التفاسير

< >
عرض

قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ
٩٨
قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
٩٩
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ
١٠٠
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
١٠١
-آل عمران

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
الآيات كما ترى باتصال السياق تدل على أن أهل الكتاب (فريق منهم وهم اليهود أو فريق من اليهود) كانوا يكفرون بآيات الله, ويصدون المؤمنين عن سبيل الله بإراءته إياهم عوجاً غير مستقيم, وتمثيل سبيل الضلال المعوج المنحرف سبيلاً لله, وذلك بإلقاء شبهات إلى المؤمنين يرون بها الحق باطلاً, والباطل الذي يدعونهم إليه حقاً, والآيات السابقة تدل على ما انحرفوا فيه من إنكار حلية كل الطعام قبل التوراة, وإنكار نسخ استقبال بيت المقدس, فهذه الآيات متممات للآيات السابقة المتعرضة لحل الطعام قبل التوراة, وكون الكعبة أول بيت وضع للناس فهي تشتمل على الإِنكار والتوبيخ لليهود في إلقائهم الشبهات وتفتينهم المؤمنين في دينهم, وتحذير للمؤمنين أن يطيعوهم فيما يدعون إليه فيكفروا بالدين, وترغيب وتحريص لهم أن يعتصموا بالله فيهتدوا إلى صراط الإِيمان وتدوم هدايتهم.
وقد ورد عن زيد بن أسلم كما رواه السيوطي في لباب النقول على ما قيل: أن شاش بن قيس - وكان يهودياً - مرّ على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون فغاظه ما رأى من تآلفهم بعد العداوة فأمر شاباً معه من اليهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث ففعل, فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان: أوس بن قرظي من الأوس, وجبار بن صخر من الخزرج فتقاولا وغضب الفريقان, وتواثبوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء حتى وعظهم وأصلح بينهم فسمعوا وأطاعوا, فأنزل الله في أوس وجبار: { يا أيُّها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب } الآية, وفي شاش بن قيس: { يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله } الآية.
والرواية مختصرة مستخرجة مما رواه في الدر المنثور عن زيد بن أسلم مفصلاً وروي ما يقرب منها عن ابن عباس وغيره.
وكيف كان, الآيات أقرب انطباقاً على ما ذكرنا منها على الرواية كما هو ظاهر, على أن الآيات تذكر الكفر والإِيمان, وشهادة اليهود, وتلاوة آيات الله على المؤمنين, ونحو ذلك, وكل ذلك لما ذكرناه أنسب, ويؤيد ذلك قوله تعالى:
{ ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم } [البقرة: 109] الآية، فالحق كما ذكرنا أن الآيات متممة لسابقتها.
قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } "الخ"، المراد بالآيات بقرينة وحدة السياق حلية الطعام قبل نزول التوراة, وكون القبلة هي الكعبة في الإِسلام.
قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله } إلى قوله: { عوجاً }، الصد الصرف, وقوله: { تبغونها } أي تطلبون السبيل, وقوله: { عوجاً } العوج المعطوف المحرف, والمراد طلب سبيل الله معوجاً من غير استقامة.
قوله تعالى: { وأنتم شهداء }، أي تعلمون أن الطعام كان حلاً قبل نزول التوراة وأن من خصائص النبوة تحويل القبلة إلى الكعبة, وقد حاذى في عدهم شهداء في هذه الآية ما في الآية السابقة من عد نفسه تعالى شهيداً على فعلهم وكفرهم, وفيه من اللطف ما لا يخفى فهم شهداء على حقية ما ينكرونه والله شهيد على إنكارهم وكفرهم. ولما نسب الشهادة إليهم في هذه الآية أبدل ما ذيل به الآية السابقة أعني قوله: { والله شهيد على ما تعملون } من قوله في ذيل هذه الآية: { وما الله بغافلٍ عمّا تعملون }, فأفاد ذلك أنهم شهداء على الحقية, والله سبحانه شهيد على الجميع.
قوله تعالى: { يا أيُّها الذين آمنوا } إلى قوله: { وفيكم رسوله }، المراد بالفريق كما تقدم: هم اليهود أو فريق منهم, وقوله تعالى: { وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله }, أي يمكنكم أن تعتصموا بالحق الذي يظهر لكم بالانصات إلى آيات الله والتدبر فيها ثم الرجوع فيما خفي عليكم منها لقلة التدبر أو الرجوع ابتداءً إلى رسوله الذي هو فيكم غير محتجب عنكم ولا بعيدٌ منكم, واستظهار الحق بالرجوع إليه, ثم إبطال شبه ألقتها اليهود إليكم والتمسك بآيات الله وبرسوله والاعتصام بهما اعتصام بالله؛ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراطٍ مستقيم.
فالمراد بالكفر في قوله: { وكيف تكفرون }, الكفر بعد الإِيمان, وقوله: { وأنتم تتلى عليكم }, كناية من إمكان الاعتصام في الاجتناب عن الكفر بآيات الله وبرسوله, وقوله: { ويعتصم بالله }, بمنزلة الكبرى الكلية لذلك, والمراد بالهداية إلى صراطٍ مستقيمٍ الاهتداء إلى إيمانٍ ثابتٍ وهو الصراط الذي لا يختلف ولا يتخلف أمره, ويجمع سالكيه في مستواه ولا يدعهم يخرجون عن الطريق فيضلوا.
وفي تحقيق الماضي في قوله: { فقد هدي }, مع حذف الفاعل دلالة على تحقق الفعل من غير شعور بفاعله.
ويتبيّن من الآية أن الكتاب والسنة كافيان في الدلالة على كل حق يمكن أن يضل فيه.