التفاسير

< >
عرض

وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٩٦
ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٧
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ
١٩٨
ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٩
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
٢٠١
أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٢٠٢
وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاۤ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ ٱتَّقَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٠٣
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
نزلت الآيات في حجة الوداع، آخر حجة حجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها تشريع حج التمتع.
قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله }، تمام الشيء هو الجزء الذي بانضمامه إلى سائر أجزاء الشيء هو هو، ويترتب عليه آثاره المطلوبة منه، فالإتمام هو ضم تمام الشيء إليه بعد الشروع في بعض أجزائه، والكمال هو حال أو وصف أو أمر إذا وجده الشيء ترتب عليه من الأثر بعد تمامه ما لا يترتب عليه لولا الكمال، فانضمام أجزاء الإنسان بعضها إلى بعض هو تمامه، وكونه إنساناً عالماً أو شجاعاً أو عفيفاً كماله، وربما يستعمل التمام مقام الكمال بالاستعارة بدعوى كون الوصف الزائد على الشيء داخلاً فيه اهتماماً بأمره وشأنه، والمراد بإتمام الحج والعمرة هو المعنى الأول الحقيقي، والدليل عليه قوله تعالى بعده: { فإن أُحصرتم فما استيسر من الهدى }، فإن ذلك تفريع على التمام بمعنى إيصال العمل إلى آخر أجزائه وضمه إلى أجزائه المأتي بها بعد الشروع ولا معنى يصحح تفريعه على الإتمام بمعنى الإكمال وهو ظاهر.
والحج هو العمل المعروف بين المسلمين الذي شرعه إبراهيم الخليل عليه السلام وكان بعده بين العرب ثم أمضاه الله سبحانه لهذه الأمة شريعة باقية إلى يوم القيامة.
ويبتدي هذا العمل بالإحرام والوقوف في العرفات ثم المشعر الحرام، وفيها التضحية بمنى ورمي الجمرات الثلاث والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة، وفيها أُمور مفروضة أُخر، وهو على ثلاثة أقسام: حج الافراد، وحج القران، وحج التمتع الذي شرعه الله في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والعمرة عمل آخر وهو زيارة البيت بالإحرام من أحد المواقيت والطواف وصلاته والسعي بين الصفا والمروة والتقصير، وهما: أعني الحج والعمرة عبادتان لا يتمان إلا لوجه الله ويدل عليه قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } الآية.
قوله تعالى: { فإن أُحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم } "إلخ"، الإحصار هو الحبس والمنع، والمراد الممنوعية عن الإتمام بسبب مرض أو عدو بعد الشروع بالإحرام والاستيسار صيرورة الشيء يسيراً غير عسير كأنه يجلب اليسر لنفسه، والهدي هو ما يقدمه الإنسان من النعم إلى غيره أو إلى محل للتقرب به، وأصله من الهدية بمعنى التحفة أو من الهدي بمعنى الهداية التي هي السوق إلى المقصود، والهدي والهدية كالتمر والتمرة، والمراد به ما يسوقه الإنسان للتضحية به في حجه من النعم.
قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه } "إلخ"، الفاء للتفريع، وتفريع هذا الحكم على النهي عن حلق الرأس يدل على أن المراد بالمرض هو خصوص المرض الذي يتضرر فيه من ترك الشعر على الرأس من غير حلق، والإتيان بقوله: أو أذى من رأسه بلفظة أو الترديد يدل على أن المراد بالأذى ما كان من غير طريق المرض كالهوام فهو كناية عن التأذي من الهوام كالقمل على الرأس، فهذان الأمران يجوزان الحلق مع الفدية بشيء من الخصال الثلاث: التي هي الصيام، والصدقة، والنسك.
وقد وردت السنة أن الصيام ثلاثة أيام، وأن الصدقة إطعام ستة مساكين، وأن النسك شاة.
قوله تعالى: { فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج }، تفريع على الاحصار، أي إذا أمنتم المانع من مرض أو عدو أو غير ذلك فمن تمتع بالعمرة إلى الحج، أي تمتع بسبب العمرة من حيث ختمها والإحلال إلى زمان الإهلال بالحج فما استيسر من الهدي، فالباء للسببية، وسببية العمرة للتمتع بما كان لا يجوز له في حال الإحرام كالنساء والصيد ونحوهما من جهة تمامها بالإحلال.
قوله تعالى: { فما استيسر من الهدي }، ظاهر الآية أن ذلك نسك، لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات فإن ذلك أمر يحتاج إلى زيادة مؤنة في فهمه من الآية كما هو ظاهر.
فإن قيل: إن ترتيب قوله: فما استيسر من الهدي، على قوله: { فمن تمتع } ترتب الجزاء على الشرط مع أن اشتمال الشرط على لفظ التمتع مشعر بأن الهدى واقع بإزاء التمتع الذي هو نوع تسهيل شرع له تخفيفاً فهو جبران لذلك.
قلت: يدفعه قوله تعالى: { بالعمرة }، فإن ذلك يناسب التجويز للتمتع في أثناء عمل واحد، ولا معنى للتسهيل حيث لا إحرام لتمام العمرة وعدم الإهلال بالحج بعد، على أن هذا الاستشعار لو صح فإنما يتم به كون تشريع الهدي من أجل تشريع التمتع بالعمرة إلى الحج لا كون الهدي جبراناً لما فاته من الإهلال بالحج من الميقات دون مكة، وظاهر الآية كون قوله: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } إخباراً عن تشريع التمتع لا إنشاء للتشريع فإنه يجعل التمتع مفروغاً عنه ثم يبني عليه تشريع الهدي، ففرق بين قولنا: من تمتع فعليه هدي وقولنا تمتعوا وسوقوا الهدي، وأما إنشاء تشريع التمتع فإنما يتضمنه قوله تعالى في ذيل الآية: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.
قوله تعالى: { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم }، جعل الحج ظرفاً للصيام باعتبار اتحاده مع زمان الاشتغال به ومكانه، فالزمان الذي يعد زماناً للحج، وهو من زمان إحرام الحج إلى الرجوع، زمان الصيام ثلاثة أيام، ولذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت، أن وقت الصيام قبل يوم الأضحى أو بعد أيام التشريق لمن لم يقدر على الصيام قبله وإلا فعند الرجوع إلى وطنه، وظرف السبعة إنما هو بعد الرجوع فإن ذلك هو الظاهر من قوله: { إذا رجعتم }، ولم يقل حين الرجوع على أن الالتفات من الغيبة إلى الحضور في قوله: { إذا رجعتم } لا يخلو عن إشعار بذلك.
قوله تعالى: { تلك عشرة كاملة }، أي الثلاثة والسبعة عشرة كاملة وفي جعل السبعة مكملة للعشرة لا متمة دلالة على أن لكل من الثلاثة والسبعة حكماً مستقلاً آخر على ما مرّ من معنى التمام والكمال في أول الآية فالثلاثة عمل تام في نفسه، وإنما تتوقف على السبعة في كمالها لا تمامها.
قوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }، أي الحكم المتقدم ذكره وهو التمتع بالعمرة إلى الحج لغير الحاضر، وهو الذي بينه وبين المسجد الحرام أكثر من اثني عشر ميلاً على ما فسرته السنة، وأهل الرجل خاصته: من زوجته وعياله، والتعبير عن النائي البعيد بأن لا يكون أهله حاضري المسجد الحرام من ألطف التعبيرات، وفيه إيماء إلى حكمة التشريع وهو التخفيف والتسهيل، فإن المسافر من البلاد النائية للحج، وهو عمل لا يخلو من الكد ومقاسات التعب ووعثاء الطريق، لا يخلو عن الحاجة إلى السكن والراحة، والإنسان إنما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنائي أهل عند المسجد الحرام، فبدله الله سبحانه من التمتع بالعمرة إلى الحج والإهلال بالحج من المسجد الحرام من غير أن يسير ثانياً إلى الميقات.
وقد عرفت: أن الجملة الدالة على تشريع المتعة إنما هي هذه الجملة أعني قوله: { ذلك لمن لم يكن } "إلخ"، دون قوله: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج }، هو كلام مطلق غير مقيد بوقت دون وقت ولا شخص دون شخص ولا حال دون حال.
قوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب }، التشديد البالغ في هذا التذليل مع أن صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكم في الحج ينبئ عن أن المخاطبين كان المترقب من حالهم إنكار الحكم أو التوقف في قبوله وكذلك كان الأمر فإن الحج خاصة من بين الأحكام المشرعة في الدين كان موجوداً بينهم من عصر إبراهيم الخليل معروفاً عندهم معمولاً به فيهم قد أنسته نفوسهم وألفته قلوبهم وقد أمضاه الإسلام على ما كان تقريباً إلى آخر عهد النبي فلم يكن تغيير وضعه أمراً هيناً سهل القبول عندهم ولذلك قابلوه بالانكار وكان ذلك غير واقع في نفوس كثير منهم على ما يظهر من الروايات، ولذلك اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يخطبهم فبين لهم أن الحكم لله يحكم ما يشاء، وأنه حكم عام لا يستثنى فيه أحد من نبي أو أمة فهذا هو الموجب للتشديد الذي في آخر الآية بالأمر بالتقوى والتحذير عن عقاب الله سبحانه.
قوله تعالى: { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج } إلى قوله: { في الحج }، أي زمان الحج أشهر معلومات عند القوم وقد بينته السنة وهي: شوال وذو القعدة وذو الحجة.
وكون زمان الحج من ذي الحجة بعض هذا الشهر دون كله لا ينافي عده شهراً للحج فإنه من قبيل قولنا: زمان مجيئي إليك يوم الجمعة مع أن المجيء إنما هو في بعضه دون جميعه.
وفي تكرار لفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز، فإن المراد بالحج الأول زمان الحج وبالحج الثاني نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه، ولولا الإظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل.
وفرض الحج جعله فرضاً على نفسه بالشروع فيه لقوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } الآية، والرفث كما مر مطلق التصريح بما يكنى عنه، والفسوق هو الخروج عن الطاعة، والجدال المراء في الكلام، لكن السنة فسرت الرفث بالجماع، والفسوق، بالكذب، والجدال بقول لا والله وبلى والله.
قوله تعالى: { وما تفعلوا من خير يعلمه الله }، تذكرة بأن الأعمال غير غائبة عنه تعالى، ودعوة إلى التقوى لئلا يفقد المشتغل بطاعة الله روح الحضور ومعنى العمل، وهذا دأب القرآن يبين أُصول المعارف ويقص القصص ويذكر الشرائع ويشفع البيان في جميعها بالعظة والوصية لئلا يفارق العلم، والعمل، فإن العلم من غير عمل لا قيمة له في الإسلام، ولذلك ختم هذه الدعوة بقوله: { واتقونِ يا أُولي الألباب }، بالعدول من الغيبة إلى التكلم الذي يدل على كمال الاهتمام والاقتراب والتعين.
قوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم }، هو نظير قوله تعالى:
{ { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } [الجمعة: 9] إلى أن قال: { { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [الجمعة: 10]، فبدل البيع بالابتغاء من فضل الله فهو هو، ولذلك فسرت السنة الابتغاء من الفضل في هذه الآية من البيع فدلت الآية على إباحة البيع أثناء الحج.
قوله تعالى: { فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام }، الإفاضة هي الصدور عن المكان جماعة فهي تدل على وقوف عرفات كما تدل على الوقوف بالمشعر الحرام، وهي المزدلفة.
قوله تعالى: { واذكروه كما هداكم } "إلخ" أي واذكروه ذكراً يماثل هدايته إياكم وإنكم كنتم من قبل هدايته إياكم لمن الضالين.
قوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس }، ظاهره إيجاب الإفاضة على ما كان من دأب الناس وإلحاق المخاطبين في هذا الشأن بهم فينطبق على ما نقل أن قريشاً وحلفائها وهم الحمس كانوا لا يقفون بعرفات بل بالمزدلفة وكانوا يقولون: نحن أهل حرم الله لا نفارق الحرم فأمرهم الله سبحانه بالإفاضة من حيث أفاض الناس وهو عرفات.
وعلى هذا فذكر هذا الحكم بعد قوله: { فإذا أفضتم من عرفات }، بثم الدالة على التأخير اعتبار للترتيب الذكري، والكلام بمنزلة الاستدراك، والمعنى أن أحكام الحج هي التي ذكرت غير أنه يجب عليكم في الإفاضة أن تفيضوا من عرفات لا من المزدلفة، وربما قيل: إن في الآيتين تقديماً وتأخيراً في التأليف، والترتيب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات.
قوله تعالى: { فإذا قضيتم مناسككم } إلى قوله: { ذكراً }، دعوة إلى ذكر الله والبلاغ فيه بأن يذكره الناسك كذكره آبائه وأشد منه لأن نعمته في حقه وهي نعمة الهداية كما ذكره بقوله تعالى: { واذكروه كما هداكم } أعظم من حق آبائه عليه، وقد قيل: إن العرب كانت في الجاهلية إذا فرغت من الحج مكثت حيناً في منى فكانوا يتفاخرون بالآباء بالنظم والنثر فبدله الله تعالى من ذكره كذكرهم أو أشد من ذكرهم، وأو في قوله أو أشد ذكراً للإضراب فتفيد معنى بل، وقد وصف الذكر بالشدة وهو أمر يقبل الشدة في الكيفية كما يقبل الكثرة في الكمية، قال تعالى:
{ { واذكروا الله كثيراً } [الأنفال: 45]، وقال تعالى: { { والذاكرين الله كثيراً } [الأحزاب: 35]، فإن الذكر بحسب الحقيقة ليس مقصوراً في اللفظ، بل هو أمر يتعلق بالحضور القلبي واللفظ حاك عنه، فيمكن أن يتصف بالكثرة من حيث الموارد بأن يذكر الله سبحانه في غالب الحالات كما قال تعالى: { { الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم } [آل عمران: 191]، وأن يتصف بالشدة في مورد من الموارد، ولما كان المورد المستفاد من قوله تعالى: { فإذا قضيتم مناسككم }، مورداً يستوجب التلهي عنه تعالى ونسيانه كان الأنسب توصيف الذكر الذي أُمر به فيه بالشدة دون الكثرة كما هو ظاهر.
قوله تعالى: { فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا } "إلخ" تفريع على قوله تعالى: { فاذكروا الله كذكركم آباءكم }، والناس مطلق، فالمراد به أفراد الإنسان أعم من الكافر الذي لا يذكر إلا آبائه أي لا يبتغي إلا المفاخر الدنيوية ولا يطلب إلا الدنيا ولا شغل له بالآخرة، ومن المؤمن الذي لا يريد إلا ما عند الله سبحانه، ولو أراد من الدنيا شيئاً لم يرد إلا ما يرتضيه له ربه، وعلى هذا فالمراد بالقول والدعاء ما هو سؤال بلسان الحال دون المقال، ويكون معنى الآية أن من الناس من لا يريد إلا الدنيا ولا نصيب له في الآخرة ومنهم من لا يريد إلا ما يرتضيه له ربه سواء في الدنيا أو في الآخرة ولهؤلاء نصيب في الآخرة.
ومن هنا يظهر: وجه ذكر الحسنة في قول أهل الآخرة دون أهل الدنيا، وذلك أن من يريد الدنيا لا يقيده بأن يكون حسناً عند الله سبحانه بل الدنيا وما هو يتمتع به في الحياة الأرضية كلها حسنة عنده موافقة لهوى نفسه، وهذا بخلاف من يريد ما عند الله سبحانه، فإن ما في الدنيا وما في الآخرة ينقسم عنده إلى حسنة وسيئة ولا يريد ولا يسأل ربه إلا الحسنة دون السيئة.
والمقابلة بين قوله: { وما له في الآخرة من خلاق }، وقوله: { أُولئك لهم نصيب مما كسبوا }، تعطي أن أعمال الطائفة الأولى باطلة حابطة بخلاف الثانية كما قال تعالى:
{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً } [الفرقان: 23]، وقال تعالى: { { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } [الأحقاف: 20]، وقال تعالى: { { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً } [الكهف: 105]. قوله تعالى: { والله سريع الحساب }، اسم من أسماء الله الحسنى، وإطلاقه يدل على شموله للدنيا والآخرة معاً، فالحساب جار، كلما عمل عبد شيئاً من الحسنات أو غيرها آتاه الله الجزاء جزاءً وفاقاً.
فالمحصل من معنى قوله: { فمن الناس من يقول } إلى آخر الآيات، أن اذكروا الله تعالى فإن الناس على طائفتين: منهم من يريد الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الآخرة والله سريع الحساب، يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه كما يريد، فكونوا من أهل النصيب بذكر الله ولا تكونوا ممن لا خلاق له بتركه ذكر ربه فتكونوا قانطين آئسين.
قوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات }، الأيام المعدودات هي أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة، والدليل على أن هذه الأيام بعد العشرة من ذي الحجة ذكر الحكم بعد الفراغ عن ذكر أعمال الحج، والدليل على كونها ثلاثة أيام قوله تعالى: { فمن تعجل في يومين } "إلخ"، فإن التعجل في يومين إنما يكون إذا كانت الأيام ثلاثة: يوم ينفر فيه، ويومان يتعجل فيهما فهي ثلاثة، وقد فسرت في الروايات بذلك أيضاً.
قوله تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى }، لا نافية للجنس فقوله: { لا إثم عليه } في الموضعين ينفي جنس الإثم عن الحاج ولم يقيد بشيء أصلاً، ولو كان المراد لا إثم عليه في التعجل أو في التأخر لكان من اللازم تقييده به، فالمعنى أن من أتم عمل الحج فهو مغفور لا ذنب له سواء تعجل في يومين أو تأخر، ومن هنا يظهر: ان الآية ليست في مقام بيان التخيير بين التأخر والتعجل للناسك، بل المراد بيان كون الذنوب مغفورة للناسك على أي حال.
وأما قوله: { لمن اتقى }، فليس بياناً للتعجل والتأخر وإلا لكان حق الكلام أن يقال: على من اتقى، بل الظاهر أن قوله: { لمن اتقى } نظير قوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } الآية، والمراد أن هذا الحكم لمن اتقى وأما من لم يتق فليس له، ومن اللازم أن يكون هذه التقوى تقوى مما نهى الله سبحانه عنه في الحج واختصه به فيؤل المعنى أن الحكم إنما هو لمن اتقى تروك الإحرام أو بعضها، أما من لم يتق فيجب أن يقيم بمنى ويذكر الله في أيام معدودات، وقد ورد هذا المعنى في بعض ما روي عن أئمه أهل البيت عليهم السلام كما سيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى: { واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون }، أمر بالتقوى في خاتمة الكلام وتذكير بالحشر والبعث، فإن التقوى لا تتم والمعصية لا تجتنب إلا مع ذكر يوم الجزاء، قال تعالى:
{ { إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب } [ص: 26]، وفي اختيار لفظ الحشر في قوله تعالى: { أنكم إليه تحشرون }، مع ما في نسك الحج من حشر الناس وجمعهم لطف ظاهر، وإشعار بأن الناسك ينبغي أن يذكر بهذا الجمع والإفاضة يوماً يحشر الله سبحانه الناس لا يغادر منهم أحداً.
(بحث روائي)
في التهذيب وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله }، قال: هما مفروضان.
وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالوا: سألناهما عن قوله: { وأتموا الحج والعمرة لله }، قالا: فإن تمام الحج أن لا يرفث ولا يفسق ولا يجادل.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في حديث قال: يعني بتمامهما أدائهما، واتقاء ما يتقي المحرم فيهما.
أقول: والروايات غير منافية لما قدمناه من معنى الإتمام فإن فرضهما وأدائهما هو إتمامهما.
وفي الكافي عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين حج حجة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتى أتى الشجرة وصلى بها ثم قاد راحلته حتى أتى البيداء فأحرم منها وأهل بالحج وساق مائة بدنة وأحرم الناس كلهم بالحج لا ينوون عمرة ولا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة طاف بالبيت وطاف الناس معه ثم صلى ركعتين عند المقام واستلم الحجر، ثم قال: أبد بما بدأ الله عزَّ وجلَّ به، فأتى الصفا فبدأ بها ثم طاف بين الصفا والمروة سبعاً، فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيباً وأمرهم أن يحلوا ويجعلوها عمرة، وهو شيء أمر الله عزَّ وجلَّ به فأحل الناس، وقال رسول الله: لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، ولم يكن يستطيع من أجل الهدي الذي معه، إن الله عزَّ وجلَّ يقول: ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله، قال سراقة بن جعثم الكناني: علمنا ديننا كأنا خلقنا اليوم، أرأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا أو لكل عام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا بل للأبد، وإن رجلاً قام فقال: يا رسول الله نخرج حجاجاً ورؤوسنا تقطر من نسائنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنك لن تؤمن بها أبداً، قال عليه السلام: وأقبل علي عليه السلام من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد أحلت ووجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستفتياً فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي بأي شيء أهللت؟ فقال بما أهل به النبي، فقال: لا تحل أنت فأشركه في الهدي وجعل له سبعاً وثلاثين ونحر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً وستين فنحرها بيده ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد ثم أمر به فطبخ فأكل منه وحسا من المرق وقال صلى الله عليه وآله وسلم قد أكلنا الآن منه جميعاً والمتعة خير من القارن السائق وخير من الحاج المفرد، قال: وسألته: ليلاً أحرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم نهاراً؟ فقال: نهاراً، فقلت: أي ساعة؟ قال: صلاة الظهر.
أقول: وقد روي هذا المعنى في المجمع وغيره.
وفي التهذيب عن الصادق عليه السلام قال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامه فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فليس لأحد إلا أن يتمتع لأن الله أنزل ذلك في كتابه وجرت به السنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الكافي أيضاً عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { فما استيسر من الهدي } شاة.
وفي الكافي أيضاً عن الصادق عليه السلام في المتمتع لا يجد الشاة، قال: يصوم قبل التروية بيوم التروية ويوم عرفة، قيل: فإنه قد قدم يوم التروية؟ قال: يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق، قيل: لم يقم عليه جماله؟ قال: يصوم يوم الحصبة وبعده يومين، قيل: وما الحصبة؟ قال يوم نفره، قيل: يصوم وهو مسافر؟ قال: نعم أليس هو يوم عرفة مسافراً؟ إنا أهل بيت نقول بذلك، يقول الله تعالى: { فصيام ثلاثة أيام في الحج }، يقول: في ذي الحجة.
وروى الشيخ عن الصادق عليه السلام قال: ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام، وليس له متعة.
أقول: يعني إن ما دون المواقيت فساكنه يصدق عليه أنه من حاضري المسجد الحرام وليس له متعة، والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أئمه أهل البيت عليهم السلام.
وفي الكافي عن الباقر عليه السلام في قوله تعالى: { الحج أشهر معلومات }، قال: الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة ليس لأحد أن يحج فيما سواهن.
وفيه عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { فمن فرض فيهن } "إلخ"، الفرض التلبية والاشعار والتقليد فأي ذلك فعل فقد فرض الحج.
وفي الكافي عنه عليه السلام في قوله تعالى: { فلا رفث } "إلخ"، الرفث الجماع، والفسوق الكذب والسباب، والجدال قول الرجل: لا والله وبلى والله.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم } الآيه يعني الرزق فإذا أحلَّ الرجل من إحرامه وقضى فليشتر وليبع في الموسم.
أقول: ويقال: إنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج فرفع الله ذلك بالآية.
وفي المجمع، وقيل: معناه لا جناح عليكم أن تطلبوا المغفرة من ربكم، رواه جابر عن أبي جعفر عليه السلام.
أقول: وفيه تمسك بإطلاق الفضل وتطبيقه بأفضل الافراد.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } الآيه، قال: إن أهل الحرم كانوا يقفون على المشعر الحرام ويقف الناس بعرفة ولا يفيضون حتى يطلع عليهم أهل عرفة، وكان رجل يكنى أبا سيار وكان له حمار فاره، وكان يسبق أهل عرفه، فإذا طلع عليهم قالوا: هذا أبو سيار ثم أفاضوا فأمرهم الله أن يقفوا بعرفة وأن يفيضوا منه.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة }، قال: رضوان الله والجنة في الآخرة، والسعة في الرزق وحسن الخلق في الدنيا.
وعنه عليه السلام قال: رضوان الله والتوسعة في المعيشة وحسن الصحبة، وفي الآخرة الجنة.
وعن علي عليه السلام في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرأة السوء.
أقول: والروايات من قبيل عد المصداق والآيه مطلقة، ولما كان رضوان الله تعالى مما يمكن حصوله في الدنيا وظهوره التام في الآخرة صح أن يعد من حسنات الدنيا كما في الرواية الأولى أو الآخرة كما في الرواية الثانية.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { واذكروا الله في أيام معدودات } الآية، قال: وهي أيام التشريق، وكانوا إذا أقاموا بمنى بعد النحر تفاخروا فقال الرجل منهم: كان أبي يفعل كذا وكذا، فقال الله جلَّ شأنه: { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكراً }، قال: والتكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام.
وفيه عنه عليه السلام قال: والتكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، وفي الأمصار يكبر عقيب عشر صلوات.
وفي الفقيه في قوله تعالى: { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه } الآية، سئل الصادق عليه السلام في هذه الآية فقال: ليس هو على أن ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنه يرجع مغفوراً له لا ذنب له.
وفي تفسير العياشي عنه عليه السلام قال يرجع مغفوراً له لا ذنب له لمن اتقى.
وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { لمن اتقى } الآية، قال: يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى.
وعن الباقر عليه السلام لمن اتقى الرفث والفسوق والجدال وما حرم الله في إحرامه.
وعنه أيضاً: لمن اتقى الله عزَّ وجلَّ.
وعن الصادق عليه السلام لمن اتقى الكبائر.
أقول: قد عرفت ما يدل عليه الآية، ويمكن التمسك بعموم التقوى كما في الروايتين الأخيرتين.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: أخرج البخاري والبيهقي عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج فقال: أهلّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة، قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل حتى يبلغ الهدي ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال الله: { فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } إلى أمصاركم والشاة تجزي فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه وأباحه للناس غير أهل مكة، قال الله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }، وأشهر الحج التي ذكر الله: شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر فعليه دم أو صوم، والرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال المراء.
وفي الدر المنثور أيضاً: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر، قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعمره إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
وفي الدر المنثور أيضاً: أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد وعطاء عن جابر: قال: كثرت القالة من الناس فخرجنا حجاجاً حتى إذا لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل أمرنا بالإحلال، قلنا: أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منياً؟ فبلغ ذلك رسول الله فقام خطيباً فقال: أبالله تعلمون أيها الناس؟ فأنا والله أعلمكم بالله وأتقاكم له ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هدياً ولحللت كما أحلوا، فمن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، ومن وجد هدياً فلينحر فكنا ننحر الجزور عن سبعة، قال عطاء: قال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم يومئذ في أصحابه غنماً فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه.
وفي الدر المنثور أيضاً: أخرج ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى عليه وآله وسلم ثم لم ينزل آية تنسخ آية متعة الحج ولم ينه عنه حتى مات، قال رجل برأيه ما شاء.
أقول: وقد رويت الرواية بألفاظ أُخرى قريبة المعنى مما نقله في الدر المنثور.
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن النسائي عن مطرف، قال: بعث إلى عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي فإن عشت فاكتم علي وإن مت فحدث بها عني إني قد سلم علي وأعلم أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع بين حج وعمرة ثم لم ينزل فيه كتاب الله ولم ينه عنه نبي الله، قال رجل فيها برأيه ما شاء.
وفي صحيح الترمذي أيضاً، وزاد المعاد لابن القيم سُئل عبد الله بن عمر عن متعة الحج، قال: هي حلال فقال له السائل: إن أباك قد نهى عنها فقال: أرأيت إن كان أبي نهى وصنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أأمر أبي تتبع أم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال الرجل: بل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي صحيح الترمذي وسنن النسائي وسنن البيهقي وموطأ مالك وكتاب الأم للشافعي عن محمد بن عبد الله أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله، فقال سعد بئسما قلت يا بن أخي، قال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب نهى عن ذلك، قال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه.
وفي الدر المنثور: أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن أبي موسى، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالبطحاء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أهللت؟ قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: هل سقت من هدي؟ قلت: لا، قال: طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأه من قومي فمشطتني رأسي وغسلت رأسي فكنت أُفتي الناس في إمارة أبي بكر وإمارة عمر فإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال: إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك فقلت: أيها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليتئد فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فاتموا فلما قدم قلت: ماذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: { وأتموا الحج والعمرة لله }، وأن نأخذ بسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لم يحل حتى نحر الهدي.
وفي الدر المنثور أيضاً: أخرج مسلم عن أبي نضرة، قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها فذكر ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسول الله ما شاء مما شاء وإن القرآن نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله وافصلوا حجكم من عمرتكم فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم.
وفي مسند أحمد عن أبي موسى أن عمر قال: هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني المتعة ولكني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجاً.
وفي جمع الجوامع للسيوطي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب نهى عن المتعة في أشهر الحج وقال: فعلتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أنهى عنها وذلك أن أحدكم يأتي من أفق من الآفاق شعثاً نصباً معتمراً في أشهر الحج وإنما شعثه ونصبه وتلبيته في عمرته ثم يقدم فيطوف بالبيت ويحل ويلبس ويتطيب ويقع على أهله إن كانوا معه حتى إذا كان يوم التروية أهل بالحج وخرج إلى منى يلبي بحجه لا شعث فيها ولا نصب ولا تلبية إلا يوماً والحج أفضل من العمرة، لو خلينا بينهم وبين هذا لعانقوهن تحت الأراك مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم.
وفي سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر، قال: قلت: إن ابن الزبير ينهي عن المتعة وإبن عباس يأمر به، قال: على يدي جرى الحديث، تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومع أبي بكر فلما ولي عمر خطب الناس، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرسول والقرآن هذا القرآن وإنهما كانتا متعتين على عهد رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وأنا أنهي عنهما وأُعاقب عليهما إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا غيبته بالحجارة والأخرى متعة الحج.
وفي سنن النسائي عن ابن عباس قال: سمعت عمر يقول: والله إني لأنهاكم عن المتعة وإنها لفي كتاب الله ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني العمرة في الحج.
وفي الدر المنثور: أخرج مسلم عن عبد الله بن شقيق، قال: كان عثمان ينهي عن المتعة وكان علي يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة فقال علي عليه السلام: لقد علمت إنا تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ولكنا كنا خائفين.
وفي الدر المنثور أيضاً: أخرج ابن أبي شيبة ومسلم عن أبي ذر كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة.
وفي الدر المنثور أيضاً: أخرج مسلم عن أبي ذر قال: لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة جداً لكنا اقتصرنا منها على ما له دخل في غرضنا وهو البحث التفسيري عن نهيه، فإن هذا النهي ربما يبحث فيه من جهه كون ناهيه محقاً أو معذوراً فيه وعدم كونه كذلك، وهو بحث كلامي خارج عن غرضنا في هذا الكتاب.
وربما يبحث فيه من جهة اشتمال الروايات على الاستدلال على هذا المعنى بما له تعلق بالكتاب أو السنة فترتبط بدلالة ظاهر الكتاب والسنة، وهو سنخ بحثنا في هذا الكتاب.
فنقول: أما الاستدلال على النهي عن التمتع بأنه هو الذي يدل عليه قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } الآيه، وأن التمتع مما كان مختصاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما يدل عليه ما في رواية أبي نضرة عن جابر: أن الله كان يحل لرسوله ما شاء مما شاء وأن القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة كما أمركم الله، فقد عرفت: أن قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } الآيه، لا يدل على أزيد من وجوب إتمام الحج والعمرة بعد فرضهما. والدليل عليه قوله تعالى: { فإن أُحصرتم } "إلخ"، وأما كون الآيه دالة على الإتمام بمعنى فصل العمرة من الحج، وأن عدم الفصل كان أمراً خاصاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، أو به وبمن معه في تلك الحجة (حجة الوداع) فدون إثباته خرط القتاد.
وفيه مع ذلك اعتراف بأن التمتع كان سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في رواية النسائي عن ابن عباس من قوله: والله إني لأنهاكم عن المتعة إلى قوله: ولقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما الاستدلال عليه بأن في النهي أخذاً بالكتاب أو السنة كما في رواية أبي موسى من قوله: أن نأخذ بكتاب الله فإن الله قال: { وأتموا الحج والعمرة لله } وأن نأخذ بسنة نبينا لم يحل حتى نحر الهدي، انتهى، فقد عرفت أن الكتاب يدل على خلافه، وأما أن ترك التمتع سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكونه لم يحل حتى نحر الهدي ففيه:
أولاً: انه مناقض لما نص به نفسه على ما يثبته الروايات الأخر التي مر بعضها آنفاً.
وثانياً: ان الروايات ناصة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنعها، وانه صلى الله عليه وآله وسلم أهل بالعمرة وأهل ثانياً بالحج، وانه خطب وقال: أبالله تعلمون أيها الناس، ومن عجيب الدعوى في هذا المقام ما ادعاه ابن تيمية أن حج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان حج قران وأن المتعة كانت تطلق على حج القران!
وثالثاً: ان مجرد عدم حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله ليس إحراماً للحج ولا يثبت به ذلك، والآيه أيضاً تدل على أن سائق الهدي الذي حكمه عدم الحلق، إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فهو متمتع لا محالة.
ورابعاً: هب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بغير التمتع لكنه أمر جميع أصحابه ومن معه بالتمتع، وكيف يمكن أن يعد ما شأنه هذا سنته؟ وهل يمكن أن يتحقق أمر خص به رسول الله نفسه ويأمر أُمته بغيره وينزل به الكتاب ثم يكون بعد سنة متبعة بين الناس؟!
وأما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب هيئة لا تلائم وضع الحاج ويورده مورد الاستلذاذ بإتيان النساء واستعمال الطيب ولبس الفاخر من الثياب كما يدل عليه ما في رواية أحد عن أبي موسى من قوله: ولكني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجاً انتهى، وكما في بعض الروايات قد علمت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعله وأصحابه ولكني كرهت أن يعرسوا بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم انتهى، ففيه أنه اجتهاد في مقابل النص وقد نص الله ورسوله على الحكم، والله ورسوله أعلم بأن هذا الحكم يمكن أن يؤدي إلى ما كان يخشاه ويكرهه! ومن أعجب الأمر أن الآيه التي تشرع هذا الحكم يأتي في بيانها بعين المعنى الذي أظهر أنه يخشاه ويكرهه فقد قال تعالى: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج }، فهل التمتع إلا استيفاء الحظ من المتاع والالتذاذ بطيبات النكاح واللباس وغيرهما؟ وهو الذي كان يخشاه ويكرهه!
وأعجب منه: إن الأصحاب قد اعترضوا على الله ورسوله حين نزول الآية! وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمتع بعين ما جعله للنهي حين قالوا كما في رواية الدر المنثور عن الحاكم عن جابر قلنا: أيروح أحدنا إلى عرفة وفرجه يقطر منياً؟ انتهى؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقام خطيباً ورد عليهم قولهم وأمرهم ثانياً بالتمتع كما فرضه عليهم أولاً.
وأما الاستدلال عليه بأن التمتع يوجب تعطل أسواق مكة كما في رواية السيوطي عن سعيد بن المسيب من قوله: مع أن أهل البيت ليس لهم ضرع ولا زرع وإنما ربيعهم فيمن يطرأ عليهم انتهى.
ففيه أيضاً: أنه اجتهاد في مقابل النص، على أن الله سبحانه يرد عليه في نظير المسأله بقوله:
{ { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إنْ شاء إنَّ الله عليم حكيم } } [التوبة: 28]. وأما الاستدلال عليه بأن تشريع التمتع لمكان الخوف فلا تمتع في غير حال الخوف كما في رواية الدر المنثور عن مسلم عن عبد الله بن شقيق من قول عثمان لعلي عليه السلام ولكنا كنا خائفين انتهى؛ وقد روي نظيره عن ابن الزبير كما رواه في الدر المنثور، قال أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن الزبير أنه خطب فقال: يا أيها الناس والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحضره عدو أو مرض أو كسر، أو يحبسه أمر حتى يذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة فيتمتع تحلة إلى العام المقبل ثم يحج ويهدي هدياً فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج، الحديث.
ففيه: أن الآيه مطلقة تشمل الخائف وغيره فقد عرفت أن الجملة الدالة على تشريع حكم التمتع هي قوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام }، الآية، دون قوله تعالى: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } الآية.
على أن جميع الروايات ناصة في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى بحجه تمتعاً، وأنه أهل بإهلالين للعمرة والحج.
وأما الاستدلال عليه: بأن التمتع كان مختصاً بأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في روايتي الدر المنثور عن أبي ذر، فإن كان المراد ما ذكر من استدلال عثمان وابن الزبير فقد عرفت جوابه، وإن كان المراد أنه كان حكماً خاصاً لأصحاب النبي لا يشمل غيرهم، ففيه أنه مدفوع بإطلاق قوله تعالى: { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } الآية.
على أن إنكار بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الحكم وتركهم له كعمر وعثمان وابن الزبير وأبي موسى ومعاوية (وروي أن منهم أبا بكر) ينافي ذلك!
وأما الاستدلال عليه بالولاية وأنه إنما نهى عنه بحق ولايته الأمر وقد فرض الله طاعة أُولي الأمر إذ قال:
{ { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [النساء: 59] الآية، ففيه أن الولاية التي جعلها القرآن لأهلها لا يشمل المورد.
بيان ذلك: إن الآيات قد تكاثرت على وجوب اتباع ما أنزله الله على رسوله كقوله تعالى:
{ { اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم } [الأعراف: 3]، وما بيّنه رسول الله مما شرّعه هو بإذن الله تعالى كما يلوح من قوله تعالى: { { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } [التوبة: 29]، وقوله تعالى: { { ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر: 7]، فالمراد بالإيتاء الأمر بقرينة مقابلته بقوله: وما نهاكم عنه، فيجب إطاعة الله ورسوله بامتثال الأوامر وانتهاء النواهي، وكذلك الحكم والقضاء كما قال تعالى: { { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [المائدة: 45]، وفي موضع آخر: { { فأولئك هم الفاسقون } [المائدة:47]، وفي موضع آخر: { { فأولئك هم الكافرون } [المائدة: 44]، وقال تعالى: { { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } [الأحزاب: 36]، وقال: { { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة } [القصص: 68] فإن المراد بالاختيار هو القضاء والتشريع أو ما يعم ذلك، وقد نص القرآن على أنه كتاب غير منسوخ وان الأحكام باقية على ما هي عليها إلى يوم القيامة، قال تعالى: { { وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } [فصلت: 42]، فالآية مطلقة تشمل نسخ الحكم فما شرعه الله ورسوله أو قضى به الله ورسوله يجب اتباعه على الأمة، أُولي الأمر فمن دونهم.
ومن هنا يظهر: أن قوله تعالى: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم }، إنما يجعل لأولي الأمر حق الطاعة في غير الأحكام فهم ومن دونهم من الأمة سواء في أنه يجب عليهم التحفظ لأحكام الله ورسوله بل هو عليهم أوجب، فالذي يجب فيه طاعة أولي الأمر إنما هو ما يأمرون به وينهون عنه فيما يرون صلاح الأمة فيه، من فعل أو ترك مع حفظ حكم الله في الواقعة.
فكما أن الواحد من الناس له أن يتغذى يوم كذا أو لا يتغذى مع جواز الأكل له من مال نفسه، وله أن يبيع ويشتري يوم كذا أو يمسك عنه مع كون البيع حلالاً، وله أن يترافع إلى الحاكم إذا نازعه أحد في ملكه، وله أن يعرض عن الدفاع مع جواز الترافع، كل ذلك إذا رأى صلاح نفسه في ذلك مع بقاء الأحكام على حالها، وليس له أن يشرب الخمر، ولا له أن يأخذ الربا، ولا له أن يغصب مال غيره بإبطال ملكه وإن رأى صلاح نفسه في ذلك لأن ذلك كله يزاحم حكم الله تعالى، هذا كله في التصرف الشخصي، كذلك ولي الأمر له أن يتصرف في الأمور العامة على طبق المصالح الكلية مع حفظ الأحكام الإلهية على ما هي عليها، فيدافع عن ثغور الإسلام حيناً، ويمسك عن ذلك حيناً، على حسب ما يشخصه من المصالح العامة، أو يأمر بالتعطيل العمومي أو الإِنفاق العمومي يوماً إلى غير ذلك بحسب ما يراه من المصلحة.
وبالجملة كل ما للواحد من المسلمين أن يتصرف فيه بحسب صلاح شخصه مع التحفظ على حكم الله سبحانه في الواقعة فلولي الأمر من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتصرف فيه بحسب الصلاح العام العائد إلى حال المسلمين مع التحفظ بحكم الله سبحانه في الواقعة.
ولو جاز لولي الأمر أن يتصرف في الحكم التشريعي تكليفاً أو وضعاً بحسب ما يراه من صلاح الوقت لم يقم حكم على ساق، ولم يكن لاستمرار الشريعه إلى يوم القيامة معنى البتة، فما الفرق بين أن يقول قائل: إن حكم التمتع من طيبات الحياة لا يلائم هيئة النسك والعبادة من الناسك فيلزم تركه، وبين أن يقول القائل: إن إباحة الاسترقاق لا تناسب وضع الدنيا الحاضرة القاضية بالحرية العامة فيلزم إهمالها، أو أن إجراء الحدود مما لا تهضمه الإنسانية الراقية اليوم، والقوانين الجارية في العالم اليوم لا تقبله فيجب تعطيله؟!
وقد يفهم هذا المعنى من بعض الروايات في الباب كما في الدر المنثور: أخرج اسحاق بن راعويه في مسنده، وأحمد عن الحسن: أن عمر بن الخطاب همّ أن ينهي عن متعة الحج فقام إليه أُبي بن كعب، فقال: ليس ذلك لك قد نزل بها كتاب الله واعتمرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزل عمر.