التفاسير

< >
عرض

وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
٧٨
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
٧٩
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ
٨٠
وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ
٨١
وَمِنَ ٱلشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ
٨٢
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ٱلرَّاحِمِينَ
٨٣
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ
٨٤
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا ٱلْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ ٱلصَّابِرِينَ
٨٥
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٦
وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٨
وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْوَارِثِينَ
٨٩
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ
٩٠
وَٱلَّتِيۤ أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَٱبْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ
٩١
-الأنبياء

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تذكر الآيات جماعة آخرين من الأنبياء وهم داود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، ولم يراع في ذكرهم الترتيب بحسب الزمان ولا الانتقال من اللاحق إلى السابق كما في الآيات السابقة، وقد أشار سبحانه إلى شيء من نعمه العظام على بعضهم واكتفى في بعضهم بمجرد ذكر الاسم. قوله تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } إلى قوله { حكماً وعلماً } الحرث الزرع والحرث أيضاً الكرم، والنفش رعي الماشية بالليل، وفي المجمع: النفش بفتح الفاء وسكونها أن تنتشر الإِبل والغنم بالليل فترعى بلا راع. انتهى.
وقوله: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه } السياق يعطي أنها واقعة واحده بعينها رفع حكمها إلى داود لكونه هو الملك الحاكم في بني إسرائيل وقد جعله الله خليفة في الأرض كما قال:
{ { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق } [ص: 26] فإن كان سليمان يداخل في حكم الواقعة فعن إذن منه ولحكمة ما ولعلها إظهار أهليته للخلافة بعد داود.
ومن المعلوم أن لا معنى لحكم حاكمين في واقعة واحده شخصية مع استقلال كل واحد منهما في الحكم ونفوذه، ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: { إذ يحكمان } إذ يتناظران أو يتشاوران في الحكم لا إصدار الحكم النافذ، ويؤيده كمال التأييد التعبير بقوله: { إذ يحكمان } على نحو حكاية الحال الماضية كأنهما أخذا في الحكم أخذاً تدريجياً لم يتم بعد ولن يتم إلا حكماً واحداً نافذاً وكان الظاهر أن يقال: إذ حكما.
ويؤيده أيضاً قوله: { وكنا لحكمهم شاهدين } فإن الظاهر أن ضمير { لحكمهم } للأنبياء وقد تكرر في كلامه تعالى أنه آتاهم الحكم لا كما قيل: إن الضمير لداود وسليمان والمحكوم لهم إذ لا وجه يوجه به نسبة الحكم إلى المحكوم لهم أصلاً، فكان الحكم حكماً واحداً هو حكم الأنبياء والظاهر أنه ضمان صاحب الغنم للمال الذي أتلفته غنمه.
فكان الحكم حكماً واحداً اختلفا في كيفية إجرائه عملاً إذ لو كان الاختلاف في أصل الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين إما بكون كلا الحكمين حكماً واقعياً لله ناسخاً أحدهما - وهو حكم سليمان - الآخر وهو حكم داود لقوله تعالى: { ففهمناها سليمان } وإما بكون الحكمين معاً عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الظني مع الجهل بالحكم الواقعي وقد صدق تعالى اجتهاد سليمان فكان هو حكمه.
أما الأول: وهو كون حكم سليمان ناسخاً لحكم داود فلا ينبغي الارتياب في أن ظاهر جمل الآية لا يساعد عليه إذ الناسخ والمنسوخ متباينان ولو كان حكماهما من قبيل النسخ ومتباينين لقيل: وكنا لحكمهما أو لحكميهما ليدل على التعدد والتباين ولم يقل: { وكنا لحكمهم شاهدين } المشعر بوحدة الحكم وكونه تعالى شاهدا له الظاهر في صونهم عن الخطاء، ولو كان داود حكم في الواقعة بحكم منسوخ لكان على الخطاء، ولا يناسبه أيضاً قوله: { وكلا آتينا حكماً وعلماً } وهو مشعر بالتأييد ظاهر في المدح.
وأما الثاني: وهو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعي فهو أبعد من سابقه لأنه تعالى يقول: { ففهمناها سليمان } وهو العلم بحكم الله الواقعي وكيف ينطبق على الرأي الظني بما أنه رأي ظني. ثم يقول: وكلا آتينا حكماً وعلماً فيصدق بذلك أن الذي حكم به داود أيضاً كان حكماً علمياً لا ظنياً ولو لم يشمل قوله: { وكلا آتينا حكماً وعلماً } حكم داود في الواقعة لم يكن وجه لإِيراد الجملة في المورد.
على أنك سمعت أن قوله: { وكنا لحكمهم شاهدين } لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن الحكم كان واحداً ومصوناً عن الخطاء. فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما واحداً في نفسه مختلفاً من حيث كيفية الإِجراء وكان حكم سليمان أوفق وأرفق.
وقد وردت في روايات الشيعة وأهل السنة ما إجماله أن داود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم وسليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع وصوف ونتاج.
ولعل الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها وكان ذلك مساوياً لقيمة رقاب الغنم فحكم داود لذلك برقابها لصاحب الحرث، وحكم سليمان بما هو أرفق منه وهو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة والمنافع المستوفاة من الغنم كل سنة تعدل قيمتها قيمة الرقبة عادة.
فقوله: { وداود وسليمان } أي واذكر داود وسليمان { إذ } حين { يحكمان في الحرث } { إذ } حين { نفشت فيه غنم القوم } أي تفرقت فيه ليلاً وأفسدته { وكنا لحكمهم } أي لحكم الأنبياء، وقيل: الضمير راجع إلى داود وسليمان والمحكوم له، وقد عرفت ما فيه، وقيل: الضمير لداود وسليمان لأن الأثنين جمع وهو كما ترى { شاهدين } حاضرين نرى ونسمع ونوقفهم على وجه الصواب فيه { ففهمناها } أي الحكومة والقضية { سليمان وكلاً } من داود وسليمان { آتينا حكماً وعلماً } وربما قيل: إن تقدير صدر الآية { وآتينا داود وسليمان حكماً وعلماً } إذ يحكمان الخ.
قوله تعالى: { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن معه والطير وكنا فاعلين } التسخير هو تذليل الشيء بحيث يكون عمله على ما هو عليه في سبيل مقاصد المسخر - بكسر الخاء - وهذا غير الإِجبار والإِكراه والقسر فإن الفاعل فيها خارج عن مقتضى اختياره أو طبعه بخلاف الفاعل المسخر - بفتح الخاء - فإنه جار على مقتضى طبعه واختياره كما أن إحراق الإِنسان الحطب بالنار فعل تسخيري من النار وليست بمقسورة وكذا فعل الأجير لمؤجره فعل تسخيري من الأجير وليس بمجبر ولا مكره.
ومن هنا يظهر أن معنى تسخير الجبال والطير مع داود يسبحن معه أن لهما تسبيحاً في نفسهما وتسخيرهما أن يسبحن مع داود بمواطاة تسبيحه فقوله: { يسبحن معه } بيان لقوله: { وسخرنا مع داود } وقوله: { والطير } معطوف على الجبال.
وقوله: { وكنا فاعلين } أي كانت أمثال هذه المواهب والعنايات من سنتنا وليس ما أنعمنا به عليهما ببدع منا.
قوله تعالى: { وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون } قال في المجمع: اللبوس اسم للسلاح كله عند العرب - إلى أن قال - وقيل: هو الدرع انتهى. وفي المفردات: وقوله تعالى: { صنعة لبوس لكم } يعني به الدرع.
والبأس شدة القتال وكأن المراد به في الآية شدة وقع السلاح وضمير { وعلمناه } لداود كما قال في موضع آخر: { وألنا له الحديد } والمعنى وعلمنا داود صنعة درعكم - أي علمناه كيف يصنع لكم الدرع لتحرزكم وتمنعكم شدة وقع السلاح وقوله: { فهل أنتم شاكرون } تقرير على الشكر.
قوله تعالى: { ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره } الخ. عطف على قوله { لداود } أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب تجري الريح بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وهي أرض الشام التي كان يأوي إليها سليمان وكنا عالمين بكل شيء.
وذكر تسخير الريح عاصفة مع أن الريح كانت مسخرة له في حالتي شدتها ورخائها كما قال:
{ { رخاء حيث أصاب } [ص: 26] لأن تسخير الريح عاصفة أعجب وأدل على القدرة.
قيل: ولشيوع كونه عليه السلام ساكناً في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الامتنان انتهى، ويمكن أن يكون المراد جريانها بأمره إليها لتحمله منها إلى حيث أراد لا جريانها إليها لترده إليها وتنزله فيها بعدما حملته، وعلى هذا يشمل الكلام الخروج منها والرجوع إليها جميعاً.
قوله تعالى: { ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين } كان الغوص لاستخراج أمتعة البحر من اللآلي وغيرها، والمراد بالعمل الذي دون ذلك ما ذكره بقوله:
{ { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات } [سبأ: 13]، والمراد بحفظ الشياطين حفظهم في خدمته ومنعهم من أن يهربوا أو يمتنعوا أو يفسدوا عليه الأمر، والمعنى ظاهر وستجيء قصتا داود وسليمان عليهما السلام في سورة سبأ إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } الضر بالضم خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض والهزال ونحوهما وبالفتح أعم.
وقد شملته عليه السلام البلية فذهب ماله ومات أولاده وابتلي في بدنه بمرض شديد مدة مديدة ثم دعا الله وشكى إليه حاله فاستحباب الله له ونجاه من مرضه وأعاد عليه ماله وولده ومثلهم معهم وهو قوله في الآية التالية: { فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرّ } أي نجيناه من مرضه وشفيناه { وآتيناه أهله } أي من مات من أولاده { ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين } ليتذكروا ويعلموا أن الله يبتلي أولياءه امتحاناً منه لهم ثم يؤتيهم أجرهم ولا يضيع أجر المحسنين.
وستجيء قصة أيوب عليه السلام في سورة ص إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل } الخ. أما إدريس عليه السلام فقد تقدمت قصته في سورة مريم، وأما إسماعيل فستجيء قصته في سورة الصافات، وتأتي قصة ذي الكفل في سورة ص إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه } الخ. النون الحوت وذو النون هو يونس النبي ابن متى صاحب الحوت الذي بعث إلى أهل نينوى فدعاهم فلم يؤمنوا فسأل الله أن يعذبهم فلما أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا فكشفه الله عنهم ففارقهم يونس فابتلاه الله أن ابتلعه حوت فناداه تعالى في بطنه فكشف عنه وأرسله ثانياً إلى قومه.
وقوله: { وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه } أي واذكر ذا النون إذ ذهب مغاضباً أي لقومه حيث لم يؤمنوا به فظن أن لن نقدر عليه أي لن نضيق عليه من قدر عليه رزقه أي ضاق كما قيل.
ويمكن أن يكون قوله: { إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه } وارداً مورد التمثيل أي كان ذهابه هذا ومفارقة قومه ذهاب من كان مغاضباً لمولاه وهو يظن أن مولاه لن يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وأما كونه عليه السلام مغاضباً لربه حقيقة وظنه أن الله لا يقدر عليه جداً فمما يجل ساحة الأنبياء الكرام عن ذلك قطعاً وهم معصومون بعصمة الله.
وقوله: { فنادى في الظلمات } الخ. فيه إيجاز بالحذف والكلام متفرع عليه والتقدير فابتلاه الله بالحوت فالتقمه فنادى في بطنه ربه، والظاهر أن المراد بالظلمات كما قيل - ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل.
وقوله: { أن لا إله ألا أنت سبحانك } تبر منه عليه السلام مما كان يمثله ذهابه لوجهه ومفارقته قومه من غير أن يؤمر فان ذهابه ذلك كان يمثل - وإن لم يكن قاصداً ذلك متعمداً فيه - أن هناك مرجعاً يمكن أن يرجع إليه غير ربه فتبرأ من ذلك بقوله لا إله ألا أنت، وكان يمثل أن من الجائز أن يعترض على فعله فيغاضب منه وأن من الممكن أن يفوته تعالى فائت فيخرج من حيطة قدرته فتبرأ من ذلك بتنزيهه بقوله: سبحانك.
وقوله: { إني كنت من الظالمين } اعتراف بالظلم من حيث إنه أتى بعمل كان يمثل الظلم وإن لم يكن ظلماً في نفسه ولا هو عليه السلام قصد به الظلم والمعصية غير أن ذلك كان تأديباً منه تعالى وتربية لنبيه ليطأ بساط القرب بقدم مبرأة في مشيئتها من تمثيل الظلم فضلاً عن نفس الظلم.
قوله تعالى: { فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } هو عليه السلام وإن لم يصرح بشيء من الطلب والدعاء، وإنما أتى بالتوحيد والتنزيه واعترف بالظلم لكنه أظهر بذلك حاله وأبدى موقفه من ربه وفيه سؤال النجاة والعافية فاستجاب الله له. ونجاه من الغم وهو الكرب الذي نزل به.
وقوله: { وكذلك ننجي المؤمنين } وعد بالإِنجاء لمن ابتلي من المؤمنين بغمّ ثم نادى ربه بمثل ما نادى به يونس عليه السلام وستجيء قصته عليه السلام في سورة الصافات إن شاء الله.
قوله تعالى: { وزكريا إذ نادى ربه ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين } معطوف على ما عطف عليه ما قبله أي واذكر زكريا حين نادى ربه يسأل ولدا وقوله: { ربِّ لا تذرني فرداً } بيان لندائه، والمراد بتركه فرداً أن يترك ولا ولد له يرثه.
وقوله: { وأنت خير الوارثين } ثناء وتحميد له تعالى بحسب لفظه ونوع تنزيه له بحسب المقام إذ لما قال: { لا تذرني فرداً } وهو كناية عن طلب الوارث والله سبحانه هو الذي يرث كل شيء نزهه تعالى عن مشاركة غيره له في معنى الوراثة ورفعه عن مساواة غيره فقال: { وأنت خير الوارثين }.
قوله تعالى: { فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } الخ. ظاهر الكلام أن المراد بإصلاح زوجه أي زوج زكريا له جعلها شابة ولودا بعدما كانت عاقراً كما يصرح به في دعائه
{ { وكانت امرأتي عاقراً } [مريم: 8]، وقوله: { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين } ظاهر السياق أن ضمير الجمع لبيت زكريا، وكأنه تعليل لمقدر معلوم من سابق الكلام والتقدير نحو من قولنا: انعمنا عليهم لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات.
والرغب والرهب مصدران كالرغبة والرهبة بمعنى الطمع والخوف وهما تمييزان إن كانا باقيين على معناهما المصدري وحالان إن كانا بمعنى الفاعل، والخشوع هو تأثر القلب من مشاهدة العظمة والكبرياء.
والمعنى: أنعمنا عليهم لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال ويدعوننا رغبة في رحمتنا أو ثوابنا رهبة من غضبنا أو عقابنا أو يدعوننا راغبين راهبين وكانوا لنا خاشعين بقلوبهم.
وقد تقدمت قصة زكريا ويحيى عليهما السلام في أوائل سورة مريم.
قوله تعالى: { والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين } المراد بالتي أحصنت فرجها مريم ابنة عمران وفيه مدح لها بالعفة والصيانة وردّ لما اتهمها به اليهود.
وقوله: { فنفخنا فيها من روحنا } الضمير لمريم والنفخ فيها من الروح كناية عن عدم استناد ولادة عيسى عليه السلام إلى العادة الجارية في كينونة الولد من تصور النطفة أولاً ثم نفخ الروح فيها فإذا لم يكن هناك نطفة مصورة لم يبق إلا نفخ الروح فيها وهي الكلمة الإِلهية كما قال:
{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [آل عمران: 59] أي مثلهما واحد في استغناء خلقهما عن النطفة.
وقوله: { وجعلناها وابنها آية للعالمين } أفرد الآية فعدهما أعني مريم وعيسى عليهما السلام معاً آية واحدة للعالمين لأن الآية هي الولادة كذلك وهي قائمة بهما معاً ومريم أسبق قدماً في إقامة هذه الآية ولذا قال تعالى: { وجعلناها وابنها آية } ولم يقل: وجعلنا ابنها وإياها آية وكفى فخراً أن يدخل ذكرها في ذكر الأنبياء عليهم السلام في كلامه تعالى وليست منهم.
(بحث روائي)
في الفقيه روى جميل بن دراج عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله عز وجل: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } قال: لم يحكما إنما كانا يتناظران ففهمها سليمان.
أقول: تقدم في بيان معنى الآية ما يتضح به معنى الحديث.
وفي الكافي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن بعض أصحابنا عن المعلى أبي عثمان عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم } فقال: لا يكون النفش إلا بالليل إن على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار، وليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار إنما رعاها بالنهار وأرزاقها فما أفسدت فليس عليها، وعلى صاحب الماشية حفظ الماشية بالليل عن حرث الناس فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا وهو النفش.
وإن داود حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم، وحكم سليمان الرسل والثلاثة وهو اللبن والصوف في ذلك العام.
أقول: وروى فيه أيضاً بإسناده عن أبي بصير عنه عليه السلام وفي الحديث: فحكم داود بما حكمت به الأنبياء عليه السلام من قبله، وأوحى الله إلى سليمان عليه السلام: وأي غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من بطونها. وكذلك جرت السنة بعد سليمان وهو قول الله عز وجل: { وكلا آتينا حكماً وعلماً } فحكم كل واحد منهما بحكم الله عز وجل.
وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام في حديث ذكر فيه أن الحرث كان كرماً نفشت فيه الغنم وذكر حكم سليمان ثم قال: وكان هذا حكم داود وإنما أراد أن يعرّف بني إسرائيل أن سليمان وصيه بعده، ولم يختلفا في الحكم ولو اختلف حكمهما لقال: وكنا لحكمهما شاهدين.
وفي المجمع: واختلف في الحكم الذي حكما به فقيل: إنه كان كرماً قد بدت عناقيده فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله أرفق. قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
أقول: وروي كون الحرث كرماً من طرق أهل السنة عن عبد الله بن مسعود وهناك روايات أُخر عن أئمة أهل البيت عليه السلام قريبة المضامين مما أوردناه، وما مر في بيان معنى الآية يكفي في توضيح مضامين الروايات.
وفي تفسير القمي وقوله عز وجل: { ولسليمان الريح عاصفة } قال: تجري من كل جانب { إلى الأرض التي باركنا فيها } قال: إلى بيت المقدس والشام.
وفيه أيضاً بإسناده عن عبد الله بن بكير وغيره عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } قال أحيا الله عز وجل له أهله الذين كانوا قبل البلية وأحيا له الذين ماتوا وهو في البلية.
وفيه أيضاً وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: { وذا النون إذ ذهب مغاضباً } يقول: من أعمال قومه { فظن أن لن نقدر عليه } يقول: ظن أن لن يعاقب بما صنع.
وفي العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي في حديث الرضا عليه السلام مع المأمون في عصمة الأنبياء قال عليه السلام: وأما قوله: { وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه } إنما { ظن } بمعنى استيقن أن لن يضيق عليه رزقه ألا تسمع قول الله عز وجل: { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه } أي ضيق عليه رزقه. ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر.
وفي التهذيب بإسناده عن الزيات عن رجل عن كرام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أربع لأربع - إلى أن قال - والرابعة للغم والهم { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } قال الله سبحانه: { فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين }.
أقول: وروى هذا المعنى في الخصال عنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسلاً.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن سعد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
"اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى قلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين إذا دعوا بها. ألم تسمع قول الله: { وكذلك ننجي المؤمنين } فهو شرط من الله لمن دعاه"
]. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { وأصلحنا له زوجه } قال: كانت لا تحيض فحاضت.
وفي المعاني بإسناده إلى علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: الرغبة أن تستقبل براحتيك السماء وتستقبل بهما وجهك، والرهبة أن تلقي كفيك وترفعهما إلى الوجه.
أقول: وروى مثله في الكافي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله عليه السلام ولفظه قال: الرغبة أن تستقبل ببطن كفيك إلى السماء، والرهبة أن تجعل ظهر كفيك إلى السماء.
وفي تفسير القمي: { يدعوننا رغباً ورهباً } قال: راغبين راهبين، وقوله: { التي أحصنت فرجها } قال: مريم لم ينظر إليها شيء، وقوله { فنفخنا فيها من روحنا } قال: روح مخلوقة يعني من أمرنا.