التفاسير

< >
عرض

تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
٢٥٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ
٢٥٤
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر بالجهاد وتندب إلى الانفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، وقد ختمت القصة بقوله تعالى: { وإنك لمن المرسلين } الآية، وافتتحت هاتان الآيتان بقوله: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض }، ثم ترجع إلى شأن قتال أُمم الأنبياء بعدهم، وقد قال في القصة السابقة أعني قصة طالوت: { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى }، فأتى بقوله: { من بعد موسى }، قيداً، ثم ترجع إلى الدعوة إلى الانفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات السابقة، والجميع نازلة معاً.
وبالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم: أن الرسالة وخاصة من حيث كونها مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي أن يختم بها بلية القتال: إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأُخروية بإرسال الرسل وإيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن القتال بعد، ويجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب والمشاجرات بعد الأنبياء في أُممهم وخاصة بعد انتشار دعوة الإِسلام الذي يعد الاتحاد والاتفاق من أركان أحكامه وأُصول قوانينه؟ وإما من جهة أن إرسال الرسل وإيتاء بينات الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على إيمان القلوب، والإِيمان من الصفات القلبية التي لا توجد في القلب عنوة وقهراً فماذا يفيده القتال بعد استقرار النبوة؟ وهذا هو الاشكال الذي تقدم تقريره والجواب عنه في الكلام على آيات القتال.
والذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم إذ لولا وجود الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل بينهم ولو شاء الله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأساً، ولو شاء لأعقم هذا السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، وقد أراد جري الأمور على سنة الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.
قوله تعالى: { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض }، إشارة إلى فخامة أمر الرسل وعلو مقامهم ولذلك جيء في الإِشارة بكلمة تلك الدالة على الإِشارة إلى بعيد، وفيه دلالة على التفضيل الإِلهي الواقع بين الأنبياء عليهم السلام ففيهم من هو أفضل وفيهم من هو مفضل عليه، وللجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة وهي مشتركة بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضاً اختلاف في المقامات وتفاوت في الدرجات كما أن بين الذين بعدهم اختلافاً على ما يدل عليه ذيل الآية إلاَّ أن بين الاختلافين فرقاً، فإن الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات وتفاضل في الدرجات مع اتحادهم في أصل الفضل وهو الرسالة، واجتماعهم في مجمع الكمال وهو التوحيد، وهذا بخلاف الاختلاف الموجود بين أُمم الأنبياء بعدهم فإنه اختلاف بالإِيمان والكفر، والنفي والإِثبات، ومن المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف، ولذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للأنبياء تفضيلاً ونسبه إلى نفسه، وسمى ما عند الناس بالاختلاف ونسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل فضلنا، وفي مورد أُممهم اختلفوا.
ولما كان ذيل الآية متعرضاً لمسألة القتال مرتبطاً بها والآيات المتقدمة على الآية أيضاً راجعة إلى القتال بالأمر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: { تلك الرسل فضلنا } إلى قوله: { بروح القدس } مقدمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } إلى قوله تعالى: { ولكن الله يفعل ما يريد }.
وعلى هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل عليهم السلام مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الإِلهي وإيتاء البينات والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم.
وبعبارة أُخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلاً جديداً، وكلما ملت إلى نحو من انحائه ألفيت غضاً طرياً، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والاتيان بالآيات البينات لا يتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والإِيمان، فإن هذا الاختلاف إنما يستند إلى أنفسهم، فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع آخر:
{ { إن الدين عند الله الإِسلام وما اختلف الذين أُوتوا الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } [آل عمران: 19]، وقد مرّ بيانه في قوله تعالى: { { كان الناس أُمة واحدة } [البقرة: 213]. ولو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعاً تكوينياً، لكنهم اختلفوا فيما بينهم بغياً وقد أجرى الله في سنة الايجاد سببية ومسببية بين الأشياء والاختلاف من علل التنازع، ولو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعاً تشريعياً أو لم يأمر به؟ ولكنه تعالى أمر به وأراد بأمره البلاء والامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن الكاذبين.
وبالجملة القتال بين أُمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، والرسالة وبيناتها إنما تدحض الباطل وتزيل الشبه. وأما البغي واللجاج وما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها، وإصلاح النوع فيها إلاَّ القتال، فإن التجارب يعطي أن الحجة لم تنجح وحدها قط إلاَّ إذا شفع بالسيف، ولذلك كان كلما اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام للحق والجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم وبني إسرائيل، وبعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد مرّ بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير آيات القتال سابقاً.
قوله تعالى: { منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات }، في الجملتين التفات من الحضور إلى الغيبة، والوجه فيه - والله أعلم - أن الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات، وكالتأييد بروح القدس كما ذكر لعيسى عليه السلام فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية، ومنها: ما ليس كذلك، وإنما يدل على الفضيلة ويستلزم المنقبة بواسطة الإِضافة كالتكليم، فإنه لا يعد في نفسه منقبة وفضيلة إلاَّ أن يضاف إلى شيء فيكتسب منه البهاء والفضل كإضافته إلى الله عزّ اسمه، وكذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه بنفسه إلاَّ أن يقال: رفع الله الدرجات مثلاً فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا علمت: أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل الثلاث حيث قال تعالى: { منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات }، فحول وجه الكلام من التكلم إلى الغيبة في الجملتين الأوليين حتى إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأول وهو التكلم فقال تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم }.
وقد اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلم الله: موسى عليه السلام لقوله تعالى:
{ { وكلم الله موسى تكليماً } [النساء: 164]، وغيره من الآيات، وقيل المراد به رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قرّبه إليه تقريبا سقطت به الوسائط جملة فكلمه بالوحي من غير واسطة، قال تعالى: { { ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى } [النجم: 8-10]، وقيل المراد به الوحي مطلقاً لأن الوحي تكليم خفي، وقد سماه الله تعالى تكليماً حيث قال: { { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً أو من وراء حجاب } [الشورى: 51]، الآية، وهذا الوجه لا يلائم من التبعيضية التي في قوله تعالى: { منهم من كلم الله }.
والأوفق بالمقام كون المراد به موسى عليه السلام لأن تكليمه هو المعهود من كلامه تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية، قال تعالى: { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه إلى أن قال:
{ { قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } [الأعراف: 144]، وهي آية مكية فقد كان كون موسى مكلماً معهوداً عند نزول هذه الآية.
وكذا في قوله: ورفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافه الخلق كما قال تعالى:
{ { وما أرسلناك إلاَّ كافة للناس } [سبأ: 28]، وبجعله رحمة للعالمين كما قال تعالى: { { وما أرسلناك إلاَّ رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107]، وبجعله خاتماً للنبوة كما قال تعالى: { { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } [الأحزاب: 40]، وبإيتائه قرآناً مهيمناً على جميع الكتب وتبياناً لكل شيء ومحفوظاً من تحريف المبطلين، ومعجزاً باقياً ببقاء الدنيا كما قال تعالى: { { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [المائدة: 48]، وقال تعالى: { { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } [النحل: 89]، وقال تعالى: { { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9]، وقال تعالى: { { قل لئن اجتمعت الإِنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } [الإسراء: 88]، وباختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا والآخرة، قال تعالى: { { فأقم وجهك للدين القيم } [الروم: 43]، وقيل المراد به ما رفع الله من درجة غير واحد من الأنبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح: { { سلام على نوح في العالمين } [الصافات: 79]، وقوله تعالى في إبراهيم عليه السلام: { { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً } [البقرة: 124]، وقوله تعالى فيه { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } [الشعراء: 84]، وقوله تعالى في إدريس عليه السلام { { ورفعناه مكاناً علياً } [مريم: 57]، وقوله تعالى في يوسف: { { نرفع درجات من نشاء } [يوسف: 76]، وقوله في داود عليه السلام: { وآتينا داود زبوراً } } [النساء: 163] إلى غير ذلك من مختصات الأنبياء.
وكذا قيل: إن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة كإبراهيم، وموسى، وعيسى، وعزير، وأرميا، وشموئيل، وداود، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر موسى وعيسى من بينهم وبقي الباقون، فالبعض المرفوع الدرجة هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة إلى الباقين، وقيل: لما كان المراد بالرسل في الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصة وهم موسى، وداود، وشموئيل، ومحمد، وقد ذكر ما اختص به موسى من التكليم ثم ذكر رفع الدرجات وليس له إلاَّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويمكن أن يوجه التصريح باسم عيسى على هذا القول: بأن يقال: ان الوجه فيه عدم سبق ذكره عليه السلام فيمن ذكر من الأنبياء في هذه الآيات.
والذي ينبغي أن يقال: انه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقصود في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به، ولا بمن ذكر في هذه الآيات أعني أرميا وشموئيل وداود ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإن كل ذلك تحكم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل عليهم السلام وشمول البعض في قوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات }: لكل من أنعم الله عليه منهم برفع الدرجة.
وما قيل: ان الأسلوب يقتضي كون المراد به محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن السياق في بيان العبرة للأمم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم ديناً واحداً، والموجود منهم اليهود والنصارى والمسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، وقد ذكر منهم موسى وعيسى بالتفصيل في الآية، فتعين أن يكون البعض الباقي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
فيه: أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلاً إلى جميع الناس، قال تعالى:
{ { لا نفرق بين أحد منهم } [البقرة: 136]، فإتيان الرسل جميعاً بالآيات البينات كان ينبغي أن يقطع دابر الفساد والقتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغياً بينهم فكان ذلك أصلاً يتفرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.
(كلام في الكلام)
ثم إن قوله تعالى: { منهم من كلم الله }، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس في الجملة، أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز وتمثيل وقد سمّاه الله في كتابه بالكلام، سواء كان هذا الاطلاق اطلاقاً حقيقياً أو إطلاقاً مجازياً، فالبحث في المقام من جهتين:
الجهة الأولى: أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى به أنبيائه ورسله من النعم التي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي والتكليم ونزول الروح والملائكة ومشاهدة الآيات الإِلهية الكبرى، أو أخبرهم به كالملك والشيطان واللوح والقلم وسائر الآيات الخفية على حواس الناس، كل ذلك أُمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية إلى الخير ملائكة، وما تلقيه هذه القوى إلى إدراك الإِنسان بالوحي، والمرتبة العالية من هذه القوى وهي التي تترشح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع الإِنساني بروح القدس والروح الأمين، والقوى الشهوية والغضبية النفسانية الداعية إلى الشر والفساد بالشياطين والجن، والأفكار الرديئة المفسدة للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيء العمل بالوسوسة والنزعة، وهكذا.
فإن الآيات القرآنية وكذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في كونهم لم يريدوا بها المجاز والتمثيل، بحيث لا يشك فيه إلاَّ مكابر متعسف ولا كلام لنا معه، ولو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل جميع ما أخبروا به من الحقائق الإِلهية من غير استثناء إلى المادية المحضد النافية لكل ما وراء المادة، وقد مرّ بعض الكلام في المقام في بحث الاعجاز. ففي مورد التكليم الإِلهي لا محالة أمر حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا.
توضيح ذلك: أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام والتكليم كقوله تعالى:
{ { وكلم الله موسى تكليماً } [النساء: 163]، وقوله تعالى: { منهم من كلم الله } الآية، وقد فسر تعالى هذا الاطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين وما يشبههما بقوله تعالى: { { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء } [الشورى: 51]، فإن الاستثناء في قوله تعالى: { إلاَّ وحياً } "الخ"، لا يتم إلاَّ إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: ان يكلمه الله تكليماً حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص، فحد أصل التكليم حقيقة غير منفي عنه.
والذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أن الإِنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع والمدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني، ومنها التكلم، وقد ألجأت الفطرة الإِنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، ويجعل الأصوات المؤلفة والمختلطة إمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلاَّ من جهة العلائم الاعتبارية الوضعية، فالإِنسان محتاج إلى التكلم من جهة أنه لا طريق له إلى التفهيم والتفهم إلاَّ جعل الألفاظ والأصوات المؤتلفة علائم جعلية وأمارات وضعية، ولذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني: الاحتياجات التي تنبه لها الإِنسان في حياته الحاضرة، ولذلك أيضاً كانت اللغات لا تزال تزيد وتتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه، وتكثر الحوائج الإِنسانية في حياته الاجتماعية.
ومن هنا يظهر: أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالة عليه بالوضع والاعتبار إنما يتم في الإِنسان وهو واقع في ظرف الاجتماع، وربما لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع وله شيء من جنس الصوت، (على ما نحسب) وأما الإِنسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه، فلو كان ثم إنسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعاً لعدم مساس الحاجة إلى التفهيم والتفهم، وكذلك غير الإِنسان مما لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي والحياة المدنية كالملك والشيطان مثلاً.
فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من الحنجرة واعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه، الدلالة الاعتبارية الوضعية، فإنه تعالى أجل شأناً وأنزه ساحة أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أو يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية وقد قال تعالى:
{ { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11] لكنه سبحانه فيما مرّ من قوله: { { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً أو من وراء حجاب } [الشورى: 51]، يثبت لشأنه وفعله المذكور حقيقة التكليم وان نفى عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن الكلام الإِلهي لكنه بخواصه وآثاره ثابت له، ومع بقاء الأثر والغاية يبقى المحدود في الأمور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الإِنسان نظير الذرع والميزان والمكيال والسراج والسلاح ونحو ذلك، وقد تقدم بيانه.
فقد ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام حقيقة، وهو سبحانه وإن بين لنا إجمالاً أنه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من الكلام الذي نستعمله، لكنه تعالى لم يبيّن لنا ولا نحن تنبهنا من كلامه أن هذا الذي يسميه كلاماً يكلم به أنبيائه ما حقيقته؟ وكيف يتحقق؟ غير أنه على أي حال لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا ويثبت عليه آثاره وهي تفهيم المعاني المقصودة والقائها في ذهن السامع.
وعلى هذا فالكلام منه تعالى كالإِحياء والإِماتة والرزق والهداية والتوبة وغيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم والقدرة والحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين الذات، كيف ولا فرق بينه وبين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات! وربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى:
{ { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني } [الأعراف: 143]، وقال تعالى: { { وقد خلقتك من قبل ولم تكُ شيئاً } [مريم: 9]، وقال تعالى: { { فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم } [البقرة: 243]، وقال تعالى: { { نحن نرزقكم وإيّاهم } [الأنعام: 151]، وقال تعالى: { { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50]، وقال تعالى: { { ثم تاب عليهم ليتوبوا } [التوبة: 118]، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد زمانية غيره من الأفعال كالخلق والإِماتة والاحياء والرزق والهداية والتوبة على حد سواء.
فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، والبحث التفسيري المقصور على الآيات القرآنية في معنى الكلام، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به السلف من المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه.
واعلم: أن الكلام أو التكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإِنسان، نعم الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى:
{ { وكلمته ألقاها إلى مريم } [النساء: 171]، أُريد به نفس الإِنسان، وقال تعالى: { { وكلمة الله هي العليا } [التوبة: 40]، وقال تعالى: { { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } [الأنعام: 115]، وقال تعالى: { { ما نفدت كلمات الله } [لقمان: 27]، وقد أُريد بها القضاء أو نوع من الخلق على ما سيجيء الإِشارة إليه.
وأما لفظ القول فقد عمّ في كلامه تعالى الإِنسان وغيره، فقال تعالى في مورد الإِنسان:
{ { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك } [طه: 117]، وقال تعالى في مورد الملائكة: { { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [البقرة: 30]، وقال أيضاً: { { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين } [ص: 71]، وقال في مورد إبليس { { قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } [ص: 75]، وقال تعالى في غير مورد أُولي العقل: { { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [فصلت: 11]، وقال تعالى: { { قلنا يا نار كونى برداً وسلاماً على إبراهيم } [الأنبياء: 69]، وقال تعالى: { { وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي } [هود: 44]، ويجمع الجميع على كثرة مواردها وتشتتها قوله تعالى: { { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [يس: 82]، وقوله تعالى: { { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } } [مريم: 35]. والذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى (حيث يستعمل القول في الموارد المذكورة مما له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالإِنسان مثلاً، ومما سبيله التكوين وليس له سمع وإدراك بالمعنى المعهود عندنا كالأرض والسماء، وحيث إن الآيتين الأخيرتين بمنزلة التفسير لما يتقدمهما من الآيات) ان القول منه تعالى ايجاد أمر يدل على المعنى المقصود.
فأما في التكوينيات فنفس الشيء الذي أوجده تعالى وخلقه هو شيء مخلوق موجود، وهو بعينه قول له تعالى لدلالته بوجوده على خصوص إرادته سبحانه، فإن من المعلوم أنه إذا أراد شيئاً فقال له كن فكان ليس هناك لفظ متوسط بينه تعالى وبين الشيء، وليس هناك غير نفس وجود الشيء، فهو بعينه مخلوق وهو بعينه قوله، كن، فقوله في التكوينيات نفس الفعل وهو الإِيجاد وهو الوجود وهو نفس الشيء.
وأما في غير التكوينيات كمورد الإِنسان مثلاً فبإيجاده تعالى أمراً يوجب علماً باطنياً في الإِنسان بأن كذا كذا، وذلك إما بإيجاد صوت عند جسم من الأجسام، أو بنحو آخر لا ندركه، أو لا ندرك كيفية تأثيره في نفس النبي بحيث يوجد معه علم في نفسه بأن كذا كذا على حد ما مرّ في الكلام.
وكذلك القول في قوله تعالى للملائكة أو الشيطان، لكن يختص هذان النوعان وما شابههما لو كان لهما شبيه بخصوصية، وهي أن الكلام والقول المعهود فيما بيننا إنما هو باستخدام الصوت أو الإِشارة بضميمة الاعتبار الوضعي الذي يستوجبه فينا فطرتنا الحيوانية الاجتماعية، ومن المعلوم (على ما يعطيه كلامه تعالى) ان الملك والشيطان ليس وجودهما من سنخ وجودنا الحيواني الاجتماعي وليس في وجودهما هذا التكامل التدريجي العلمي الذي يستدعي وضع الأمور الاعتبارية.
ويظهر من ذلك: أن ليس فيما بين الملائكة ولا فيما بين الشياطين هذا النوع من التفهيم والتفهم الذهني المستخدم فيه الاعتبار اللغوي والأصوات المؤلفة الموضوعة للمعاني، وعلى هذا فلا يكون تحقق القول فيما بينهم أنفسهم نظير تحققه فيما بيننا أفراد الإِنسان بصدور صوت مؤلف تأليفاً لفظياً وضعياً من فم مشقوق ينضم إليه أعضاء فعالة للصوت من واحد، والتأثر من ذلك بإحساس أُذن مشقوق ينضم إليها أعضاء آخذة للصوت المقروع من واحد آخر وهو ظاهر، لكن حقيقة القول موجودة فيما بين نوعيهما بحيث يترتب عليه أثر القول وخاصته، وهو فهم المعنى المقصود وإدراكه، فبين الملائكة أو الشياطين قول لا كنحو قولنا، وكذا بين الله سبحانه وبينهم قول لا بنحو إيجاد الصوت واللفظ الموضوع وإسماعه لهم كما سمعت.
وكذلك القول في ما ينسب إلى نوع الحيوانات العجم من القول في القرآن الكريم كقوله تعالى:
{ { قالت نملة يا أيُّها النمل ادخلوا مساكنكم } [النمل: 18]، وقال تعالى: { { فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين } [النحل: 22]، وكذا ما يذكر فيه من قول الله تعالى ووحيه إليهم كقوله تعالى: { { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون } [النحل: 68]. وهناك ألفاظ أُخر ربما استعمل في معنى القول والكلام أو ما يقرب من معناهما كالوحي، قال تعالى: { { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك } [النساء: 163]، والإِلهام، قال تعالى: { { ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها } [الشمس: 8]، والنبأ، قال تعالى: { { قال نبأني العليم الخبير } [التحريم: 3]، والقص، قال تعالى: { { يقص الحق } [الأنعام: 57]، والقول في جميع هذه الألفاظ من حيث حقيقة المعنى هو الذي قلناه في أول الكلام من لزوم تحقق أمر حقيقي معه يترتب عليه أثر القول وخاصته سواء علمنا بحقيقة هذا الأمر الحقيقي المتحقق بالضرورة أو لم نعلم بحقيقته تفصيلاً، وفي الوحي خاصة كلام سيأتي التعرض له في سورة الشورى إن شاء الله.
وأما اختصاص بعض الموارد ببعض هذه الألفاظ مع كون المعنى المشترك المذكور موجوداً في الجميع كتسمية بعضها كلاماً وبعضها قولاً وبعضها وحياً مثلاً لا غير فهو يدور مدار ظهور انطباق العناية اللفظية على المورد، فالقول يسمى كلاماً نظراً إلى السبب الذي يفيد وقوع المعنى في الذهن ولذلك سمي هذا الفعل الإِلهي في مورد بيان تفضيل الأنبياء وتشريفهم كلاماً لأن العناية هناك إنما هو بالمخاطبة والتكليم، ويسمى قولاً بالنظر إلى المعنى المقصود إلقائه وتفهيمه ولذلك سمي هذا الأمر الإِلهي في مورد القضاء والقدر والحكم والتشريع ونحو ذلك قولاً كقوله تعالى:
{ { قال فالحق والحق أقول لأملأن } [ص: 85]، ويسمى وحياً بعناية كونه خفياً عن غير الأنبياء ولذلك عبر في موردهم عليهم السلام بالوحي كقوله: { { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى الذين من قبلك } [النساء: 163] الآية.
الجهة الثانية: وهي البحث من جهة كيفية الاستعمال فقد عرفت أن مفردات اللغه إنما انتقل الإِنسان إلى معانيها ووضع الألفاظ بحذائها واستعملها فيها في المحسوسات من الأمور الجسمانية ابتداءً ثم انتقل تدريجاً إلى المعنويات، وهذا وإن أوجب كون استعمال اللفظ الموضوع للمعنى المحسوس في المعنى المعقول استعمالاً مجازياً ابتداءً لكنه سيعود حقيقة بعد استقرار الاستعمال وحصول التبادر، وكذلك ترقي الاجتماع وتقدم الإِنسان في المدنية والحضارة، يوجب التغير في الوسائل التي ترفع حاجته الحيوية، والتبدل فيها دائماً مع بقاء الاسماء، فالاسماء لا تزال تتبدل مصاديق معانيها مع بقاء الاغراض المرتبة، وذلك كما أن السراج في أول ما تنبه الإِنسان لإِمكان رفع بعض الحوائج به كان مثلاً شيئاً من الدهن أو الدهنيات مع فتيلة متصلة بها في ظرف يحفظها فكانت تشتعل الفتيلة للاستضاءة بالليل، فركبته الصناعة على هذه الهيئة أولاً وسمّاه الإِنسان بالسراج، ثم لم يزل يتحول طوراً بعد طور، ويركب طبقاً عن طبق، حتى انتهت إلى هذه السرج الكهربائية التي لا يوجد فيها ومعها شيء من أجزاء السراج المصنوع أولاً، الموضوع بحذائه لفظ السراج من دهن وفتيلة وقصعة خزفية أو فلزية، ومع ذلك نحن نطلق لفظ السراج عليها وعلى سائر أقسام السراج على حد سواء، ومن غير عناية، وليس ذلك إلاَّ أن الغاية والغرض من السراج أعني الأثر المقصود منه المترتب على المصنوع أولاً يترتب بعينه على المصنوع أخيراً من غير تفاوت، وهو الاستضاءة، ونحن لا نقصد شيئاً من وسائل الحياة ولا نعرفها إلاَّ بغايتها في الحياة وأثرها المترتب، فحقيقة السراج ما يستضاء بضوئه بالليل، ومع بقاء هذه الخاصة والأثر يبقى حقيقة السراج ويبقى اسم السراج على حقيقة معناه من غير تغير وتبدل، وإن تغير الشكل أحياناً أو الكيفية أو الكمية أو أصل أجزاء الذات كما عرفت في المثال، وعلى هذا: فالملاك في بقاء المعنى الحقيقي وعدم بقائه بقاء الأثر المطلوب من الشيء على ما كان من غير تغير، وقلما يوجد اليوم في الأمور المصنوعة ووسائل الحياة - وهي أُلوف وأُلوف - شيء لم يتغير ذاته عما حدث عليه أولاً، غير أن بقاء الأثر والخاصة أبقى لكل واحد منها اسمه الأول الذي وضع له. وفي اللغات شيء كثير من القسم الأول وهو اللفظ المنقول من معنى محسوس إلى معنى معقول يعثر عليه المتتبع البصير.
فقد تحصل أن استعمال الكلام والقول فيما مرّ مع فرض بقاء الأثر والخاصة استعمال حقيقي لا مجازي.
فظهر من جميع ما بيّناه: أن إطلاق الكلام والقول في مورده تعالى يحكي عن أمر حقيقي واقعي، وانه من مراتب المعنى الحقيقي لهاتين اللفظتين وإن اختلف من حيث المصداق مع ما عندنا من مصداق الكلام، كما أن سائر الألفاظ المشتركة الاستعمال بيننا وبينه تعالى كالحياة والعلم والإِرادة والاعطاء كذلك.
واعلم: أن القول في معنى رفع الدرجات من قوله تعالى: { ورفع بعضهم درجات }، من حيث اشتماله على أمر حقيقي واقعي غير اعتباري، كالقول في معنى الكلام بعينه فقد توهّم أكثر الباحثين في المعارف الدينية ان ما اشتملت عليه هذه البيانات أمور اعتبارية ومعاني وهمية نظير ما يوجد بيننا معاشر أهل الاجتماع من الإِنسان من مقامات الرئاسة والزعامة والفضيلة والتقدم والتصدر ونحو ذلك، فلزمهم أن يجعلوا ما يرتبط بها من الحقائق كمقامات الآخرة من جنة ونار وسؤال وغير ذلك مرتبطة مترتبة نظير ترتب الآثار الخارجية على هذه المقامات الاجتماعية الاعتبارية، أي إن الرابطة بين المقامات المعنوية المذكورة وبين النتائج المرتبة عليها رابطة الاعتبار والوضع، ولزمهم - اضطراراً - كون جاعل هذه الروابط وهو الله تعالى وتقدس، محكوماً بالآراء الاعتبارية ومبعوثاً عن الشعور الوهمي كالإِنسان الواقع في عالم المادة، والنازل في منزل الحركة والاستكمال، ولذلك تراهم يستنكفون عن القول باختصاص المقربين من أنبيائه وأوليائه بالكمالات الحقيقية المعنوية التي تثبتها لهم ظواهر الكتاب والسنة إلاَّ أن تنسلخ عن حقيقتها وترجع إلى نحو من الاعتباريات.
قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيدناه بروح القدس }، رجوع إلى أصل السياق وهو التكلم دون الغيبة كما مرّ.
والوجه في التصريح باسم عيسى مع عدم ذكر غيره من الرسل في الآية: ان ما ذكره له عليه السلام من جهات التفضيل وهو إيتاء البينات، والتأييد بروح القدس مشترك بين الرسل جميعاً ليس مما يختص ببعضهم دون بعض، قال تعالى:
{ { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } [الحديد: 25]، وقال تعالى: { { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا } [النحل: 2]، لكنهما في عيسى بنحو خاص، فجميع آياته كإحياء الموتى وخلق الطير بالنفخ وإبراء الأكمه والأبرص، والاخبار عن المغيبات كانت أُموراً متكئة على الحياة مترشحة عن الروح، فلذلك نسبها إلى عيسى عليه السلام وصرح باسمه إذ لولا التصريح لم يدل على كونه فضيلة خاصة كما لو قيل: وآتينا بعضهم البينات وأيدناه بروح القدس، إذ البينات وروح القدس كما عرفت مشتركة غير مختصة، فلا يستقيم نسبتها إلى البعض بالاختصاص إلاَّ مع التصريح باسمه ليعلم أنها فيه بنحو خاص غير مشترك تقريباً، على أن في اسم عيسى عليه السلام خاصة أُخرى وآية بينة وهي: انه ابن مريم لا أب له، قال تعالى: { { وجعلناها وابنها آية للعالمين } [الأنبياء: 91]، فمجموع الابن والأُم آية بيّنة إلهية وفضيلة اختصاصية أُخرى.
قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات }، العدول إلى الغيبة ثانياً لأن المقام مقام إظهار أن المشيئة والإِرادة الربانية غير مغلوبة، والقدرة غير باطلة، فجميع الحوادث على طرفي إثباتها ونفيها غير خارجة عن السلطنة الإِلهية، وبالجملة وصف الأُلوهية هي التي تنافي تقيد القدرة وتوجب إطلاق تعلقها بطرفي الإِيجاب والسلب فمست حاجة المقام إلى إظهار هذه الصفة المتعالية أعني الأُلوهية للذكر، فقيل: ولو شاء الله ما اقتتل، ولم يقل: ولو شئنا ما اقتتل، وهذا هو الوجه أيضاً في قوله تعالى في ذيل الآية: { ولو شاء الله ما اقتتلوا }، وقوله: { ولكن الله يفعل ما يريد } وهو الوجه أيضاً في العدول عن الاضمار إلى الإِظهار.
قوله تعالى: { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر }، نسب الاختلاف إليهم لا إلى نفسه لأنه تعالى ذكر في مواضع من كلامه: أن الاختلاف بالإِيمان والكفر وسائر المعارف الأصلية المبينة في كتب الله النازلة على أنبيائه إنما حدث بين الناس بالبغي، وحاشا أن ينتسب إليه سبحانه بغي أو ظلم.
قوله تعالى: { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد }، أي ولو شاء الله لم يؤثر الاختلاف في استدعاء القتال ولكن الله يفعل ما يريد وقد أراد أن يؤثر هذا الاختلاف في سوقه الناس إلى الاقتتال جرياً على سنة الأسباب.
ومحصل معنى الآية والله العالم: ان الرسل التي أرسلوا إلى الناس عباد لله مقربون عند ربهم، مرتفع عن الناس أُفقهم وهم مفضل بعضهم على بعض على ما لهم من الأصل الواحد والمقام المشترك، فهذا حال الرسل وقد أتوا للناس بآيات بينات أظهروا بها الحق كل الإِظهار وبيّنوا طريق الهداية أتم البيان، وكان لازمه أن لا ينساق الناس بعدهم إلاَّ إلى الوحدة والألفة والمحبة في دين الله من غير اختلاف وقتال لكن كان هناك سبب آخر أعقم هذا السبب، وهو الاختلاف عن بغي منهم وانشعابهم إلى مؤمن وكافر، ثم التفرق بعد ذلك في سائر شؤون الحياة والسعادة، ولو شاء الله لأعقم هذا السبب أعني الاختلاف فلم يوجب الاقتتال وما اقتتلوا، ولكن لم يشأ وأجرى هذا السبب كسائر الأسباب والعلل على سنة الأسباب التي أرادها الله في عالم الصنع والايجاد، والله يفعل ما يريد.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا انفقوا } "الخ"، معناه واضح وفي ذيل الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الانفاق كفر وظلم.
(بحث روائي)
في الكافي عن الباقر عليه السلام: في قوله تعالى: { تلك الرسل فضلنا } "الخ"، في هذا ما يستدل به على أن أصحاب محمد قد اختلفوا من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
وفي تفسير العياشي عن أصبغ بن نباتة، قال: كنت واقفاً مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبر القوم وكبرنا، وهلل القوم وهللنا، وصلى القوم وصلينا، فعلى ما نقاتلهم؟! فقال عليه السلام: على هذه الآية { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } - فنحن الذين من بعدهم -{ ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } فنحن الذين آمنا وهم الذين كفروا فقال الرجل: كفر القوم ورب الكعبة، ثم حمل فقاتل حتى قتل -رحمه الله -.
أقول: وروى هذه القصة المفيد والشيخ في أماليهما والقمي في تفسيره، والرواية تدل على أنه عليه السلام أخذ الكفر في الآية بالمعنى الأعم من الكفر الخاص المصطلح الذي له أحكام خاصة في الدين، فإن النقل المستفيض وكذا التاريخ يشهدان أنه عليه السلام ما كان يعامل مع مخالفيه من أصحاب الجمل وأصحاب صفين والخوارج معاملة الكفار من غير أهل الكتاب ولا معاملة أهل الكتاب ولا معاملة أهل الردة من الدين، فليس إلاَّ أنه عدهم كافرين على الباطن دون الظاهر، وقد كان عليه السلام يقول: أقاتلهم على التأويل دون التنزيل.
وظاهر الآية يساعد هذا المعنى، فإنه يدل على أن البينات التي جاءت بها الرسل لم تنفع في رفع الاقتتال من الذين من بعدهم لمكان الاختلاف المستند إليهم أنفسهم فوقوع الاختلاف مما لا تنفع فيه البينات من الرسل بل هو مما يؤدي إليه الاجتماع الإِنساني الذي لا يخلو عن البغي والظلم، فالآية في مساق قوله تعالى:
{ { وما كان الناس إلاَّ أُمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون } [يونس: 19]، وقوله تعالى: { كان الناس أُمة واحدة } إلى أن قال: { { وما اختلف فيه إلاَّ الذين أُوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } [البقرة: 213]، وقوله تعالى: { { ولا يزالون مختلفين إلاَّ من رحم ربك } [هود: 119]، كل ذلك يدل على أن الاختلاف في الكتاب - وهو الاختلاف في الدين - بين أتباع الأنبياء بعدهم مما لا مناص عنه، وقد قال تعالى في خصوص هذه الأمة: { { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم } [البقرة: 214]، وقال تعالى حكاية عن رسوله ليوم القيامة: { { وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } [الفرقان: 30]، وفي مطاوي الآيات تصريحات وتلويحات بذلك.
وأما ان ذيل هذا الاختلاف منسحب إلى زمان الصحابة بعد الرحلة، فالمعتمد من التاريخ والمستفيض أو المتواتر من الأخبار يدل على أن الصحابة أنفسهم كان يعامل بعضهم مع بعض في الفتن والاختلافات الواقعة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه المعاملة، من غير أن يستثنوا أنفسهم من ذلك استناداً إلى عصمة أو بشارة أو اجتهاد أو استثناء من الله ورسوله، والزائد على هذا المقدار من البحث لا يناسب وضع هذا الكتاب.
وفي أمالي المفيد عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لم يزل الله جلَّ اسمه عالماً بذاته ولا معلوم، ولم يزل قادراً بذاته ولا مقدور، قلت: - جعلت فداك - فلم يزل متكلماً؟ قال: الكلام محدث، كان الله عز وجل وليس بمتكلم ثم أحدث الكلام.
وفي الاحتجاج عن صفوان بن يحيى، قال: سأل أبو قرة المحدث عن الرضا عليه السلام فقال: أخبرني - جعلت فداك - عن كلام الله لموسى فقال: الله أعلم بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن عليه السلام: سبحان الله عمّا تقول ومعاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم متكلمون ولكنه سبحانه ليس كمثله شيء ولا كمثله قائل فاعل، قال: كيف؟ قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، ولا يلفظ بشق فم ولسان، ولكن يقول له كن فكان، بمشيئته ما خاطب به موسى من الأمر والنهي من غير تردد في نفس - الخبر -.
وفي نهج البلاغة في خطبة له عليه السلام: متكلم لا بروية، مريد لا بهمة؛ الخطبة.
وفي النهج أيضاً في خطبة له عليه السلام: الذي كلَّم موسى تكليماً، وأراه من آياته عظيماً، بلا جوارح ولا أدوات ولا نطق ولا لهوات؛ الخطبة.
أقول: والأخبار المروية عن أئمة أهل البيت في هذا المعنى كثيرة، وهي مطبقة على أن كلامه تعالى الذي يسميه الكتاب والسُنّة كلاماً صفة فعل لا صفة ذات.
(بحث فلسفي)
ذكر الحكماء: أن ما يسمى عند الناس قولاً وكلاماً وهو نقل الإِنسان المتكلم ما في ذهنه من المعنى بواسطة أصوات مؤلفة موضوعة لمعنى، فإذا قرع سمع المخاطب أو السامع نقل المعنى الموضوع له الذي في ذهن المتكلم إلى ذهن المخاطب أو السامع، فحصل بذلك الغرض منه، وهو التفهيم والتفهم، قالوا: وحقيقة الكلام متقومة بما يدل على معنى خفي مضمر، وأما بقية الخصوصيات ككونه بالصوت الحادث في صدر الإِنسان ومروره من طريق الحنجرة واعتماده على مقاطع الفم وكونه بحيث يقبل أن يقع مسموعاً لا أزيد عدداً أو أقل مما ركبت عليه أسماعنا، فهذه خصوصيات تابعة للمصاديق وليست بدخيلة في حقيقة المعنى الذي يتقوم بها الكلام.
فالكلام اللفظي الموضوع الدال على ما في الضمير كلام، وكذا الإِشارة الوافية لإِراءة المعنى كلام كما أن إشارتك بيدك: أن اقعد أو تعال ونحو ذلك أمر وقول، وكذا الوجودات الخارجية لما كانت معلولة لعللها، ووجود المعلول لمسانخته وجود علته وكونه رابطاً متنزلاً له يحكي بوجوده وجود علته، ويدل بذاته على خصوصيات ذات علته الكاملة في نفسها لولا دلالة المعلول عليها. فكل معلول بخصوصيات وجوده كلام لعلته تتكلم به عن نفسها وكمالاتها، ومجموع تلك الخصوصيات بطور اللف كلمة من كلمات علته، فكل واحد من الموجودات بما أن وجوده مثال لكمال علته الفياضة، وكل مجموع منها، ومجموع العالم الامكاني كلام الله سبحانه يتكلم به فيظهر المكنون من كمال أسمائه وصفاته، فكما أنه تعالى خالق للعالم والعالم مخلوقه كذلك هو تعالى متكلم بالعالم مظهر به خبايا الأسماء والصفات والعالم كلامه.
بل الدقة في معنى الدلالة على المعنى يوجب القول بكون الذات بنفسه دالاً على نفسه، فإن الدلالة بالآخرة شأن وجودي ليس ولا يكون لشيء بنحو الأصالة إلاَّ لله وبالله سبحانه، فكل شيء دلالته على بارئه، وموجده فرع دلالة ما منه على نفسه ودلالته لله بالحقيقة، فالله سبحانه هو الدال على نفس هذا الشيء الدال، وعلى دلالته لغيره. فهو سبحانه هو الدال على ذاته بذاته وهو الدال على جميع مصنوعاته فيصدق على مرتبة الذات الكلام كما يصدق على مرتبة الفعل الكلام بالتقريب المتقدم، فقد تحصل بهذا البيان أن من الكلام ما هو صفة وهو الذات وهو الذات من حيث دلالته على الذات، ومنه ما هو صفة الفعل، وهو الخلق والإِيجاد من حيث دلالة الموجود على ما عند موجده من الكمال.
أقول: ما نقلنا عنهم على تقدير صحته لا يساعد عليه اللفظ اللغوي، فإن الذي أثبته الكتاب والسنة هو أمثال قوله تعالى: { منهم من كلم الله }، وقوله: { وكلم الله موسى تكليماً }، وقوله: { قال الله يا عيسى }، وقوله: { وقلنا يا آدم }، وقوله: { إنا أوحينا إليك }، وقوله: { نبأني العليم الخبير }، ومن المعلوم أن الكلام والقول بمعنى عين الذات لا ينطبق على شيء من هذه الموارد.
واعلم أن بحث الكلام من أقدم الأبحاث العلمية التي اشتغلت به الباحثون من المسلمين (وبذلك سمي علم الكلام به) وهي أن كلام الله سبحانه هل هو قديم أو حادث؟
ذهبت الأشاعرة إلى القدم غير أنهم فسروا الكلام بأن المراد بالكلام هو المعاني الذهنية التي يدل عليه الكلام اللفظي، وتلك المعاني علوم الله سبحانه قائمة بذاته قديمة بقدمها، وأما الكلام اللفظي وهو الأصوات والنغمات فهي حادثة زائدة على الذات بالضرورة.
وذهبت المعتزلة إلى الحدوث غير أنهم فسروا الكلام بالألفاظ الدالة على المعنى التام دلالة وضعية فهذا هو الكلام عند العرف، قالوا: وأما المعاني النفسية التي تسميه الأشاعرة كلاماً نفسياً فهي صور علمية وليست بالكلام.
وبعبارة أُخرى: إنا لا نجد في نفوسنا عند التكلم بكلام غير المفاهيم الذهنية التي هي صور علمية فإن أُريد بالكلام النفسي ذلك كان علماً لا كلاماً، وإن أُريد به أمر آخر وراء الصورة العلمية فإنا لا نجد وراءها شيئاً بالوجدان، هذا.
وربما أمكن أن يورد عليه بجواز أن يكون شيء واحد بجهتين أو باعتبارين مصداقاً لصفتين أو أزيد وهو ظاهر، فلم لا يجوز أن تكون الصورة الذهنية علماً من جهة كونه انكشافاً للواقع، وكلاماً من جهة كونه علماً يمكن إفاضته للغير؟.
أقول: والذي يحسم مادة هذا النزاع من أصله أن وصف العلم في الله سبحانه بأي معنى أخذناه، أي سواء أُخذ علماً تفصيلياً بالذات وإجمالياً بالغير، أو أُخذ علماً تفصيلياً بالذات وبالغير في مقام الذات، وهذان المعنيان من العلم الذي هو عين الذات، أو أُخذ علماً تفصيلياً قبل الإِيجاد بعد الذات، أو أُخذ علماً تفصيلياً بعد الإِيجاد وبعد الذات جميعاً، فالعلم الواجبي على جميع تصاويره علم حضوري غير حصولي. والذي ذكروه وتنازعوا عليه إنما هو من قبيل العلم الحصولي الذي يرجع إلى وجود مفاهيم ذهنية مأخوذة من الخارج بحيث لا يترتب عليها آثارها الخارجية فقد أقمنا البرهان في محله: ان المفاهيم والماهيات لا تتحقق إلاَّ في ذهن الإِنسان أو ما قاربه جنساً من أنواع الحيوان التي تعمل الأعمال الحيوية بالحواس الظاهرة والإِحساسات الباطنة.
وبالجملة: فالله سبحانه أجل من أن يكون له ذهن يذهن به المفاهيم والماهيات الاعتبارية مما لا ملاك لتحقيقه إلاَّ الوهم فقط نظير مفهوم العدم والمفاهيم الاعتبارية في ظرف الاجتماع، ولو كان كذلك لكان ذاته المقدسة محلاً للتركيب، ومعرضاً لحدوث الحوادث، وكلامه محتملاً للصدق والكذب إلى غير ذلك من وجوه الفساد تعالى عنها وتقدس.
وأما معنى علمه بهذه المفاهيم الواقعة تحت الألفاظ فسيجيء إن شاء الله بيانه في موضع يليق به.