التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تكرار الإِيمان ثانياً وهو الاتصاف بحقيقته كما يعطيه السياق يفيد أن المراد بالذين آمنوا في صدر الآية هم المتصفون بالإِيمان ظاهراً، المتسمون بهذا الاسم فيكون محصل المعنى أن الأسماء والتسمي بها مثل المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين لا يوجب عند الله تعالى أجراً ولا أمناً من العذاب كقولهم: لا يدخل الجنة إلاَّ من كان هوداً أو نصارى، وإنما ملاك الأمر وسبب الكرامة والسعادة حقيقة الإِيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ولذلك لم يقل من آمن منهم بإرجاع الضمير إلى الموصول اللازم في الصلة لئلا يكون تقريراً للفائدة في التسمي على ما يعطيه النظم كما لا يخفى وهذا مما تكررت فيه آيات القرآن أن السعادة والكرامة تدور مدار العبودية، فلا اسم من هذه الأسماء ينفع لمتسميه شيئاً، ولا وصف من أوصاف الكمال يبقى لصاحبه وينجيه إلاَّ مع لزوم العبودية، الأنبياء ومن دونهم فيه سواء، فقد قال تعالى في أنبيائه بعدما وصفهم بكل وصف جميل:
{ { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } [الأنعام: 88]، وقال تعالى في أصحاب نبيّه ومن آمن معه مع ما ذكر من عظم شأنهم وعلو قدرهم: { { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } [النور: 55]، فأتى بكلمة منهم وقال في غيرهم ممن أوتي آيات الله تعالى: { { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه } [الأعراف: 176]، إلى غير ذلك من الآيات الناصّة على أن الكرامة بالحقيقة دون الظاهر.
(بحث روائي)
في الدر المنثور: عن سلمان الفارسي قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم وعبادتهم فنزلت: { إن الذين آمنوا والذين هادوا } الآية.
أقول: وروي أيضاً نزول الآية في أصحاب سلمان بعدة طرق أُخرى.
وفي المعاني: عن ابن فضَّال قال: قلت للرضا عليه السلام لم سمي النصاري نصارى قال: لأنهم كانوا من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلتها مريم وعيسى بعد رجوعهما من مصر.
أقول: وفي الرواية بحث سنتعرض له في قصص عيسى عليه السلام من سورة آل عمران إن شاء الله.
وفي الرواية أن اليهود سموا باليهود لأنهم من ولد يهودا بن يعقوب.
وفي تفسير القمي: قال: قال عليه السلام: الصابئون قوم لا مجوس ولا يهود ولا نصارى ولا مسلمون وهم يعبدون النجوم والكواكب.
أقول: وهي الوثنية، غير أن عبادة الأصنام غير مقصورة عليهم بل الذي يخصهم عبادة أصنام الكواكب.
(بحث تاريخي)
ذكر أبو ريحان البيروني في الآثار الباقية ما لفظه: أول المذكورين منهم يعني المتنبئين يوذاسف وقد ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهند وأتى بالكتابة الفارسية، ودعا إلى ملة الصابئين فاتبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر ويقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت عند مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف، وبقايا أولئك الصابئين بحران ينسبون إلى موضعهم، فيقال لهم: الحرانية وقد قيل: انها نسبة إلى هادان بن ترخ أخو إبراهيم عليه السلام وانه كان من بين رؤسائهم أوغلهم في الدين وأشدهم تمسكاً به، وحكى عنه ابن سنكلا النصراني في كتابه الذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب والأَباطيل، انهم يقولون أن إبراهيم عليه السلام إنما خرج عن جملتهم لأنه خرج في قلفته برص، وأن من كان به ذلك فهو نجس لا يخالطونه فقطع قلفته بذلك السبب يعني اختتن، ودخل إلى بيت من بيوت الأصنام فسمع صوتا من صنم يقول له: يا إبراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد، وجئتنا بعيبين، اخرج ولا تعاود المجيء إلينا، فحمله الغيظ على أن جعلها جذاذاً، وخرج من جملتهم، ثم إنه ندم بعد ما فعله، وأراد ذبح ابنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح أولادهم، زعم فلما علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش.
وحكى عبد المسيح بن إسحاق الكندي عنهم في جوابه عن كتاب عبد الله بن اسماعيل الهاشمي، أنهم يعرفون بذبح الناس ولكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهراً ونحن لا نعلم منهم إلاَّ أنهم أُناس يوحدون الله، وينزهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب لا الإِيجاب كقولهم: لا يحد، ولا يرى، ولا يظلم، ولا يجور ويسمونه بالأسماء الحسنى مجازاً، إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه، ويقولون بحياتها نطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الأنوار، ومن آثارهم القبة التي فوق محراب عند المقصورة من جامع دمشق، وكان مصلاهم، كان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود، فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى، فصيروها بيعة إلى أن جاء الإِسلام وأهله فاتخذوها مسجداً، وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال كما ذكرها أبو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فإنها منسوبة إلى القمر، وبنائها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمى سلمسين، واسمها القديم صنم سين، أي صنم القمر، وقرية أُخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة ويذكرون أن الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم، وإن اللات كان باسم زحل، والعزَّى باسم الزهرة ولهم أنبياء كثر أكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصري وأغاذيمون وواليس وفيثاغورث وباباسوار جد أفلاطون من جهة أمه وأمثالهم، ومنهم من حرم عليه السمك خوفاً أن يكون رغاوة والفرخ لأنه أبداً محموم، والثوم لأنه مصدع محرق للدم أو المني الذي منه قوام العالم، والباقلاء لأنه يغلظ الذهن ويفسده، وأنه في أول الأمر إنما نبت في جمجمة إنسان، ولهم ثلاث صلوات مكتوبات.
أولها: عند طلوع الشمس ثماني ركعات.
والثانية: عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات، وفي كل ركعة من صلاتهم ثلاث سجدات، ويتنفلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، وأُخرى في التاسعة من النهار.
والثالثة: في الساعة الثالثة من الليل، ويصلون على طهر ووضوء، ويغتسلون من الجنابة ولا يختتنون إذ لم يؤمروا بذلك زعموا، وأكثر أحكامهم في المناكح والحدود مثل أحكام المسلمين، وفي التنجس عند مس الموتى، وأمثال ذلك شبيهة بالتوراة، ولهم قرابين متعلقة بالكواكب وأصنامها وهياكلها، وذبائح يتولاها كهنتهم وفاتنوهم، ويستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون المقرّب وجواب ما يسأل عنه، وقد يسمى هرمس بإدريس الذي ذكر في التوراة أخنوخ، وبعضهم زعم أن يوذاسف هو هرمس.
وقد قيل: إن هؤلاء الحرانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمون في الكتب بالحنفاء والوثنية، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الأسباط الناهضة في أيام كورش وأيام ارطحشست إلى بيت المقدس، ومالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بختنصر، فذهبوا مذهباً ممتزجاً من المجوسية واليهودية، كالسامرة بالشام، وقد توجد أكثرهم بواسط وسواد العراق بناحية جعفر والجامدة ونهري الصلة منتمين إلى انوش بن شيث، ومخالفين للحرانية، عائبين مذاهبهم، لا يوافقونهم إلاَّ في أشياء قليلة، حتى أنهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي والحرانية إلى الجنوبي، وزعم بعض أهل الكتاب أنه كان لمتوشلخ ابن غير ملك يسمى صابي، وأن الصابئة سموا به، وكان الناس قبل ظهور الشرائع وخروج يوذاسف شمينين سكان الجانب الشرقي من الأرض وكانوا عبدة أوثان، وبقاياهم الآن بالهند والصين والتغزغز ويسميهم أهل خراسان شمنان، وآثارهم وبهاراتهم وأصنامهم وفرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتصلة بالهند، ويقولون: بقدم الدهر، وتناسخ الأرواح وهوي الفلك في خلاء غير متناه، ولذلك يتحرك على استدارة فإن الشيء المستدير إذا أزيل ينزل مع دوران، زعموا ومنهم من أقر بحدوث العالم، وزعم أن مدته ألف ألف سنة، انتهى موضع الحاجة.
أقول: وما نسبه إلى بعض من تفسير الصائبة بالمذهب الممتزج من المجوسية واليهودية مع أشياء من الحرانية هو الأوفق بما في الآية فإن ظاهر السياق أن التعداد لأهل الملة.