التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢١٩
فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٢٢٠
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { يسألونك عن الخمر والميسر }، الخمر على ما يستفاد من اللغة هو كل مائع معمول للسكر، والأصل في معناه الستر، وسمي به لأنه يستر العقل ولا يدعه يميز الحسن من القبح والخير من الشر، ويقال: لما تغطي به المرأة رأسها الخمار، ويقال: خمرت الإناء إذا غطيت رأسها، ويقال: أخمرت العجين إذا أدخلت فيه الخمير، وسميت الخميرة خميرة لأنها تعجن أولاً ثم تغطى وتخمر من قبل، وقد كانت العرب لا تعرف من أقسامه إلا الخمر المعمول من العنب والتمر والشعير، ثم زاد الناس في أقسامه تدريجاً فصارت اليوم أنواعاً كثيرة ذات مراتب بحسب درجات السكر، والجميع خمر.
والميسر لغة هو القمار ويسمى المقامر ياسراً والأصل في معناه السهولة سمي به لسهولة اقتناء مال الغير به من غير تعب الكسب والعمل، وقد كان أكثر استعماله عند العرب في نوع خاص من القمار، وهو الضرب بالقداح وهي السهام، وتسمى أيضاً: الأزلام والأقلام.
وأما كيفيته فهي أنهم كانوا يشترون جزوراً وينحرونه، ثم يجزئونه ثمانية وعشرين جزءً، ثم يضعون عند ذلك عشر سهام وهي الفذ، والتوأم، والرقيب، والحلس، والنافس، والمسبل، والمعلي، والمنيح، والسنيح، والرغد، فللفذ جزء من الثمانية والعشرين جزءً، وللتوأم جزءان، وللرقيب ثلاثة أجزاء، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلي سبعة، وهو أكثر القداح نصيباً، وأما الثلاثة الأخيرة وهي المنيح والسنيح والرغد فلا نصيب لها، فمن خرج أحد القداح السبعة باسمه أخذ نصيبه من الأجزاء المفروضة، وصاحبو القداح الثلاثة الأخيرة يغرمون قيمة الجزور، ويتم هذا العمل بين عشرة رجال بنحو القرعة في الانصباء والسهام.
قوله تعالى: { قل فيهما إثم كبير }، وقرىء إثم كثير بالثاء المثلثة، والإِثم يقارب الذنب وما يشبهه معنى وهو حال في الشيء أو في العقل يبطئ الإنسان عن نيل الخيرات فهو الذنب في جهاتها الأخرى وهذان على هذه الصفة.
أما شرب الخمر فمضراته الطبية وآثاره السيئة في المعدة والأمعاء والكبد والرئة وسلسلة الأعصاب والشرائين والقلب والحواس كالباصرة والذائقة وغيرها مما ألّف فيه تأليفات من حذاق الأطباء قديماً وحديثاً، ولهم في ذلك إحصائيات عجيبة تكشف عن كثرة المبتلين بأنواع الأمراض المهلكة التي يستتبعها هذا السم المهلك.
وأما مضراته الخلقية: من تشويه الخلق وتأديته الإنسان إلى الفحش، والإضرار والجنايات، والقتل وإفشاء السر، وهتك الحرمات، وإبطال جميع القوانين والنواميس الإنسانية التي بنيت عليها أساس سعادة الحياة، وخاصة ناموس العفة في الأعراض والنفوس والأموال، فلا عاصم من سكران لا يدري ما يقول ولا يشعر بما يفعل، وقل ما يتفق جناية من هذه الجنايات التي قد ملأت الدنيا ونغصت عيشة الإنسان إلا وللخمر فيها صنع مستقيماً أو غير مستقيم.
وأما مضرته في الإدراك وسلبه العقل وتصرفه الغير المنتظم في أفكار الإنسان وتغييره مجرى الإدراك حين السكر وبعد الصحو فمما لا ينكره منكر وذلك أعظم ما فيه من الإثم والفساد، ومنه ينشأ جميع المفاسد الأخر.
والشريعة الإسلامية كما مرت إليه الإشارة وضعت أساس أحكامها على التحفظ على العقل السليم، ونهت عن الفعل المبطل لعمل العقل أشد النهى كالخمر، والميسر، والغش، والكذب، وغير ذلك، ومن أشد الأفعال المبطلة لحكومة العقل على سلامة هو شرب الخمر من بين الأفعال وقول الكذب والزور من بين الأموال.
فهذه الأعمال أعني: الأعمال المبطلة لحكومة العقل وعلى رأسها السياسات المبتنية على السكر والكذب هي التي تهدد الإنسانية، وتهدم بنيان السعادة ولا تأتي بثمرة عامة إلا وهي أمر من سابقتها، وكلما زاد الحمل ثقلاً وأعجز حامله زيد في الثقل رجاء المقدرة، فخاب السعي، وخسر العمل، ولو لم يكن لهذه المحجة البيضاء والشريعة الغراء إلا البناء على العقل والمنع عما يفسده من اتباع الهوى لكفاها فخراً، وللكلام تتمة سنتعرض لها في سورة المائدة إن شاء الله.
ولم يزل الناس بقريحتهم الحيوانية يميلون إلى لذائذ الشهوة فتشيع بينهم الأعمال الشهوانية أسرع من شيوع الحق والحقيقة، وانعقدت العادات على تناولها وشق تركها والجري على نواميس السعادة الإنسانية، ولذلك أن الله سبحانه شرع فيهم ما شرع من الأحكام على سبيل التدرج، وكلفهم بالرفق والإمهال.
ومن جملة تلك العادات الشائعة السيئة شرب الخمر فقد أخذ في تحريمه بالتدريج على ما يعطيه التدبر في إلآيات المربوطة به فقد نزلت أربع مرات: إحداها: قوله تعالى:
{ { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق } [الأعراف: 33]، والآية مكية حرم فيها الإثم صريحاً، وفي الخمر إثم غير أنه لم يبين أن الإثم ما هو وأن في الخمر إثماً كبيراً.
ولعل ذلك إنما كان نوعاً من الإرفاق والتسهيل لما في السكوت عن البيان من الإغماض كما يشعر به أيضاً قوله تعالى:
{ { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } [النحل: 67] والآية أيضاً مكية، وكأن الناس لم يكونوا متنبهين بما فيه من الحرمة الكبيرة حتى نزلت قوله تعالى: { { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } [النساء: 43]، والآية مدنية وهي تمنع الناس بعض المنع عن الشرب والسكر في أفضل الحالات وفي أفضل الأماكن وهي الصلاة في المسجد.
والاعتبار وسياق الآية الشريفة يأبى أن تنزل بعد آية البقرة وآيتي المائدة فإنهما تدلان على النهي المطلق، ولا معنى للنهي الخاص بعد ورود النهي المطلق، على أنه ينافي التدريج المفهوم من هذه الآيات، فإن التدريج سلوك من الأسهل إلى الأشق لا بالعكس.
ثم نزلت آية البقرة أعني قوله تعالى: { ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } وهذه الآية بعد آية النساء كما مر بيانه وتشتمل الآية على التحريم لدلالتها القطعية على الإثم في الخمر { فيهما إثم كبير } وتقدم نزول آية الأعراف المكية الصريحة في تحريم الإثم.
ومن هنا يظهر: فساد ما ذكره بعض المفسرين: ان آية البقرة ما كانت صريحة في الحرمة فإن قوله تعالى: { قل فيهما إثم كبير } لا يدل على أزيد من أن فيه إثماً والإثم هو الضرر، وتحريم كل ضار لا يدل على تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة أخرى، ولذلك كانت هذه الآية موضوعاً لاجتهاد الصحابة، فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون، كأنهم رأوا أنهم يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها فكان ذلك تمهيداً للقطع بتحريمها فنزل قوله تعالى: { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان } إلى قوله تعالى: { فهل أنتم منتهون }.
وجه الفساد أما أولاً: فإنه أخذ الإثم بمعنى الضرر مطلقاً وليس الإثم هو الضرر ومجرد مقابلته في الكلام مع المنفعة لا يستدعي كونه بمعنى الضرر المقابل للنفع، وكيف يمكن أخذ الإثم بمعنى الضرر في قوله تعالى:
{ { ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } [النساء: 48]، وقوله تعالى: { { فإنه آثم قلبه } [البقرة: 283]، وقوله تعالى: { { أن تبوء بإثمي وإثمك } [المائدة: 29]، وقوله تعالى: { { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم } [النور: 11]، وقوله تعالى: { { ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه } [النساء: 111]، إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ثانياً: فإن الآية لم تعلل الحكم بالضرر، ولو سلم ذلك فإنها تعلله بغلبة الضرر على المنفعة، ولفظها صريح في ذلك حيث يقول { وإثمهما أكبر من نفعهما } وإرجاعها مع ذلك إلى الاجتهاد، اجتهاد في مقابل النص.
وأما ثالثاً: فهب أن الآية في نفسها قاصرة الدلالة على الحرمة لكنها صريحة الدلالة على الإثم وهي مدنية قد سبقتها في النزول آية الأعراف المحرمة للإثم صريحاً فما عذر من سمع التحريم في آية مكية حتى يجتهد في آية مدنية.
على أن آية الأعراف تدل على تحريم مطلق الإثم وهذه الآية قيدت الإثم بالكبر ولا يبقى مع ذلك ريب لذي ريب في أن الخمر فرد تام ومصداق كامل للإثم لا ينبغي الشك في كونه من الإثم المحرم، وقد وصف القرآن القتل وكتمان الشهادة والافتراء وغير ذلك بالإِثم ولم يصف الإثم في شيء من ذلك بالكبر إلا في الخمر وفي الشرك حيث وصفه بالعظم في قوله تعالى:
{ { ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } [النساء: 48]، وبالجملة لا شك في دلالة الآية على التحريم.
ثم نزلت آيتا المائدة:
{ { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } [المائدة: 90-91]، وذيل الكلام يدل على أن المسلمين لم يكونوا منتهين بعد نزول آية البقرة عن شرب الخمر ولم ينتزعوا عنه بالكلية حتى نزلت الآية فقيل: فهل أنتم منتهون، هذا كله في الخمر.
وأما الميسر: فمفاسده الاجتماعية وهدمه لبنيان الحياة أمر مشهود معاين، والعيان يغني عن البيان، وسنتعرض لشأنه في سورة المائدة إن شاء الله.
ولنرجع إلى ما كنا فيه من البحث في مفردات الآية فقوله تعالى: { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس }، قد مر الكلام في معنى الإثم، وأما الكبر فهو في الأحجام بمنزلة الكثرة في الأعداد، والكبر يقابل الصغر كما أن الكثرة تقابل القلة، فهما وصفان إضافيان بمعنى أن الجسم أو الحجم يكون كبيراً بالنسبة إلى آخر أصغر منه وهو بعينه صغير بالنسبة إلى آخر أكبر منه، ولولا المقايسة والإضافة لم يكن كبر ولا صغر كما لا يكون كثرة ولا قلة، ويشبه أن يكون أول ما تنبه الناس لمعنى الكبر إنما تنبهوا له في الأحجام التي هي من الكميات المتصلة وهي جسمانية، ثم انتقلوا من الصور إلى المعاني فاستطردوا معنى الكبر والصغر فيها، قال تعالى:
{ { إنها لإِحدى الكبر } [المدثر: 35]، وقال تعالى: { { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } [الكهف: 5]، وقال تعالى: { { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } [الشورى: 13]، والعظم في معناه كالكبر، غير أن الظاهر أن العظمة مأخوذة من العظم الذي هو أحد أجزاء البدن من الحيوان، فإن كبر جسم الحيوان كان راجعاً إلى كبر العظام المركبة المؤلفة في داخله فاستعير العظم للكبر ثم تأصل فاشتق منه كالمواد الأصلية.
والنفع خلاف الضرر ويطلقان على الأمور المطلوبة لغيرها أو المكروهة لغيرها كما أن الخير والشر يطلقان على الأمور المطلوبة لذاتها أو المكروهة لذاتها، والمراد بالمنافع فيهما ما يقصده الناس بهما من الاستفادات المالية بالبيع والشرى والعمل والتفكه والتلهي، ولما قوبل ثانياً بين الإثم والمنافع بالكبر أوجب ذلك إفراد المنافع والغاء جهة الكثرة فيها، فإن العدد لا تأثير له في الكبر فقيل: وإثمهما أكبر من نفعهما ولم يقل من منافعهما.
قوله تعالى: { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو }، العفو على ما ذكره الراغب قصد الشيء لتناوله ثم أوجب لحوق العنايات المختلفة الكلامية به مجيئه لمعاني مختلفة كالعفو بمعنى المغفرة، والعفو بمعنى إمحاء الأثر، والعفو بمعنى التوسط في الإنفاق، وهذا هو المقصود في المقام، والله العالم.
والكلام في مطابقة الجواب للسؤال في هذه الآية نظير ما مر في قوله تعالى: { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } الآية.
قوله تعالى: { يبين الله لكم } إلى قوله: { في الدنيا والآخرة }، الظرف أعني قوله تعالى: { في الدنيا والآخرة }، متعلق بقوله: { تتفكرون } وليس بظرف له، والمعنى لعلكم تتفكرون في أمر الدارين وما يرتبط بكم من حقيقتهما، وأن الدنيا دار خلقها الله لكم لتحيوا فيها وتكسبوا ما ينفعكم في مقركم وهو الدار الآخرة التي ترجعون فيه إلى ربكم فيجازيكم بأعمالكم التي عملتموها في الدنيا.
وفي الآية أولاً: حث على البحث عن حقائق الوجود ومعارف المبدأ والمعاد وأسرار الطبيعة، والتفكر في طبيعة الاجتماع ونواميس الأخلاق وقوانين الحياة الفردية والاجتماعية، وبالجملة جميع العلوم الباحثة عن المبدأ والمعاد وما بينهما المرتبطة بسعادة الإنسان وشقاوته.
وثانياً: أن القرآن وإن كان يدعو إلى الإِطاعة المطلقة لله ورسوله من غير أي شرط وقيد، غير أنه لا يرضى أن تؤخذ الاحكام والمعارف التي يعطيها على العمى والجمود المحض من غير تفكر وتعقل يكشف عن حقيقة الأمر، وتنور يستضاء به الطريق في هذا السير والسرى.
وكأن المراد بالتبيين هو الكشف عن علل الأحكام والقوانين، وإيضاح أصول المعارف والعلوم.
قوله تعالى: { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير }، في الآية إشعار بل دلالة على نوع من التخفيف والتسهيل حيث أجازت المخالطة لليتامى، ثم قيل ولو شاء الله لأعنتكم، وهذا يكشف عن تشديد سابق من الله تعالى في أمر اليتامى يوجب التشويش والاضطراب في قلوب المسلمين حتى دعاهم على السؤال عن أمر اليتامى، والأمر على ذلك، فإن ها هنا آيات شديدة اللحن في أمر اليتامى كقوله تعالى:
{ { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } } [النساء: 10] وقوله تعالى: { { وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً } [النساء: 2]، فالظاهر أن الآية نازلة بعد آيات سورة النساء، وبذلك يتأيد ما سننقله من سبب نزول الآية في البحث الروائي، وفي قوله تعالى: { قل إصلاح لهم خير }، حيث نكر الإصلاح دلالة على أن المرضي عند الله سبحانه نوع من الإصلاح لا كل إصلاح ولو كان إصلاحاً في ظاهر الأمر فقط، فالتنكير في قوله تعالى: إصلاح لإفادة التنويع، فالمراد به الإصلاح بحسب الحقيقة لا بحسب الصورة، ويشعر به قوله تعالى ـ ذيلاً ـ والله يعلم المفسد من المصلح.
قوله تعالى: { وإن تخالطوهم فإخوانكم } إشارة إلى المساواة المجعولة بين المؤمنين جميعاً بإلغاء جميع الصفات المميزة التي هي المصادر لبروز أنواع الفساد بين الناس في اجتماعهم من الاستعباد والاستضعاف والاستذلال والاستكبار وأنواع البغي والظلم، وبذلك يحصل التوازن بين أثقال الاجتماع، والمعادلة بين اليتيم الضعيف والولي القوي، وبين الغني المثري والفقير المعدم، وكذا كل ناقص وتام، وقد قال تعالى:
{ { إنما المؤمنون إخوة } [الحجرات: 10]. فالذي تجوزه الآية في مخالطة الولي لليتيم أن يكون كالمخالطة بين الأخوين المتساويين في الحقوق الاجتماعية بين الناس، يكون المأخوذ من ماله كالمعطى له، فالآية تحاذي قوله تعالى: { { وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً } [النساء: 2]، وهذه المحاذاة من الشواهد على أن في الآية نوعاً من التخفيف والتسهيل كما يدل عليه أيضاً ذيلها، وكما يدل عليه أيضاً بعض الدلالة قوله تعالى: { والله يعلم المفسد من المصلح } فالمعنى: أن المخالطة إن كانت - وهذا هو التخفيف - فلتكن كمخالطة الأخوين، على التساوي في الحقوق، ولا ينبغي عند ذلك الخوف والخشية، فإن ذلك لو كان بغرض الإصلاح حقيقة لا صورة كان من الخير، ولا يخفى حقيقة الأمر على الله سبحانه حتى يؤاخذكم بمجرد المخالطة فإن الله سبحانه يميز المفسد من المصلح.
قوله تعالى: { والله يعلم المفسد من المصلح } إلى آخر الآية، تعدية يعلم بمن كأنها لمكان تضمينه معنى يميز، والعنت هو الكلفة والمشقة.
(بحث روائي)
في الكافي عن علي بن يقطين قال سأل المهدي أبا الحسن عليه السلام عن الخمر: هل هي محرمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ؟ فإن الناس إنما يعرفون النهي عنها ولا يعرفون تحريمها فقال له أبو الحسن عليه السلام: بل هي محرمة فقال: في أي موضع هي محرمة في كتاب الله عزَّ وجلَّ يا أبا الحسن؟ فقال: قول الله تعالى: { إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإِثم والبغي بغير الحق } إلى أن قال: فأما الإثم فإنها الخمر بعينها، وقد قال الله تعالى في موضع آخر: { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }، فأما الإثم في كتاب الله فهي الخمر والميسر وإثمهما أكبر من نفعهما كما قال الله تعالى، فقال المهدي: يا علي بن يقطين هذه فتوى هاشمية، فقلت له: صدقت يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت، قال: فوالله ما صبر المهدي أن قال لي: صدقت يا رافضي.
أقول: وقد مر ما يتبين به معنى هذه الرواية.
وفي الكافي أيضاً عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: إن الله جعل للمعصية بيتاً، ثم جعل للبيت باباً، ثم جعل للباب غلقاً، ثم جعل للغلق مفتاحاً، فمفتاح المعصية الخمر.
وفيه أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن الخمر رأس كل إثم"
]. وفيه عن اسماعيل قال: أقبل أبو جعفر عليه السلام في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إله أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه بعضكم، فأتاه شاب منهم: فقال يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال عليه السلام: شرب الخمر.
وفيه أيضاً عن أبي البلاد عن أحدهما عليهما السلام قال: ما عُصي الله بشيء أشد من شرب المسكر، إن أحدهم يدع الصلاة الفريضة ويثب على أمه وابنته، وأخته وهو لا يعقل.
وفي الاحتجاج: سأل زنديق أبا عبد الله عليه السلام: لم حرم الله الخمر ولا لذة أفضل منها؟ قال: حرمها لأنها أم الخبائث ورأس كل شر، يأتي على شاربها ساعة يسلب لبه فلا يعرف ربه ولا يترك معصية إلا ركبها، الحديث.
أقول: والروايات تفسر بعضها بعضاً، والتجارب والاعتبار يساعدانها.
وفي الكافي عن جابر عن أبى جعفر عليه السلام قال: لعن رسول الله في الخمر عشرة: غارسها، وحارسها، وعاصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومشتريها وآكل ثمنها.
وفي الكافي والمحاسن عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله عليه السلام
"ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر"
]. أقول: وتصديق الروايتين قوله تعالى: { { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } [المائدة: 2]. وفي الخصال بإسناده عن أبي أُمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاق، ومنان، ومكذب بالقدر، ومدمن خمر"
]. وفي الأمالي لابن الشيخ بإسناده عن الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أقسم ربي جلَّ جلاله لا يشرب عبد لي خمراً في الدنيا إلا سقيته يوم القيامة مثل ما شرب منها من الحميم معذباً بعد أو مغفوراً له. ثم قال: إن شارب الخمر يجيء يوم القيامة مسوداً وجهه، مزرقة عيناه، مائلاً شدقه، سائلاً لعابه، والغاً لسانه من قفاه"
]. وفي تفسير القمي عن أبي جعفر عليه السلام قال: حق على الله أن يسقي من يشرب الخمر مما يخرج من فروج المومسات، والمومسات الزواني يخرج من فروجهن صديد، والصديد قيح ودم غليظ مختلط يؤذي أهل النار حره ونتنه.
أقول: ربما تأيدت هذه الروايات بقوله تعالى:
{ { إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم } [الدخان: 43-49]. وفي جميع المعاني السابقة روايات كثيرة.
وفي الكافي عن الوشا عن أبي الحسن عليه السلام قال: سمعته يقول: الميسر هو القمار.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة لا غبار عليها.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: { ويسألونك ماذا ينفقون } الآية عن ابن عباس: إن نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها، فأنزل الله { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ولا مالاً يأكل حتى يتصدق به.
وفي الدر المنثور أيضاً عن يحيى: أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا؟ فأنزل الله: { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو }.
وفي الكافي وتفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: العفو الوسط.
وفي تفسير العياشي عن الباقر والصادق عليهما السلام: الكفاف. وفي رواية أبي بصير: القصد.
وفيه أيضاً عن الصادق عليه السلام: في الآية: الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا وكان بين ذلك قواماً، قال: هذه بعد هذه، هي الوسط.
وفي المجمع عن الباقر عليه السلام: العفو ما فضل عن قوت السنة.
أقول: والروايات متوافقة، والأخيرة من قبيل بيان المصداق. والروايات في فضل الصدقة وكيفيتها وموردها وكميتها فوق حد الإحصاء، سيأتي بعضها في موارد تناسبها إن شاء الله.
وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: ويسألونك عن اليتامى: عن الصادق عليه السلام قال: إنه لما نزلت: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً }، أخرج كل من كان عنده يتيم، وسألوا رسول الله في إخراجهم فأنزل الله: { يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم في الدين والله يعلم المفسد من المصلح }.
وفي الدر المنثور عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وإن الذين يأكلون أموال اليتامى } الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمي به، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله: { ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم }، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم.
أقول: وروي هذا المعنى عن سعيد بن جبير وعطاء وقتادة.