التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ
٣
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ
٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
٥
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ
٧
ومِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ
٨
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
٩
ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلعَبِيدِ
١٠
وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١١
يَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٢
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ
١٣
إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
١٤
مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ
١٥
وَكَذٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ
١٦
-الحج

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
تذكر الآيات أصنافاً من الناس من مصر على الباطل مجادل في الحق أو متزلزل فيه وتصف حالهم وتبين ضلالهم وسوء مآلهم وتذكر المؤمنين وأنهم مهتدون في الدنيا منعمون في الآخرة.
قوله تعالى، { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد } المريد الخبيث وقيل: المتجرد للفساد والمعرى من الخير، والمجادلة في الله بغير علم التكلم فيما يرجع إليه تعالى من صفاته وأفعاله بكلام مبني على الجهل بالاصرار عليه.
وقوله: { ويتبع كل شيطان مريد } بيان لمسلكه في الاعتقاد والعمل بعد بيان مسلكه في القول كأنه قيل: إنه يقول في الله بغير علم ويصر على جهله، ويعتقد بكل باطل ويعمل به وإذ كان الشيطان هو الذي يهدي الإِنسان إلى الباطل والإِنسان إنما يميل إليه بإغوائه فهو يتبع في كل ما يعتقده ويعمل به الشيطان فقد وضع اتباع الشيطان في الآية موضع الاعتقاد والعمل للدلالة على الكيفية وليبين في الآية التالية أنه ضال عن طريق الجنة سالك إلى عذاب السعير.
وقد قال تعالى: { ويتبع كل شيطان } ولم يقل: ويتبع الشيطان المريد وهو إبليس للدلالة على تلبسه بفنون الضلال وأنواعه فإن أبواب الباطل مختلفة وعلى كل باب شيطاناً من قبيل إبليس وذريته وهناك شياطين من الإِنس يدعون إلى الضلال فيقلدهم أولياؤهم الغاوون ويتبعونهم وإن كان كل تسويل ووسوسة منتهياً إلى إبليس لعنه الله.
والكلمة أعني قوله: { ويتبع كل شيطان } مع ذلك كناية عن عدم انتهائه في اتباع الباطل إلى حد يقف عليه لبطلان استعداده للحق وكون قلبه مطبوعاً عليه فهو في معنى قوله:
{ وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً } [الأعراف: 146]. قوله تعالى: { كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } التولي أخذه ولياً متبعاً، وقوله: { فأنه يضله } الخ. مبتدأ محذوف الخبر، والمعنى ويتبع كل شيطان مريد من صفته أنه كتب عليه أن من أتخذه ولياً واتبعه فإضلاله له وهدايته إياه إلى عذاب السعير ثابت لازم.
والمراد بكتابته عليه القضاء الإِلهي في حقه بإضلاله متبعيه أولاً وإدخاله إياهم النار ثانياً، وهذان القضاءان هما اللذان أشار إليهما في قوله:
{ { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين } [الحجر: 42-43] وقد تقدم الكلام في توضيح ذلك في الجزء الثاني عشر من الكتاب.
وبما تقدم يظهر ضعف ما قيل: إن المعنى من تولى الشيطان فإن الله يضله إذ لا شاهد من كلامه تعالى على هذه الكتابة المدعاة وإنما المذكور في كلامه تعالى القضاء بتسليط إبليس على من تولاه واتبعه كما تقدم.
على أن لازمه اختلاف الضمائر ورجوع ضمير { فأنه } إلى ما لم يتقدم ذكره من غير موجب.
وأضعف منه قول من قال: إن المعنى كتب على هذا الذي يجادل في الله بغير علم أنه من تولاه فأنه يضله - بإرجاع الضمائر إلى الموصول في { من يجادل } - وهو كما ترى.
ويظهر من الآية أن القضاء على إبليس قضاء على قبيله وذريته وأعوانه، وأن إضلالهم وهدايتهم إلى عذاب السعير وبالجملة فعلهم فعله، ولا يخفى ما في الجمع بين يضله ويهديه في الآية من اللطف.
قوله تعالى: { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب } إلى قوله { شيئاً } المراد بالبعث إحياء الموتى والرجوع إلى الله سبحانه وهو ظاهر، والعلقة القطعة من الدم الجامد، والمضغة القطعة من اللحم الممضوغه والمخلقة على ما قيل - تامة الخلقة وغير المخلقة غير تامتها وينطبق على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه، وعليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق التصوير.
وقوله: { لنبين لكم } ظاهر السياق أن المراد لنبين لكم أن البعث ممكن ونزيل الريب عنكم فإن مشاهدة الانتقال من التراب الميت إلى النطفة ثم إلى العلقة ثم إلى المضغة ثم إلى الإِنسان الحي لا تدع ريبا في إمكان تلبس الميت بالحياة ولذلك وضع قوله: { لنبين لكم } في هذا الموضع ولم يؤخر إلى آخر الآية.
وقوله: { ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى } أي ونقر فيها ما نشاء من الأجنة ولا نسقطه إلى تمام مدة الحمل ثم نخرجكم طفلاً، قال في المجمع: أي نخرجكم من بطون امهاتكم وأنتم أطفال، والطفل الصغير من الناس، وإنما وحد والمراد به الجمع لأنه مصدر كقولهم: رجل عدل ورجال عدل، وقيل أراد ثم نخرج كل واحد منكم طفلاً، انتهى، والمراد ببلوغ الأشد حال اشتداد الأعضاء والقوى.
وقوله: { ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } المقابلة بين الجملتين تدل على تقيد الأولى بما يميزها من الثانية والتقدير ومنكم من يتوفى من قبل أن يرد إلى أرذل العمر، والمراد بأرذل العمر أحقره وأهونه وينطبق على حال الهرم فإنه أرذل الحياه إذا قيس إلى ما قبله.
وقوله: { لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً } أي شيئاً يعتد به أرباب الحياة ويبنون عليه حياتهم، واللام للغاية أي ينتهي أمره إلى ضعف القوى والمشاعر بحيث لا يبقى له من العلم الذي هو أنفس محصول للحياة شيء يعتد به لها.
قوله تعالى: { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } قال الراغب: يقال: همدت النار طفئت، ومنه أرض هامدة لا نبات فيها، ونبات هامد يابس، قال تعالى: { وترى الأرض هامدة } انتهى ويقرب منه تفسيرها بالأرض الهالكة.
وقال أيضاً: الهز التحريك الشديد يقال: هززت الرمح فاهتز واهتز النبات إذا تحرك لنضارته، وقال أيضاً: ربا إذا زاد وعلا، قال تعالى: { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } أي زادت زيادة المتربى. انتهى بتلخيص ما.
وقوله: { وأنبتت من كل زوج بهيج } أي وأنبتت الأرض من كل صنف من النبات متصف بالبهجة وهي حسن اللون وظهور السرور فيه، أو المراد بالزوج ما يقابل الفرد فإن كلامه يثبت للنبات ازدواجاً كما يثبت له حياة وقد وافقته العلوم التجريبية اليوم.
والمحصل أن للأرض في إنباتها النبات وإنمائها له شأناً يماثل شأن الرحم في إنباته الحيوي للتراب الصائر نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير إنساناً حياً.
قوله تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير } ذلك إشارة إلى ما ذكر في الآيه السابقة من خلق الإِنسان والنبات وتدبير أمرهما حدوثاً وبقاء خلقاً وتدبيراً واقعيين لا ريب فيهما.
والذي يعطيه السياق أن المراد بالحق نفس الحق - أعني أنه ليس وصفاً قائماً مقام موصوف محذوف هو الخبر - فهو تعالى نفس الحق الذي يحقق كل شيء حق ويجري في الأشياء النظام الحق فكونه تعالى حقاً يتحقق به كل شيء حق هو السبب لهذه الموجودات الحقة والنظامات الحقة الجارية فيها، وهي جميعاً تكشف عن كونه تعالى هو الحق.
وقوله: { وأنه يحيى الموتى } معطوف على ما قبله أي المذكور في الآية السابقة من صيرورة التراب الميت بالانتقال من حال إلى حال إنساناً حياً وكذا صيرورة الأرض الميتة بنزول الماء نباتاً حياً واستمرار هذا الأمر بسبب أن الله يحيي الموتى ويستمر منه ذلك.
وقوله: { وأنه على كل شيء قدير } معطوف على سابقه كسابقه والمراد أن ما ذكرناه بسبب أن الله على كل شيء قدير وذلك أن إيجاد الإِنسان والنبات وتدبير أمرهما في الحدوث والبقاء مرتبط بما في الكون من وجود أو نظام جار في الوجود وكما أن إيجادهما وتدبير أمرهما لا يتم إلا مع القدرة عليهما كذلك القدرة عليهما لا تتم إلا مع القدرة على كل شيء فخلقهما وتدبير أمرهما بسبب عموم القدرة وإن شئت فقل: ذلك يكشف عن عموم القدرة.
قوله تعالى: { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } الجملتان معطوفتان على { أن } في قوله: { ذلك بأن الله }.
وأما الوجه في اختصاص هذه النتائج الخمس المذكورة في الآيتين بالذكر مع أن بيان السابقة ينتج نتائج أُخرى مهمة في أبواب التوحيد كربوبيته تعالى ونفي شركاء العبادة وكونه تعالى عليماً ومنعماً وجواداً وغير ذلك.
فالذي يعطيه السياق - والمقام مقام إثبات البعث - وعرض هذه الآيات على سائر الآيات المثبتة للبعث أن الآية تؤم إثبات البعث من طريق إثبات كونه تعالى حقاً على الإِطلاق فإن الحق المحض لا يصدر عنه إلا الفعل الحق دون الباطل، ولو لم يكن هناك نشأه أُخرى يعيش فيها الإِنسان بما له من سعادة أو شقاء واقتصر في الخلقة على الإِيجاد ثم الإِعدام ثم الإِيجاد ثم الإِعدام وهكذا كان لعباً باطلاً فكونه تعالى حقاً لا يفعل إلا الحق يستلزم نشأة البعث استلزاماً بيناً فإن هذه الحياه الدنيا تنقطع بالموت فبعدها حياة أُخرى باقية لا محالة.
فالآية أعني قوله: { فإنا خلقناكم من تراب } إلى قوله { ذلك بأن الله هو الحق } في مجرى قوله:
{ { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق } [الدخان: 38-39] وقوله: { { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا } [ص: 27] وغيرهما من الآيات المتعرضة لإِثبات المعاد، وإنما الفرق أنها تثبته من طريق حقية فعله تعالى والآية المبحوث عنها تثبته من طريق حقيته تعالى في نفسه المستلزمة لحقية فعله.
ثم لما كان من الممكن أن يتوهم استحالة إحياء الموتى فلا ينفع البرهان حينئذ دفعه بقوله: { وأنه يحيي الموتى } فإحياؤه تعالى الموتى بجعل التراب الميت إنساناً حياً وجعل الأرض الميتة نباتاً حياً واقع مستمر مشهود فلا ريب في إمكانه وهذه الجملة أيضاً في مجرى قوله تعالى:
{ { قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } [يس: 78-79] وسائر الآيات المثبتة لإِمكان البعث والإِحياء ثانياً من طريق ثبوت مثله أولاً.
ثم لما أمكن أن يتوهم أن جواز الإِحياء الثاني لا يستلزم الوقوع بتعلق القدرة به استبعاداً له واستصعاباً دفعه بقوله: { وأنه على كل شيء قدير } فإن القدرة لما كانت غير متناهية كانت نسبتها إلى الإِحياء الأول والثاني وما كان سهلاً في نفسه أو صعباً على حد سواء فلا يخالطها عجز ولا يطرء عليها عي وتعب.
وهذه الجملة أيضاً في مجرى قوله تعالى:
{ { أفعيينا بالخلق الأول } [ق: 15] وقوله: { { إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير } [فصلت: 39] وسائر الآيات المثبتة للبعث بعموم القدرة وعدم تناهيها.
فهذه أعني ما في قوله تعالى: { ذلك بأن الله } إلى آخر الآية نتائج ثلاث مستخرجة من الآية السابقة عليها مسوقه جميعاً لغرض واحد وهو ذكر ما يثبت به البعث وهو الذي تتضمنه الآية الأخيرة { وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور }.
ولم تتضمن الآية إلا بعث الأموات والظرف الذي يبعثون فيه فأما الظرف وهو الساعة فذكره في قوله: { وأن الساعة آتية لا ريب فيها } ولم ينسب إتيانها إلى نفسه بأن يقال مثلاً: وأن الله يأتي بالساعة أو ما في معناه ولعل الوجه في ذلك اعتبار كونها لا تأتي إلا بغتة لا يتعلق به علم قط كما قال: { لا تأتيكم إلا بغتة }.
وقال:
{ { قل إنما علمها عند الله } [الأعراف: 187] وقال: { { إن الساعة آتيه أكاد أُخفيها } [طه: 15] فكان عدم نسبتها إلى فاعل كعدم ذكر وقتها وكتمان مرساها مبالغة في إخفائها وتأييداً لكونها مباغتة مفاجئة، وقد كثر ذكرها في كلامه ولم يذكر في شيء منه لها فاعل بل كان التعبير مثل { آتية } { تأتيهم } { قائمه } { تقوم } ونحو ذلك.
وأما المظروف وهو إحياء الموتى من الإِنسان فهو المذكور في قوله: { وأن الله يبعث من في القبور }.
فإن قلت: الحجة المذكورة تنتج البعث لجميع الأشياء لا للإِنسان فحسب لأن الفعل بلا غاية لغو باطل سواء كان هو الإِنسان أو غيره لكن الآية تكتفي بالإِنسان فقط.
قلت: قصر الآية النتيجة في الإِنسان فقط لا ينافي ثبوت نظير الحكم في غيره لكن الذي تمسه الحاجة في المقام بعث الإِنسان على أنه يمكن أن يقال: أن نفي المعاد عن الأشياء غير الإِنسان لا يستلزم كون فعلها باطلاً منه تعالى لأنها مخلوقة لأجل الإِنسان فهو الغاية لخلقها والبعث غاية لخلق الإِنسان.
هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الثلاث وعرضها على سائر الآيات المتعرضة لإِثبات المعاد على تفننها، وبه يظهر وجه الاكتفاء من النتائج المترتبة عليها بهذه النتائج المعدودة بحسب المترائي من اللفظ خمساً وهي في الحقيقة ثلاث موضوعة في الآية الثانية مستخرجة من الاولى، وواحدة موضوعة في الآية الثالثة مستخرجة من الثلاث الموضوعة في الثانية.
وبه يندفع أيضاً شبهة التكرار المتوهم من قوله: { وأنه يحيي الموتى } { وأن الساعة آتية } { وأن الله يبعث من في القبور } إلى غير ذلك.
وللقوم في تفسير الآيات الثلاث وتقرير حجتها وجوه كثيرة مختلفة لا ترجع إلى جدوى وقد أضافوا في جميعها إلى حجة الآية مقدمات أجنبية تختل بها سلاسه النظم واستقامة الحجة، وقد طوينا ذكرها فمن أراد الوقوف عليها فليراجع مطولات التفاسير.
قوله تعالى: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير } صنف آخر من الناس المعرضين عن الحق، قال في كشف الكشاف على ما نقل: إن الأظهر في النظم والأوفق للمقام أن هذه الآية في المقلدين بفتح اللام والآية السابقة { ومن الناس من يجادل } إلى قوله: { مريد } في المقلدين بكسر اللام انتهى محصلاً.
وهو كذلك بدليل قوله هنا ذيلاً: { ليضل عن سبيل الله } وقوله هناك: { ويتبع كل شيطان مريد } والإِضلال من شأن المقلد بفتح اللام والإِتباع من شان المقلد بكسر اللام.
والترديد في الآية بين العلم والهدى والكتاب مع كون كل من العلم والهدى يعم الآخرين دليل على أن المراد بالعلم علم خاص وبالهدى هدى خاص فقيل: إن المراد بالعلم العلم الضروري وبالهدى الاستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة وبالكتاب المنير الوحي السماوي المظهر للحق.
وفيه أن تقييد العلم بالضروري وهو البديهي لا دليل عليه. على أن الجدال سواء كان المراد به مطلق الإِصرار في البحث أو الجدل المصطلح وهو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات من طرق الاستدلال ولا استدلال على ضروري البتة.
ويمكن أن يكون المراد بالعلم ما تفيده الحجة العقلية، وبالهدى ما تفيضه الهداية الإِلهية لمن أخلص لله في عبادته وعبوديته فاستنار قلبه بنور معرفته أو بالعكس بوجه وبالكتاب المنير الوحي الإِلهي من طريق النبوه، وتلك طرق ثلاث إلى مطلق العلم: العقل والبصر والسمع وقد اشار تعالى إليها في قوله:
{ { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أُولئك كان عنه مسئولاً } [الإسراء: 36] والله أعلم.
قوله تعالى: { ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله } إلى آخر الآية، الثني الكسر والعطف بكسر العين الجانب، وثني العطف كناية عن الإِعراض كأن المعرض يكسر أحد جانبيه على الآخر.
وقوله: { ليضل عن سبيل الله } متعلق بقوله: { يجادل } واللام للتعليل أي يجادل في الله بجهل منه مظهر للإِعراض والاستكبار ليتوصل بذلك إلى إضلال الناس وهؤلاء هم الرؤساء المتبوعون من المشركين.
وقوله: { له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } تهديد بالخزي - وهو الهوان والذلة والفضيحة في الدنيا، وإلى ذلك آل أمر صناديد قريش وأكابر مشركي مكة، وإيعاد بالعذاب في الآخرة.
قوله تعالى: { ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد } إشارة إلى ما تقدم في الآية السابقة من الإِيعاد بالخزي والعذاب، والباء في { بما قدمت } للمقابلة كقولنا بعت هذا بهذا أو للسببية أي إن الذي تشاهده من الخزي والعذاب جزاء ما قدمت يداك أو بسبب ما قدمت يداك من المجادلة في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب معرضاً مستكبراً لإِضلال الناس وفي الكلام التفات من الغيبه إلى الخطاب لتسجيل اللوم والعتاب.
وقوله: { وأن الله ليس بظلام للعبيد } معطوف على { ما قدمت } أي ذلك لأن الله لا يظلم عباده بل يعامل كلا منهم بما يستحقه بعمله ويعطيه ما يسأله بلسان حاله.
قوله تعالى: { ومن الناس من يعبد الله على حرف } إلى آخر الآية الحرف والطرف والجانب بمعنى، والاطمئنان: الاستقرار والسكون، والفتنة - كما قيل - المحنة والانقلاب الرجوع.
وهذا صنف آخر من الناس غير المؤمنين الصالحين وهو الذي يعبد الله سبحانه بانياً عبادته على جانب واحد دون كل جانب وعلى تقدير لا على كل تقدير وهو جانب الخير ولازمه استخدام الدين للدنيا فإن أصابه خير استقر بسبب ذلك الخير على عبادة الله واطمأن إليها، وأن أصابته فتنة ومحنة انقلب ورجع على وجهه من غير أن يلتفت يميناً وشمالاً وارتد عن دينه تشؤماً من الدين أو رجاء أن ينجو بذلك من المحنة والمهلكة وكان ذلك دأبهم في عبادتهم الأصنام فكانوا يعبدونها لينالوا بذلك الخير أو ينجو من الشر بشفاعتهم في الدنيا وأما الآخرة فما كانوا يقولون بها فهذا المذبذب المنقلب على وجهه خسر الدنيا بوقوعه في المحنة والمهلكة، وخسر الآخرة بانقلابه عن الدين على وجهه وارتداده وكفره ذلك هو الخسران المبين.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية، وعليه فقوله: { يعبد الله على حرف } من قبيل الاستعارة بالكناية، وقوله: { فإن أصابه خير } الخ. تفسير لقوله: { يعبد الله على حرف } وتفصيل له، وقوله: { خسر الدنيا } أي بإصابة الفتنة وقوله: { والآخرة } أي بإنقلابه على وجهه.
قوله تعالى: { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد } المدعو هو الصنم فإنه لفقده الشعور والإِرادة لا يتوجه منه إلى عابده نفع أو ضرر والذي يصيب عابده من ضرر وخسران فإنما يصيبه من ناحية العبادة التى هي فعل له منسوب إليه.
قوله تعالى: { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير } المولى الولي الناصر والعشير الصاحب المعاشر.
ذكروا في تركيب جمل الآية أن { يدعوا } بمعنى يقول، وقوله: { لمن ضره أقرب من نفعه } الخ. مقول القول، و { لمن } مبتدأ دخلت عليه لام الابتداء وهو موصول صلته { ضره أقرب من نفعه }. وقوله: { لبئس المولى ولبئس العشير } جواب قسم محذوف وهو قائم مقام الخبر دال عليه.
والمعنى: يقول هذا الذي يعبد الأصنام يوم القيامة واصفاً لصنمه الذي اتخذه مولى وعشيراً، الصنم الذي ضره أقرب من نفعه مولى سوء وعشير سوء أُقسم لبئس المولى ولبئس العشير.
وإنما يعد ضره أقرب من نفعه لما يشاهد يوم القيامة ما تستتبعه عبادته له من العذاب الخالد والهلاك المؤبد.
قوله تعالى: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } الخ. لما ذكر الأصناف الثلاثة من الكفار وهم الأئمة المتبوعون المجادلون في الله بغير علم والمقلدة التابعون لكل شيطان مريد المجادلون كأئمتهم والمذبذبون العابدون لله على حرف، ووصفهم بالضلال والخسران قابلهم بهذا الصنف من الناس وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ووصفهم بكريم المثوى وحسن المنقلب وأن الله يريد بهم ذلك.
وذكر هؤلاء الأصناف كالتوطئة لما سيذكر من القضاء بينهم وبيان حالهم تفصيلاً.
قوله تعالى: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ } قال في المجمع: السبب كل ما يتوصل به إلى الشيء ومنه قيل للحبل سبب وللطريق سبب وللباب سبب انتهى و المراد بالسبب في الآية الحبل، والقطع معروف ومن معانيه الاختناق يقال: قطع أي اختنق وكأنه مأخوذ من قطع النفس.
قالوا: إن الضمير في { لن ينصره الله } للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أن مشركي مكة كانوا يظنون أن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدين أُحدوثه كاذبة لا تبتني على أصل عريق فلا يرتفع ذكره، ولا ينتشر دينه، وليس له عند الله منزلة حتى إذا هاجر صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فنصره الله سبحانه فبسط دينه ورفع ذكره غاظهم ذلك غيظاً شديداً فقرعهم الله سبحانه بهذه الآية وأشار بها إلى أن الله ناصره ولن يذهب غيظهم ولو خنقوا أنفسهم فلن يؤثر كيدهم أثراً.
والمعنى: من كان يظن من المشركين أن لن ينصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا برفع الذكر وبسط الدين وفي الآخرة بالمغفرة والرحمة له وللمؤمنين به ثم غاظه ما يشاهده اليوم من نصر الله له فليمدد بحبل إلى السماء - كأن يربط طرف الحبل على جذع عال ونحوه - ثم ليختنق به فلينظر هل يذهبن كيده وحيلته هذا ما يغيظ أي غيظة.
وهذا معنى حسن يؤيده سياق الآيات السابقة وما استفدناه سابقاً من نزول السورة بعد الهجرة بقليل ومشركوا مكة بعد على قدرتهم وشوكتهم.
وذكر بعضهم: أن ضمير { لن ينصره } عائد إلى { من } ومعنى القطع قطع المسافة والمراد بمد سبب إلى السماء الصعود عليها لإِبطال حكم الله، والمعنى من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليصعد السماء بسبب يمده ثم ليقطع المسافة ولينظر هل يذهب كيده ما يغيظه من حكم.
ولعل هؤلاء يعنون أن المراد بالآية أن من الواجب على الإِنسان أن يرجو ربه في دنياه وآخرته وإن لم يرجه وظن أن لن ينصره الله فيهما وغاظه ذلك فليكد ما يكيد فإنه لا ينفعه.
وذكر آخرون أن الضمير للموصول كما في القول السابق، والمراد بالنصر الرزق كما يقال: أرض منصورة أي ممطورة والمعنى كما في القول الأول.
وهذا أقرب إلى الاعتبار من سابقة وأحسن لكن يرد على الوجهين جميعاً لزوم انقطاع الآية عما قبلها من الآيات. على أن الأنسب على هذين الوجهين في التعبير أن يقال: من ظن أن لن ينصره الله "الخ". لا أن يقال: { من كان يظن } الظاهر في استمرار الظن منه في الماضي فإنه يؤيد القول الأول.
قوله تعالى: { وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد } قد تقدم مراراً أن هذا من تشبيه الكلي بفرده بدعوى البينونة للدلاله على أن ما في الفرد من الحكم جار في باقي أفراده كمن يشير إلى زيد وعمرو وهما يتكلمان ويمشيان على قدميهما ويقول كذلك يكون الإِنسان أي حكم التكلم والمشي على القدمين جار في جميع الأفراد فمعنى قوله: { وكذلك أنزلناه آيات بينات } أنزلنا القرآن وهو آيات واضحة الدلالات كما في الآيات السابقة من هذه السورة.
وقوله: { وأن الله يهدي من يريد } خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الله يهدي من يريد وأما من لم يرد أن يهديه فلا هادي له فمجرد كون الآيات بينات لا يكفي في هداية من سمعها أو تأمل فيها ما لم يرد الله هدايته.
وقيل: الجملة معطوفة على ضمير { أنزلناه } والتقدير وكذلك أنزلنا أن الله يهدي من يريد، والوجه الأول أوضح اتصالاً بأول الآية وهو ظاهر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { ويتبع كل شيطان مريد } قال: المريد الخبيث.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي زيد في قوله: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } قال نزلت في النضر بن الحارث.
أقول: ورواه أيضاً عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح والظاهر أنه من التطبيق كما هو دأبهم في غالب الروايات المتعرضة لأسباب النزول، وعلى ذلك فالقول بنزول الآية الآتية: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى } الآية فيه كما نقل عن مجاهد أولى من القول بنزول هذه الآية فيه لأن الرجل من معاريف القوم وهذه الآية كما تقدم في الاتباع والآية الأُخرى في المتبوعين.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { مخلقه وغير مخلقة } قال: المخلقه إذا صارت تاماً و { غير مخلقة } قال: السقط.
وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإِيمان عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو الصادق المصدق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أُمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
أقول: والرواية مروية بطرق أُخرى عنه وعن ابن عباس وأنس وحذيفة بن أسيد، وفي متونها بعض الاختلاف وفي بعضها - وهو ما رواه ابن جرير عن ابن مسعود - يقال للملك: انطلق إلى أُم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها، الحديث.
وقد ورد من طرق الشيعة عن أئمه أهل البيت عليهم السلام ما يقرب من ذلك كما في قرب الإِسناد للحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام وفيه: فإذا تمت الأربعة الأشهر بعث الله تبارك وتعالى إليها ملكين خلاقين يصورانه ويكتبان رزقه وأجله وشقياً أو سعيداً. الحديث.
وقد قدمنا في تفسير أول سورة آل عمران حديث الكافي عن الباقر عليه السلام في تصوير الجنين وكتابة ما قدر له وفيه أن الملكين يكتبان جميع ما قدر له عن لوح يقرع جبهة أُمه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان، الحديث وفي معناه غيره.
ومقتضى هذا الحديث وما في معناه جواز التغير فيما كتب للولد من كتابة كما أن مقتضى ما تقدم خلافه لكن لا تنافي بين المدلولين فإن لكل شيء ومنها الإِنسان نصيباً في اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغير والتبدل إلى ما كتب فيه ونصيباً من لوح المحو والإِثبات الذي يقبل التغير والتبدل فالقضاء قضاءان محتوم وغير محتوم، قال تعالى:
{ { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب } [الرعد: 39]. وقد تقدم الكلام في معنى القضاء واتضح به أن لوح القضاء كائناً ما كان ينطبق على نظام العلية والمعلولية وينحل إلى سلسلتين: سلسلة العلل التامة ومعلولاتها ولا تقبل تغييراً وسلسلة العلل الناقصة مع معاليلها وهي القابلة وكأن الصنف الأول من الروايات يشير إلى ما يقضى للجنين من قضاء محتوم والثاني إلى غيره وقد بينا أيضاً فيما تقدم أن حتمية القضاء لفعل العبد لا تنافي اختيارية الفعل فتذكر.
وفي الكافي بإسناده عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: { مخلقة وغير مخلقة } قال: المخلقة هم الذر الذين خلقهم الله في صلب آدم عليه السلام، أخذ عليهم الميثاق ثم أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء وهم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. وأما قوله: { وغير مخلقة } فهم كل نسمة لم يخلقهم الله عز وجل في صلب آدم حين خلق الذر وأخذ عليهم الميثاق، وهم النطف من العزل والسقط قبل أن ينفخ فيه الروح والحياة والبقاء.
أقول: وقد تقدم توضيح معنى الحديث في البحث الروائي المتعلق بأيه الذر في سورة الأعراف. وفي تفسير القمي بإسناده عن علي بن المغيرة عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر.
أقول: وقد تقدم بعض الروايات في هذا المعنى في تفسير سورة النحل في ذيل الآية 70.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير فأنزل الله: { ومن الناس من يعبد الله على حرف }.
أقول: وهذا المعنى مروي عنه أيضاً بغير هذا الطريق.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: { ومن الناس من يعبد الله على حرف } قال: نعم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله فخرجوا من الشرك ولم يعرفوا أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله فهم يعبدون الله على شك في محمد وما جاء به فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنه صادق وأنه رسول الله: وإن كان غير ذلك نظرنا.
قال الله عز وجل: { فإن أصابه خير أطمأن به } يعني عافية في الدنيا { وإن أصابته فتنه } يعني بلاء في نفسه { انقلب على وجهه } انقلب على شكه إلى الشرك { خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه } قال: ينقلب مشركاً يدعو غير الله ويعبد غيره. الحديث.
أقول: ورواه الصدوق في التوحيد باختلاف يسير.
وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: { من كان يظن أن لن ينصره الله } قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً في الدنيا والآخرة { فليمدد بسبب } قال: فليربط حبلاً { إلى السماء } قال: إلى سماء بيته السقف { ثم ليقطع } قال ثم يختنق به حتى يموت.
أقول: هو وإن كان تفسيراً منه لكنه في معنى سبب النزول ولذلك أوردناه.