التفاسير

< >
عرض

طه
١
مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ
٢
إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ
٣
تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلْعُلَى
٤
ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ
٥
لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ
٦
وَإِن تَجْهَرْ بِٱلْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى
٧
ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ
٨
-طه

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
غرض السورة التذكرة من طريق الإِنذار تغلب فيها آيات الإِنذار والتخويف على آيات التبشير غلبة واضحة، فقد أشتملت على قصص تختتم بهلاك الطاغين والمكذبين لآيات الله وتضمنت حججاً بينة تلزم العقول على توحيده تعالى والإِجابة لدعوة الحق وتنتهي إلى بيان ما سيستقبل الإِنسان من أهوال الساعة ومواقف القيامة وسوء حال المجرمين وخسران الظالمين.
وقد افتتحت الآيات - على ما يلوح من السياق - بما فيه نوع تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يتعب نفسه الشريفة في حمل الناس على دعوته التي يتضمنها القرآن فلم ينزل ليتكلف به بل هو تنزيل إلهي يذكّر الناس بالله وآياته رجاء أن تستيقظ غريزة خشيتهم فيتذكروا فيؤمنوا به ويتّقوا فليس عليه إلا التبليغ فحسب فإن خشوا وتذكّروا وإلا غشيتهم غاشية عذاب الاستئصال أو ردّوا إلى ربهم فأدركهم وبال ظلمهم وفسقهم ووفيت لهم أعمالهم من غير أن يكونوا معجزين لله سبحانه بطغيانهم وتكذيبهم.
وسياق آيات السورة يعطي أن تكون مكية وفي بعض الآثار أن قوله: { واصبر على ما يقولون } الآية 130 مدنية وفي بعضها الآخر أن قوله: { لا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } الآية 131 مدنية، ولا دليل على شيء من ذلك من ناحية اللفظ.
ومن غرر الآيات في السورة قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى }.
قوله تعالى: { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } طه حرفان من الحروف المقطعة افتتحت بهما السورة كسائر الحروف المقطعة التي افتتحت بها سورها نحو ألم ألر ونظائرهما وقد نقل عن جماعة من المفسرين في معنى الحرفين أمور ينبغي أن يجلّ البحث التفسيري عن إيرادها والغور في أمثالها، وسنلوّح إليها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
والشقاوة خلاف السعادة قال الراغب: والشقاوة كالسعادة من حيث الإِضافة فكما أن السعادة في الأصل ضربان: سعادة أُخروية وسعادة دنيوية ثم السعادة الدنيوية ثلاثة أضرب: سعادة نفسيه وبدنية وخارجية كذلك الشقاوة على هذه الأضرب - إلى أن قال - قال بعضهم: قد يوضع الشقاء موضع التعب نحو شقيت في كذا، وكل شقاوة تعب، وليس كل تعب شقاوة، فالتعب أعم من الشقاوة. انتهى، فالمعنى ما أنزلنا القرآن لتتعب نفسك في سبيل تبليغه بالتكلف في حمل الناس عليه.
قوله تعالى: { إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى } التذكرة هي إيجاد الذكر فيمن نسي الشيء وإذ كان الإِنسان ينال حقائق الدين الكلية بفطرته كوجوده تعالى وتوحّده في وجوب وجوده وأُلوهيته وربوبيته والنبوة والمعاد وغير ذلك كانت أُموراً مودعة في الفطرة غير أن إخلاد الإِنسان إلى الأرض وإقباله إلى الدنيا واشتغاله بما يهواه من زخارفها اشتغالاً لا يدع في قلبه فراغاً أنساه ما أُودع في فطرته وكان إلقاء هذه الحقائق إلفاتاً لنفسه إليها وتذكرة له بها بعد نسيانها.
ومن المعلوم أن ذلك إعراض وإنما سمّي نسياناً بنوع من العناية وهو اشتراكهما في الأثر وهو عدم الاعتناء بشأنه فلا بد في دفع هذا النسيان الذي أوجبه اتبّاع الهوى والانكباب على الدنيا من أمر ينتزع النفس انتزاعاً ويدفعها إلى الإِقبال إلى الحق دفعا وهو الخشية والخوف من عاقبة الغفلة ووبال الاسترسال حتى تقع التذكرة موقعها وتنفع في اتباع الحق صاحبها.
وبما تقدم من البيان يظهر وجه تقييد التذكرة بقوله: { لمن يخشى } وأن المراد بمن يخشى من كان في طبعه ذلك، بأن كان مستعداً لظهور الخشية في قلبه لو سمع كلمة الحق حتى إذا بلغت إليه التذكرة ظهرت في باطنة الخشية فآمن واتّقَى.
والاستثناء في قوله: { إلا تذكرة } استثناء منقطع - على ما قالوا - والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك ولكن ليكون مذكراً يتذكر به من شأنه أن يخشى فيخشى فيؤمن بالله ويتَّقى.
فالسياق على رسله يستدعي كون: { تذكرة } مصدراً بمعنى الفاعل ومفعولاً له لقوله: { ما أنزلنا } كما يستدعي كون قوله: { تنزيلاً } بمعنى اسم المفعول حالاً من ضمير { تذكرة } الراجع إلى القرآن، والمعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب به نفسك ولكن لتذكّر الخاشعين بكلام إلهي منزّل من عنده.
وقوله: { تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى } العلى جمع علياً مؤنث أعلى كفضلي وفضل، وأختيار خلق الأرض والسماوات صلة للموصول وبياناً لإِبهام المنزّل لمناسبته معنى التنزيل الذي لا يتم إلا بعلو وسفل يكونان مبدأ ومنتهى لهذا التسيير، وقد خصصا بالذكر دون ما بينهما إذ لا غرض يتعلق بما بينهما وإنما الغرض بيان مبدأ التنزيل ومنتهاه بخلاف قوله: { له ما في السماوات والأرض وما بينهما } إذ الغرض بيان شمول الملك للجميع.
قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } استئناف يذكر فيه مسأله توحيد الربوبية التي هي مخ الغرض من الدعوة والتذكرة وذلك في أربع آيات { الرحمن } إلى قوله { له الأسماء الحسنى }.
وقد تقدم في قوله تعالى:
{ { ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار } [الرعد: 2] أن الاستواء على العرش كناية عن الاحتواء على الملك والأخذ بزمام تدبير الأُمور وهو فيه تعالى - على ما يناسب ساحة كبريائه وقدسه - ظهور سلطنته على الكون واستقرار ملكه على الأشياء بتدبير أُمورها وإصلاح شؤونها.
فاستواؤه على العرش يستلزم إحاطة ملكه بكل شيء وانبساط تدبيره على الأشياء سماويّها وأرضيّها جليلها ودقيقها خطيرها ويسيرها، فهو تعالى رب كل شيء المتوحد بالربوبية إذ لا نعني بالرب إلا المالك للشيء المدبر لأمره، ولذلك عقّب حديث الاستواء على العرش بحديث ملكه لكل شي وعلمه بكل شي وذلك في معنى التعليل والاحتجاج على الاستواء المذكور.
ومعلوم أن { الرحمن } وهو مبالغة من الرحمة التي هي الإِفاضة بالإِيجاد والتدبير وهو يفيد الكثرة أنسب بالنسبة إلى الاستواء من سائر الأسماء والصفات ولذلك اختص من بينها بالذكر.
وقد ظهر بما تقدم أن { الرحمن } مبتدأ خبره { استوى } و { على العرش } متعلق بقوله { استوى } والمراد بيان الاستواء على العرش وهذا هو المستفاد أيضاً من سائر الآيات فقد تكرر فيها حديث الاستواء على العرش كقوله:
{ { ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار } [الأعراف: 54]، وقوله: { { ثم استوى على العرش يدبر الأمر } [يونس: 3]، وقوله: { { ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من وليّ } [السجدة: 4]، وقوله: { { ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض } [الحديد: 4]، إلى غير ذلك.
وبذلك يتبين فساد ما نسب إلى بعضهم أن قوله { الرحمن على العرش } مبتدأ وخبر ثم قوله { استوى } فعل فاعله { ما في السماوات } وقوله: { له } متعلق بقوله { استوى } والمراد باستواء كل شيء له تعالى جريها على ما يوافق إرادته وانقيادها لأمره.
وقد أشبعنا الكلام في معنى العرش في ذيل الآية 54 من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، وسيأتي بعض ما يختص بالمقام في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى } الثرى على ما قيل: هو التراب الرطب أو مطلق التراب، فالمراد بما تحت الثرى ما في جوف الأرض دون التراب ويبقى حينئذ لما في الأرض ما على بسيطها من أجزائها وما يعيش فيها مما نعلمه ونحسُّ به كالإِنسان وأصناف الحيوان والنبات وما لا نعلمه ولا نحسُّ به.
وإذا عمَّ الملك ما في السماوات والأرض ومن ذلك أجزاؤهما عمَّ نفس السماوات والأرض فليس الشيء إلا نفس أجزائه.
وقد بيّن في هذه الآية أحد ركني الربوبية وهو الملك، فإن معنى الربوبية كما تقدم آنفاً هو الملك والتدبير.
قوله تعالى: { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السرَّ وأخفى } الجهر بالقول: رفع الصوت به، والإِسرار خلافه، قال تعالى:
{ { وأسرُّوا قولكم أو اجهروا به } [الملك: 13]، والسرّ هو الحديث المكتوم في النفس، وقوله: { وأخفى } أفعل التفضيل من الخفاء على ما يعطيه سياق الترقّي في الآية ولا يصغى إلى قول من قال: إن { أخفى } فعل ماض فاعله ضمير راجع إليه تعالى، والمعنى: إنه يعلم السر وأخفى علمه. هذا. وفي تنكير { أخفى } تأكيد للخفاء.
وذكر الجهر بالقول في الآية أولاً ثم إثبات العلم بما هو أدق منه وهو السر والترقي إلى أخفى يدلُّ على أن المراد إثبات العلم بالجميع، والمعنى: وإن تجهر بقولك وأعلنت ما تريده - وكأن المراد بالقول ما في الضمير من حيث إن ظهوره إنما هو بالقول غالباً - أو أسررته في نفسك وكتمته أو كان أخفى من ذلك بأن كان خفياً حتى عليك نفسك فإن الله يعلمه.
فالأصل ترديد القول بين المجهور به والسر وأخفى وإثبات العلم بالجميع ثم وضع إثبات العلم بالسر وأخفى موضع الترديد الثاني والجواب إيجازاً. فدلّ على الجواب في شقي الترديد معاً وعلى معنى الأولوية بأوجز بيان كأنه قيل: وإن تسأل عن علمه بما تجهر به من قولك فهو يعلمه وكيف لا يعلمه؟ وهو يعلم السر وأخفى منه فهو في الكلام من لطيف الصنعة.
وذكر بعضهم أن المراد بالسر ما أسررته من القول إلى غيرك ولم ترفع صوتك به، والمراد بأخفى منه ما أخطرته ببالك هذا والذي ذكره حق في الإِسرار لكن القول لا يسمى سراً إلا من جهة كتمانه في النفس فالمعوّل على ما قدمناه من المعنى.
وكيف كان فالآية تثبت علمه تعالى بكل شيء ظاهر أو خفي فهي في ذكر العلم عقيب الاستواء على العرش نظيرة قوله تعالى:
{ { ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها } [الحديد: 4]، ومعلوم أن علمه تعالى بما يجري في ملكه ويحدث في مستقر سلطانه من الحوادث يستلزم رضاه بذلك وإذنه وبنظر آخر مشيئته لهذا النظام الجاري وهذا هو التدبير.
فالآية تثبت عموم التدبير كما أن الآية السابقة كانت تثبت عموم الملك ومجموع مدلوليهما هو الملك والتدبير وذلك معنى الربوبية المطلقة فالآيتان في مقام التعليل تثبت بهما ربوبيته تعالى المطلقة.
قوله تعالى: { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى } بمنزلة النتيجة لما تقدم من الآيات ولذلك كان الأنسب أن يكون اسم الجلالة خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير هذا المذكور في الآيات السابقة هو الله لا إله إلا هو... الخ، وإن كان الأقرب بالنظر إلى استقلال الآية وجامعيتها في مضمونها أن يكون اسم الجلالة مبتدأ وقوله: { لا إله إلا هو } خبره، وقوله: { له الأسماء الحسنى } خبراً بعد خبر.
وكيف كان فقوله: { الله لا إله إلا هو } يمكن أن يعلل بما ثبت في الآيات السابقة من توحده تعالى بالربوبية المطلقة ويمكن أن يعلل بقوله بعده: { له الأسماء الحسنى }.
أما الأول: فلأن معنى الإِله في كلمة التهليل إما المعبود وإما المعبود بالحق فمعنى الكلام الله لا معبود حق غيره أو لا معبود بالحق موجود غيره والمعبودية من شؤون الربوبية ولواحقها فإن العبادة نوع تمثيل وترسيم للعبودية والمملوكية وإظهار للحاجة إليه فمن الواجب أن يكون المعبود مالكاً لعابده مدبراً أمره أي رباً له وإذ كان تعالى رب كل شيء لا رب سواه فهو المعبود لا معبود سواه.
وأما الثاني: فلأن العبادة لأحد ثلاث خصال إما رجاء لما عند المعبود من الخير فيعبد طمعاً في الخير الذي عنده لينال بذلك، وإما خوفاً مما في الإِعراض عنه وعدم الإِعتناء بأمره من الشر وإما لأنه أهل للعبادة والخضوع.
والله سبحانه هو المالك لكل خير لا يملك شيء شيئاً من الخير إلا ما ملّكه هو إياه وهو المالك مع ذلك لما ملّكه والقادر على ما عليه أقدره وهو المنعم المفضل المحيي الشافي الرازق الغفور الرحيم الغني العزيز وله كل اسم فيه معنى الخير فهو سبحانه المستحق للعبادة رجاء لما عنده من الخير دون غيره.
والله سبحانه هو العزيز القاهر الذي لا يقوم لقهره شيء وهو المنتقم ذو البطش شديد العقاب لا شرّ لأحد عند أحد إلا بإذنه فهو المستحق لأن يعبد خوفاً من غضبه لو لم يخضع لعظمته وكبريائه.
والله سبحانه هو الأهل للعبادة وحده لأن أهلية الشيء لأن يخضع له لنفسه ليس إلا لكمال فالكمال وحده هو الذي يخضع عنده النقص الملازم للخضوع وهو إما جمال تنجذب إليه النفس انجذاباً أو جلال يخرّ عنده اللبّ ويذهل دونه القلب وله سبحانه كل الجمال وما من جمال إلا وهو آية لجماله، وله سبحانه كل الجلال وكل ما دونه آيته. فالله سبحانه لا إله إلا هو ولا معبود سواه لأنه له الأسماء الحسنى.
ومعنى ذلك أن كل اسم هو أحسن الأسماء التى هي نظائره له تعالى، توضيح ذلك أن توصيف الإِسم بالحسن يدل على أن المراد به ما يسمى في اصطلاح الصرف صفة كاسم الفاعل والصفة المشبهة دون الاسم بمعنى علم الذات لأن الاعلام إنما شأنها الإِشارة إلى الذوات والاتصاف بالحسن أو القبح من شأن الصفات باشتمالها على المعاني كالعادل والظالم والعالم والجاهل، فالمراد بالأسماء الحسنى الألفاظ الدالَّة على المعاني الوصفية الجميلة البالغة في الجمال كالحيّ والعليم والقدير، وكثيراً ما يطلق التسمية على التوصيف، قال تعالى: { قل سمّوهن } أي صفوهن.
ويدلُّ على ذلك أيضاً قوله تعالى:
{ { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } [الأعراف: 180]، أي يميلون من الحق إلى الباطل فيطلقون عليه من الأسماء ما لا يليق بساحة قدسه.
فالمراد بالأسماء الحسنى ما دلَّ على معان وصفية كالإِله والحيّ والعليم والقدير دون اسم الجلالة الذي هو علم الذات، ثم الأسماء تنقسم إلى قبيحة كالظالم والجائر والجاهل، وإلى حسنة كالعادل والعالم، والأسماء الحسنة تنقسم إلى ما فيه كمال ما وإن كان غير خال عن شوب النقص والإِمكان نحو صبيح المنظر ومعتدل القامة وجعد الشعر وما فيه الكمال من غير شوب كالحيّ والعليم والقدير بتجريد معانيها عن شوب المادة والتركيب وهي أحسن الأسماء لبراءتها عن النقص والعيب وهي التي تليق أن تجري عليه تعالى ويتصف بها.
ولا يختص ذلك منها باسم دون اسم بل كل اسم أحسن فله تعالى لمكان الجمع المحلى باللام المفيد للاستغراق في قوله تعالى: { له الأسماء الحسنى } وتقديم الخبر يفيد الحصر فجميعها له وحده.
ومعنى كونها له تعالى أنه تعالى يملكها لذاته والذي يوجد منها في غيره فهو بتمليك منه تعالى على حسب ما يريد كما يدلُّ عليه سوق الآيات الآتية سوق الحصر كقوله:
{ { هو الحيُّ لا إله إلا هو } [غافر: 65]، وقوله: { { وهو العليم القدير } [الروم: 54]، وقوله: { { هو السميع البصير } [الإسراء: 1]، وقوله: { { أن القوة لله جميعاً } [البقرة: 165]، وقوله: { { فإن العزة لله جميعاً } [النساء: 139]، وقوله: { { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } [البقرة: 255]، إلى غير ذلك.
ولا محذور في تعميم ملكه بالنسبة إلى جميع أسمائه وصفاته حتى ما كان منها عين ذاته كالحيّ والعليم والقدير وكالحياة والعلم والقدرة فإن الشيء ربما ينسب إلى نفسه بالملك كما في قوله تعالى:
{ { رب إني لا أملك إلا نفسي } [المائدة: 25].
(بحث روائي)
في المجمع في قوله: { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع إحدى رجليه في الصلاة ليزيد تعبه فأنزل الله تعالى: { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام.
أقول: ورواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس وأيضاً عن ابن مردويه عن ابن عباس.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صلى قام على أصابع رجليه حتى تورّم فأنزل الله تبارك وتعالى: { طه } بلغة طيّ يا محمد { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى }.
أقول: وروى ما في معناه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي عليهم السلام، وروى هذا المعنى أيضاً في الدر المنثور عن ابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: لما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: { يا أيها المزَّمِّل قم الليل إلا قليلا } قام الليل كله حتى تورّمت قدماه فجعل يرفع رِجلاً ويضع رِجلاً فهبط عليه جبريل فقال: { طه } يعني الأرض بقدميك يا محمد { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } وأنزل { فاقرأوا ما تيسَّر من القرآن }.
أقول: والمظنون المطابق للاعتبار أن تكون هذه الرواية هي الأصل في القصة بأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام على قدميه في الصلاة حتى تورّمت قدماه ثم جعل يرفع قدماً ويضع أُخرى أو قام على صدور قدميه أو أطراف أصابعه فذكر في كل من الروايات بعض القصة سبباً للنزول وإن كان لفظ بعض الروايات لا يساعد على ذلك كل المساعدة.
نعم يبقى على الرواية أمران:
أحدهما: أن في انطباق الآيات بما لها من السياق على القصة خفاء.
وثانيهما: ما في الرواية من قوله: (فقال طه يعني الأرض بقدميك يا محمد) ونظيره ما مر في رواية القمي (فأنزل الله: طه بلغة طي يا محمد ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) ومعناه أن طه جملة كلامية مركبة من فعل أمر من وطأ يطأ ومفعوله ضمير تأنيث راجع إلى الأرض، أي طإِ الأرض وضع قدميك عليها ولا ترفع إحداهما وتضع الأخرى.
فيرد عليه حينئذ أن هذا الذيل لا ينطبق على صدر الرواية فإن مفاد الصدر أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع رجلاً ويضع أُخرى في الصلاة إثر تورم قدميه يتوخى به أن يسكن وجع قدمه التي كان يرفعها فيستريح هنيئة ويشتغل بربه من غير شاغل يشغله وعلى هذا فرفع الكلفة والتعب عنه صلى الله عليه وآله وسلم على ما يناسب الحال إنما هو بأن يؤمر بتقليل الصلاة أو بتخفيف القيام لا بوضع القدمين على الأرض حتى يزيد ذلك في تعبه ويشدد وجعه فلا يلائم قوله: { طه } قوله: { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } ولعل قوله: (يعني الأرض بقدميك) من كلام الراوي والنقل بالمعنى.
على أنه مغاير للقراءات المأثورة البانية على كون { طه } حرفين مقطعتين لا معنى وضعي لهما كسائر الحروف المقطعة التي صدرت بها عدة من السور القرآنية.
وذكر قوم منهم أن معنى { طه } يا رجل ثم قال بعضهم: أنه لغة نبطيّة وقيل: حبشية، وقيل: عبرانية، وقيل: سريانية، وقيل: لغة عكل، وقيل: لغة عك، وقيل: هو لغة قريش، واحتمل الزمخشري أن يكون لغة عك وأصله يا هذا قلبت الياء طاءً وحذفت ذا تخفيفاً فصارت طاها، وقيل: معناه يا فلان، وقرأ قوم طه بفتح الطاء وسكون الهاء كأنه أمر من وطأ يطأ والهاء للسكت وقيل: إنه من أسماء الله ولا عبرة بشيء من هذه الأقوال ولا جدوى في إمعان البحث عنها.
نعم ورد عن أبي جعفر عليه السلام كما في روح المعاني وعن أبي عبد الله عليه السلام كما عن معاني الأخبار بإسناده عن الثوري أن طه اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في روايات أُخرى أن يس من أسمائه وروي الإِسمان معاً في الدر المنثور عن ابن مردويه عن سيف عن أبي جعفر.
وإذ كانت تسمية سماوية ما كان صلى الله عليه وآله وسلم يدعى ولا يعرف به قبل نزول القرآن ولا أن لطه معنى وصفياً في اللغة ولا معنى لتسميته بعلم ارتجالي لا معنى له إلا الذات مع وجود اسمه واشتهاره به وكان الحق في الحروف المقطعة في فواتح السور أنها تحمل معاني رمزية ألقاها الله إلى رسوله، وكانت سورة طه مبتدئة بخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم { طه ما أنزلنا عليك } الخ كما أن سورة يس كذلك { يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين } بخلاف سائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة وظاهر ذلك أن يكون المعنى المرموز إليه بمقطعات فاتحتي هاتين السورتين أمراً راجعاً إلى شخصه صلى الله عليه وآله وسلم متحققاً به بعينه فكان وصفاً لشخصيته الباطنة مختصاً به فكان اسماً من أسمائه صلى الله عليه وآله وسلم فإذا أُطلق عليه وقيل: طه أو يس كان المعنى من خُوطب بطه أو يس ثم صار علماً بكثرة الاستعمال.
هذا ما تيسر لنا من توجيه الرواية فيكون بابه باب التسمي بمثل تأبط شراً ومن قبيل قوله:

أنا ابن جلا وطلاَّع الثنايا إذا أضع العمامة تعرفوني

يريد أنا ابن من كثر فيه قول الناس: جلا جلا حتى سمي جلا.
وفي احتجاج الطبرسي عن الحسن بن راشد قال: سئل أبو الحسن موسى عليه السلام عن قول الله: { الرحمن على العرش استوى } فقال: استولى على ما دق وجل.
وفي التوحيد بإسناده إلى محمد بن مازن أن أبا عبد الله عليه السلام سئل عن قول الله عز وجل: { الرحمن على العرش استوى } فقال: استوى من كل شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء.
أقول: ورواه القمي أيضاً في تفسيره عنه عليه السلام ورواه أيضاً في التوحيد بإسناده عن مقاتل بن سليمان عنه عليه السلام ورواه أيضاً في الكافي والتوحيد بالإِسناد عن عبد الرحمن بن الحجاج عنه عليه السلام وزادا (لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب استوى من كل شيء).
وفي الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث { الرحمن على العرش استوى } يعني استوى تدبيره وعلا أمره.
أقول: ما ورد من التفسير في هذه الروايات الثلاث تفسير لمجموع الآية لا لقوله { استوى } وإلا عاد قوله: { الرحمن على العرش } جملة تامة مركبة من مبتدأ وخبر ولا يساعد عليه سياق سائر آيات الإِستواء كما تقدمت الإِشارة إليه.
ويؤيد ذلك ما في الرواية الأخيرة من قوله: { وعلا أمره } بعد قوله: { استوى تدبيره } فإنه ظاهر في أن الكون على العرش مقصود في التفسير فالروايات مبنية على كون الآية كناية عن الاستيلاء وانبساط السلطان.
وفي التوحيد بإسناده عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من زعم أن الله من شيء أو في شيء أو على شيء فقد أشرك. ثم قال: من زعم أن الله من شيء فقد جعله محدثاً، ومن زعم أنه في شيء فقد زعم أنه محصور، ومن زعم أنه على شيء فقد جعله محمولاً.
وفيه عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل وفيه: قال السائل: فقوله: { الرحمن على العرش استوى؟ } قال أبو عبد الله عليه السلام: بذلك وصف نفسه، وكذلك هو مستول على العرش باين من خلقه من غير أن يكون العرش حاملاً له، ولا أن يكون العرش حاوياً له ولا أن يكون العرش ممتازاً له ولكنا نقول: هو حامل العرش وممسك العرش، ونقول من ذلك ما قال: { وسع كرسيّه السماوات والأرض }.
فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته ونفينا أن يكون العرش أو الكرسي حاوياً وأن يكون عز وجل محتاجاً إلى مكان أو إلى شيء مما خلق بل خلقه محتاجون إليه.
أقول: وقوله عليه السلام: فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته الخ، إشارة إلى طريقة أهل البيت عليهم السلام في تفسير الآيات المتشابهة من القرآن مما يرجع إلى أسمائه وصفاته وأفعاله وآياته الخارجة عن الحس وذلك بإرجاعها إلى المحكمات ونفي ما تنفيه المحكمات عن ساحتة تعالى وإثبات ما ثبت بالآية وهو أصل المعنى المجرّد عن شائبه النقص والإِمكان التي نفاها المحكمات.
فالعرش هو المقام الذي يبتدئ منه وينتهي إليه أزمة الأوامر والأحكام الصادرة من الملك وهو سرير مقبّب مرتفع ذو قوائم معمول من خشب أو فلزّ يجلس عليه الملك ثم إن المحكمات من الآيات كقوله تعالى:
{ { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]، وقوله: { { سبحان الله عمّا يصفون } [الصافات: 159]، تدل على انتفاء الجسم وخواصه عنه تعالى فينفى من العرش الذي وصفه لنفسه في قوله: { { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5]، وقوله: { { رب العرش العظيم } [البقرة: 129]، كونه سريراً من مادة كذا على هيئة خاصة ويبقى أصل المعنى وهو أنه المقام الذي يصدر عنه الأحكام الجارية في النظام الكوني وهو من مراتب العلم الخارج من الذات.
والمقياس في معرفة ما عبرنا عنه بأصل المعنى أنه المعنى الذي يبقى ببقائه الإِسم وبعبارة أُخرى يدور مداره صدق الإِسم وإن تغيرت المصاديق واختلفت الخصوصيات.
مثال ذلك أن السراج ظهر أول يوم وهو آلة الاستضاءة في ظلمة الليل ومصداقه يومئذ إناء يجعل فيه فتيلة على مادة دسمة ويشتعل رأسها فتشعل بما تجذب من الدسومة وتضيء ما حولها مثلاً، ثم انتقل الاسم إلى مثل الشموع والمصابيح النفطية ولم يزل ينتقل من مصداق حتى استقر اليوم في السراج الكهربائي الذي ليس معه من مادة المصداق الأولي ولا هيئتة شيء أصلاً غير أنه آلة الاستضاءة في الظلمة وبذلك يسمَّى سراجاً حقيقة.
ونظيره السلاح الذي كان أول ما ظهر اسماً لمثل الفأس من النحاس أو المجنّ مثلاً وهو اليوم يطلق حقيقة على مثل المدفع والقنبلة الذريّة وقد سرى هذا النوع من التحول والتطور إلى كثير من وسائل الحياة والأعمال التي يعتورها الإِنسان في عيشته.
وبالجملة لم يتكلّم الصحابة في غير الأحكام من معارف الدين مما يرجع إلى أسمائه وصفاته وأفعاله وغيرها غير أنهم ينفون عنه لوازم التشبيه بما ورد من آيات التنزيه ويسكتون عن المعنى الإِثباتي الذي يبقى بعد النفي فيقولون مثلاً في مثل قوله: { الرحمن على العرش استوى } إنَّ الإِستواء بمعنى استقرار الجسم في مكان بالاعتماد عليه منفي عنه تعالى وأما أن المراد بالإِستواء ما هو؟ فالله أعلم بمراده، والأمر مفوض إليه وقد ادعي أجماعهم على ذلك، بل قال بعضهم: إن أهل القرون الثلاثة الأول من الهجرة مجمعون على التفويض، وهو نفي لوازم التشبيه والسكوت عن البحث في أصل المراد.
لكنه مدفوع بأن طريقة أئمه أهل البيت عليه السلام المأثورة منهم هي الإِثبات والنفي معاً والإِمعان في البحث عن حقائق الدين دون النفي المجرد عن الإِثبات والدليل على ذلك ما حفظ عنهم من الأحاديث الجمة التى لا يسع إنكارها إلا لمكابر.
بل الذي روي عن أُم سلمة رضي الله عنها في معنى الإِستواء أنها قالت: "الإِستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإِقرار به إيمان والجحود به كفر" يدل على أنها كانت ترى هذا الرأي ولو كانت ترى ما نسب إلى الصحابة لقالت: الإِستواء مجهول والكيف غير معقول، الخ.
نعم الأكثرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم من السلف على هذه الطريقة وقد نسبه الغزَّالي إلى الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وإلى البخاري والترمذي وأبي داود السجستاني من أرباب الصحاح وإلى عدة من أعيان السلف.
وكان الذي دعاهم إلى السكوت عن الإِثبات - كما ذكره جمع - هو أن الثابت بعد المنفي خلاف ظاهر اللفظ فيكون من التأويل الذي حرَّم الله ابتغاءه في قوله:
{ { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } [آل عمران: 7]، بناء على الوقف على { إلا الله } بل تعدى بعضهم إلى مطلق التفسير فمنعه قائلاً - كما نقله الآلوسي - إن كل من فسَّر فقد أول ومن لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير.
وقد تقدم في ذيل آية المحكم والمتشابه من سورة آل عمران بيان أن التأويل الذي يذكره ويذمه غير المعنى المخالف لظاهر اللفظ وأن رد المتشابه إلى المحكم وبيانه به ليس من التأويل في شيء وكذا أن التأويل غير التفسير.
ثم إن هؤلاء القوم على احتياطهم في البيانات الدينية الراجعة إلى أسمائه وصفاته تعالى واقتصارهم على النفي من غير إثبات لم يسلكوا هذا المسلك فيما ورد في الكتاب والسنة من وصف أفعاله تعالى كالعرش والكرسي والحجب والقلم واللوح وكتب الأعمال وأبواب السماء وغيرها بل حملوها على ما هو المعهود عندنا من مصاديق العرش والكرسي والقلم واللوح وغير ذلك مع أن الجميع ذو ملاك واحد وهو استلزام ما يجب تنزيهه تعالى عنه من الحاجة والإِمكان.
وذلك أن الذي أوجد أمثال العرش والكرسي واللوح والقلم عندنا معاشر البشر هو الحاجة فإنما اتخذنا الكرسي لنستريح عليه أو نتعزّز به واتخذنا العرش لنستريح عليه ونتعزز به ونظهر التفرّد بالعزة والعظمة ونمثل به التعيين بالملك والسلطان واتخذنا اللوح والقلم والكتابة لمسيس الحاجة إلى حفظ ما غاب عن الحس والتحرز عن النسيان ونحو ذلك وعلى هذا النمط.
فأي فرق بين الآيات المتشابهة التي تثبت له تعالى السمع والبصر واليد والساق والرضا والأسف التي توهم التجسم المنتهي إلى الحاجة، والإِمكان وبين الآيات التي تثبت له عرشاً وكرسياً وملاءً وحملة لعرشه ولوحاً وقلماً وهي توهم الحاجة والإِمكان؟ ثم أي فرق بين المحكم الذي يرفع التشابه في الطائفة الأُولى وهو قوله: { ليس كمثله شيء } وبين المحكم الذي يرفع تشابه الطائفة الثانية وهو قوله: { والله هو الغني } مثلاً.
نعم ذكر الإِمام الرازي اعتذاراً عن ذلك أن لو فتحنا باب التأويل في هذه الأُمور أدّى ذلك إلى جواز تأويل جميع معارف الدين وأحكام الشرع وهو قول الباطنية. وأنت خبير بأن تأويل الجميع حتى الأحكام التي تضمنتها الدعوة الدينية وأجراها بين الناس تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتربيته دفع للضرورة ومكابرة مع البداهة وليس من هذا القبيل ما قام الدليل على تشابهه وكانت هناك آية محكمة يمكن أن يردّ إليها ويرتفع بها تشابهه فإبقاؤه على ظاهره سداً لباب التأويل في سائر المعارف المحكمة غير المتشابهة من قبيل إماتة حق لإِماتة باطل وإن شئت فقل إماتة باطل بإحياء باطل آخر على أنك عرفت أن رد المتشابه إلى المحكم ليس من التأويل في شيء.
وألجأ الاضطرار بعض هؤلاء أن قالوا إن خلق هذا الجسم النوراني العظيم الذي يدهش العقول بعظمته على هيئه سرير ذي قوائم وحملة ووضعه فوق السماوات السبع من غير جالس يجلس عليه أو حاجة تدعو إليه وحفظه كذلك في أزمنة لا نهاية لها إنما هو من باب اللطف خلقه الله ليخبر به المؤمنين فيؤمنوا به بالغيب فيؤجروا ويُثابوا في الآخرة، ونظيره اللوح والقلم وسائر الآيات العظام الغائبة عن الحس. وسقوط هذا القول غني عن البيان.
وبعد هذه الطائفة المسماة بالمفوضة الطبقة المسماة بالمؤوّلة وهم الذين يجمعون في تفسير المتشابهات من آيات الأسماء والصفات بين الإِثبات والنفي فينزّهونه عن لوازم الحاجة والإِمكان بتأويلها - بمعنى الحمل على خلاف الظاهر - إلى معان توافق الأصول المسلّمة من الدين أو المذهب، وهؤلاء منشعبون على شعب:
منهم من اكتفى في الإِثبات بعين ما نفاه بالدليل وهم الذين يفسّرون الأسماء والصفات بنفي النقائص، فمعنى العلم عندهم عدم الجهل ومعنى العالم من ليس بجاهل وعلى هذا السبيل.
ولازمه تعطيل الذات المتعالية عن صفات الكمال والبراهين العقلية وظواهر الكتاب والسنة ونصوصهما تدفعه، وهو من أقوال الصابئة المتسرِّبة في الإِسلام.
ومنهم من فسَّرها بمعان مخالفة لظواهرها من كل ما احتمله عقل أو نقل لا يخالف الأصول المسلّمة وهو المسمّى عندهم بالتأويل.
ومنهم من اكتفى بالمحتملات النقلية ولم يعتبر العقل.
وقد عرفت مما تقدم من أبحاثنا في المحكم والمتشابه أن تفسير الكتاب العزيز بغير الكتاب والسنة القطعية من التفسير بالرأي الممنوع في الكتاب والسنة.
وجلّ هؤلاء الطوائف الثلاث المسمّين بالمؤوّلة يسلكون في أفعاله تعالى، مما لا يرجع إلى الصفة مسلك السلف المسمين بالمفوضة في إبقائها على ظواهرها من المصاديق المعهودة عندنا، وأما ما يرجع منها بنحو إلى الصفة فيؤوّلونه، ففي قوله: { الرحمن على العرش استوى } يؤوّلون الاستواء إلى مثل الاستيلاء والاستعلاء ويبقون العرش، وهو فعل له تعالى غير راجع إلى الصفة على ظاهره المعهود وهو الجسم المخلوق على هيئة سرير مقبّب ذي قوائم، وفيما ورد من طرق الجماعة أن الله ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء الدنيا يؤوّلون نزوله بنزول رحمته ويفسرون السماء الدنيا بفلك القمر، وهكذا.
وقد عرفت فيما مرّ أن حمل الآية على خلاف ظاهرها لا مسوّغ له ولا دليل يدلُّ عليه فلم ينزل الكتاب ألغازاً وتعمية ثم الحديث فيه المحكم والمتشابه كالقرآن وإبقاء المتشابه من القرآن على ظاهره بالاستناد إلى ظاهر مثله الوارد في الحديث هو في الحقيقة ردّ لمتشابه القرآن إلى متشابه الحديث وقد أُمرنا بردّ متشابه القرآن إلى محكمه.
ثم إن في عملهم بهذه الروايات وتحكيمها على ظاهر الكتاب مغمضاً آخر وذلك أنها أخبار آحاد ليست بمتواترة ولا قطعية الصدور، وما هذا شأنه يحتاج في العمل بها حتى في صحاحها إلى حجية شرعية بالجعل أو الإِمضاء، وقد اتضح في علم الأصول اتضاحاً يتلو البداهة أن لا معنى لحجية أخبار الآحاد في غير الأحكام كالمعارف الاعتقادية والموضوعات الخارجية.
نعم الخبر المتواتر والمحفوف بالقرائن القطعية كالمسموع من المعصوم مشافهة حجة وإن كان في غير الاحكام لأن الدليل على العصمة بعينه دليل على صدقه وهذه كلها مسائل مفروغ عنها في محلها من شاء الوقوف فليراجع.
وفي سنن أبي داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس ونهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ويحك أتدري ما تقول؟ وسبّح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما زال يسبّح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك. ويحك أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سماواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب.
أقول: ومتنه لا يخلو من اختلال، وإنما أوردناه لكونه من أصرح الأخبار في جسميّة العرش، وهنا روايات تدل على أن له قوائم، وأخرى تدل على أن له حملة أربع، وأُخرى تدل على أنه فوق السماوات بحذاء الكعبة، وأُخرى تدل على أن الكرسي عنده كحلقة ملقاة في ظهريّ فلاة السماوات والأرض بالنسبة إلى الكرسي كذلك، وقد تقدم طريقة أئمة أهل البيت عليهم السلام في تفسير أمثال هذه الأخبار وقد أوردنا في تفسير سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب ما يستفاد منه محصل نظرهم عليهم السلام.
وفي معاني الأخبار بإسناده عن محد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: { يعلم السر وأخفى } قال: السر ما أكننته في نفسك وأخفى ما خطر ببالك ثم أُنسيته.
وفي المجمع روي عن السيدين الباقر والصادق عليهما السلام: { السر } ما أخفيته في نفسك و { أخفى } ما خطر ببالك ثم أُنسيته.