التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٥٨
وَإِذَا بَلَغَ ٱلأَطْفَالُ مِنكُمُ ٱلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٥٩
وَٱلْقَوَاعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ
٦٠
لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٦١
إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٦٢
لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦٣
أَلاۤ إِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ
٦٤
-النور

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
بقية الأحكام المذكورة في السورة وتختتم السورة بآخر الآيات وفيها إشارة إلى أن الله سبحانه إنما يشرّع بعلمه، وسيظهر وسينكشف لهم حقيقته حين يرجعون إليه.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } إلى آخر الآية. وضع الثياب خلعها وهو كناية عن كونهم على حال ربما لا يحبون أن يراهم عليها الأجنبي. والظهيرة وقت الظهر، والعورة السوأة سمّيت بها لما يلحق الإِنسان من انكشافها من العار وكأن المراد بها في الآية ما ينبغي ستره.
فقوله: { يا أيها الذين آمنوا } الخ، تعقيب لقوله سابقاً: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا } الخ، القاضي بتوقف دخول البيت على الإِذن وهو كالاستثناء من عمومه في العبيد والأطفال بأنه يكفيهم الاستيذان ثلاث مرات في اليوم.
وقوله: { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } أي مُروهم أن يستأذنوكم للدخول، وظاهر الذين ملكت أيمانكم العبيد دون الإِماء وإن كان اللفظ لا يأبى عن العموم بعناية التغليب، وبه وردت الرواية كما سيجيء.
وقوله: { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } يعني المميّزين من الأطفال قبل البلوغ، والدليل على تقيّدهم بالتمييز قوله بعد: { ثلاث عورات لكم }.
وقوله: { ثلاث مرات } أي كل يوم بدليل تفصيله بقوله: { من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة } أي وقت الظهر { ومن بعد صلاة العشاء }، وقد أشار إلى وجه الحكم بقوله: { ثلاث عورات لكم } أي الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم لا ينبغي بالطبع أن يطلع عليكم فيها غيركم.
وقوله: { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } أي لا مانع لكم من أن لا تأمروهم بالاستيذان ولا لهم من أن لا يستأذنوكم في غير هذه الأوقات، وقد أشار إلى جهة نفي الجناح بقوله: { طوّافون عليكم بعضكم على بعض } أي هم كثير الطوف عليكم بعضكم يطوف على بعض للخدمة فالاستيذان كلما دخل حرج عادة فليكتفوا فيه بالعورات الثلاث.
ثم قال: { كذلك يبيّن الله لكم الآيات } أي أحكام دينه التي هي آيات دالَّة عليه { والله عليم } يعلم أحوالكم وما تستدعيه من الحكم { حكيم } يراعي مصالحكم في أحكامه.
قوله تعالى: { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } الخ، بيان أن حكم الاستيذان ثلاث مرات في الأطفال مغيّى بالبلوغ فإذا بلغ الأطفال منكم الحلم بأن بلغوا فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم وهم البالغون من الرجال والنساء الأحرار { كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم }.
قوله تعالى: { والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً } إلى آخر الآية. القواعد جمع قاعدة وهي المرأة التي قعدت عن النكاح فلا ترجوه لعدم الرغبة في مباشرتها لكبرها، فقوله: { اللاتي لا يرجون نكاحاً } وصف توضيحي، وقيل: هي التي يئست من الحيض، والوصف احترازي.
وفي المجمع: التبرُّج إظهار المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره، وأصله الظهور ومنه البرج البناء العالي لظهوره.
والآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب، والمعني: والكبائر المسنّة من النساء فلا بأس عليهن أن لا يحتجبن حال كونهن غير متبرّجات بزينة.
وقوله: { وأن يستعففن خير لهن } كناية عن الاحتجاب أي الاحتجاب خير لهن من وضع الثياب، وقوله: { والله سميع عليم } تعليل لما شرع بالاسمين أي هو تعالى سميع يسمع ما يسألنه بفطرتهن عليم يعلم ما يحتجن إليه من الأحكام.
قوله تعالى: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } إلى قوله { أو صديقكم } ظاهر الآية أن فيها جعل حق للمؤمنين أن يأكلوا من بيوت قراباتهم أو التي ائتمنوا عليها أو بيوت أصدقائهم فهم مأذونون في أن يأكلوا منها بمقدار حاجتهم من غير إسراف وإفساد.
فقوله: { ليس على الأعمى حرج } إلى قوله { ولا على أنفسكم } في عطف { على أنفسكم } على ما تقدمه دلالة أن عدّ المذكورين ليس لاختصاص الحق بهم بل لكونهم أرباب عاهات يشكل عليهم أن يكتسبوا الرزق بعمل أنفسهم أحياناً وإلا فلا فرق بين الأعمى والأعرج والمريض وغيرهم في ذلك.
وقوله: { من بيوتكم أو بيوت آبائكم } الخ، في عدّ { بيوتكم } مع بيوت الأقرباء وغيرهم إشارة إلى نفي الفرق في هذا الدين المبني على كون المؤمنين بعضهم أولياء بعض بين بيوتهم أنفسهم وبيوت أقربائهم وما ملكوا مفاتحه وبيوت أصدقائهم.
على أن { بيوتكم } يشمل بيت الابن والزوج كما وردت به الرواية، وقوله: { أو ما ملكتم مفاتحه } المفاتح جمع مفتح وهو المخزن، والمعنى: أو البيت الذي ملكتم أي تسلّطتم على مخازنه التي فيها الرزق كما يكون الرجل قيّماً على بيت أو وكيلاً أو سُلِّم إليه مفتاحه.
وقوله: { أو صديقكم } معطوف على ما تقدمه بتقدير بيت على ما يعلم من سياقه، والتقدير أو بيت صديقكم.
قوله تعالى: { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً } الأشتات جمع شت وهو مصدر بمعنى التفرُّق استعمل بمعنى المتفرق مبالغة ثم جمع أو صفة بمعنى المتفرق كالحق، والمعنى: لا إثم عليكم إن تأكلوا مجتمعين وبعضكم مع بعض أو متفرقين، والآية عامة وإن كان نزولها لسبب خاص كما روي.
وللمفسرين في هذا الفصل من الآية وفي الفصل الذي قبلها اختلافات شديدة رأينا الصفح عن إيرادها والغور في البحث عنها أولى، وما أوردناه من المعنى في الفصلين هو الذي يعطيه سياقهما.
قوله تعالى: { فإذا دخلتم بيوتاً فسلِّموا على أنفسكم تحيَّةً من عند الله مباركة طيبة } الخ، لما تقدم ذكر البيوت فرّع عليه ذكر أدب الدخول فيها فقال: { فإذا دخلتم بيوتاً }.
فقوله: { فسلّموا على أنفسكم } المراد فسلِّموا على من كان فيها من أهلها وقد بدّل من قوله: { على أنفسكم } للدلالة على أن بعضهم من بعض فإن الجميع إنسان وقد خلقهم الله من ذكر وأُنثى على أنهم مؤمنون والإِيمان يجمعهم ويوحّدهم أقوى من الرحم وأي شيء آخر.
وليس ببعيد أن يكون المراد بقوله: { فسلِّموا على أنفسكم } أن يسلِّم الداخل على أهل البيت ويرد السلام عليه.
وقوله: { تحية من عند الله مباركة طيبة } أي حال كون السلام تحية من عند الله شرَّعها الله وأنزل حكمها ليحيّي بها المسلمون وهو مبارك ذو خير كثير باق وطيّب يلائم النفس فإن حقيقة هذه التحية بسط الأمن والسلامة على المسلّم عليه وهو أطيب أمر يشترك فيه المجتمعان.
ثم ختم سبحانه الآية بقوله: { كذلك يبيِّن الله لكم الآيات } وقد مرَّ تفسيره { لعلكم تعقلون } أي تعلموا معالم دينكم فتعملوا بها كما قيل.
قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } ذكر قوله { الذين آمنوا بالله ورسوله } بياناً للمؤمنين على ظهور معناه للدلالة على اتصافهم بحقيقة المعنى أي إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله بحقيقة الإِيمان وأيقنوا بتوحّده تعالى واطمأنَّت نفوسهم وتعلَّقت قلوبهم برسوله.
ولذلك عقّبه بقوله: { وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } والأمر الجامع هو الذي يجمع الناس للتدبُّر في أطرافه والتشاور والعزم عليه كالحرب ونحوها.
والمعنى: وإذا كانوا مع الرسول بالاجتماع عنده على أمر من الأمور العامة لم يذهبوا ولم ينصرفوا من عند الرسول حتى يستأذنوه للذهاب.
ولذلك أيضاً عقَّبه بقوله: { إن الذين يستأذنونك أُولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله } وهو بمنزلة عكس صدر الآية للدلالة على الملازمة وعدم الانفكاك.
وقوله: { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } تخيير منه تعالى لرسوله في أن يأذن لمن شاء ولا يأذن لمن لم يشأ.
وقوله: { واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم } أمر له بالاستغفار لهم تطييباً لنفوسهم ورحمة بهم.
قوله تعالى: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } إلى آخر الآية، دعاء الرسول هو دعوته الناس إلى أمر من الأمور كدعوتهم إلى الإِيمان والعمل الصالح، ودعوتهم ليشاورهم في أمر جامع، ودعوتهم إلى الصلاة جامعة، وأمرهم بشيء في أمر دنياهم أو أُخراهم فكل ذلك دعاء ودعوة منه صلى الله عليه وآله وسلم.
ويشهد بهذا المعنى قوله ذيلاً: { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً } وما يتلوه من تهديد مخالفي أمره صلى الله عليه وآله وسلم كما لا يخفى. وهو أنسب لسياق الآية السابقة فإنها تمدح الذين يلبُّون دعوته ويحضرون عنده ولا يفارقونه حتى يستأذنوه وهذه تذمّ وتهدّد الذين يدعوهم فيتسللون عنه لواذاً غير مهتمّين بدعائه ولا معتنين.
ومن هنا يعلم عدم استقامة ما قيل: إن المراد بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم خطابه فيجب أن يفخّم ولا يساوى بينه وبين غيره من الناس فلا يقال له: يا محمد ويا ابن عبد الله، بل: يا رسول الله.
وكذا ما قيل: إن المراد بالدعاء دعاؤه عليهم لو أسخطوه فهو نهي عن التعرُّض لدعائه عليهم بإسخاطه فإن الله تعالى لا يردُّ دعاءه هذا، وذلك لأن ذيل الآية لا يساعد على شيء من الوجهين.
وقوله: { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً } التسلل: الخروج من البين برفق واحتيال من سلّ السيف من غمده، واللواذ: الملاوذة وهو أن يلوذ الإِنسان ويلتجئ إلى غيره فيستتر به، والمعنى: أن الله يعلم منكم الذين يخرجون من بين الناس والحال أنهم يلوذون بغيرهم ويستترون به فينصرفون فلا يهتمُّون بدعاء الرسول ولا يعتنون به.
قوله: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } ظاهر سياق الآية بما تقدم من المعنى أن ضمير { عن أمره } للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو دعاؤه، ففي الآية تحذير لمخالفي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته من أن تصيبهم فتنة وهي البليّة أو يصيبهم عذاب أليم.
وقيل: ضمير { عن أمره } راجع إلى الله سبحانه، والآية وإن لم يقع فيها أمر منه تعالى لكن نهيه المذكور بقوله: { لا تجعلوا دعاء الرسول } الخ، في معنى أجيبوا دعاء الرسول، وهو أمر، وأول الوجهين أوجه.
قوله تعالى: { ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه } اختتام للسورة ناظر إلى قوله في مفتتحها: { سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بيّنات } فما في مختتمها كالتعليل لما في مفتتحها.
فقوله: { ألا إن لله ما في السماوات والأرض } بيان لعموم الملك وأن كل شيء مملوك لله سبحانه قائم به فهي معلومة له بجميع خصوصيات وجودها فيعلم ما تحتاج إليه، والناس من جملة ما يعلم بحقيقة حاله وما يحتاج إليه فالذي يشرّعه لهم من الدين مما يحتاجون إليه في حياتهم كما أن ما يرزقهم من المعيشة مما يحتاجون إليه في بقائهم.
فقوله: { قد يعلم ما أنتم عليه } - أي من حقيقة الحال المنبئة عن الحاجة - بمنزلة النتيجة المترتبة على الحجة أي ملكه لكم ولكل شيء يستلزم علمه بحالكم وبما تحتاجون إليه من شرائع الدين فيشرّعه لكم ويفرضه عليكم.
وقوله: { ويوم يرجعون إليه فينبّئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم } معطوف على قوله: { ما أنتم عليه } أي ويعلم يوماً يرجعون إليه وهو يوم القيامة فيخبرهم بحقيقة ما عملوا والله بكل شي عليم.
وفي هذا الذيل حث على الطاعة والانقياد لما شرّعه وفرضه من الأحكام والعمل به من جهة أنه سيخبرهم بحقيقة ما عملوا به كما أن في الصدر حثاً على القبول من جهة أن الله إنما شرّعها لعلمه بحاجتهم إليها وأنها التي ترفع بها حاجتهم.
(بحث روائي)
في الدرّ المنثور في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم } الآية، أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آية لم يؤمن بها أكثر الناس آية الإِذن، وإني لآمر جاريتي هذه - لجارية قصيرة قائمه على رأسه - أن تستأذن عليّ.
وفي تفسير القمي في الآية قال: إن الله تبارك وتعالى نهى أن يدخل أحد في هذه الثلاثة الأوقات على أحد لا أب ولا أُخت ولا أُم ولا خادم إلا بإذن، والأوقات بعد طلوع الفجر ونصف النهار وبعد العشاء الآخرة. ثم أطلق بعد هذه الثلاثة الأوقات فقال: { ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن } يعني بعد هذا الثلاثة الأوقات { طوّافون عليكم بعضكم على بعض }.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { ملكت أيمانكم } قال: هي خاصة في الرجال دون النساء. قلت: فالنساء يستأذنّ في هذه الثلاث ساعات؟ قال: لا ولكن يدخلن ويخرجن { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } قال: من أنفسكم، قال عليكم استيذان كاستيذان من قد بلغ في هذه الثلاث ساعات.
أقول: وروى فيه روايات أُخرى غيرها في كون المراد بالذين ملكت أيمانكم الذكور دون الإِناث عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام.
وفي المجمع في الآية: معناه مروا عبيدكم وإماءكم أن يستأذنوا عليك أذا أرادوا الدخول إلى موضع خلواتكم عن ابن عباس وقيل: أراد العبيد خاصة عن ابن عمر وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
أقول: وبهذه الأخبار وبظهور الآية يضعف ما رواه الحاكم عن علي عليه السلام في الآية قال: النساء فإن الرجال يستأذنون.
وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنما هي في كتاب الله العشاء وإنما يعتم بحلاب الإِبل"
]. أقول: وروى مثله عن عبد الرحمن بن عوف ولفظه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يغلبنَّكم الأعراب على اسم صلاتكم قال الله: { ومن بعد صلاة العشاء } وإنما العتمة عتمة الإِبل"
]. وفي الكافي بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قرأ { أن يضعن من ثيابهم } قال: الجلباب والخمار إذا كانت المرأة مسنّة.
أقول وفي معناه أخبار أُخر.
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحّاك قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ولا أعرج لأن الأعمى لا يبصر طيّب الطعام، والمريض لا يستوفي الطعام كما يستوفي الصحيح، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مواكلتهم.
وفيه أخرج الثعلبي عن ابن عباس قال: خرج الحارث غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلَّف على أهله خالد بن زيد فحرج أن يأكل من طعامه وكان مجهوداً فنزلت.
وفيه أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى أن كان الرجل يسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله: { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً }.
أقول: وفي معنى هذه الروايات روايات أُخر.
وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم } قال: هؤلاء الذين سمَّى الله عز وجل في هذه الآية يأكل بغير إذنهم من التمر والمأدوم وكذلك تطعم المرأة من منزل وجها بغير إذنه فأما ما خلا ذلك من الطعام فلا.
وفيه بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل:
"أنت ومالك لأبيك" ، ثم قال أبو جعفر عليه السلام: وما أُحب له أن يأخذ من مال ابنه إلا ما احتاج إليه مما لا بد له منه إن الله لا يحب الفساد.
وفيه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل لابنه مال فيحتاج الأب قال: يأكل منه فأما الأم فلا تأكل منه إلا قرضاً على نفسها.
وفيه بإسناده عن جميل بن درّاج عن أبي عبد الله عليه السلام قال: للمرأة أن تأكل وأن تصدّق وللصديق أن يأكل من منزل أخيه ويتصدق.
وفيه بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: { أو ما ملكتم مفاتحه } قال الرجل يكون له وكيل يقوم في ماله فيأكل بغير إذنه.
وفي المجمع في قوله تعالى: { أن تأكلوا من بيوتكم } وقيل: معناه من بيوت أولادكم ويدل عليه قوله عليه السلام: أنت ومالك لأبيك. وقوله عليه السلام: إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه.
أقول: وفي هذه المعاني روايات كثيرة أُخرى.
وفي المعاني بإسناده عن أبي الصباح قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } الآية فقال: هو تسليم الرجل على أهل البيت حين يدخل ثم يردون عليه فهو سلامكم على أنفسكم.
أقول: وقد تقدمت الإِشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآية.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين } إلى قوله { حتى يستأذنوه } فإنها نزلت في قوم كانوا إذا جمعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمر من الأمور في بعث يبعثه أو حرب قد حضرت يتفرقون بغير إذنه فنهاهم الله عز وجل عن ذلك.
وفيه في قوله تعالى: { فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم } قال: نزلت في حنظلة بن أبي عياش وذلك أنه تزوج في الليلة التي كان في صبيحتها حرب أحد فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقيم عند أهله فأنزل الله عز وجل هذه الآية { فأذن لمن شئت منهم } فأقام عند أهله ثم أصبح وهو جنب فحضر القتال فاستشهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"رأيت الملائكة تغسل حنظلة بماء المزن في صحائف فضة بين السماء والأرض فكان يسمّى غسيل الملائكة"
]. وفيه في قوله تعالى: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } قال: لا تدعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يدعو بعضكم بعضاً، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عز وجل: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً }، يقول: لا تقولوا: يا محمد ولا يا أبا القاسم لكن قولوا: يا نبي الله ويا رسول الله.
أقول وروي مثله عن ابن عباس، وقد تقدم أن ذيل الآية لا يلائم هذا المعنى تلك الملاءمة.