التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٦١
ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٦٢
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ
٢٦٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦٤
وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٦٥
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢٦٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
٢٦٧
ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٦٨
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٢٦٩
وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
٢٧٠
إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٢٧١
لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَآءَ وَجْهِ ٱللَّهِ وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
٢٧٢
لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ
٢٧٣
ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٧٤
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
سياق الآيات من حيث اتحادها في بيان أمر الانفاق، ورجوع مضامينها واغراضها بعضها إلى بعض يعطي انها نزلت دفعة واحدة، وهي تحث المؤمنين على الانفاق في سبيل الله تعالى، فتضرب أولاً مثلاً لزيادته ونموه عند الله سبحانه: واحد بسبعمائة، وربما زاد على ذلك بإذن الله، وثانياً مثلاً لكونه لا يتخلف عن شأنه على أي حال وتنهى عن الرياء في الانفاق وتضرب مثلاً للإِنفاق رياءً لا لوجه الله، وانه لا ينمو نماءً ولا يثمر أثراً، وتنهي عن الإِنفاق بالمن والأذى إذ يبطلان أثره ويحبطان عظيم أجره، ثم تأمر بأن يكون الإِنفاق من طيب المال لا من خبيثه بخلاً وشحاً، ثم تعيّن المورد الذي توضع فيه هذه الصنيعة وهو الفقراء المحضرون في سبيل الله، ثم تذكر ما لهذا الانفاق من عظيم الأجر عند الله.
وبالجملة الآيات تدعو إلى الإِنفاق، وتبيّن أولاً وجهه وغرضه، وهو أن يكون لله لا للناس، وثانياً صورة عمله وكيفيته وهو أن لا يتعقبه المن والأذى، وثالثاً وصف مال الإِنفاق وهو أن يكون طيباً لا خبيثاً، ورابعاً نعت مورد الإِنفاق وهو أن يكون فقيراً أُحصر في سبيل الله، وخامساً ما له من عظيم الأجر عاجلاً وآجلاً.
(كلام في الانفاق)
الانفاق من أعظم ما يهتم بأمره الإِسلام في أحد ركنيه وهو حقوق الناس وقد توسل إليه بأنحاء التوسل إيجاباً وندباً من طريق الزكاة والخمس والكفارات المالية وأقسام الفدية والانفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمرى والوصايا والهبة وغير ذلك.
وإنما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب أفقهم من أُفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الإِسراف والتبذير ونحو ذلك.
وكان الغرض من ذلك كله إيجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الأجزاء متشابهة الأبعاض، تحيي ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإِرادات المتضادة وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيباً يتضمن سعادة الإِنسان في العاجل والآجل، ويعيش به الإِنسان في معارف حقة، وأخلاق فاضلة، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة.
ولا يتم ذلك إلاَّ بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلاَّ بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلاَّ بالجهات المالية والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك انفاق الأفراد مما اقتنوه بكد اليمين وعرق الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.
وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية على سائرها أفضل التحية صحتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته عليه السلام ونفوذ أمره.
وهي التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجراها أمير المؤمنين علي عليه السلام إذ يقول: وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلاَّ إدباراً، والشر فيه إلاَّ إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلاَّ طمعاً، فهذا أوان قويت عدته وعمّت مكيدته وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلاَّ فقيراً يكابد فقراً؟ أو غنياً بدل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً أو متمرداً كأن باذنه عن سمع المواعظ وقراً؟ (نهج البلاغة).
وقد كشف توالي الأيام عن صدق القرآن في نظريته هذه - وهي تقريب الطبقات بإمداد الدانية بالإِنفاق ومنع العالية عن الاتراف والتظاهر بالجمال - حيث ان الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الاخلاد إلى الأرض، والافراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية، واستيفاء الهوسات النفسانية، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب أولي القوة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلاَّ الحرمان، ولم يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضاً حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس وسلب حق الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين، كل يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالمية الكبرى، وظهرت الشيوعية، وهجرت الحقيقة والفضيلة، وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع، وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإِنساني، وما يهدد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.
ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الانفاق وانفتاح أبواب الرباء الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الانفاق، ويذكر أن في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنيناً أيام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيام.
وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:
{ { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون * وإذا مسّ الناس ضرٌّ دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } [الروم: 30-35] إلى أن قال: { { فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأُولئك هم المفلحون * وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعفون } [الروم: 38-40] إلى أن قال: { { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلَّهم يرجعون * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبه الذين من قبل كان أكثرهم مشركين * فأقم وجهك للدين القيّم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذٍ يصدعون } [الروم: 41-43] الآيات، وللآيات نظائر في سور هود ويونس والإِسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إن شاء الله.
وبالجملة هذا هو السبب فيما يترائى من هذه الآيات أعني آيات الإِنفاق من الحث الشديد والتأكيد البالغ في أمره.
قوله تعالى: { مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة } "الخ"، المراد بسبيل الله كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لأجله، فإن الكلمة في الآية مطلقة، وإن كانت الآية مسبوقة بآيات ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإن ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.
وقد ذكروا أن قوله تعالى: { كمثل حبة أنبتت } "الخ"، على تقدير قولنا كمثل من زرع حبة أنبتت "الخ"، فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي أُنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.
وهذا الكلام وإن كان وجيهاً في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك، فإن جل الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعه في القرآن كقوله تعالى:
{ { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلاَّ دعاءً ونداءً } [البقرة: 171]، فإنه مثل من يدعو الكفار لا مثل الكفار، وقوله تعالى: { { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه } [يونس: 24] الآية، وقوله تعالى: { { مثل نوره كمشكاة } [النور: 35] وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: { فمثله كمثل صفوان } الآية، وقوله تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة } الآية، إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.
وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعاً في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الإِعراض عن باقي أجزاء الكلام للإِيجاز.
توضيحه: أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لأخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيعت اللبن من الأمثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إن الأمثال لا تتغير، وكقولنا: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وهي قصة مفروضة خيالية.
والمعنى الذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل، ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى:
{ { ومثل كلمه خبيثة كشجرة خبيثة } [إبراهيم: 26] الآية، وقوله تعالى: { { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً } [الجمعة: 5]، وربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل وهو الذي نسميه مادة التمثيل، وإنما جيء بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الأخير (مثال الانفاق والحبة) فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمائة حبة وإنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة.
وما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت موضع تمام القصة لأن الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمراً ووجدانه أمراً آخر مقامه يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الإِيجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.
قوله تعالى: { أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة }، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادته الستر سمي به لأنه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الأغلفة.
ومن أسخف الإِشكال ما أُورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مائة حبة، وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونه في الخارج فالأمثال التخيلية أكثر من أن تعد وتحصى، على أن اشتمال السنبلة على مائة حبة وإنبات الحبة الواحدة سبعمائة حبة ليس بعزيز الوجود.
قوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم }، أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدد لفضله كما قال تعالى:
{ { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } [البقرة: 245]، فأطلق الكثرة ولم يقيدها بعدد معيّن.
وقيل: إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء، فالمضاعفة إلى سبعمائة ضعف غاية ما تدل عليه الآية، وفيه أن الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحق الكلام فيه حينئذٍ أن يصدر بإن كقوله تعالى:
{ { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً إن الله لذو فضل على الناس } [غافر: 61]، وأمثال ذلك.
ولم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشيء من ماله وإن كان يخطر بباله ابتداءً أن المال قد فات عنه ولم يخلف بدلاً، لكنه لو تأمل قليلاً وجد أن المجتمع الإِنساني بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة بحسب الأسماء والأشكال لكنها جميعاً متحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة والاستقامة، وعيّ في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها، فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهراً، لكن؟ إنما جهّز الإِنسان بالبصر ليميز به الأشياء ضوءً ولوناً وقرباً وبعداً فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإِنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإِنسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أولاً كداً وتعباً لا يتحمل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادخره لبعض الأعضاء الآخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافاً ربما زاد على المئات والألوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيما إذا كان الإِنفاق لدفع الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الانفاق.
وإذا كان الانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضات الله كان النماء والزيادة من لوازمه من غير تخلف، فإن الانفاق لو لم يكن لوجه الله لم يكن إلاَّ لفائدة عائدة إلى نفس المنفق كإنفاق الغني للفقير لدفع شره، أو إنفاق المثري الموسر للمعسر ليدفع حاجته ويعتدل حال المجتمع فيصفو للمثري المنفق عيشه، وهذا نوع استخدام للفقير واستثمار منه لنفع نفسه، ربما أورث في نفس الفقير أثراً سيئاً، وربما تراكمت الآثار وظهرت فكانت بلوى، لكن الانفاق الذي لا يراد به إلاَّ وجه الله ولا يبتغى فيه إلاَّ مرضاته خال عن هذه النواقص لا يؤثر إلاَّ الجميل ولا يتعقبه إلاَّ الخير.
قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى } "الخ"، الاتباع اللحوق والإِلحاق، قال تعالى:
{ { فأْتبعوهم مشرقين } [الشعراء: 60]، أي لحقوهم، وقال تعالى: { { فأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } [القصص: 42]، أي ألحقناهم. والمن هو ذكر ما ينغص المعروف كقول المنعم للمنعم عليه: أنعمت عليك بكذا وكذا ونحو ذلك، والأصل في معناه على ما قيل القطع، ومنه قوله تعالى: { { لهم أجر غير ممنون } [فصلت: 8]، أي غير مقطوع، والأذى الضرر العاجل أو الضرر اليسير، والخوف توقع الضرر، والحزن الغم الذي يغلظ على النفس من مكروه واقع أو كالواقع.
قوله تعالى: { قول معروف ومغفرة خير من صدقة } "الخ" المعروف من القول ما لا ينكره الناس بحسب العادة، ويختلف باختلاف الموارد، والأصل في معنى المغفرة هو الستر، والغنى مقابل الحاجة والفقر، والحلم السكوت عند المكروه من قول أو فعل.
وترجيح القول المعروف والمغفرة على صدقة يتبعها أذى ثم المقابلة يشهد بأن المراد بالقول المعروف الدعاء أو لفظ آخر جميل عند رد السائل إذا لم يتكلم بما يسوء المسؤول عنه، والستر والصفح إذا شفع سؤاله بما يسؤُه وهما خير من صدقة يتبعها أذى، فإن أذى المنفق للمنفَق عليه يدل على عظم إنفاقه والمال الذي أنفقه في عينه، وتأثره عمّا يسؤُه من السؤال، وهما علتان يجب أن تزاحا عن نفس المؤمن، فإن المؤمن متخلق بأخلاق الله، والله سبحانه غني لا يكبر عنده ما أنعم وجاد به، حليم لا يتعجل في المؤاخذة على السيئة، ولا يغضب عند كل جهالة، وهذا معنى ختم الآية بقوله: { والله غني حليم }.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم } "الخ"، تدل الآية على حبط الصدقة بلحوق المن والأذى، وربما يستدل بها على حبط كل معصية أو الكبيرة خاصة لما يسبقها من الطاعات، ولا دلالة في الآية على غير المن والأذى بالنسبة إلى الصدقة وقد تقدّم إشباع الكلام في الحبط.
قوله تعالى: { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر }، لما كان الخطاب للمؤمنين، والمرائي غير مؤمن كما ذكره الله سبحانه لأنه لا يقصد بأعماله وجه الله لم يعلق النهي بالرئاء كما علقه على المن والأذى، بل إنما شبّه المتصدق الذي يتبع صدقته بالمن والأذى بالمرائي في بطلان الصدقة، مع أن عمل المرائي باطل من رأس وعمل المانّ والمؤذي وقع أولاً صحيحاً ثم عرضه البطلان.
واتحاد سياق الأفعال في قوله: ينفق ماله، وقوله: ولا يؤمن، من دون أن يقال: ولم يؤمن، يدل على أن المراد من عدم إيمان المرائي في الإِنفاق بالله واليوم الآخر عدم إيمانه بدعوة الانفاق الذي يدعو إليها الله سبحانه، ويعد عليه جزيل الثواب، إذ لو كان يؤمن بالداعي في دعوته هذه، وبيوم القيامة الظاهر فيه الجزاء لقصد في فعله وجه الله، وأحب واختار جزيل الثواب، ولم يقصد به رئاء الناس، فليس المراد من عدم إيمان المرائي عدم إيمانه بالله سبحانه رأساً.
ويظهر من الآية: أن الرياء في عمل يستلزم عدم الإِيمان بالله واليوم الآخر فيه.
قوله تعالى: { فمثله كمثل صفوان عليه تراب } إلى آخر الآية، الضمير في قوله: فمثله راجع إلى الذي ينفق ماله رئاء الناس والمثل له، والصفوان والصفا الحجر الأملس وكذا الصلد، والوابل: المطر الغزير الشديد الوقع.
والضمير في قوله: لا يقدرون، راجع إلى الذي ينفق رئاءً لأنه في معنى الجمع، والجملة تبيّن وجه الشبه وهو الجامع بين المشبّه والمشبه به، وقوله تعالى: { والله لا يهدي القوم الكافرين } بيان للحكم بوجه عام وهو أن المرائي في ريائه من مصاديق الكافر، والله لا يهدي القوم الكافرين، ولذلك أفاد معنى التعليل.
وخلاصة معنى المثل: أن حال المرائي في إنفاقه رئاءً وفي ترتب الثواب عليه كحال الحجر الأملس الذي عليه شيء من التراب إذا أنزل عليه وابل المطر، فإن المطر وخاصة وابله هو السبب البارز لحياة الأرض واخضرارها وتزينها بزينة النبات، إلاَّ أن التراب إذا وقع على الصفوان الصلد لا يستقر في مكانه عند نزول الوابل بل يغسله الوابل ويبقى الصلد الذي لا يجذب الماء، ولا يتربى فيه بذر لنبات، فالوابل وإن كان من أظهر أسباب الحياة والنمو وكذا التراب لكن كون المحل صلداً يبطل عمل هذين السببين من غير أن يكون النقص والقصور من جانبهما فهذا حال الصلد.
وهذا حال المرائي فإنه لما لم يقصد من عمله وجه الله لم يترتب على عمله ثواب وإن كان العمل كالإِنفاق في سبيل الله من الأسباب البارزة لترتب الثواب، فإنه مسلوب الاستعداد لا يقبل قلبه الرحمة والكرامة.
وقد ظهر من الآية: أن قبول العمل يحتاج إلى نية الإِخلاص وقصد وجه الله، وقد روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
"إنما الأعمال بالنيات"
]. قوله تعالى: { مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم }، ابتغاء المرضات هو طلب الرضاء، ويعود إلى إرادة وجه الله، فإن وجه الشيء هو ما يواجهك ويستقبلك به، ووجهه تعالى بالنسبه إلى عبده الذي أمره بشيء وأراده منه هو رضائه عن فعله وامتثاله، فإن الأمر يستقبل المأمور أولاً بالأمر فإذا امتثل استقبله بالرضاء عنه، فمرضات الله عن العبد المكلف بتكليف هو وجهه إليه، فابتغاء مرضاة الله هو إرادة وجهه عز وجل.
وأما قوله: { وتثبيتاً من أنفسهم } فقد قيل: إن المراد التصديق واليقين. وقيل: هو التثبت أي يتثبتون أين يضعون أموالهم، وقيل: هو التثبت في الانفاق، فإن كان لله أمضى، وإن كان خالطه شيء من الرياء أمسك، وقيل: التثبيت توطين النفس على طاعة الله تعالى، وقيل: هو تمكين النفس في منازل الإِيمان بتعويدها على بذل المال لوجه الله. وأنت خبير بأن شيئاً من الأقوال لا ينطبق على الآية إلاَّ بتكلف.
والذي ينبغي أن يقال - والله العالم - في المقام: هو أن الله سبحانه لما أطلق القول أولاً في مدح الانفاق في سبيل الله، وان له عند الله عظيم الأجر اعترضه أن استثنى منه نوعين من الانفاق لا يرتضيهما الله سبحانه، ولا يترتب عليهما الثواب، وهما الانفاق رياءً الموجب لعدم صحة العمل من رأس والانفاق الذي يتبعه منٌّ أو أذى فإنه يبطل بهما وإن انعقد أولاً صحيحاً، وليس يعرض البطلان لهذين النوعين إلاَّ من جهة عدم ابتغاء مرضاة الله فيه من رأس، أو لزوال النفس عن هذه النية أعني ابتغاء المرضات ثانياً بعد ما كانت عليها أولاً، فأراد في هذه الآية بيان حال الخاصة من أهل الانفاق الخالصة بعد استثناء المرائين وأهل المن والأذى، وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء وجه الله ثم يقرون أنفسهم على الثبات على هذه النية الطاهرة النامية من غير أن يتبعوها بما يبطل العمل ويفسده.
ومن هنا يظهر أن المراد بابتغاء مرضاة الله أن لا يقصد بالعمل رئاء ونحوه مما يجعل النية غير خالصة لوجه الله، وبقوله تثبيتاً من أنفسهم تثبيت الإِنسان نفسه على ما نواه من النية الخالصة، وهو تثبيت ناشئ من النفس واقع على النفس. فقوله تثبيتاً تميز، وكلمة من نشوية، وقوله: أنفسهم في معنى الفاعل، وما في معنى المفعول مقدر. والتقدير تثبيتاً من أنفسهم لأنفسهم، أو مفعول مطلق لفعل من مادته.
قوله تعالى: { كمثل جنّة بربوة أصابها وابل } إلى آخر الآية، الأصل في مادة ربا الزيادة، والربوة بالحركات الثلاث في الراء الأرض الجيدة التي تزيد وتعلو في نموها، والأكل بضمتين ما يؤكل من الشيء والواحدة أُكلة، والطل أضعف المطر القليل الأثر.
والغرض من المثل أن الانفاق الذي أُريد به وجه الله لا يتخلف عن أثرها الحسن البتة، فإن العناية الإِلهية واقعة عليه متعلقة به لانحفاظ اتصاله بالله سبحانه وإن كانت مراتب العناية مختلفة لاختلاف درجات النية في الخلوص، واختلاف وزن الأعمال باختلافها، كما أن الجنة التي في الربوة إذا أصابها المطر لم تلبث دون أن تؤتي أُكلها ايتاءً جيداً البتة وإن كان إيتائها مختلفاً في الجودة باختلاف المطر النازل عليه من وابل وطل.
ولوجود هذا الاختلاف ذيل الكلام بقوله: { والله بما تعملون بصير } أي لا يشتبه عليه أمر الثواب، ولا يختلط عليه ثواب الأعمال المختلفة فيعطي ثواب هذا لذاك وثواب ذاك لهذا.
قوله تعالى: { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب } "الخ"، الود هو الحب وفيه معنى التمني، والجنة: الشجر الكثير الملتف كالبستان سميت بذلك لأنها تجن الأرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه، ولذلك صحَّ أن يقال: تجري من تحتها الأنهار، ولو كانت هي الأرض بما لها من الشجر مثلاً لم يصح ذلك لإِفادته خلاف المقصود، ولذلك قال تعالى في مثل الربوة وهي الأرض المعمورة:
{ { ربوة ذات قرار ومعين } [المؤمنون: 50]، وكرر في كلامه قوله: { جنات تجري من تحتها الأنهار } فجعل المعين (وهو الماء) فيها لا جارياً تحتها.
ومن في قوله: { من نخيل وأعناب } للتبيين، ويفيد معنى الغلبة دون الاستيعاب، فإن الجنة والبستان وما هو من هذا القبيل إنما يضاف إلى الجنس الغالب، فيقال جنة العنب أو جنة من أعناب إذا كان الغالب فيها الكرم وهي لا تخلو مع ذلك من شجر شتى، ولذلك قال تعالى ثانياً: { له فيها من كل الثمرات }.
والكبر كبر السن وهو الشيخوخة، والذرية الأولاد، والضعفاء جمع الضعيف، وقد جمع تعالى في المثل بين إصابة الكبر ووجود الذرية الضعفاء لتثبيت مسيس الحاجة القطعية إلى الجنة المذكورة مع فقدان باقي الأسباب التي يتوصل إليها في حفظ سعادة الحياة وتأمين المعيشة، فإن صاحب الجنة لو فرض شاباً قوياً لأمكنه أن يستريح إلى قوة يمينه لو أُصيبت جنته بمصيبة، ولو فرض شيخاً هرماً من غير ذرية ضعفاء لم يسوء حاله تلك المساءة لأنه لا يرى لنفسه إلاَّ أياماً قلائل لا يبطئ عليه زوالها وانقضائها، ولو فرض ذا كبر وله أولاد أقوياء يقدرون على العمل واكتساب المعيشة أمكنهم أن يقتاتوا بما يكتسبونه، وأن يستغنوا عنها بوجه! لكن إذا اجتمع هناك الكبر والذرية الضعفاء، واحترقت الجنة انقطعت الأسباب عنهم عند ذلك، فلا صاحب الجنة يمكنه أن يعيد لنفسه الشباب والقوة أو الأيام الخالية حتى يهيئ لنفسه نظير ما كان قد هيأها، ولا لذريته قوة على ذلك، ولا لهم رجاء أن ترجع الجنة بعد الاحتراق إلى ما كانت عليه من النضارة والاثمار.
والاعصار الغبار الذي يلتف على نفسه بين السماء والأرض كما يلتف الثوب على نفسه عند العصر.
وهذا مثل ضربه الله للذين ينفقون أموالهم ثم يتبعونه مناً وأذى فيحبط عملهم ولا سبيل لهم إلى إعادة العمل الباطل إلى حال صحته واستقامته، وانطباق المثل على الممثل ظاهر، ورجا منهم التفكر لأن أمثال هذه الأفاعيل المفسدة للأعمال إنما تصدر من الناس ومعهم حالات نفسانية كحب المال والجاه والكبر والعجب والشح، لا تدع للإِنسان مجال التثبت والتفكر وتميز النافع من الضار، ولو تفكروا لتبصروا.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا أنفقوا من طيّبات ما كسبتم } الخ، التيمم هو القصد والتعمد، والخبيث ضد الطيب، وقوله: منه، متعلق بالخبيث، وقوله: تنفقون حال من فاعل لا تيمموا، وقوله: ولستم بآخذيه، حال من فاعل تنفقون، وعامله الفعل، وقوله: ان تغمضوا فيه، في تأويل المصدر، واللام مقدر على ما قيل والتقدير إلاَّ لإِغماضكم فيه، أو المقدر باء المصاحبة والتقدير إلاَّ بمصاحبة الإِغماض.
ومعنى الآية ظاهر، وإنما بيّن تعالى كيفية مال الانفاق، وانه ينبغي أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه الذي لا يأخذه المنفق إلاَّ بإغماض، فإنه لا يتصف بوصف الجود والسخاء، بل يتصور بصورة التخلص، فلا يفيد حباً للصنيعة والمعروف ولا كمالاً للنفس، ولذلك ختمها بقوله: { واعلموا أن الله غني حميد } أي راقبوا في إنفاقكم غناه وحمده فهو في عين غناه يحمد إنفاقكم الحسن فأنفقوا من طيب المال، أو أنه غني محمود لا ينبغي أن تواجهوه بما لا يليق بجلاله جل جلاله.
قوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء }، إقامة للحجة على أن اختيار خبيث المال للإِنفاق ليس بخير للمنفقين بخلاف اختيار طيبه فإنه خير لهم، ففي النهي مصلحة أمرهم كما أن في المنهى عنه مفسدة لهم، وليس إمساكهم عن إنفاق طيب المال وبذله إلاَّ لما يرونه مؤثراً في قوام المال والثروة فتنقبض نفوسهم عن الاقدام إلى بذله بخلاف خبيثه فإنه لا قيمة له يعنى بها فلا بأس بإنفاقه، وهذا من تسويل الشيطان يخوّف أوليائه من الفقر، مع أن البذل وذهاب المال والانفاق في سبيل الله وابتغاء مرضاته مثل البذل في المعاملات لا يخلو عن العوض والربح كما مر، مع أن الذي يغني ويقني هو الله سبحانه دون المال، قال تعالى:
{ { وأنه هو أغنى وأقنى } [النجم: 48]. وبالجملة لما كان إمساكهم عن بذل طيب المال خوفاً من الفقر خطأ نبّه عليه بقوله: { الشيطان يعدكم الفقر }، غير أنه وضع السبب موضع المسبب، أعني أنه وضع وعد الشيطان موضع خوف أنفسهم ليدل على أنه خوف مضر لهم، فإن الشيطان لا يأمر إلاَّ بالباطل والضلال إما ابتداءً ومن غير واسطة، وإما بالآخرة وبواسطة ما يظهر منه أنه حق.
ولما كان من الممكن أن يتوهم أن هذا الخوف حق وإن كان من ناحية الشيطان دفع ذلك بإتباع قوله: { الشيطان يعدكم الفقر } بقوله: { ويأمركم بالفحشاء } أولاً، فإن هذا الإِمساك والتثاقل منهم يهيئ في نفوسهم ملكة الإِمساك وسجية البخل، فيؤدي إلى ردّ أوامر الله المتعلقة بأموالهم وهو الكفر بالله العظيم، ويؤدي إلى إلقاء أرباب الحاجة في تهلكة الإِعسار والفقر والمسكنة التي فيه تلف النفوس وانهتاك الأعراض وكل جناية وفحشاء، قال تعالى: { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } إلى أن قال:
{ { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلاَّ جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم } [التوبة: 79]. ثم بإتباعه بقوله: { والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم } ثانياً: فإن الله قد بيّن للمؤمنين أن هناك حقاً وضلالاً لا ثالث لهما، وان الحق وهو الطريق المستقيم هو من الله سبحانه، وان الضلال من الشيطان، قال تعالى: { { فماذا بعد الحق إلاَّ الضلال } [يونس: 32]، وقال تعالى: { { قل الله يهدي للحق } [يونس: 35]، وقال تعالى في الشيطان: { { إنه عدو مضل مبين } [القصص: 15]، والآيات جميعاً مكية، وبالجملة نبّه تعالى بقوله: والله يعدكم، بأن هذا الخاطر الذي يخطر ببالكم من جهة الخوف ضلال من الفكر فإن مغفرة الله والزيادة التي ذكرها في الآيات السابقة إنما هما في البذل من طيبات المال.
فقوله تعالى: { والله يعدكم } "الخ"، نظير قوله: { الشيطان يعدكم } "الخ"، من قبيل وضع السبب موضع المسبب، وفيه القاء المقابلة بين وعد الله سبحانه الواسع العليم ووعد الشيطان، لينظر المنفقون في أمر الوعدين ويختاروا ما هو أصلح لبالهم منهما.
فحاصل حجة الآية: ان اختياركم الخبيث على الطيب إنما هو لخوف الفقر، والجهل بما يستتبعه هذا الانفاق، أما خوف الفقر فهو القاء شيطاني، ولا يريد الشيطان بكم إلاَّ الضلال والفحشاء فلا يجوز أن تتبعوه، وأما ما يستتبعه هذا الانفاق فهو الزيادة والمغفرة اللتان ذكرتا لكم في الآيات السابقة، وهو استتباع بالحق لأن الذي يعدكم استتباع الانفاق لهذه المغفرة والزيادة هو الله سبحانه ووعده حق، وهو واسع يسعه أن يعطي ما وعده من المغفرة والزيادة وعليم لا يجهل شيئاً ولا حالاً من شيء فوعده وعد عن علم.
قوله تعالى: { يؤتي الحكمة من يشاء }، الايتاء هو الاعطاء، والحكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدل على نوع المعنى فمعناه النوع من الإِحكام والإِتقان أو نوع من الأمر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور، وغلب استعماله في المعلومات العقلية الحقة الصادقة التي لا تقبل البطلان والكذب البتة.
والجملة تدل على أن البيان الذي بيّن الله به حال الانفاق بجمع علله وأسبابه وما يستتبعه من الأثر الصالح في حقيقة حياة الإِنسان هو من الحكمة، فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإِنسان كالمعارف الحقة الإِلهية في المبدأ والمعاد، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الإِنسان كالحقائق الفطرية التي هي أساس التشريعات الدينية.
قوله تعالى: { ومن يؤت الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً }، المعنى ظاهر، وقد أُبهم فاعل الايتاء مع أن الجملة السابقة عليه تدل على أنه الله تبارك وتعالى ليدل الكلام على أن الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالتلبس بها يتضمن الخير الكثير، لا من جهة انتساب اتيانه إليه تعالى، فإن مجرد انتساب الاتيان لا يوجب ذلك كإيتاء المال، قال تعالى في قارون:
{ { وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أُولي القوة } [القصص: 76] إلى آخر الآيات، وإنما نسب إليها الخير الكثير دون الخير مطلقاً، مع ما عليه الحكمة من ارتفاع الشأن ونفاسة الأمر لأن الأمر مختوم بعناية الله وتوفيقه، وأمر السعادة مراعى بالعاقبة والخاتمة.
قوله تعالى: { وما يذَّكر إلاَّ أُولوا الألباب }، اللب هو العقل لأنه في الإِنسان بمنزلة اللب من القشر، وعلى هذا المعنى استعمل في القرآن، وكأن لفظ العقل بمعناه المعروف اليوم من الأسماء المستحدثة بالغلبة ولذلك لم يستعمل في القرآن وإنما استعمل منه الأفعال مثل يعقلون.
والتذكر هو الانتقال من النتيجة إلى مقدماتها، أو من الشيء إلى نتائجها، والآية تدل على أن اقتناص الحكمة يتوقف على التذكر، وأن التذكر يتوقف على العقل، فلا حكمة لمن لا عقل له. وقد مرّ بعض الكلام في العقل عند البحث عن ألفاظ الإِدراك المستعملة في القرآن الكريم.
قوله تعالى: { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه }، أي ما دعاكم الله سبحانه إليه أو دعوتم أنفسكم إليه بإيجابه عليها بالنذر من بذل المال، فلا يخفى على الله يثيب من أطاعة ويؤاخذ من ظلمه، ففيه إيماء إلى التهديد. ويؤكده قوله تعالى: { وما للظالمين من أنصار }.
وفي هذه الجملة أعني قوله: { وما للظالمين من أنصار }، دلالة أولاً: على أن المراد بالظلم هو الظلم على الفقراء والمساكين في الإِمساك عن الإِنفاق عليهم، وحبس حقوقهم المالية، لا الظلم بمعنى مطلق المعصية، فإن في مطلق المعصية أنصاراً ومكفرات وشفعاء كالتوبة، والاجتناب عن الكبائر، وشفعاء يوم القيامة إذا كان من حقوق الله تعالى، قال تعالى: { لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } إلى أن قال:
{ { وأنيبوا إلى ربكم } [الزمر: 54]، وقال تعالى: { { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [النساء: 31]، وقال تعالى: { { ولا يشفعون إلاَّ لمن ارتضى } [الأنبياء: 28]. ومن هنا يظهر: وجه إتيان الأنصار بصيغة الجمع فإن في مورد مطلق الظلم أنصاراً.
وثانياً: أن هذا الظلم وهو ترك الإِنفاق لا يقبل التكفير ولو كان من الصغائر لقبله فهو من الكبائر، وأنه لا يقبل التوبة، ويتأيد بذلك ما وردت به الروايات: أن التوبة في حقوق الناس غير مقبولة إلاَّ برد الحق إلى مستحقه، وأنه لا يقبل الشفاعة يوم القيامة كما يدل عليه قوله تعالى: { إلاَّ أصحاب اليمين في جنَّات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نكُ من المصلين ولم نكُ نطعم المسكين } إلى أن قال:
{ { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [المدثر: 48]. وثالثاً: أن هذا الظالم غير مرتضى عند الله إذ لا شفاعة إلاَّ لمن ارتضى الله دينه كما مرّ بيانه في بحث الشفاعة، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: { ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله }، حيث أتى بالمرضاة ولم يقل ابتغاء وجه الله.
ورابعاً: أن الامتناع من أصل إنفاق المال على الفقراء مع وجودهم واحتياجهم من الكبائر الموبقة، وقد عد تعالى الامتناع عن بعض أقسامه، كالزكاة شركاً بالله وكفراً بالآخرة، قال تعالى:
{ { وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون } [فصلت: 7]، والسورة مكية ولم تكن شرعت الزكاة المعروفة عند نزولها.
قوله تعالى: { إن تبدوا الصدقات فنعما هي } "الخ"، الابداء هو الإِظهار، والصدقات جمع صدقة، وهي مطلق الانفاق في سبيل الله أعم من الواجب والمندوب وربما يقال: إن الأصل في معناها الانفاق المندوب.
وقد مدح الله سبحانه كلاً من شقي الترديد، لكون كل واحد من الشقين ذا آثار صالحة، فأما إظهار الصدقة فإن فيه دعوة عملية إلى المعروف، وتشويقاً للناس إلى البذل والانفاق، وتطييباً لنفوس الفقراء والمساكين حيث يشاهدون أن في المجتمع رجالاً رحماء بحالهم، وأموالاً موضوعة لرفع حوائجهم، مدخرة ليوم بؤسهم فيؤدي إلى زوال اليأس والقنوط عن نفوسهم، وحصول النشاط لهم في أعمالهم، واعتقاد وحدة العمل والكسب بينهم وبين الأغنياء المثرين، وفي ذلك كل الخير، وأما إخفائها فإنه حينئذٍ يكون أبعد من الرياء والمن والأذى، وفيه حفظ لنفوس المحتاجين عن الخزي والمذلة، وصون لماء وجوههم عن الابتذال، وكلاءة لظاهر كرامتهم، فصدقة العلن أكثر نتاجاً، وصدقة السر أخلص طهارة.
ولما كان بناء الدين على الإِخلاص وكان العمل كلما قرب من الإِخلاص كان أقرب من الفضيلة رجح سبحانه جانب صدقة السر فقال: { وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم } فإن كلمة خير أفعل التفضيل، والله تعالى خبير بأعمال عباده لا يخطئ في تمييز الخير من غيره، وهو قوله تعالى: { والله بما تعملون خبير }.
قوله تعالى: { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء }، في الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأن ما كان يشاهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فعال المؤمنين في صدقاتهم من اختلاف السجايا بالإِخلاص من بعضهم، والمن والأذى والتثاقل في إنفاق طيب المال من بعض مع كونهم مؤمنين، أوجد في نفسه الشريفة وجداً وحزناً، فسلاه الله تعالى بالتنبيه على أن أمر هذا الإِيمان الموجود فيهم والهدى الذي لهم إنما هو إلى الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإِيمان وإلى درجاته، وليس يستند إلى النبي لا وجوده ولا بقائه حتى يكون عليه حفظه، ويشفق من زواله أو ضعفه، أو يسؤُه ما آل إليه الكلام في هذه الآيات من التهديد والإِيعاد والخشونة.
والشاهد على ما ذكرناه قوله تعالى: هداهم، بالتعبير بالمصدر المضاف الظاهر في تحقق التلبس. على أن هذا المعنى أعني نفي استناد الهداية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإسناده إلى الله سبحانه حيث وقع في القرآن وقع في مقام تسلية النبي وتطييب قلبه.
فالجملة أعني قوله: { ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء } جملة معترضة اعترضت في الكلام لتطييب قلب النبي بقطع خطاب المؤمنين والإِقبال عليه صلى الله عليه وآله، نظير الاعتراض الواقع في قوله تعالى:
{ { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه } [القيامة: 17] الآيات، فلما تمّ الاعتراض عاد إلى الأصل في الكلام من خطاب المؤمنين.
قوله تعالى: { وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله } إلى آخر الآية، رجوع إلى خطاب المؤمنين بسياق خال عن التبشير والإِنذار والتحنن والتغيظ معاً، فإن ذلك مقتضى معنى قوله تعالى: { ولكن الله يهدي من يشاء }، كما لا يخفى. فقصر الكلام على الدعوة الخالية بالدلالة على أن ساحة المتكلم الداعي منزهة عن الانتفاع بما يتعقب هذه الدعوة من المنافع، وإنما يعود نفعه إلى المدعوين، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم لكن لا مطلقاً بل في حال لا تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله، فقوله: { ولا تنفقون إلاَّ ابتغاء وجه الله } حال من ضمير الخطاب وعامله متعلق الظرف أعني قوله: فلأنفسكم.
ولما أمكن أن يتوهم أن هذا النفع العائد إلى أنفسهم ببذل المال مجرد اسم لا مسمى له في الخارج، وليس حقيقته إلاَّ تبديل الحقيقة من الوهم عقب الكلام بقوله: { وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون }، فبيّن أن نفع هذا الانفاق المندوب وهو ما يترتب عليه من مثوبه الدنيا والآخرة ليس أمراً وهمياً، بل هو أمر حقيقي واقعي سيوفيه الله تعالى إليكم من غير أن يظلكم بفقد أو نقص.
وإبهام الفاعل في قوله: { يوف إليكم }، لما تقدم أن السياق سياق الدعوة فطوي ذكر الفاعل ليكون الكلام أبلغ في النصح وانتفاء غرض الانتفاع من الفاعل كأنه كلام لا متكلم له، فلو كان هناك نفع فلسامعه لا غير.
قوله تعالى: { للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله } إلى آخر الآية، الحصر هو المنع والحبس، والأصل في معناه التضييق، قال الراغب في المفردات: والحصر والإِحصار المنع من طريق البيت، فالإِحصار يقال: في المنع الظاهر كالعدو، والمنع الباطن كالمرض، والحصر لا يقال، إلاَّ في المنع الباطن، فقوله تعالى: { فإن أُحصرتم }، فمحمول على الأمرين وكذلك قوله: { للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله }، وقوله عزّ وجلّ: { أو جاؤكم حصرت صدورهم }، أي ضاقت بالبخل والجبن، انتهى. والتعفف التلبس بالعفة، والسيماء العلامة، والإِلحاف هو الإِلحاح في السؤال.
وفي الآية بيان مصرف الصدقات، وهو أفضل المصرف، وهم الفقراء الذين منعوا في سبيل الله وحبسوا فيه بتأدية عوامل وأسباب إلى ذلك: إما عدو أخذ مالهم من الستر واللباس أو منعهم التعيش بالخروج إلى الاكتساب أو مرض أو اشتغال بما لا يسعهم معه الاشتغال بالكسب كطالب العلم وغير ذلك.
وفي قوله تعالى: { يحسبهم الجاهل }، أي الجاهل بحالهم، أغنياء من التعفف دلالة على أنهم غير متظاهرين بالفقر إلاَّ ما لا سبيل لهم إلى ستره من علائم الفقر والمسكنة من بشرة أو لباس خلق أو نحوهما.
ومن هنا يظهر: أن المراد بقوله: { لا يسألون الناس إلحافاً }، انهم لا يسألون الناس أصلاً حتى ينجر إلى الالحاف والاصرار في السؤال، فإن السؤال أول مره يجوز للنفس الجزع من مرارة الفقر فيسرع إليها أن لا تصبر وتهم بالسؤال في كل موقف، والالحاف على كل أحد، كذا قيل، ولا يبعد أن يكون المراد نفي الالحاف لا أصل السؤال، ويكون المراد بالالحاف ما يزيد على القدر الواجب من إظهار الحاجة، فإن مسمى الإِظهار عند الحاجة المبرمة لا بأس به بل ربما صار واجباً، والزائد عليه وهو الالحاف هو المذموم.
وفي قوله تعالى: { تعرفهم بسيماهم } دون أن يقال تعرفونهم نوع صون لجاههم وحفظ لسترهم الذي تستروا به تعففاً من الانهتاك، فإن كونهم معروفين بالفقر عند كل أحد لا يخلو من هوان أمرهم وظهور ذلهم. وأما معرفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحالهم بتوسمه من سيماهم، وهو نبيهم المبعوث إليهم الرؤوف الحنين بهم فليس فيه كسر لشأنهم، ولا ذهاب كرامتهم، وهذا - والله أعلم - هو السر في الالتفات عن خطاب المجموع إلى خطاب المفرد.
قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } إلى آخر الآية، السر والعلانية متقابلان وهما حالان من ينفقون والتقدير مسرين ومعلنين، واستيفاء الأزمنة والأحوال في الإِنفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله، وإرادة وجهه، ولذلك تدلى الله سبحانه منهم فوعدهم وعداً حسناً بلسان الرأفة والتلطف فقال: { لهم أجرهم عند ربهم } "الخ".
(بحث روائي)
في الدر المنثور في قوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء } الآية، أخرج ابن ماجه عن الحسن بن علي بن أبي طالب، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وأبي امامة الباهلي، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله، وعمران بن حصين، كلهم يحدث عن رسول الله أنه قال: "الحديث"، وأخرج ابن ماجه وابن أبي حاتم عن عمران بن حصين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم، ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم" ثم تلا هذه الآية: { والله يضاعف لمن يشاء }.
وفي تفسير العياشي ورواه البرقي أيضاً عن الصادق عليه السلام: إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف، وذلك قول الله: والله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله.
وفي تفسير العياشي عن عمر بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف فذلك قول الله: والله يضاعف لمن يشاء فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله، قلت: وما الإِحسان؟ قال: إذا صليت فأحسن ركوعك وسجودك، وإذا صمت فتوق ما فيه فساد صومك، وإذا حججت فتوق كل ما يحرم عليك في حجتك وعمرتك، قال: وكل عمل تعمله فليكن نقياً من الدنس.
وفيه عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: أرايت المؤمن له فضل على المسلم في شيء من المواريث والقضايا والاحكام حتى يكون للمؤمن أكثر مما يكون للمسلم في المواريث أو غير ذلك؟ قال: لا هما يجريان في ذلك مجرى واحداً إذا حكم الامام عليهما، ولكن للمؤمن فضلاً على المسلم في أعمالهما، قال: فقلت: أليس الله يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وزعمت أنهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحج مع المؤمن؟ قال: فقال: أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء أضعافاً كثيرة؟ فالمؤمنون هم الذين يضاعف لهم الحسنات، لكل حسنة سبعين ضعفاً، فهذا من فضيلتهم، ويزيد الله المؤمن في حسناته على قدر صحة إيمانه أضعافاً مضاعفة كثيرة ويفعل الله بالمؤمن ما يشاء.
أقول: وفي هذا المعنى اخبار أُخر وهي مبتنية جميعاً على الأخذ بإطلاق قوله تعالى: { والله يضاعف لمن يشاء }، بالنسبة إلى غير المنفقين، والأمر على ذلك إذ لا دليل على التقييد بالمنفقين غير المورد، ولا يكون المورد مخصصاً ولا مقيداً، وإذا كانت الآية مطلقة كذلك كان قوله: يضاعف مطلقاً بالنسبة إلى الزائد عن العدد وغيره، ويكون المعنى: والله يضاعف العمل كيفما شاء على من شاء، يضاعف لكل محسن على قدر إحسانه سبعمائة ضعف أو أزيد أو أقل كما يزيد للمنفقين على سبعمائة إذا شاء، ولا ينافي هذا ما تقدم في البيان من نفي كون المراد والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء لأن الذي نفينا هناك إنما هو تقييده بالمنفقين، والمعنى الذي تدل عليه الرواية نفي التقييد. وقوله عليه السلام: أليس الله قد قال: والله يضاعف لمن يشاء أضعافاً كثيرة نقل بالمعنى مأخوذ من مجموع آيتين إحداهما: هذه الآية من سوره البقرة، والأخرى: قوله تعالى:
{ { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } [البقرة: 245]، ومما يستفاد من الرواية إمكان قبول أعمال غير المؤمنين من سائر فرق المسلمين وترتب الثواب عليها، وسيجيء البحث عنها في قوله تعالى: { { إلاَّ المستضعفين من الرجال } [النساء: 98] الآية.
وفي المجمع قال: والآية عامة في النفقة في جميع ذلك (يشير إلى الجهاد وغيره من أبواب البر) وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق في المصنف عن أيوب قال:
"أشرف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من رأس تل، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أوليس في سبيل الله إلاَّ من قتل؟ ثم قال: من خرج في الأرض يطلب حلالاً يكف به والديه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالاً يكف به أهله فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب حلالاً يكف به نفسه فهو في سبيل الله، ومن خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان"
]. وفيه أيضاً أخرج ابن المنذر والحاكم وصححه: " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأل البراء ابن عازب فقال: يا براء كيف نفقتك على أُمك؟ وكان موسعاً على أهله فقال: يا رسول الله ما أحسنها؟ قال: فإن نفقتك على أهلك وولدك وخادمك صدقه فلا تتبع ذلك مناً ولا أذى"
]. أقول: والروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق الفريقين، وفيها أن كل عمل يرتضيه الله سبحانه فهو في سبيل الله، وكل نفقة في سبيل الله فهي صدقة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } الآية، عن الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثم أذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته" - إلى أن قال الصادق عليه السلام: والصفوان هي الصخرة الكبيرة التي تكون في المفازة - إلى أن قال في قوله تعالى: { كمثل جنة بربوة } الآية، وابل: أي مطر، والطل ما يقع بالليل على الشجر والنبات، وقال في قوله تعالى: { إعصار فيه نار } الآية، الإِعصار الرياح.
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات } الآية، أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم }، قال: من الذهب والفضة ومما أخرجنا لكم من الأرض، قال: يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة.
وفيه أيضاً أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والترمذي، وصحّحه، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله، { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون }، قال: نزلت فينا معشر الأنصار، كنا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحشف، وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله: { يا أيُّها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه } قال: لو أن أحدكم أُهدي إليه مثل ما أُعطي لم يأخذه إلاَّ عن إغماض وحياء، قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قول الله: { يا أيُّها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون }، قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر بالنخل أن يزكى يجيء قوم بألوان من التمر وهو من اردأ التمر، يؤدونه عن زكاتهم تمر يقال له الجعرور والمعافاره قليلة اللحى عظيمة النوى، وكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيد، فقال رسول الله: لا تخرصوا هاتين النخلتين ولا تجيئوا منها بشيء" ، وفي ذلك نزل: ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه، والإِغماض أن تأخذ هاتين التمرتين، وفي رواية أُخرى عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: { أنفقوا من طيبات ما كسبتم }، فقال: كان القوم كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها، فأبى الله تبارك وتعالى إلاَّ أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا.
أقول: وفي هذا المعنى أخبار كثيرة من طرق الفريقين.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { الشيطان يعدكم الفقر } الآية، قال: إن الشيطان يقول لا تنفقوا فإنكم تفتقرون والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً، أي يغفر لكم إن أنفقتم لله وفضلاً يخلف عليكم.
وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان" ثم قرأ: الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ـ الآية.
وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر عليهما السلام في قوله تعالى: { ومن يؤتى الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً } قال: المعرفة.
وفيه عن الصادق عليه السلام: إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: في الآية: قال: طاعة الله ومعرفه الإِمام.
أقول: وفي معناه روايات أُخر وهي من قبيل عد المصداق.
وفي الكافي عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد عن بعض أصحابنا رفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"ما قسم الله للعباد شيئاً أفضل من العقل، فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وإقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، ولا بعث الله نبياً ولا رسولاً حتى يستكمل العقل ويكون عقله أفضل من جميع عقول أُمته، وما يضمر النبي في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين، وما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، والعقلاء هم أُولوا الألباب، قال الله تبارك وتعالى: وما يتذكر إلاَّ أُولوا الألباب"
]. وعن الصادق عليه السلام قال: الحكمة ضياء المعرفة وميزان التقوى وثمرة الصدق ولو قلت: ما أنعم الله على عبده بنعمه أعظم وأرفع وأجزل وأبهى من الحكمة لقلت، قال الله عز وجل: { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتَ الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً وما يذَّكر إلاَّ أُولوا الألباب }.
أقول: وفي قوله تعالى: { وما أنفقتم } الآية، في الصدقة والنذر والظلم أخبار كثيرة سنوردها في مواردها إن شاء الله.
وفي الدر المنثور بعدة طرق عن ابن عباس، وابن جبير، وأسماء بنت أبي بكر وغيرهم: أن رسول الله كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإِسلام وان المسلمين كانوا يكرهون الانفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل الله: { ليس عليك هداهم } الاية، فأجاز ذلك.
أقول: قد مرّ أن قوله: هداهم، إنما يصلح لأن يراد به هدى المسلمين الموجود فيهم دون الكفار، فالآية أجنبية عمّا في الروايات من قصة النزول، على أن تعيين المورد في قوله: { للفقراء الذين أُحصروا } الآية، لا يلائمه كثير ملاءمة، وأما مسألة الانفاق على غير المسلم إذا كان في سبيل الله وابتغاء مرضاة الله فيكفي فيه إطلاق الآيات.
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام في قول الله عزّ وجل: وإن تخفوها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم، فقال: هي سوى الزكاة، إن الزكاة علانية غير سر.
وفيه عنه عليه السلام: كل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره وما كان تطوعاً فإسراره أفضل من إعلانه.
أقول: وفي معنى الحديثين أحاديث أُخرى وقد تقدم ما يتضح به معناها.
وفي المجمع في قوله تعالى: { للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله } الآية، قال قال أبو جعفر عليه السلام: نزلت الآية في أصحاب الصفة، قال: وكذلك رواه الكلبي عن ابن عباس، وهم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، ولا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، وقالوا نخرج في كل سرية يبعثها رسول الله، فحث الله الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل وعنده فضل أتاهم به إذا أمسى.
وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السلام: إن الله يبغض الملحف.
وفي المجمع في قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } الآية، قال: سبب النزول عن ابن عباس نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب عليه السلام كانت معه أربعة دراهم، فتصدق بواحد ليلاً، وبواحد نهاراً، وبواحد سراً، وبواحد علانية، فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، قال الطبرسي: وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
أقول: وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره، والمفيد في الاختصاص، والصدوق في العيون.
وفي الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن عساكر من طريق عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية } قال: نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً وبالنهار درهماً وسراً درهماً وعلانية درهماً.
وفي تفسير البرهان عن ابن شهرآشوب في المناقب عن ابن عباس، والسدي، ومجاهد، والكلبي، وأبي صالح، والواحدي، والطوسي، والثعلبي، والطبرسي، والماوردي، والقشيري، والثمالي، والنقاش، والفتال، وعبد الله بن الحسين، وعلي بن حرب الطائي في تفاسيرهم: أنه كان عند ابن أبي طالب دراهم فضة فتصدق بواحد ليلاً، وبواحد نهاراً، وبواحد سراً، وبواحد علانية، فنزل: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية، فسمى كل درهم مالاً وبشره بالقبول.
وفي بعض التفاسير: أن الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين ألف دينار، عشرة بالليل، وعشرة بالنهار، وعشرة بالسر، وعشرة بالعلانية.
أقول: ذكر الآلوسي في تفسيره في ذيل هذا الحديث: أن الإِمام السيوطي تعقبه بأن خبر تصدقه بأربعين ألف دينار إنما رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة وليس فيه ذكر من نزول الآية، وكأن من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحاق، قال: لما قبض أبو بكر واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيُّها الناس إن بعض الطمع فقر، وإن بعض اليأس غنى، وإنكم تجمعون ما لا تأكلون، وتؤملون ما لا تدركون، واعلموا أن بعض الشح شعبة من النفاق، فأنفقوا خيراً لأنفسكم، فأين أصحاب هذه الآية، وقرأ الآية الكريمة وأنت تعلم أنها لا دلالة فيها على نزولها في حقه، انتهى.
وفي الدر المنثور: بعدة طرق عن أبي أمامة، وأبي الدرداء، وابن عباس وغيرهم، أن الآية نزلت في أصحاب الخيل.
أقول: والمراد بهم المرابطون الذين ينفقون على الخيل ليلاً ونهاراً، لكن لفظ الآية أعني قوله: { سراً وعلانية } لا ينطبق عليه إذ لا معنى لهذا التعميم والترديد في الانفاق على الخيل أصلاً.
وفي الدر المنثور أيضاً أخرج المسيب: الذين ينفقون الآية كلها في عبد الرَّحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة.
أقول: والإِشكال فيه من حيث عدم الانطباق نظير الاشكال في سابقه.