التفاسير

< >
عرض

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ ٱلْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِٱلْعُصْبَةِ أُوْلِي ٱلْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ
٧٦
وَٱبْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِي ٱلأَرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٧٧
قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِيۤ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ٱلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلْمُجْرِمُونَ
٧٨
فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
٧٩
وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ٱلصَّابِرُونَ
٨٠
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ ٱلأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُنتَصِرِينَ
٨١
وَأَصْبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِٱلأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاۤ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلْكَافِرُونَ
٨٢
تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
٨٣
مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى ٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٨٤
-القصص

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قصة قارون من بني إسرائيل ذكرها الله سبحانه بعدما حكى قول المشركين: { إن نتَّبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا } وأجاب عنه بما مرّ من الأجوبة ليعتبروا بها فقد كانت حاله تمثل حالهم ثم أدّاه الكفر بالله إلى ما أدّى من سوء العاقبة فليحذروا إن يصيبهم مثل ما أصابه، فقد آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أُولي القوة فظنَّ أنه هو الذي جمعه بعلمه وجودة فكره وحسن تدبيره فأمن العذاب الإِلهي وآثر الحياة الدنيا على الآخرة وبغى الفساد في الأرض فخسف الله به وبداره الأرض فلما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين.
قوله تعالى: { إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أُولي القوة } قال في المجمع: البغي طلب العتوّ بغير حق. قال: والمفاتح جمع مفتح والمفاتيح جمع مفتاح ومعناهما واحد وهو عبارة عما يفتح به الأغلاق. قال: وناء بحمله ينوء نوءاً إذا نهض به مع ثقله عليه. انتهى. وقال غيره: ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله وهو الأوفق للآية.
وقال في المجمع أيضاً: العصبة الجماعة الملتف بعضها ببعض. وقال: واختلف في معنى العصبة فقيل: ما بين عشرة إلى خمسة عشر عن مجاهد، وقيل: ما بين عشرة إلى أربعين عن قتادة، وقيل: أربعون رجلاً عن أبي صالح، وقيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة عن ابن عباس، وقيل: إنهم الجماعة يتعصب بعضهم لبعض. انتهى. ويزيّف غير القولين الأخيرين قول إخوة يوسف:
{ { ونحن عصبة } [يوسف: 8]، وهم تسعة نفر.
والمعنى: إن قارون كان من بني إسرائيل فطلب العتوّ عليهم بغير حق وأعطيناه من الكنوز ما إن مفاتيحه لتثقل الجماعة ذوي القوة، وذكر جمع من المفسرين أن المراد بالمفاتح الخزائن، وليس بذاك.
قوله تعالى: { إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين } فسّر الفرح بالبطر وهو لازم الفرح والسرور المفرط بمتاع الدنيا فإنه لا يخلو من تعلق شديد بالدنيا ينسى الآخرة ويورث البطر والأشر، ولذا قال تعالى:
{ { ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } } [الحديد: 23]. ولذا أيضاً علل النهي بقوله: { إن الله لا يحب الفرحين }.
قوله تعالى: { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة } إلى آخر الآية أي واطلب فيما أعطاك الله من مال الدنيا تعمير الدار الآخرة بإنفاقه في سبيل الله ووضعه فيما فيه مرضاته تعالى.
وقوله: { ولا تنس نصيبك من الدنيا } أي لا تترك ما قسم الله لك ورزقك من الدنيا ترك المنسي واعمل فيه لآخرتك لأن حقيقة نصيب الإِنسان من الدنيا هو ما يعمل به لآخرته فهو الذي يبقى له.
وقيل: معناه لا تنس أن نصيبك من الدنيا - وقد أقبلت عليك - شيء قليل مما أوتيت وهو ما تأكله وتشربه وتلبسه مثلاً والباقي فضل ستتركه لغيرك فخذ منها ما يكفيك وأحسن بالفضل وهذا وجه جيد. وهناك وجوه أُخر غير ملائمه للسياق.
وقوله: { وأحسن كما أحسن الله إليك } أي أنفقه لغيرك إحساناً كما آتاكه الله إحساناً من غير ان تستحقه وتستوجبه، وهذه الجملة من قبيل عطف التفسير لقوله: { ولا تنس نصيبك من الدنيا } على أول الوجهين السابقين ومتممه له على الوجه الثاني.
وقوله: { ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين } أي لا تطلب الفساد في الأرض بالاستعانة بما آتاك الله من مال وما اكتسبت به من جاه وحشمة إن الله لا يحب المفسدين لبناء الخلقة على الصلاح والإِصلاح.
قوله تعالى: { قال إنما أوتيته على علم عندي } إلى آخر الآية. لا شك أن قوله { إنما أُوتيته على علم عندي } جواب عن جميع ما قاله المؤمنون من قومه ونصحوه به وكان كلامهم مبنياً على أن ماله من الثروة إنما آتاه الله إحساناً إليه وفضلاً منه من غير استيجاب واستحقاق فيجب عليه إن يبتغي فيه الدار الآخرة ويحسن به إلى الناس ولا يفسد في الأرض بالاستعلاء والاستكبار والبطر.
فأجاب بنفي كونه إنما أُوتيه إحساناً من غير استحقاق ودعوى أنه إنما أُوتيه على استحقاق بما عنده من العلم بطرق اقتناء المال وتدبيره وليس عند غيره ذلك، وإذا كان ذلك باستحقاق فقد استقل بملكه وله أن يفعل فيما اقتناه من المال بما شاء ويستدره في أنواع التنعم وبسط السلطة والعلو والبلوغ إلى الآمال والأماني.
وهذه المزعمة التي ابتلى بها قارون فأهلكته - أعني زعمه أن الذي حصل له الكنوز وساق إليه القوة والجمع هو نبوغه العلمي في اكتساب العزة وقدرته النفسانية لا غير - مزعمة عامة بين أبناء الدنيا لا يرى الواحد منهم فيما ساقه إليه التقدير ووافقته الأسباب الظاهرة من عزة عاجلة وقوة مستعارة إلا أن نفسه هي الفاعلة له وعلمه هو السائق له إليه وخبرته هي الماسكة له لأجله.
وإلى عموم هذه المزعمة وركون الإِنسان إليها بالطبع يشير قوله تعالى:
{ { فإذا مس الإِنسان ضرّ دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أُوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيآت ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيآت ما كسبوا وما هم بمعجزين أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } [الزمر: 49ـ52]، وقال: { { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [غافر: 82ـ83]، وعرض الآيات على قصة قارون لا يبقي شكاً في أن المراد بالعلم في كلامه ما قدمناه.
وفي قوله: { إنما أُوتيته } من غير إسناد الإِيتاء إلى الله سبحانه كما في قول الناصحين له: { فيما آتاك الله } نوع إعراض عن ذكره تعالى وإزراء بساحة كبريائه.
وقوله: { أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً } استفهام توبيخي وجواب عن قوله: { إنما أُوتيته على علم عندي } بأيسر ما يمكن أن يتنبه به لفساد قوله فإنه كان يرى أن الذي اقتنى به المال وهو يبقيه له ويمتعه منه هو علمه الذي عنده وهو يعلم أنه كان فيمن قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً، وكان ما له من القوة والجمع عن علم عنده على زعمه، وقد أهلكه الله بجرمه، فلو كان العلم الذي يغتر ويتبجح به هو السبب الجامع للمال الحافظ له الممتع منه ولم يكن بإيتاء الله فضلاً وإحساناً لنجاهم من الهلاك ومتعهم من أموالهم ودافعوا بقوتهم وانتصروا بجمعهم.
وقوله: { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } ظاهر السياق أن المراد به بيان السنة الإِلهية في تعذيب المجرمين وإهلاكهم بذنوبهم فيكون كناية عن عدم إمهالهم والإِصغاء إلى ما لفقوه من المعاذير أو هيؤه من التذلل والإِنابة ليرجو بذلك النجاة كما أن أُولي الطول والقوة من البشر إذا أرادوا تعذيب من يتحكمون عليه سألوه عن ذنبه ليقضوا عليه بالجرم ثم العذاب، وربما صرف المجرم بما لفقه من المعاذير عذابهم عن نفسه لكن الله سبحانه لعلمه بحقيقة الحال لا يسأل المجرمين عن ذنوبهم وأنما يقضي عليهم قضاء فيأتيهم عذاب غير مردود.
والظاهر على هذا تكون الجملة من تتمة التوبيخ السابق ويكون جواباً عن إسناده ثروته إلى علمه، ومحصله أن المؤاخذة الإِلهية ليست كمؤاخذة الناس حتى إذا لاموه أو نصحوه صرف عن نفسه ذلك بما لفقه من الجواب حتى ينتفع في ذلك بعلمه، بل هو سبحانه عليم شهيد لا يسأل المجرم عن ذنبه وإنما يؤاخذه بذنبه، وأيضاً يؤاخذه بغتة وهو لا يشعر.
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية ولهم فيها أقاويل أُخرى:
فقيل: المراد بالعلم في قوله: { إنما أُوتيته على علم عندي } علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها.
وقيل: المراد علم الكيمياء وكان قد تعلمه من موسى ويوشع بن نون وكالب بن يوقنا والمراد بكون العلم عنده اختصاصه به دون سائر الناس وقد صنع به مقداراً كثيراً من الذهب.
وقيل: المراد بالعلم علم استخراج الكنوز والدفائن وقد استخرج به كنوزاً ودفائن كثيرة.
وقيل: المراد بالعلم علم الله تعالى والمعنى: أُوتيته على علم من الله وتخصيص منه قصدني به، ومعنى قوله: { عندي } هو كذلك في ظني ورأيي.
وقيل: العلم علم الله لكنه بمعنى المعلوم، والمعنى أُوتيته على خير علمه الله تعالى عندي، و { على } على جميع هذه الأقوال للاستعلاء وجوّز أن تكون للتعليل.
وقيل: المراد بالسؤال في قوله: { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } سؤال يوم القيامة والمنفي سؤال الاستعلام لأن الله أعلم بذنوبهم لا حاجة له إلى السؤال والملائكة يعلمونها من صحائف أعمالهم ويعرفونهم بسيماهم وأما قوله تعالى:
{ { وقفوهم إنهم مسؤلون } [الصافات: 24] فهوة سؤال تقريع وتوبيخ لا سؤال استعلام، ويمكن إن يكون السؤال في الآيتين بمعنى واحد والنفي والإِثبات باعتبار اختلاف المواقف يوم القيامة فيسألون في موقف ولا يسألون في آخر فلا تناقض بين الآيتين.
وقيل: الضمير في قوله: { عن ذنوبهم } لمن هو أشد والمراد بالمجرمين غيرهم والمعنى: لا يسأل عن ذنوب من أهلكه الله من أهل القرون السابقة غيرهم من المجرمين.
وهذه كلها وجوه من التفسير لا يلائمها السياق.
قوله تعالى: { فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أُوتي قارون إنه لذو حظ عظيم } الحظ هو النصيب من السعادة والبخت.
وقوله: { يريدون الحياة الدنيا } أي يجعلونها الغاية المطلوبة في مساعيهم ليس لهم وراءها غاية فهم على جهل من الآخرة وما أعد الله لعباده فيها من الثواب قال تعالى:
{ { فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم } [النجم: 29ـ30] ولذلك عدوا ما أُوتيه قارون من المال سعادة عظيمة له من دون قيد وشرط.
قوله تعالى: { وقال الذين أُوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً } الخ، الويل الهلاك ويستعمل للدعاء بالهلاك وزجراً عما لا يرتضى، وهو في المقام زجراً عن التمني.
والقائلون بهذا القول هم المؤمنون أهل العلم بالله يخاطبون به أُولئك الجهلة الذين تمنوا أن يؤتوا مثل ما أُوتي قارون وعدّوه سعادة عظيمة على الإِطلاق، ومرادهم أن ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً مما أُوتي قارون فإن كانوا مؤمنين صالحين فليتمنوه.
وقوله: { وما يلقاها إلا الصابرون } التلقية التفهيم والتلقي التفهم والأخذ، والضمير - على ما قالوا - للكلمة المفهومة من السياق، والمعنى: وما يفهم هذه الكلمة - وهي قولهم: ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً - إلا الصابرون.
وقيل: الضمير للسيرة أو الطريقة ومعنى تلقِّيها فهمها أو التوفيق للعمل بها.
والصابرون هم المتلبسون بالصبر عند الشدائد وعلى الطاعات وعن المعاصي، ووجه كونهم هم المتلقين لهذه الكلمة أو السيرة أو الطريقة أن التصديق بكون ثواب الآخرة خيراً من الحظ الدنيوي - وهو لا ينفك عن الإِيمان والعمل الصالح الملازمين لترك كثير من الأهواء والحرمان عن كثير من المشتهيات - لا يتحقق إلا ممن له صفة الصبر على مرارة مخالفة الطبع وعصيان النفس الأمّارة.
قوله تعالى: { فخسفنا به وبداره الأرض } إلى آخر الآية، الضميران لقارون والجملة متفرعة على بغيه.
وقوله: { فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين } الفئة الجماعة يميل بعضهم إلى بعض، وفي النصر والانتصار معنى المنع والامتناع، ومحصّل المعنى: فما كان له جماعة يمنعونه العذاب وما كان من الممتنعين على خلاف ما كان يظن أن الذي يجلب إليه الخير ويدفع عنه الشر هو قوّته وجمعه اللذان اكتسبهما بعلمه فلم يقه جمعه ولم تفده قوته من دون الله وبان أن الله سبحانه هو الذي آتاه ما آتاه.
فالفاء في قوله: { فما كان } لتفريع الجملة على قوله: { فخسفنا به } الخ، أي فظهر بخسفنا به وبداره الأرض بطلان ما كان يدَّعيه لنفسه من الاستحقاق والاستغناء عن الله سبحانه وأن الذي يجلب إليه الخير ويدفع عنه الشر هو قوته وجمعه وقد اكتسبهما بنبوغه العلمي.
قوله تعالى: { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } الخ، ذكروا أن { وي } كلمة تندّم وربما تستعمل للتعجب وكلا المعنيين يقبلان الانطباق على المورد وإن كان التندم أسبق إلى الذهن.
وقوله: { كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } اعتراف منهم ببطلان ما كان يزعمه قارون وهم يصدّقونه أن القوة والجمع في الدنيا بنبوغ الإِنسان في علمه وجودة تدبيره لا بفضل من الله سبحانه بل سعة الرزق وضيقه بمشيئة من الله.
والمقام مقام التحقيق دون التشبيه المناسب للشك والتردد لكنهم إنما استعملوا في كلامهم { كأن } للدلالة على ابتداء ترددهم في قول قارون وقد قبلوه وصدَّقوه من قبل وهذه صنعة شائعة في الاستعمال.
والدليل على ذلك قولهم بعده: { لولا أن من الله علينا لخسف بنا } على طريق الجزم والتحقيق.
وقوله: { ويكأنه لا يفلح الكافرون } تندم منهم ثانياً وانتزاع مما كان لازم تمنيتهم مكان قارون.
قوله تعالى: { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين } الآية وما بعدها بمنزلة النتيجة المستخرجة من القصة.
وقوله: { تلك الدار الآخرة } الإِشارة إليها بلفظ البعيد للدلالة على شرفها وبهائها وعلو مكانتها وهو الشاهد على أن المراد بها الدار الآخرة السعيدة ولذا فسروها بالجنة.
وقوله: { نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً } أي نختصها بهم وإرادة العلو هو الاستعلاء والاستكبار على عباد الله وإرادة الفساد فيها ابتغاء معاصي الله تعالى فإن الله بنى شرائعه التي هي تكاليف للإِنسان على مقتضيات فطرته وخلقته ولا تقتضي فطرته إلا ما يوافق النظام الأحسن الجاري في الحياة الإِنسانية الأرضية فكل معصية تفضي إلى فساد في الأرض بلا واسطة أو بواسطة، قال تعالى:
{ { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } } [الروم: 41]. ومن هنا ظهر أن إرادة العلو من مصاديق إرادة الفساد وإنما أُفردت وخصّت بالذكر اعتناء بأمرها، ومحصّل المعنى: تلك الدار الآخرة السعيدة نخصها بالذين لا يريدون فساداً في الأرض بالعلو على عباد الله ولا بأي معصية أُخرى.
والآية عامة يخصصها قوله تعالى:
{ { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً } } [النساء: 31]. وقوله: { والعاقبة للمتقين } أي العاقبة المحمودة الجميلة وهي الدار الآخرة السعيدة أو العاقبة السعيدة في الدنيا والآخرة لكن سياق الآيتين يؤيد الأول.
قوله تعالى: { من جاء بالحسنة فله خير منها } أي لأنها تتضاعف له بفضل من الله، قال تعالى:
{ { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } } [الأنعام: 160]. قوله تعالى: { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون } أي لا يزيدون على ما عملوا شيئاً وفيه كمال العدل، كما أن في جزاء الحسنة بخير منها كمال الفضل.
وكان مقتضى الظاهر في قوله: { فلا يجزى الذين عملوا } الخ، الإِضمار ولعل في وضع الموصول موضع الضمير إشارة إلى أن هذا الجزاء إنما هو لمن أكثر من اقتراف المعصية وأحاطت به الخطيئة كما يفيده جمع السيئات، وقوله: { كانوا يعملون } الدال على الإِصرار والاستمرار، وأما من جاء بالسيئة والحسنة فمن المرجو أن يغفر الله له كما قال:
{ { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله إن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم } } [التوبة: 102]. وليعلم أن الملاك في الحسنة والسيئة على الأثر الحاصل منها عند الإِنسان وبها تسمى الأعمال حسنة أو سيئة وعليها - لا على متن العمل الخارجي الذي هو نوع من الحركة - يثاب الإِنسان أو يعاقب، قال تعالى: { { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } } [البقرة: 284]. وبه يظهر الجواب عما استشكل على إطلاق الآية بأن التوحيد حسنة ولا يعقل خير منه وأفضل، فالآية إما خاصة بغير الاعتقادات الحقة أو مخصصة بالتوحيد.
وذلك أن الأثر الحاصل من التوحيد يمكن أن يفرض ما هو خير منه وإن لم يقبله التوحيد بحسب الاعتبار.
على أن التوحيد أياً ما فرض يقبل الشدة والضعف والزيادة والنقيصة وإذا ضوعف عند الجزاء كما تقدم كان مضاعفه خيراً من غيره.
(بحث روائي)
في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس أن قارون كان من قوم موسى، قال: كان ابن عمه وكان يبتغي العلم حتى جمع علماً فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده.
فقال له موسى عليه السلام: إن الله أمرنى أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم؟ قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلى بغيَّ من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت نعم.
فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك قال: نعم، فجمعهم فقالوا له: بم أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وإن تصلوا الرحم وكذا وكذا وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت، قال: أنا؟.
فأرسلوا الى المرأة فجاءت فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى عليه السلام: أنشدتك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما إذا نشدتني فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلاً على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله.
فخرَّ موسى عليه السلام ساجداً يبكي فأوحى الله إليه: ما يبكيك؟ قد سلّطناك على الأرض فمرها فتطيعك، فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيَّبتهم فأوحى الله: يا موسى سألك عبادي وتضرَّعوا إليك فلم تجبهم فوعزَّتي لو أنهم دعوني لأجبتهم.
قال ابن عباس: وذلك قوله تعالى: { فخسفنا به وبداره الأرض } خسف به إلى الأرض السفلى.
أقول: وروى فيه أيضاً عن عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن نوفل الهاشمي القصة لكن فيها أن المرأة أُحضرت إلى مجلس قارون لتشهد عند الملأ من بني إسرائيل على موسى عليه السلام بالفجور وتشكوه إلى قارون فجاءت إليه واعترفت عند الملأ بالحق فبلغ ذلك موسى عليه السلام فشكاه إلى ربه فسلّطه الله عليه.
وروى القمي في تفسيره في القصة أن موسى عليه السلام جاء إلى قارون وبلغه حكم الزكاة فاستهزأ به وأخرجه من داره فشكاه إلى ربه فسلَّطه الله عليه فخسف به وبداره الأرض، والرواية موقوفة مشتملة على أُمور منكرة ولذلك تركنا نقلها كما إن روايتي ابن عباس وابن نوفل أيضاً موقوفتان.
على أن رواية ابن عباس تقصص بغيه على موسى عليه السلام والذي تقصه الآيات بغيه على بنى إسرائيل، وتشير إلى أن العلم الذي عنده هو ما حصَّله بالتعلم وظاهر الآية كما مر أنه العلم بطرق تحصيل الثروة ونحوها.
وقد سيقت القصة في التوراة الحاضرة على نحو آخر ففي الإِصحاح السادس عشر من سفر العدد: وأخذ قورح بن بصهار بن نهات بن لاوي وداثان وأبيرام أبنا ألياب وأُون بن فالت بنور أُوبين يقاومون موسى مع أُناس من بني إسرائيل مئتين وخمسين رؤساء الجماعة مدعوّين للاجتماع ذوي اسم. فاجتمعوا على موسى وهارون وقالوا لهما كفاكما. إن كل الجماعة بأسرها مقدسة وفي وسطها الرب فما بالكما ترتفعان على جماعة الرب؟.
فلما سمع موسى سقط على وجهه ثم كلّم قورح وجميع قومه قائلاً: غداً يعلن الرب من هوله؟ ومن المقدس؟ حتى يقرّبه إليه فالذي يختاره يقربه إليه. افعلوا هذا: خذوا لكم محابر قورح وكل جماعته واجعلوا فيها ناراً وضعوا عليها بخوراً أمام الرب غداً فالرجل الذي يختاره الرب هو المقدس. كفاكم يا بني لاوي.
ثم سيقت القصة وذكر فيها حضورهم غداً ومجيئهم بالمجامر وفيها النار والبخور واجتماعهم على باب خيمة الاجتماع ثم قيل: انشقّت الأرض التي تحتهم وفتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل من كان لقورح مع كل الأموال فنزلوا هم وكل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية فانطبقت عليهم الأرض فبادوا من بين الجماعة، وكل إسرائيل الذين حولهم هربوا من صوتهم، لأنهم قالوا: لعلَّ الأرض تبتلعنا، وخرجت نار من عند الرب وأكلت المئتين والخمسين رجلاً الذين قربوا البخور. انتهى موضع الحاجة.
وفي المجمع في قوله تعالى: { إن قارون كان من قوم موسى }: وهو ابن خالته عن عطاء عن ابن عباس وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { ما إن مفاتحه لتنوء } الآية، قال: كان يحمل مفاتيح خزائنه العصبة أولو القوة.
وفي المعاني بإسناده عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السلام عن أبيه عن جده عن آبائه عن علي عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: { ولا تنسَ نصيبك من الدنيا } قال: لا تنسَ صحتك وقوتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب بها الآخرة.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { فخرج على قومه في زينته } قال: في الثياب المصبّغات يجرُّها بالأرض.
وفي المجمع وروى زاذان عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان يمشي في الأسواق وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمرُّ بالبيّاع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ: { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً } ويقول: نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس.
وفيه روى سلام الأعرج عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: الرجل ليعجبه شراك نعله فيدخل في هذه الآية { تلك الدار الآخرة } الآية.
أقول: وعن السيد ابن طاوس في سعد السعود أنه رواه عن الطبرسي هكذا: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها.
وفي الدر المنثور أخرج المحاملي والديلمي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال:
"التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق" ].