التفاسير

< >
عرض

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
٧٥
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
٧٦
أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٧
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٧٨
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ
٧٩
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ ٱللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨٠
بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨١
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٨٢
-البقرة

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
السياق وخاصة ما في ذيل الآيات يفيد أن اليهود عند الكفار، وخاصة كفار المدينة: لقرب دارهم منهم كانوا يعرفون قبل البعثة ظهيراً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعندهم علم الدين والكتاب، ولذلك كان الرجاء في إيمانهم أكثر من غيرهم، وكان المتوقع أن يؤمنوا به أفواجاً فيتأيد بذلك ويظهر نوره، وينتشر دعوته، ولما هاجر النبي إلى المدينة وكان من أمرهم ما كان تبدل الرجاء قنوطاً، والطمع يأساً، ولذلك يقول سبحانه: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم } الخ، يعني أن كتمان الحقائق وتحريف الكلام من شيمهم، فلا ينبغي أن يستبعد نكولهم عمّا قالوا ونقضهم ما أبرموا.
قوله تعالى: { أفتطمعون أن يؤمنوا لكم }، فيه التفات من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب النبي والذين آمنوا ووضعهم موضع الغيبة وكان الوجه فيه أنه لما قصّ قصة البقرة وعدل فيها من خطاب بني إسرائيل إلى غيبتهم لمكان التحريف الواقع فيها بحذفها من التوراة كما مرّ، أُريد إتمام البيان بنحو الغيبة بالإِشارة إلى تحريفهم كتاب الله تعالى فصرف لذلك وجه الكلام إلى الغيبة.
قوله تعالى: { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا } الخ، لا تقابل بين الشرطين وهما مدخولا إذا في الموضعين كما في قوله تعالى:
{ { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن } [البقرة: 14]، بل المراد بيان موضعين آخرين من مواضع جرائمهم وجهالتهم.
أحدهما: أنهم ينافقون فيتظاهرون بالإِيمان صوناً لأنفسم من الإِيذاء والطعن والقتل.
وثانيهما: أنهم يريدون تعمية الأمر وإبهامه على الله سبحانه العالم بسرهم وعلانيتهم وذلك أن العامة منهم، وهم أولوا بساطة النفس ربما كانوا ينبسطون للمؤمنين، فيحدثونهم ببعض ما في كتبهم من بشارات النبي أو ما ينفع المؤمنين في تصديق النبوة، كما يلوح من لحن الخطاب فكان أولياؤهم ينهونهم معللاً بأن ذلك مما فتح الله لهم، فلا ينبغي أن يفشى للمؤمنين، فيحاجوهم به عند ربهم كأنهم لو لم يحاجوهم به عند ربهم لم يطلع الله عليه فلم يؤاخذهم بذلك ولازم ذلك أن الله تعالى إنما يعلم علانية الأمر دون سره وباطنه وهذا من الجهل بمكان، فرد الله سبحانه عليهم بقوله: { أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } الآية فإن هذا النوع من العلم - وهو ما يتعلق بظاهر الأمر دون باطنه - إنما هو العلم المنتهي إلى الحس الذي يفتقر إلى بدن مادي مجهز بآلات مادية مقيد بقيود الزمان والمكان مولود لعلل أُخرى مادية وما هو كذلك مصنوع من العالم لا صانع العالم.
وهذا أيضاً من شواهد ما قدمناه آنفاً أن بني إسرائيل لإِذعانهم بأصالة المادة كانوا يحكمون في الله سبحانه بما للمادة من الأحكام، فكانوا يظنونه موجوداً فعالاً في المادة، مستعلياً قاهراً عليه، ولكن بعين ما تفعل علة مادية وتستعلي وتقهر على معلول مادي، وهذا أمر لا يختص به اليهود، بل هو شأن كل من يذعن بأصالة المادة من المليين وغيرهم، فلا يحكمون في ساحة قدسه سبحانه إلاَّ بما يعقلون من أوصاف الماديات من الحياة والعلم والقدرة والاختيار والإِرادة والقضاء والحكم وتدبير الأمر وإبرام القضاء إلى غير ذلك، وهذا داء لا ينجع معه دواء، وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون، حتى آل الأمر إلى أن استهزأ بهم من لا مسكة له في دينهم الحق ولا قدم له في معارفهم الحقة، قائلاً أن المسلمين يروون عن نبيهم أن الله خلق آدم على صورته وهم معاشر أمته يخلقون الله على صورة آدم، فهؤلاء يدور أمرهم بين أن يثبتوا لربهم جميع أحكام المادة، كما يفعله المشبهة من المسلمين أو من يتلو تلوهم وإن لم يعرف بالتشبيه، أو لا يفهموا شيئاً من أوصاف جماله، فينفوا الجميع بإرجاعها إلى السلوب قائلاً إن ما يبين أوصافه تعالى من الألفاظ إنما يقع عليه بالاشتراك اللفظي، فلقولنا: أنه موجود ثابت عالم قادر حي معان لا نفهمها ولا نعقلها، فاللازم إرجاع معانيها إلى النفي، فالمعنى مثلاً أنه ليس بمعدوم، ولا زائل، ولا جاهل، ولا عاجز ولا ميت فاعتبروا يا أولي الأبصار فهذا بالاستلزام زعماً منهم بأنهم يؤمنون بما لا يدرون، ويعبدون ما لا يفهمون، ويدعون إلى ما لا يعقلون، ولا يعقله أحد من الناس، وقد كفتهم الدعوة الدينية مؤنة هذه الأباطيل بالحق فحكم على العامة أن يحفظوا حقيقة القول ولب الحقيقة بين التشبيه والتنزيه فيقولوا: إن الله سبحانه شيء لا كالأشياء وأن له علماً لا كعلومنا، وقدرة لا كقدرتنا، وحياة لا كحياتنا، مريد لا بهمامة، متكلم لا بشق فم، وعلى الخاصة أن يتدبروا في آياته ويتفقهوا في دينه فقد قال الله سبحانه:
{ { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب } [الزمر: 9]، والخاصة كما لا يساوون العامة في درجات المعرفة، كذلك لا يساوونهم في التكاليف المتوجهة إليهم، فهذا هو التعليم الديني النازل في حقهم لو أنهم كانوا يأخذون به.
قوله تعالى: { ومنهم أُميون لا يعلمون الكتاب إلاَّ أمانيّ }، لأمي من لا يقرأ ولا يكتب منسوب إلى الام لأن عطوفة الأُم وشفقتها كانت تمنعها أن ترسل ولدها إلى المعلم وتسلمه إلى تربيته، فكان يكتفي بتربية الأُم، والأماني جمع أُمنية، وهي الأكاذيب، فمحصل المعنى أنهم بين من يقرأ الكتاب ويكتبه فيحرفه وبين من لا يقرأ ولا يكتب ولا يعلم من الكتاب إلاَّ أكاذيب المحرفين.
قوله تعالى: { فويل للذين يكتبون }، الويل هو الهلكة والعذاب الشديد والحزن والخزي والهوان وكل ما يحذره الإِنسان أشد الحذر والاشتراء هو الابتياع.
قوله تعالى: { فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم } الخ، الضمائر إما راجعة إلى بني إسرائيل أو لخصوص المحرفين منهم ولكل وجه وعلى الأول يثبت الويل للأُميين منهم أيضاً.
قوله تعالى: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } الخ، الخطيئة هي الحالة الحاصلة للنفس من كسب السيئة، ولذلك أتى بإحاطة الخطيئة بعد ذكر كسب السيئة وإحاطة الخطيئة توجب أن يكون الإِنسان المحاط مقطوع الطريق إلى النجاة كأن الهداية لإِحاطة الخطيئة به لا تجد إليه سبيلاً فهو من أصحاب النار مخلداً فيها ولو كان في قلبه شيء من الإِيمان بالفعل، أو كان معه بعض ما لا يدفع الحق من الأخلاق والملكات، كالانصاف والخضوع للحق، أو ما يشابههما لكانت الهداية والسعادة ممكنتي النفوذ إليه، فإحاطة الخطيئة لا تتحقق إلاَّ بالشرك الذي قال تعالى فيه:
{ { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48]، ومن جهة أُخرى إلاَّ بالكفر وتكذيب الآيات كما قال سبحانه: { { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [البقرة: 39]، فكسب السيئة وإحاطة الخطيئة كالكلمة الجامعة لما يوجب الخلود في النار.
واعلم أن هاتين الآيتين قريبتا المعنى من قوله تعالى:
{ { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين } [البقرة: 62] الخ، وإنما الفرق أن الآيتين أعني قوله: { بلى من كسب سيئة }، في مقام بيان أن الملاك في السعادة إنما هو حقيقة الإِيمان والعمل الصالح دون الدعاوي والآيتان المتقدمتان أعني قوله: { إن الذين آمنوا } الخ، في مقام بيان أن الملاك فيها هو حقيقة الإِيمان والعمل الصالح دون التسمي بالأسماء.
(بحث روائي)
في المجمع: في قوله: { وإذا لقوا الذين } الآية، عن الباقر عليه السلام قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنهى كبراؤهم عن ذلك وقالوا لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيحاجوهم به عند ربهم فنزلت هذه الآية.
وفي الكافي عن أحدهما عليهما السلام: في قوله تعالى: { بلى من كسب سيئة }، قال: إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين فأُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
أقول: وروى قريباً من هذا المعنى الشيخ في أماليه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والروايتان من الجري والتطبيق على المصداق، وقد عدَّ سبحانه الولاية حسنة في قوله:
{ { قل لا أسألكم عليه أجراً إلاَّ المودة في القربى ومن يقترف حسنة نجد له فيها حسناً } [الشورى: 23]، ويمكن أن يكون من التفسير لما سيجيء في سورة المائدة أنها العمل بما يقتضيه التوحيد وإنما نسب إلى علي عليه السلام لأنه أول فاتح من هذه الأمة لهذا الباب فانتظر.