التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ
١٧٢
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٧٣
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٤
أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ
١٧٥
ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ
١٧٦
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم }، خطاب خاص بالمؤمنين بعد الخطاب السابق للناس فهو من قبيل انتزاع الخطاب من الخطاب، كأنه انصراف عن خطاب جماعة ممن لا يقبل النصح ولا يصغي إلى القول، والتفات إلى من يستجيب الداعي لإِيمانه به والتفاوت الموجود بين الخطابين ناشىء من تفاوت المخاطبين، فإن المؤمنين بالله لما كان يتوقع منهم القبول بدل قوله: { ما في الأرض حلالاً طيباً } من قوله: { طيبات ما رزقناكم }، وكان ذلك وسيلة إلى أن يطلب منهم الشكر لله وحده لكونهم موحدين لا يعبدون إلاَّ الله سبحانه، ولذلك بعينه قيل: { ما رزقناكم }، ولم يقل: ما رزقتم أو ما في الأرض ونحوه، لما فيه من الإِيماء أو الدلالة على كونه تعالى معروفاً لهم قريباً منهم حنيناً رؤوفاً بهم، والظاهر أن يكون قوله: { من طيبات ما رزقناكم }، من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف لا من قبيل قيام الصفة مقام الموصوف فإن المعنى على الأول كلوا من رزقنا الذي كله طيب، وهو المناسب لمعنى التقرب والتحنن الذي يلوح من المقام، والمعنى على الثاني كلوا من طيب الرزق لا من خبيثه، وهو بعيد المناسبة عن المقام الذي هو مقام رفع الحظر، والنهي عن الامتناع عن بعض ما رزقهم الله سبحانه تشريعاً من عند أنفسهم وقولاً بغير علم.
قوله تعالى: { واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون }، لم يقل واشكروا لنا بل اشكروا لله ليكون أدل على الأمر بالتوحيد ولذلك أيضاً قيل: إن كنتم إياه تعبدون فدل على الحصر والقصر ولم يقل إن كنتم تعبدونه.
قوله تعالى: { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير الله }، الإِهلال لغير الله هو الذبح لغيره كالأصنام.
قوله تعالى: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد }، أي غير ظالم ولا متجاوز حده، وهما حالان عاملهما الاضطرار فيكون المعنى فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر من المنهيات اضطراراً في حال عدم بغيه وعدم عدوه فلا ذنب له في الأكل، وأما لو اضطر في حال البغي والعدو كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار فلا يجوز له ذلك، وقوله تعالى: { إن الله غفور رحيم } دليل على أن التجوز تخفيف ورخصة منه تعالى للمؤمنين وإلاَّ فمناط النهي موجود في صورة الاضطرار أيضاً.
قوله تعالى: { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب }، تعريض لأهل الكتاب إذ عندهم شيء كثير من المحللات الطيبة التي حرمها كبرائهم ورؤسائهم في العبادات وغيرها - وعندهم الكتاب الذي لا يقضي فيه بالتحريم - ولم يكتموا ما كتموه إلاَّ حفظاً لما يدر عليهم من رزق الرئاسة وابهة المقام والجاه والمال.
وفي الآية من الدلالة على تجسم الأعمال وتحقق نتائجها ما لا يخفى فإنه تعالى ذكر أولاً أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النار في بطونهم ثم بدل اختيار الكتمان وأخذ الثمن على بيان ما أنزل الله في الآية التاليه من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة ثم ختمها بقوله: { فما أصبرهم على النار }، والذي كان منهم ظاهراً هو الإِدامة للكتمان والبقاء عليها فافهم.
(بحث روائي)
في الكافي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } الآية، قال: الباغي باغي الصيد، والعادي السارق ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين وليس لهما أن يقصرا في الصلاة.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: الباغي الظالم، والعادي الغاصب.
وعن حماد عنه عليه السلام قال: الباغي الخارج على الإِمام والعادي اللص.
وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام غير باغ على إمام المسلمين ولا عادٍ بالمعصية طريق المحقين.
أقول: والجميع من قبيل عد المصاديق، وهي تؤيد المعنى الذي استفدناه من ظاهر اللفظ.
وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: { فما أصبرهم على النار } الآية، قال: ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار.
وفي المجمع عن علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السلام قال: ما أجرأهم على النار.
وعن الصادق عليه السلام ما أعملهم بأعمال أهل النار.
أقول: والروايات قريبة المعاني ففي الأولى تفسير الصبر على النار بالصبر على سبب النار، وفي الثانية تفسير الصبر على النار بالجرأة عليها وهي لازمة للصبر، وفي الثالثة تفسير الصبر على النار بالعمل بما يعمل به أهل النار ومرجعه إلى معنى الرواية الأولى.