التفاسير

< >
عرض

وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيۤ أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
٢٢
وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ ٱلنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ ٱلرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ
٢٣
فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ
٢٤
فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى ٱسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ ٱلْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّالِمِينَ
٢٥
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يٰأَبَتِ ٱسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ٱسْتَئْجَرْتَ ٱلْقَوِيُّ ٱلأَمِينُ
٢٦
قَالَ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
٢٧
قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ
٢٨
-القصص

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
فصل ثالث من قصته عليه السلام يذكر فيه خروجه من مصر إلى مدين عقيب قتله القبطي خوفاً من فرعون وتزوّجه هناك بابنة شيخ كبير لم يسمَّ في القرآن لكن تذكر روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وبعض روايات أهل السنة أنه هو شعيب النبي المبعوث إلي مدين.
قوله تعالى: { ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } قال في المجمع: تلقاء الشيء حذاؤه، ويقال: فعل ذلك من تلقاء نفسه أي من حذاء داعي نفسه. وقال: سواء السبيل وسط الطريق انتهى.
ومدين - على ما في مراصد الاطلاع - مدينة قوم شعيب وهي تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل وهي أكبر من تبوك وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب عليهما السلام انتهى، ويقال: إنه كان بينهما وبين مصر مسيرة ثمان وكانت خارجة من سلطان فرعون ولذا توجه إليها.
والمعنى: ولما صرف وجهه بعد الخروج من مصر حذاء مدين قال: أرجو من ربي أن يهديني وسط الطريق فلا أضل بالعدول عنه والخروج منه إلى غيره.
والسياق - كما ترى - يعطي أنه عليه السلام كان قاصداً لمدين وهو لا يعرف الطريق الموصلة إليها فترجى أن يهديه ربه.
قوله تعالى: { ولما ورد ماء مدين وجد عليه أُمة من الناس يسقون } الخ الذود الحبس والمنع، والمراد بقوله: { تذودان } أنهما يحبسان أغنامهما من أن ترد الماء أو تختلط بأغنام القوم كما أن المراد بقوله: { يسقون } سقيهم أغنامهم ومواشيهم، والرعاء جمع الراعي وهو الذي يرعى الغنم.
والمعنى: ولما ورد موسى ماء مدين وجد على الماء جماعة من الناس يسقون أغنامهم ووجد بالقرب منهم مما يليه امرأتين تحبسان أغنامهما وتمنعانها أن ترد المورد قال موسى مستفسراً عنهما - حيث وجدهما تذودان الغنم وليس على غنمهما رجل -: ما شأنكما؟ قالتا لا نسقي غنمنا أي عادتنا ذلك حتى يصدر الراعون ويخرجوا أغنامهم وأبونا شيخ كبير - لا يقدر أن يتصدى بنفسه أمر السقي ولذا تصدينا الأمر.
قوله تعالى: { فسقى لهما ثم تولى إلى الظل وقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } فهم عليه السلام من كلامهما أن تأخرهما في السقي نوع تعفف وتحجب منهما وتعد من الناس عليهما فبادر إلى ذلك وسقى لهما.
وقوله: { ثم تولى إلى الظل وقال رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير } أي انصرف إلى الظل ليستريح فيه والحر شديد وقال ما قال، وقد حمل الأكثرون قوله: { ربِّ إني لما أنزلت } الخ على سؤال طعام يسدُّ به الجوع، وعليه فالأولى أن يكون المراد بقوله { ما أنزلت إليّ } القوة البدنية التي كان يعمل بها الأعمال الصالحة التي فيها رضى الله كالدفاع عن الإِسرائيلي والهرب من فرعون بقصد مدين وسقي غنم شعيب واللام في { لما أنزلت } بمعنى إلى وإظهار الفقر إلى هذه القوة التي أنزلها الله إليه من عنده بالإِفاضة كناية عن إظهار الفقر إلى شيء من الطعام تستبقى به هذه القوة النازلة الموهوبة.
ويظهر منه أنه عليه السلام كان ذا مراقبة شديدة في أعماله فلا يأتي بعمل ولا يريده وإن كان مما يقتضيه طبعه البشري إلا ابتغاء مرضاة ربه وجهاداً فيه، وهذا ظاهر بالتدبر في القصة فهو القائل لما وكز القبطي: رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين ثم القائل لما خرج من مصر خائفاً يترقب: { رب نجني من القوم الظالمين } ثم القائل لما أخذ في السلوك: { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } ثم القائل لما سقى وتولى إلي الظل: { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } ثم القائل لما آجر نفسه شعيباً وعقد على بنته: { والله على ما نقول وكيل }.
وما نقل عن بعضهم أن اللام في { لما أنزلت } للتعليل، وكذا قول بعضهم إن المراد بالخير خير الدين وهو النجاة من الظالمين بعيد مما يعطيه السياق.
قوله تعالى: { فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } إلى آخر الآية. ضمير إحداهما للمرأتين، وتنكير الاستحياء للتفخيم والمراد بكون مشيها على استحياء ظهور التعفف من مشيتها، وقوله: { ليجزيك أجر ما سقيت لنا } ما مصدرية أي ليعطيك جزاء سقيك لنا، وقوله: { فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف } الخ يلوّح إلى أن شعيباً استفسره حاله فقص عليه قصته فطيّب نفسه بأنه نجى منهم إذ لا سلطان لهم على مدين.
وعند ذلك تمت استجابته تعالى لموسى عليه السلام أدعيته الثلاثة فقد كان سأل الله تعالى عند خروجه من مصر أن ينجيه من القوم الظالمين فأخبره شعيب عليه السلام بالنجاة وترجَّى أن يهديه سواء السبيل وهو في معنى الدعاء فورد مدين، وسأله الرزق فدعاه شعيب ليجزيه أجر ما سقى وزاد تعالى فكفاه رزق عشر سنين ووهب له زوجاً يسكن إليها.
قوله تعالى: { قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } إطلاق الاستيجار يفيد أن المراد استخدامه لمطلق حوائجه التي تستدعي من يقوم مقامه وإن كانت العهدة باقتضاء المقام رعي الغنم.
وقوله: { إن خير من استأجرت } الخ، في مقام التعليل لقوله: { استأجره } وهو من وضع السبب موضع المسبب والتقدير استأجره لأنه قوي أمين وخير من استأجرت هو القوي الأمين.
وفي حكمها بأنه قوي أمين دلالة على أنها شاهدت من نحو عمله في سقي الأغنام ما استدلت به على قوته وكذا من ظهور عفته في تكليمهما وسقي أغنامهما ثم في صحبته لها عندما انطلق إلى شعيب حتى أتاه ما استدلت به على أمانته.
ومن هنا يظهر أن هذه القائلة: { يا أبت استأجره } الخ، هي التي جاءته وأخبرته بدعوة أبيها له كما وردت به روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وذهب إليه جمع من المفسرين.
قوله تعالى: { قال إني أُريد أن أُنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } الخ، عرض من شعيب لموسى عليه السلام أن يأجره نفسه ثماني سنين أو عشراً قبال تزويجه إحدى ابنتيه وليس بعقد قاطع ومن الدليل عدم تعيّن المعقودة في كلامه عليه السلام.
فقوله: { إحدى ابنتي هاتين } دليل على حضورهما إذ ذاك، وقوله: { على أن تأجرني ثماني حجج } أي على أن تأجرني نفسك أي تكون أجيراً لي ثماني حجج، والحجج جمع حجة والمراد بها السنة بعناية أن كل سنة فيها حجة للبيت الحرام، وبه يظهر أن حج البيت - وهو من شريعة إبراهيم عليه السلام - كان معمولاً به عندهم.
وقوله: { فإن أتممت عشراً فمن عندك } أي فإن أتممته عشر سنين فهو من عندك وباختيار منك من غير أن تكون ملزماً من عندي.
وقوله: { وما أُريد أن أشق عليك } إخبار عن نحو ما يريده منه من الخدمة وأنه عمل غير موصوف بالمشقة وأنه مخدوم صالح.
وقوله: { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } أي إني من الصالحين وستجدني منهم إن شاء الله فالاستثناء متعلق بوجدان موسى إياه منهم لا بكونه في نفسه منهم.
قوله تعالى: { قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ والله على ما نقول وكيل } الضمير لموسى عليه السلام.
وقوله: { ذلك بيني وبينك } أي ذلك الذي ذكرته وقررته من المشارطة والمعاهدة وعرضته عليَّ ثابت بيننا ليس لي ولا لك أن نخالف ما شارطناه، وقوله: { أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليَّ } بيان للأجل المردد المضروب في كلام شعيب عليه السلام وهو قوله: { ثماني حجج وإن أتممت عشراً فمن عندك } أي لي أن أختار أي الأجلين شئت فإن اخترت الثماني سنين فليس لك أن تعدو عليَّ وتلزمني بالزيادة وإن اخترت الزيادة وخدمتك عشراً فليس لك أن تعدو عليَّ بالمنع من الزيادة.
وقوله: { والله على ما نقول وكيل } توكيل له تعالى فيما يشارطان يتضمن إشهاده تعالى على ما يقولان وإرجاع الحكم والقضاء بينهما إليه لو اختلفا، ولذا اختار التوكيل على الإِشهاد لأن الشهادة والقضاء كليهما إليه تعالى، وهذا كقول يعقوب عليه السلام حين أخذ الموثق من بنيه أن يردوا إليه ابنه فيما يحكيه الله:
{ { فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل } } [يوسف: 66]. (بحث روائي)
في كتاب كمال الدين بإسناده إلى سدير الصيرفي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل: وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقب من مصر بغير ظهر ولا دابة ولا خادم تخفضه أرض وترفعه أُخرى حتى انتهى إلى أرض مدين.
فانتهى إلى أصل شجرة فنزل فإذا تحتها بئر وإذا عندها أُمة من الناس يسقون وإذا جاريتان ضعيفتان وإذا معهما غنيمة لهما قال ما خطبكما قالتا أبونا شيخ كبير ونحن جاريتان ضعيفتان لا نقدر أن نزاحم الرجال فإذا سقى الناس سقينا فرحمهما فأخذ دلوهما فقال لهما: قدّما غنمكما فسقى لهما ثم رجعتا بكرة قبل الناس.
ثم تولى موسى إلى الشجرة فجلس تحتها وقال: { ربّ إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير } فروي أنه قال ذلك وهو محتاج إلى شق تمرة فلما رجعتا إلى أبيهما قال: ما أعجلكما في هذه الساعة؟ قالتا: وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا. فقال لإِحداهما اذهبي فادعيه لي فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا.
فروي أن موسى عليه السلام قال لها: وجهيني إلى الطريق وامشي خلفي فإنا بني يعقوب لا ننظر في أعجاز النساء، فلما جاءه وقصّ عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين.
قال: إني أُريد أن أُنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك فروي أنه قضى أتمهما لأن الأنبياء عليهم السلام لا تأخذ إلا بالفضل والتمام.
أقول: وروي ما في معناه القمي في تفسيره.
وفي الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ حكاية عن موسى عليه السلام: { ربّ إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير } قال: سأل الطعام.
أقول: وروى العياشي عن حفص عنه عليه السلام مثله، ولفظه إنما عنى الطعام وأيضاً عن ليث عن أبي جعفر عليه السلام مثله، وفي نهج البلاغه مثله ولفظه والله ما سأله إلا خبزاً يأكله.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لما سقى موسى للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال: ربّ إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير قال: إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر"
]. وفي تفسير القمي قال: قالت إحدى بنات شعيب: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، فقال لها شعيب عليه السلام: أما قوته فقد عرّفتنيه أنه يستقي الدلو وحده فبم عرفت أمانته؟ فقالت: إنه لما قال لي: تأخري عني ودليني على الطريق فأنا من قوم لا ينظرون في أدبار النساء عرفت أنه ليس من الذين ينظرون أعجاز النساء فهذه أمانته.
أقول: وروى مثله في المجمع عن علي عليه السلام.
وفي المجمع وروى الحسن بن سعيد عن صفوان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: وسائل أيتهما التي قالت: إن أبي يدعوك؟ قال: التي تزوج بها. قيل: فأي الأجلين قضى؟ قال: أوفاهما وأبعدهما عشر سنين. قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: قبل أن ينقضي. قيل له: فالرجل يتزوج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين أيجوز ذلك؟ قال: إن موسى علم أنه سيتم له شرطه. قيل: كيف؟ قال: علم أنه سيبقى حتى يفي.
أقول: وروى قضاء عشر سنين في الدر المنثورعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدة طرق.
وفي تفسير العياشي وقال الحلبي: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن البيت أكان يحج قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم وتصديقه في القرآن قول شعيب حين قال لموسى عليهما السلام حيث تزوج: { على أن تأجرني ثماني حجج } ولم يقل ثماني سنين.