الشورى: 53]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وأفاد: أن الأشياء - وهي بين بدئها وعودها - تجري على ما يستدعيه بدئها، ويحكم به حظها من السعادة والشقاء، والخير والشر، فقال تعالى:
{ { كل يعمل على شاكلته } [الإسراء: 84]، وقال: { { ولكل وجهة هو موليها } [البقرة: 148]، وسيجيء توضيح دلالتها جميعاً، والغرض ها هُنا مجرد الإِشارة إلى ما يتم به البحث، وهو أن هذه الأخبار الحاكية عن كون هذه الأشياء الطبيعية، من الجنة، أو من النار، إذا كانت ملازمة لوجه السعادة أو الشقاوة لا تخلو عن وجه صحة، لمطابقتها لأصول قرآنية ثابتة في الجملة، وإن لم يستلزم ذلك كون كل واحد صحيحاً، يصح الركون إليه، فافهم المراد.
وربما قال القائل: إن قوله تعالى: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } الآية، ظاهر في أنهما، هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله تعالى في تلك البلاد الوثنية، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين، جاؤنا من ذلك بغير ما قصه الله تعالى علينا وتفننوا في رواياتهم عن قدم البيت وعن حج آدم وعن ارتفاعه إلى السماء وقت الطوفان وعن كون الحجر الأسود من أحجار الجنة، وقد أراد هؤلاء القصاصون أن يزينوا الدين ويرقّشوه برواياتهم هذه، وهذه التزيينات بزخارف القول وإن أثرت أثرها في قلوب العامة، لكن أرباب اللب والنظر من أهل العلم يعلمون أن الشرف المعنوي الذي أفاضه الله سبحانه، بتكريم بعض الأشياء على بعض، فشرف البيت إنما هو بكونه بيتاً لله، منسوباً إليه، وشرف الحجر الأسود بكونه مورداً للاستلام بمنزلة يد الله سبحانه؛ وأما كون الحجر في أصله ياقوتة، أو درة، أو غير ذلك، فلا يوجب مزية فيه، وشرفاً حقيقاً له، و ما الفرق بين حجر أسود وحجر أبيض عند الله تعالى في سوق الحقائق، فشرف هذا البيت بتسمية الله تعالى إيّاه بيته وجعله موضعاً لضروب من عبادته لا تكون في غيره - كما تقدم - لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار، ولا بكون موقعه تفضل سائر المواقع، ولا بكونه من السماء، وعالم الضياء وكذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم، ولا في ملابسهم، وإنما هو لاصطفاء الله تعالى إياهم، وتخصيصهم بالنبوة التي هي أمر معنوي، وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة، وأكثر نعمة منهم.
قال: وهذه الروايات فاسدة في تناقضها وتعارضها في نفسها وفاسدة في عدم صحة أسانيدها وفاسدة في مخالفتها لظاهر الكتاب.
قال: وهذه الروايات خرافات إسرائيلية، بثها زنادقة اليهود في المسلمين، ليشوهوا عليهم دينهم، وينفروا أهل الكتاب منه.
أقول: ما ذكره لا يخلو من وجه في الجملة، إلاَّ أنه أفرط في المناقشة، فاعترضه من خبط القول ما هو أردى وأشنع.
أما قوله: إن هذه الروايات فاسدة أولاً من جهة التناقض والتعارض وثانياً من جهة مخالفة الكتاب، ففيه أن التناقض أو التعارض إنما يضرُّ لو أُخذ بكل واحد واحد منها، وأما الأخذ بمجموعها من حيث المجموع (بمعنى أن لا يطرح الجميع لعدم اشتمالها على ما يستحيل عقلاً أو يمنع نقلا) فلا يضره التعارض الموجود فيها وإنما نعني بذلك الروايات الموصولة إلى مصادر العصمة، كالنبى صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرين من أهل بيته، وأما غيرهم من مفسري الصحابة والتابعين فحالهم حال غيرهم من الناس وحال ما ورد من كلامهم الخالي عن التناقض، حال كلامهم المشتمل على التناقض وبالجملة لا موجب لطرح رواية، أو روايات، إلاَّ إذا خالفت الكتاب أو السنّة القطعية، أو لاحت منها لوائح الكذب والجعل، كما لا حجية إلاَّ للكتاب والسنّة القطعية، في أصول المعارف الدينية الإِلهية.
فهناك ما هو لازم القبول، وهو الكتاب والسنّة القطعية، وهناك ما هو لازم الطرح، وهو ما يخالفهما من الآثار، وهناك ما لا دليل على رده، ولا على قبوله، وهو ما لا دليل من جهة العقل على استحالته، ولا من جهة النقل، أعني: الكتاب والسنّة القطعية على منعه.
وبه يظهر فساد اشكاله بعدم صحة أسانيدها، فإن ذلك لا يوجب الطرح ما لم يخالف العقل أو النقل الصحيح.
وأما مخالفتها لظاهر قوله: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد } الآية، فليت شعري أن الآية الشريفة كيف تدل على نفي كون الحجر الأسود من الجنة أم كيف تدل على نفي نزول قبة على البقعة في زمن آدم، ثم ارتفاعها في زمن نوح؟ وهل الآية تدل على أزيد من أن هذا البيت المبني من الحجر والطين بناء إبراهيم؟ وأي ربط له إثباتاً أو نفياً بما تتضمنه الروايات التي أشرنا إليها، نعم لا يستحسنه طبع هذا القائل، ولا يرتضيه رأيه لعصبية مذهبية توجب نفي معنويات الحقائق عن الأنبياء، واتكاء الظواهر الدينية على أصول وأعراق معنوية، أو لتبعية غير إرادية للعلوم الطبيعية المتقدمة اليوم، حيث تحكم: أن كل حادثة من الحوادث الطبيعية، أو ما يرتبط بها أي ارتباط من المعنويات يجب أن يعلل بتعليل مادي أو ما ينتهي إلى المادة الحاكمة في جميع شؤون الحوادث كالتعليمات الاجتماعية.
وقد كان من الواجب أن يتدبر في أن العلوم الطبيعية شأنها البحث عن خواص المادة وتراكيبها وارتباط الآثار الطبيعية بموضوعاتها، ذاك الارتباط الطبيعي وكذا العلوم الاجتماعية إنما تبحث عن الروابط الاجتماعية بين الحوادث الاجتماعية فقط.
وأما الحقائق الخارجة عن حومة المادة وميدان عملها المحيطة بالطبيعة وخواصها وارتباطاتها المعنوية غير المادية مع الحوادث الكونية وما اشتمل عليه عالمنا المحسوس، فهي أمور خارجة عن بحث العلوم الطبيعية والاجتماعيه ولا يسعها أن تتكلم فيها أو تتعرض لإِثباتها أو تقضي بنفيها، العلوم الطبيعية إنما يمكنها أن تقضي أن البيت يحتاج في الطبيعة إلى أجزاء من الطين والحجر، وإلى إن يبنيه ويعطيه بحركاته وأعماله هيئة البيت أو كيف تتكون الحجرة من الأحجار السود وكذا الأبحاث الاجتماعية تعين الحوادث الاجتماعية التي انتجت بناء إبراهيم للبيت، وهي جمل من تاريخ حياته، وحياة هاجر وإسماعيل وتاريخ تهامة ونزول جرهم إلى غير ذلك، وأما أنه ما نسبة هذا الحجرمثلاً إلى الجنة أو النار الموعودتين فليس من وظيفة هذه العلوم أن تبحث عنه أو تنفي ما قيل أو يقال فيه، وقد عرفت أن القرآن الشريف هو الناطق بكون هذه الموجودات الطبيعية المادية نازلة إلى مقرها ومستقرها من عند الله سبحانه ثم راجعة إليه متوجهة نحوه "أيما إلى جنة أيما إلى نار"، وهو الناطق بكون الأعمال صاعدة إلى الله، مرفوعة نحوه، نائلة إياه، مع أنها حركات وأوضاع طبيعية، تألفت تألفاً اعتبارياً اجتماعياً من غير حقيقة تكوينية، قال تعالى:
{ { ولكن يناله التقوى منكم } [الحج: 37]، والتقوى فعل أو صفة حاصلة من فعل، وقال تعالى: { { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } [فاطر: 10]، فمن الواجب على الباحث الديني أن يتدبر في هذه الآيات فيعقل أن المعارف الدينية لا مساس لها مع الطبيعيات والاجتماعيات من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي على الاستقامة وإنما اتكائها وركونها إلى حقائق ومعان وراء ذلك.
وأما قوله: إن شرف الأنبياء والمعاهد والأمور المنسوبة إليهم كالبيت والحجر الأسود ليس شرفاً ظاهرياً بل شرف معنوي ناشىء عن التفضيل الإِلهي فكلام حق، لكن يجب أن يفهم منه حق المعنى الذي يشتمل عليه، فما هذا الأمر المعنوي الذي يتضمن الشرافة؟ فإن كان من المعاني التي يعطيها الاحتياجات الاجتماعية لموضوعاتها وموادها نظير الرتب والمقامات التي يتداولها الدول والملل كالرئاسة والقيادة في الإِنسان، وغلاء القيمة في الذهب والفضة، وكرامة الوالدين وحرمة القوانين والنواميس، فإنما هي معان يعتبرها الاجتماعات لضرورة الاحتياج الدنيوي، لا أثر منها في خارج الوهم والاعتبار الاجتماعي، ومن المعلوم أن الاجتماع الكذائي لا يتعدي عالم الاجتماع الذي صنعته الحاجة الحيوية، والله عز سلطانه أقدس ساحة من أن يتطرق إليه هذه الحاجة الطارقة على حياة الإِنسان، ومع ذلك فإذا جاز أن يتشرف النبي بهذا الشرف غير الحقيقي فليجز أن يتشرف بمثله بيت أو حجر، وإن كان هذا الشرف حقيقياً واقعياً من قبيل النسبة بين النور والظلمة والعلم والجهل والعقل والسفه بأن كان حقيقة وجود النبي غير حقيقة وجود غيره وإن كانت حواسنا الظاهرية لا تنال ذلك وهو اللائق بساحة قدسه من الفعل والحكم، كما قال الله تعالى:
{ { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلاَّ بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الدخان: 38-39]، وسيجيء بيانه، كان ذلك عائداً إلى نسبة حقيقية معنوية غير مادية إلى ما وراء الطبيعة، فإذا جاز تحققها في الأنبياء بنحو فليجز تحققها في غير الأنبياء كالبيت والحجر ونحوهما، وإن وقع التعبير عن هذه النسب الحقيقية المعنوية بما ظاهره المعاني المعروفة عند العامة التي اصطلحت عليه أهل الاجتماع.
وليت شعري: ماذا يصنعه هؤلاء في الآيات التي تنطق بتزيين الجنة وتشريف أهلها بالذهب والفضة، وهما فلزان ليس لهما من الشرف إلاَّ غلاء القيمة المستندة إلى عزة الوجود؟ فماذا يراد من تشريف أهل الجنة بهما؟ وما الذي يؤثره معنى الثروة في الجنة ولا معنى للاعتبار المالي في الخارج من ظرف الاجتماع؟ فهل لهذه البيانات الإِلهية والظواهر الدينية وجه غير أنها حجب من الكلام وأستار وراءها أسرار؟ فلئن جاز أمثال هذه البيانات في أمور نشأة الآخرة فليجز نظيرتها في بعض الأمور نشأه الدنيا.
وفي تفسير العياشي عن الزبيري عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت له: أخبرني عن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هم؟ قال أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنو هاشم خاصة، قلت: فما الحجة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال: قول الله: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرَّحيم }، فلما أجاب الله إبراهيم وإسماعيل وجعل من ذريتهما أمة مسلمة وبعث فيها رسولاً منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وردف دعوته الأولى دعوته الأخرى فسأل لهم تطهيراً من الشرك ومن عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم ولا يتبعوا غيرهم، فقال: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم }، ففي هذا دلالة على أنه لا يكون الأئمة والأمة المسلمة التي بعث فيها محمداً إلاَّ من ذرية إبراهيم لقوله: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام }.
أقول: استدلاله عليه السلام في غاية الظهور، فإن إبراهيم عليه السلام إنما سأل أمة مسلمة من ذريته خاصة، ومن المعلوم من ذيل دعوته: ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم، أن هذه الأمة المسلمة هي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكن لا أمة محمد بمعنى الذين بعث صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، ولا أمة محمد بمعنى من آمن بنبوته، فإن هذه الأمة أعم من ذرية إبراهيم وإسماعيل بل أمة مسلمة هي من ذرية إبراهيم عليه السلام ثم سأل ربه أن يجنب ويبعد ذريته وبنيه من الشرك والضلال وهي العصمة، ومن المعلوم أن ذرية إبراهيم وإسماعيل - وهم عرب مضر أو قريش خاصة - فيهم ضال ومشرك فمراده من بنيه في قوله: وبني، أهل العصمة من ذريته خاصه، وهم النبي وعترته الطاهرة، فهؤلاء هم أمة محمد عليه السلام في دعوة إبراهيم عليه السلام، ولعل هذه النكتة هي الموجبة للعدول عن لفظ الذرية إلى لفظ البنين، ويؤيده قوله: عليه السلام: { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فانك غفور رحيم } الآية. حيث أتى بفاء التفريع وأثبت من تبعه جزءاً من نفسه وسكت عن غيرهم كأنه ينكرهم ولا يعرفهم، هذا.
وقوله عليه السلام: فسأل لهم تطهيراً من الشرك ومن عبادة الأصنام، إنما سئل إبراهيم عليه السلام التطهير من عبادة الأصنام إلاَّ أنه عليه السلام علله بالضلال فأنتج سؤال التطهير من جميع الضلال من عبادة الأصنام ومن أي شرك حتى المعاصي، فإن كل معصية شرك كما مرّ بيانه في قوله تعالى:
{ { صراط الذين أنعمت عليهم } [الفاتحة: 7]. وقوله عليه السلام: وفي هذا دلالة على أنه لا يكون الأئمة والأمة المسلمة، إلخ أي إنهما واحد، وهما من ذرية إبراهيم كما مرّ بيانه.
فإن قلت: لو كان المراد بالأمة في هذه الآيات ونظائرها كقوله تعالى:
{ { كنتم خير أُمة أُخرجت للناس } [آل عمران: 110]، عدة معدودة من الأمة دون الباقين كان لازمه المجاز في الكلام من غير موجب يصحح ذلك ولا مجوّز لنسبة ذلك إلى كلامه تعالى، على أن كون خطابات القرآن متوجهة إلى جميع الأمة ممن آمن بالنبي ضروري لا يحتاج إلى إقامة حجة.
قلت: إطلاق أمة محمد وإرادة جميع من آمن بدعوته من الاستعمالات المستحدثة بعد نزول القرآن وانتشار الدعوة الإِسلامية وإلا، فالأمة بمعنى القوم كما قال تعالى:
{ { وعلى أُمم ممن معك وأمم سنمتعهم } [هود: 48]، وربما اطلق على الواحدة كقوله تعالى: { { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله } [النحل: 120]، وعلى هذا فمعناها من حيث السعة والضيق يتبع موردها الذي استعمل فيه لفظها، أو أُريد فيه معناها.
فقوله تعالى: { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } الآية، والمقام مقام الدعاء بالبيان الذي تقدم - لا يراد به إلاَّ عدة معدودة ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذا قوله: { كنتم خير أُمة أُخرجت للناس }، وهو في مقام الامتنان وتعظيم القدر وترفيع الشأن لا يشمل جميع الأمة، وكيف يشمل فراعنة هذه الأمة ودجاجلتها الذين لم يجدوا للدين أثراً إلاَّ عفوه ومحوه، ولا لأوليائه عظماً إلاَّ كسروه وسيجيء تمام البيان في الآية أن شاء الله فهو من قبيل قوله تعالى لبني إسرائيل:
{ { وأَني فضلتكم على العالمين } [البقرة: 47]، فإن منهم قارون ولا يشمله الآية قطعاً، كما أن قوله تعالى: { { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } [الفرقان: 30]، لا يعم جميع هذه الأمة وفيهم أولياء القرآن ورجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى.
وأما قوله تعالى:
{ { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون } [البقرة: 141]، فالخطاب فيه متوجة إلى جميع الأمة ممن آمن بالنبي، أو من بعث إليه.
(بحث علمي)
إذا رجعنا إلى قصة إبراهيم عليه السلام وسيره بولده وحرمته إلى أرض مكة وإسكانهما هناك وما جرى عليهما من الأمر حتى آل الأمر إلى ذبح إسماعيل وفدائه من جانب الله وبنائهما البيت، وجدنا القصة دورة كاملة من السير العبودي الذي يسير به العبد من موطن نفسه إلى قرب ربه، ومن أرض البعد إلى حظيرة القرب بالإِعراض عن زخارف الدنيا، وملاذها، وأمانيها من جاه ومال ونساء وأولاد والانقلاع والتخلص عن وسائس الشياطين، وتكديرهم صفو الإِخلاص والإِقبال والتوجه إلى مقام الرب ودار الكبرياء.
فها هي وقائع متفرقة مترتبة تسلسلت وتألفت قصة تاريخية تحكي عن سير عبودي من العبد إلى الله سبحانه وتشمل من أدب السير والطلب والحضور ورسوم الحب والوله والإِخلاص على ما كلما زدت في تدبره إمعاناً زادك استنارة ولمعاناً.
ثم: إن الله سبحانه أمر خليله إبراهيم أن يشرع للناس عمل الحج، كما قال:
{ { وأذّن في الناس بالحجِّ يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق } [الحج: 27] إلى آخر الآيات، وما شرعه عليه السلام وإن لم يكن معلوماً لنا بجميع خصوصياته، لكنه كان شعاراً دينياً عند العرب في الجاهلية إلى أن بعث الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرَّع فيه ما شرع ولم يخالف فيه ما شرعه إبراهيم إلاَّ بالتكميل كما يدل عليه قوله تعالى: { { قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً } [الأنعام: 161]، وقوله تعالى: { { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } [الشورى: 13]. وكيف كان فما شرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نسك الحج المشتمل على الإِحرام والوقوف بعرفات ومبيت المشعر والتضحية ورمي الجمرات والسعى بين الصفا والمروة والطواف والصلاة بالمقام تحكي قصة إبراهيم وتمثل مواقفه ومواقف أهله ومشاهدهم ويا لها من مواقف طاهرة إلهية، القائد إليها جذبة الربوبية، والسائق نحوها ذلة العبودية.
والعبادات المشروعة - على مشرعيها أفضل السلام - صور لمواقف الكملين من الأنبياء من ربهم وتماثيل تحكي عن مواردهم ومصادرهم في مسيرهم إلى مقام القرب والزلفى، كما قال تعالى:
{ { لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة } [الأحزاب: 21]، وهذا أصل.