التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ
١٨٠
فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٨١
فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٨٢
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية }، لسان الآية لسان الوجوب فإن الكتابة تستعمل في القرآن في مورد القطع واللزوم ويؤيده ما في آخر الآية من قوله حقاً، فإن الحق أيضاً كالكتابة يقتضي معنى اللزوم، لكن تقييد الحق بقوله على المتقين، مما يوهن الدلالة على الوجوب والعزيمة فإن الأنسب بالوجوب أن يقال: حقاً على المؤمنين، وكيف كان فقد قيل إن الآية منسوخة بآية الإِرث، ولو كان كذلك فالمنسوخ هو الفرض دون الندب وأصل المحبوبية، ولعل تقييد الحق بالمتقين في الآية لإِفادة هذا الغرض.
والمراد بالخير المال، وكأنه المال المعتد به، دون اليسير الذي لا يعبأ به والمراد بالمعروف هو المعروف المتداول من الصنيعة والإِحسان.
قوله تعالى: { فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه }، ضمير إثمه راجع إلى التبديل، والباقي من الضمائر إلى الوصية بالمعروف، وهي مصدر يجوز فيه الوجهان وإنما قال على الذين يبدلونه، ولم يقل عليهم ليكون فيه دلالة على سبب الإِثم وهو تبديل الوصية بالمعروف وليستقيم تفريع الآية التالية عليه.
قوله تعالى: { فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه }، الجنف هو الميل والانحراف، وقيل: هو ميل القدمين إلى الخارج كما أن الحنف بالحاء المهملة انحرافهما إلى الداخل، والمراد على أي حال الميل إلى الإِثم بقرينة الإِثم، والآية تفريع على الآية السابقة عليها، والمعنى (والله أعلم) فإنما إثم التبديل على الذين يبدلون الوصية بالمعروف، ويتفرع عليه: أن من خاف من وصية الموصي أن تكون وصيته بالإِثم أو مائلاً إليه فأصلح بينهم برده إلى ما لا إثم فيه فلا إثم عليه لأنه لم يبدل وصيته بالمعروف بل إنما بدل ما فيه إثم أو جنف.
(بحث روائي)
وفي الكافي والتهذيب وتفسير العياشي - واللفظ للأخير - عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام سألته عن الوصية تجوز للوارث؟ قال نعم ثم تلا هذه الآية: { إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين }.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عن أبيه عن علي عليه السلام قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية.
وفي تفسير العياشي أيضاً عن الصادق عليه السلام في الآية قال: حق جعله الله في أموال الناس لصاحب هذا الأمر، قال: قلت: لذلك حد محدود، قال: نعم، قلت: كم؟ قال: أدناه السدس وأكثره الثلث.
أقول: وروى هذا المعنى الصدوق أيضاً في الفقيه عنه عليه السلام وهو استفادة لطيفة من الآية بضم قوله تعالى:
{ { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أُمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلاَّ أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً كان ذلك في الكتاب مسطوراً } [الأحزاب: 6]، فإن الآية هي الناسخة لحكم التوارث بالاخوة الذي كان في صدر الإِسلام فقد نفت التوارث بالاخوة وأثبتته للقرابة ثم استثنى ما فعل من معروف في حق الأولياء، وقد عدت النبي ولياً والطاهرين من ذريته أولياء لهم، وهذا المعروف المستثنى مورد قوله تعالى: { إن ترك خيراً الوصية } الآية - وهم قربى - فافهم.
وفي تفسير العياشي عن أحدهما عليهما السلام في قوله تعالى: { كتب عليكم إذا حضر } الآية، قال عليه السلام: هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث.
أقول: مقتضى الجمع بين الروايات السابقة وبين هذه الرواية أن المنسوخ من الآية. هو الوجوب فقط فيبقى الاستحباب على حاله.
وفي المجمع عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله: { فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً } الآية، قال الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري أنه يجوز.
وفي تفسير القمي، قال الصادق عليه السلام إذا الرجل أوصى بوصيته فلا يجوز للوصي أن يغير وصية يوصيها بل يمضيها على ما أوصى إلاَّ أن يوصي بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية ويظلم، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته ويحرم بعضاً، فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق وهو قوله: { جنفاً أو إثماً }، والجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض، والإِثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران واتخاذ المسكر فيحل للوصي أن لا يعمل بشيء من ذلك.
أقول: وبما في الرواية من معنى الجنف يظهر معنى قوله تعالى: { فأصلح بينهم }: فالمراد الإِصلاح بين الورثة لوقوع النزاع بينهم من جهة جنف الموصي.
وفي الكافي عن محمد بن سوقة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجل: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، قال: نسختها التي بعدها قوله: { فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه }، قال: يعني الموصي إليه إن خاف جنفاً من الموصي في ولده فيما أوصى به إليه فيما لا يرضى الله به من خلاف الحق فلا إثم عليه أي على الموصى إليه أن يبدله إلى الحق وإلى ما يرضى الله به من سبيل الحق.
أقول: هذا من تفسير الآية بالآية فإطلاق النسخ عليه ليس على الاصطلاح وقد مرّ أن النسخ في كلامهم ربما يطلق على غير ما اصطلح عليه الأصوليون.