(بيان)
الآية بمنزلة الفذلكة لتفصيل البيان الوارد في السورة, وفيه تخلص منه بأخذ النتيجة وإعطائها.
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا } "الخ"، الأوامر مطلقة, فالصبر يراد به الصبر على الشدائد, والصبر في طاعة الله, والصبر عن معصيته؛ وعلى أي حال هو الصبر من الفرد بقرينة ما يقابله.
والمصابرة هي: التصبر وتحمل الأذى جماعة باعتماد صبر البعض على صبر آخرين, فيتقوى الحال ويشتد الوصف ويتضاعف تأثيره, وهذا أمر محسوس في تأثير الفرد إذا اعتبرت شخصيته في حال الانفراد, وفي حال الاجتماع والتعاون بإيصال القوى بعضها ببعض, وسنبحث فيه إن شاء الله بحثاً مستوفى في محله.
قوله تعالى: { ورابطوا } أعم معنى من المصابرة وهي إيجاد الجماعة, الارتباط بين قواهم وأفعالهم في جميع شؤون حياتهم الدينية أعم من حال الشدة وحال الرخاء, ولما كان المراد بذلك نيل حقيقة السعادة المقصودة للدنيا والآخرة - وإلا فلا يتم بها إلا بعض سعادة الدنيا وليست بحقيقة السعادة - عقب هذه الأوامر بقوله تعالى: { واتقوا الله لعلّكم تفلحون }, يعني الفلاح التام الحقيقي.
كلام في المرابطة في المجتمع الاسلامي
1ـ الانسان والاجتماع: كون النوع الإنساني نوعاً اجتماعياً لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث, فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك, ولم يزل الإنسان يعيش في حال الاجتماع على ما يحكيه التاريخ والآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود التي كان هذا النوع يعيش فيها ويحكم على هذه الأرض.
وقد أنبأ عنه القرآن أحسن إنباء في آيات كثيرة كقوله تعالى: { { يا أيُّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } [الحجرات: 13] الآية، وقال تعالى: { { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } [الزخرف: 32]، وقال تعالى: { { بعضكم من بعض } [آل عمران: 195]، وقال تعالى: { { وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً } [الفرقان: 54] إلى غير ذلك.
2ـ الانسان ونموه في اجتماعه: الاجتماع الإنساني كسائر الخواص الروحية الإنسانية, وما يرتبط بها لم يوجد حين وجد تاماً كاملاً لا يقبل النماء والزيادة, بل هو كسائر الأمور الروحية الإدراكية الإنسانية, لم يزل يتكامل بتكامل الإنسان في كمالاته المادية والمعنوية, وعلى الحقيقة لم يكن من المتوقع أن يستثنى هذه الخاصة من بين جميع الخواص الإنسانية, فتظهر أول ظهورها تامة كاملة أتم ما يكون وأكمله, بل هي كسائر الخواص الإنسانية التي لها ارتباط بقوتي العلم والإرادة تدريجية الكمال في الإنسان.
والذي يظهر من التأمل في حال هذا النوع أن أول ما ظهر من الاجتماع فيه الاجتماع المنزلي بالازدواج لكون عامله الطبيعي, وهو جهاز التناسل أقوى عوامل الاجتماع, لعدم تحققه إلا بأزيد من فرد واحد أصلاً بخلاف مثل التغذي وغيره, ثم ظهرت منه الخاصة التي سميناها في المباحث المتقدمة من هذا الكتاب بالاستخدام, وهو توسيط الإنسان غيره في سبيل رفع حوائجه ببسط سلطته وتحميل إرادته عليه, ثم برز ذلك في صورة الرئاسة كرئيس المنزل ورئيس العشيرة ورئيس القبيلة ورئيس الأُمة, وبالطبع كان المقدم المتعين من بين العدة أولاً أقواهم وأشجعهم, ثم أشجعهم وأكثرهم مالاً وولداً, وهكذا حتى ينتهي إلى أعلمهم بفنون الحكومة والسياسة, وهذا هو السبب الابتدائي لظهور الوثنية وقيامها على ساقها حتى اليوم, وسنستوفي البحث عنها فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.
وخاصة الاجتماع بتمام أنواعها (المنزلي وغيره) وإن لم تفارق الإنسانية في هذه الأدوار ولو برهة, إلا أنها كانت غير مشعور بها للإنسان تفصيلاً, بل كانت تعيش وتنمو بتبع الخواص الأخرى المعني بها للإنسان كالاستخدام والدفاع ونحو ذلك.
والقرآن الكريم يخبر أن أول ما نبه الإنسان بالاجتماع تفصيلاً واعتنى بحفظه استقلالاً نبهته به النبوة قال تعالى: { { وما كان الناس إلاَّ أُمة واحدة فاختلفوا } [يونس: 19]، وقال: { { كان الناس أُمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } [البقرة: 213]، حيث ينبئ أن الإِنسان في أقدم عهوده كان أمة واحدة ساذجة لا اختلاف بينهم حتى ظهرت الاختلافات وبانت المشاجرات, فبعث الله الأنبياء وأنزل معهم الكتاب ليرفع به الاختلاف, ويردهم إلى وحدة الاجتماع محفوظة بالقوانين المشرعة.
وقال تعالى: { { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [الشورى: 13], فأنبأ أن رفع الاختلاف من بين الناس, وإيجاد الاتحاد في كلمتهم إنما كان في صورة الدعوة إلى إقامة الدين وعدم التفرق فيه, فالدين كان يضمن اجتماعهم الصالح.
والآية - كما ترى - تحكي هذه الدعوة (دعوة الاجتماع والاتحاد) عن نوح عليه السلام وهو أقدم الأنبياء أولي الشريعة والكتاب, ثم عن إبراهيم ثم عن موسى ثم عيسى عليهم السلام, وقد كان في شريعة نوح وإبراهيم النزر اليسير من الأحكام, وأوسع هؤلاء الأربعة شريعة موسى وتتبعه شريعة عيسى على ما يخبر به القرآن وهو ظاهر الأناجيل, وليس في شريعة موسى - على ما قيل - إلا ستمائة حكم تقريباً.
فلم تبدأ الدعوة إلى الاجتماع دعوة مستقلة صريحة إلا من ناحية النبوة في قالب الدين كما يصرح به القرآن, والتاريخ يصدقه على ما سيجيء.
4ـ الإِسلام وعنايته بالاجتماع: لا ريب أن الإِسلام هو الدين الوحيد الذي أسس بنيانه على الاجتماع صريحاً, ولم يهمل أمر الاجتماع في شأن من شؤونه, فانظر - إن أردت زيادة تبصر في ذلك - إلى سعة الأعمال الإنسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة وإلى تشعبها إلى أجناسها وأنواعها وأصنافها, ثم انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهية لها وإحاطتها بها, وبسط أحكامها عليها ترى عجباً, ثم انظر إلى تقليبه ذلك كله في قالب الاجتماع ترى أنه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الإنفاذ.
ثم خذ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقة التي يعتني بها القرآن, وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى حتى تعاين النسبة وتعرف المنزلة.
وأما ما لا يعتني به القرآن الكريم من الشرائع كأديان الوثنية والصابئة والمانوية والثنوية وغيرها فالأمر فيها أظهر وأجلى.
وأما الأمم المتمدنة وغيرها, فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلا أنها كانت تتبع ما ورثته من أقدم عهود الإنسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام, واجتماع الأفراد تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية, فكان الاجتماع القومي والوطني والإقليمي يعيش تحت راية الملك والرئاسة, ويهتدي بهداية عوامل الوراثة والمكان وغيرهما من غير أن يعتني أُمة من هذه الأمم عناية مستقلة بأمره, وتجعله مورداً للبحث والعمل, حتى الأمم المعظمة التي كانت لها سيادة الدنيا حينما شرقت شارقة الدين وأخذت في إشراقها وإنارتها, أعني امبراطورية الروم والفرس, فإنها لم تكن إلا قيصرية وكسروية تجتمع أممها تحت لواء الملك والسلطنة ويتبعها الاجتماع في رشده ونموه ويمكث بمكثها.
نعم يوجد فيما ورثوه أبحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم إلا أنها كانت أوراقاً وصحائف لا ترد مورد العمل، ومثلاً ذهنية لا تنزل مرحلة العين والخارج, والتاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه.
فأول نداء قرع سمع النوع الإنساني ودعى به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعاً مستقلاً خارجاً عن زاوية الإهمال وحكم التبعية هو الذي نادى به صادع الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، فدعى الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين, قال تعالى: { { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم } [الأنعام: 153]، وقال: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا }, إلى أن قال: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } (يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق والانشعاب) { وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } [آل عمران: 104ـ105]، وقال: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء } [الأنعام: 158]، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية إلى أصل الاجتماع والاتحاد.
وقال تعالى: { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم }، وقال: { { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } [الأنفال: 46]، وقال: { { وتعاونوا على البر والتقوى } [المائدة: 2]، وقال: { { ولتكن منكم أُمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [آل عمران: 104]، إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الإسلامي على الاتفاق والاتحاد في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية والدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الإِيضاح.
4ـ اعتبار الإسلام رابطة الفرد والمجتمع: الصنع والإيجاد يجعل أولاً أجزاءً ابتدائية لها آثار وخواص, ثم يركبها ويؤلف بينها على ما فيها من جهات البينونة, فيستفيد منها فوائد جديدة مضافة إلى ما للأجزاء من الفوائد المشهودة, فالإنسان مثلاً له أجزاء وأبعاض وأعضاء وقوى لها فوائد متفرقة مادية وروحية ربما ائتلفت فقويت وعظمت كثقل كل واحد من الأجزاء وثقل المجموع والتمكن والانصراف من جهة إلى جهة وغير ذلك, وربما لم تأتلف وبقيت على حال التبائن والتفرق كالسمع والبصر والذوق والإرادة والحركة, إلا أنها جميعاً من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة الواحد الحادث الذي هو الإنسان, وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه, وهي فوائد جمة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية, ومن فوائده حصول كثرة عجيبة في تلك الفوائد في عين الوحدة, فإن المادة الإنسانية كالنطفة مثلاً إذا استكملت نشأتها قدرت على إفراز شيء من المادة من نفسها وتربيتها إنساناً تاماً آخر يفعل نظائر ما كان يفعله أصله ومحتده من الأفعال المادية والروحية, فأفراد الإنسان على كثرتها إنسان وهو واحد, وأفعالها كثيرة عدداً واحدة نوعاً, وهي تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية, فهي مياه كثيرة ذو نوع واحد, وهي ذات خواص كثيرة, نوعها واحد, وكلما جمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الأثر.
وقد اعتبر الإسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقية, هذا المعنى الحقيقي فيها ولا مناص من اعتباره, قال تعالى: { { وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً } [الفرقان: 54]، وقال: { { يا أيُّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } [الحجرات: 13]، وقال: { بعضكم من بعض }
[آل عمران: 195]. وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع لا محالة تؤدي إلى كينونة أخرى في المجتمع حسب ما يمده الأشخاص من وجودهم, وقواهم وخواصهم, وآثارهم, فيتكون في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود وخواص الوجود وهو ظاهر مشهود, ولذلك اعتبر القرآن للأُمة وجوداً, وأجلاً, وكتاباً وشعوراً, وفهماً, وعملاً, وطاعة, ومعصية, فقال: { ولكل أُمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [الأعراف: 34]، وقال: { { كل أُمة تدعى إلى كتابها } [الجاثية: 28]، وقال: { { زينا لكل أُمة عملهم } [الأنعام: 108]، وقال: { { منهم أُمة مقتصدة } [المائدة: 66]، وقال: { { أُمة قائمة يتلون آيات الله } [آل عمران: 113]، وقال: { وهمت كل أُمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب } [غافر: 5]، وقال: { { ولكل أُمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط } }
[يونس: 47]. ومن هنا نرى أن القرآن يعتني بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلا ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء, ولم يشتغل المؤرخون بتواريخ الأمم والمجتمعات إلا بعد نزول القرآن, فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم كالمسعودي وابن خلدون حتى ظهر التحول الأخير في التاريخ النقلي بتبديل الأشخاص أُمماً, وأول من سنه على ما يقال: "اغوست كنت الفرنسي المتوفى سنة 1857 ميلادية".
وبالجملة لازم ذلك على ما مرت الإشارة إليه تكون قوى وخواص اجتماعية قوية تقهر القوى والخواص الفردية عند التعارض والتضاد, على أن الحس والتجربة يشهدان بذلك في القوى والخواص الفاعلة والمنفعلة معاً, فهمة الجماعة وإرادتها في أمر كما في موارد الغوغاءات وفي الهجمات الاجتماعية لا تقوم لها إرادة معارضة ولا مضادة من واحد من أشخاصها وأجزائها, فلا مفر للجزء من أن يتبع كله ويجري على ما يجري عليه حتى أنه يسلب الشعور والفكر من أفراده وأجزائه, وكذا الخوف العام والدهشة العامة كما في موارد الانهزام وانسلاب الأمن والزلزلة والقحط والوباء أو ما هو دونها كالرسومات المتعارفة والأزياء القومية ونحوهما تضطر الفرد على الاتباع وتسلب عنه قوة الإدراك والفكر.
وهذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع, ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد ما يماثله في واحد من الأديان الاخر ولا في سنن الملل المتمدنة (ولعلك لا تكاد تصدق ذلك), فإن تربية الأخلاق والغرائز في الفرد وهو الأصل في وجود المجتمع لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادة القوية القاهرة في المجتمع إلا يسيراً لا قدر له عند القياس والتقدير.
فوضع أهم أحكامه وشرائعه كالحج, والصلاة, والجهاد, والإنفاق, وبالجملة التقوى الديني على أساس الاجتماع, وحافظ على ذلك مضافاً إلى قوى الحكومة الإسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة وحدودها, ومضافاً إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر العامة لجميع الامة بجعل غرض المجتمع الإسلامي وكل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك - هي السعادة الحقيقية والقرب والمنزلة عند الله, وهذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الإنسان وسره - فضلاً عما في ظاهره - وإن خفي على طائفة الدعاة وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وهذا هو الذي ذكرنا أن الإسلام تفوق سنة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السنن والطرائق.
5ـ هل تقبل سنة الإسلام الاجتماعية الاجراء والبقاء؟ ولعلك تقول لو كان ما ذكر من كون نظر الإسلام في تكوين المجتمع الصالح أرقى بناءً وأتقن أساساً حتى من المجتمعات التي كونتها الملل المتمدنة المترقية حقاً, فما باله لم يقبل الإِجراء إلا برهة يسيرة, ثم لم يملك نفسه دون أن تبدل قيصرية وكسروية؟ وتحول إمبراطورية أفجع وأشنع أعمالاً مما كان قبله بخلاف المدنية الغربية التي تستديم البقاء.
وهذا هو الدليل على كون مدنيتهم أرقى وسنتهم في الاجتماع أتقن وأشد استحكاماً, وقد وضعوا سنتهم الاجتماعية وقوانينهم الدائرة على أساس إرادة الامة واقتراح الطباع والميول, ثم اعتبروا فيها إرادة الأكثر واقتراحهم لاستحالة اجتماع الكل بحسب العادة إرادة, وغلبة الأكثر سنة جارية في الطبيعة مشهودة, فإنا نجد كلاً من العلل المادية والأسباب الطبيعية مؤثرة على الأكثر لا على الدوام, وكذا العوامل المختلفة المتنازعة إنما يؤثر منها الأكثر دون الكل ودون الأقل, فمن الحري أن يبنى هيكل الاجتماع بحسب الغرض وبحسب السنن والقوانين الجارية فيه على إرادة الأكثر, وأما فرضية الدين فليست في الدنيا الحاضرة إلا أمنية لا تتجاوز مرحلة الفرض ومثالاً عقلياً غير جائز النيل.
وقد ضمنت المدنية الحاضرة فيما ظهرت فيه من الممالك قوة المجتمع وسعادتها وتهذب الأفراد وطهارتهم من الرذائل, وهي الامور التي لا يرتضيها المجتمع كالكذب, والخيانة, والظلم, والجفاء, والجفاف, ونحو ذلك.
وهذا الذي أوردناه محصل ما يختلج في صدور جمع من باحثينا معاشر الشرقيين وخاصة المحصلين من فضلائنا المتفكرين في المباحث الاجتماعية والنفسية, غير أنهم وردوا هذا البحث من غير مورده فاختلط عليهم حق النظر, ولتوضيح ذلك نقول:
أما قولهم: إن السنة الاجتماعية الإسلامية غير قابلة الجريان في الدنيا على خلاف سنن المدنية الحاضرة في جو الشرائط الموجودة, ومعناه أن الأوضاع الحاضرة في الدنيا لا تلائم الأحكام المشرعة في الإسلام, فهو مسلم لكنه لا ينتج شيئاً, فإن جميع السنن الدائرة في الجامعة الإنسانية إنما حدثت بعد ما لم تكن وظهرت في حين لم تكن عامة الأوضاع والشرائط الموجودة إلا مناقضة له طاردة إياه, فانتهضت ونازعت السنن السابقة المستمرة المتعرقة, وربما اضطهدت وانهزمت في أول نهضتها ثم عادت ثانياً وثالثاً حتى غلبت وتمكنت وملكت سيطرتها وربما بادت وانقرضت إذ لم يساعدها العوامل والشرائط بعد, والتاريخ يشهد بذلك في جميع السنن الدينية والدنيوية حتى في مثل الديموقراطية والاشتراك, وإلى مثله يشير قوله تعالى: { قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [آل عمران: 137]، يشير إلى أن السنة التي تصاحب تكذيب آيات الله لا تنتهي إلى عاقبة حسنة محمودة.
فمجرد عدم انطباق سنة من السنن على الوضع الإنساني الحاضر ليس يكشف عن بطلانه وفساده بل هو من جملة السنن الطبيعية الجارية في العالم لتتميم كينونة الحوادث الجديدة إثر الفعل والانفعال وتنازع العوامل المختلفة.
والإسلام كسائر السنن من جهة النظر الطبيعي والاجتماعي وليس بمستثنى من هذه الكلية, فحاله من حيث التقدم والتأخر والاستظهار بالعوامل والشرائط حال سائر السنن وليس حال الإسلام اليوم - وقد تمكن في نفوس ما يزيد على أربعمائة مليون من أفراد البشر ونشب في قلوبهم - بأضعف من حاله في الدنيا زمان دعوة نوح وإبراهيم ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد قامت دعوة كل منهم بنفس واحدة ولم تكن تعرف الدنيا وقتئذ غير الفساد, ثم انبسطت وتعرقت وعاشت واتصل بعضها ببعض فلم ينقطع حتى اليوم.
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة ولم يكن معه من يستظهر به يومئذ إلا رجل وامرأة, ثم لم يزل يلحق بهم واحد بعد واحد واليوم يوم العسرة كل العسرة حتى أتاهم نصر الله فتشكلوا مجتمعاً صالحاً ذا أفراد يغلب عليهم الصلاح والتقوى ومكثوا برهة على الصلاح الاجتماعي حتى كان من أمر الفتن بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان.
وهذا الانموذج اليسير على قصر عمره وضيق نطاقه, لم يلبث حتى انبسط في أقل من نصف قرن على مشارق الأرض ومغاربها, وحول التاريخ تحويلاً جوهرياً يشاهد آثاره الهامة إلى يومنا وستدوم ثم تدوم.
ولا يستطيع أن تستنكف الأبحاث الاجتماعية والنفسية في التاريخ النظري عن الاعتراف, بأن المنشأ القريب والعامل التام للتحول المعاصر المشهود في الدنيا هو ظهور السنة الإسلامية وطلوعها, ولم يهمل جل الباحثين من اوروبا استيفاء البحث عن تأثيرها في جامعة الإنسان إلا لعصبية دينية أو علل سياسية, وكيف يسع لباحث خبير - لو أنصف النظر - أن يسمي النهضة المدنية الحديثة نهضة مسيحية ويعد المسيح عليه السلام قائدها وحامل لوائها, والمسيح يصرح بأنه إنما يهتم بأمر الروح ولا يشتغل بأمر الجسم ولا يتعرض لشأن الدولة والسياسة؟ وهو ذا الإسلام يدعو إلى الاجتماع والتألف ويتصرف في جميع شؤون المجتمع الإنساني وأفراده من غير استثناء, فهل هذا الصفح والإغماض منهم إلا لإطفاء نور الإسلام؟ (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) وإخماد ناره عن القلوب بغياً وعدواً حتى يعود جنسية لا أثر لها إلا أثر الأنسال المنشعبة.
وبالجملة قد أثبت الإسلام صلوحه لهداية الناس إلى سعادتهم وطيب حياتهم, وما هذا شأنه لا يسمّى فرضية غير قابلة للانطباق على الحياة الإنسانية, ولا مأيوساً من ولاية أمر الدنيا يوماً (مع كون مقصده سعادة الإنسان الحقيقية) وقد تقدم في تفسير قوله: { كان الناس أُمة واحدة } [البقرة: 213]، أن البحث العميق في أحوال الموجودات الكونية يؤدي إلى أن النوع الإنساني سيبلغ غايته وينال بغيته وهي: كمال ظهور الإسلام بحقيقته في الدنيا وتوليه التام أمر المجتمع الإنساني, وقد وعده الله تعالى طبق هذه النظرية في كتابه العزيز قال: { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم } [المائدة: 54]، وقال: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } [النور: 55]، وقال: { { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [الأنبياء: 105]، إلى غير ذلك من الآيات.
وهنا جهة اخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم وهي: أن الاجتماع الإسلامي شعاره الوحيد هو اتباع الحق في النظر والعمل, والاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه ويريده الأكثر, وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون, فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية العقلية بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية, بل يكون مقدمة توصل اليها وفيه سعادة الإنسان بسعادة جميع قواه, وهي الراحة الكبرى (وإن كنا لا ندركها اليوم حق الإدراك لاختلال التربية الإسلامية فينا) ولذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحق, وشدد في المنع عما يفسد العقل السليم وألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال والأخلاق والمعارف الأصلية إلى عهدة المجتمع مضافاً إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية الإسلامية من إجراء السياسات والحدود وغيرها, وهذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس ويدفعه هذا الانغمار العجيب في الأهواء والأماني الذي نشاهده من كافة المترفين والمعدمين ويسلب حريتهم في الاستلذاذ والتلهي والسبعية والافتراس إلا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة وبسط التربية على حد سائر الامور الراقية التي يحتاج الإنسان في التلبس بها إلى همة قاطعة وتدرب كاف وتحفظ على ذلك مستدام.
واما غاية الاجتماع المدني الحاضر, فهي التمتع من المادة, ومن الواضح أن هذه تستتبع حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق, بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته وغرضه.
ولذلك كانت القوانين تتبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع وميول طباعهم, وينحصر ضمان الإجراء في مواد القانون المتعلقة بالأعمال, وأما الأخلاق والمعارف الأصلية فلا ضامن لإجرائها, بل الناس في التلبس بها وتبعيتها وعدمه إلا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ.
ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب فيستحسن كثيراً مما كان يستقبحه الدين, وأن يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق والمعارف العالية مستظهراً بالحرية القانونية.
ولازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الإحساسي العاطفي فربما كان الفجور والفسق في مجرى العقل تقوى في مجرى الميول والإحساسات وسمي فتوة وبشراً وحسن خلق كمعظم ما يجري في اوروبا بين الشبان, وبين الرجال والنساء المحصنات أو الأبكار, وبين النساء والكلاب, وبين الرجال وأولادهم ومحارمهم, وما يجري في الاحتفالات ومجالس الرقص وغير ذلك مما ينقبض عن ذكره لسان المتأدب بأدب الدين.
وربما كان عاديات الطريق الديني غرائب وعجائب مضحكة عندهم وبالعكس كل ذلك لاختلاف نوع الفكرة والإدراك باختلاف الطريق ولا يستفاد في هذه السنن الإحساسية من التعقل - كما عرفت - إلا بمقدار ما يسوى به الطريق إلى التمتع والتلذذ, فهو الغاية الوحيدة التي لا يعارضها شيء ولا يمنع منها شيء إلا في صورة المعارضة بمثلها حتى إنك تجد بين مشروعات القوانين الدائرة أمثال "الانتحار" و "دئل" وغيرهما, فللنفس ما تريده وتهويه إلا أن يزاحم ما يريده ويهواه المجتمع!.
إذا تأملت هذا الاختلاف تبين لك وجه أوفقية سنة المجتمع الغربي لمذاق الجامعة البشرية دون سنة المجتمع الديني, غير أنه يجب أن يتذكر أن سنة المدنية الغربية وحدها ليست هي الموافقة لطباع الناس حتى تترجح بذلك وحدها, بل جميع السنن المعمولة الدائرة في الدنيا بين أهلها من أقدم أعصار الإنسانية إلى عصرنا هذا من سنن البداوة والحضارة تشترك في أن الناس يرجحونها على الدين الداعي إلى الحق في أول ما يعرض عليهم لخضوعهم للوثنية المادية.
ولو تأملت حق التأمل وجدت هذه الحضارة الحاضرة ليست إلا مؤلفة من سنن الوثنية الاولى, غير أنها تحولت من حال الفردية إلى حال الاجتماع, ومن مرحلة السذاجة إلى مرحلة الدقة الفنية.
والذي ذكرناه من بناء السنة الإسلامية على اتباع الحق دون موافقة الطبع من أوضح الواضحات في بيانات القرآن قال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [التوبة: 33]، وقال تعالى: { والله يقضي بالحق } [غافر: 20]، وقال في وصف المؤمنين: { وتواصوا بالحق } [العصر: 3]، وقال: { لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون } [الزخرف: 78]، فاعترف بأن الحق لا يوافق طباع الأكثرين وأهواءهم, ثم رد لزوم موافقة أهواء الأكثرية بأنه يؤول إلى الفساد فقال: { { بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون, ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون } [المؤمنون: 70ـ71]، ولقد صدق جريان الحوادث وتراكم الفساد يوماً فيوماً ما بينه تعالى في هذه الآية. وقال تعالى: { { فماذا بعد الحق إلاَّ الضلال فأنى تصرفون } [يونس: 32]،ٍ والآيات في هذا المعنى وما يقرب منه كثيرة جداً, وإن شئت زيادة تبصر فيه, فراجع سورة يونس, فقد كرر فيه الحق بضعاً وعشرين مرة.
وأما قولهم: إن اتباع الأكثر سنة جارية في الطبيعة, فلا ريب أن الطبيعة تتبع الأكثر في آثارها, إلا أنها ليست بحيث تبطل أو تعارض وجوب اتباع الحق, فإنها نفسها بعض مصاديق الحق فكيف تبطل نفسها؟.
توضيح ذلك يحتاج إلى بيان امور: أحدها: أن الامور الخارجية التي هي اصول عقائد الإنسان العلمية والعملية تتبع في تكونها وأقسام تحولها نظام العلية والمعلولية, وهو نظام دائم ثابت لا يقبل الاستثناء أطبق على ذلك المحصلون من أهل العلم والنظر وشهد به القرآن على ما مر، فالجريان الخارجي لا يتخلف عن الدوام والثبات حتى أن الحوادث الأكثرية الوقوع التي هي قياسية هي في أنها أكثرية دائمة ثابتة، مثلاً النار التي تفعل السخونة غالباً بالقياس إلى جميع مواردها "سخونتها الغالبية" أثر دائم لها وهكذا, وهذا هو الحق.
والثاني: أن الإنسان بحسب الفطرة يتبع ما وجده أمراً واقعياً خارجياً بنحو, فهو يتبع الحق بحسب الفطرة حتى أن من ينكر وجود العلم الجازم إذا القي إليه قول لا يجد من نفسه التردد فيه خضع له بالقبول.
والثالث: أن الحق كما عرفت هو الأمر الخارجي الذي يخضع له الإنسان في اعتقاده أو يتبعه في عمله, وأما نظر الإنسان وإدراكه فإنما هو وسيلة يتوسل بها اليه كالمرآة بالنسبة إلى المرئي.
إذا عرفت هذه الامور تبين لك أن الحقية وهي: دوام الوقوع أو أكثرية الوقوع في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضاً إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعاً دائمياً أو أكثرياً دون العلم والإدراك, وبعبارة اخرى هي صفة الأمر المعلوم لا صفة العلم, فالوقوع الدائمي والأكثري أيضاً بوجه من الحق, وأما آراء الأكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الأقلين فليست بحق دائماً بل ربما كانت حقاً إذا طابقت الواقع, وربما لم تكن إذا لم تطابق, وحينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان ولا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم وإن اتبعتهم فيه ظاهراً فإنما تتبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لأنه حق واجب الاتباع في نفسه, ومن أحسن البيان في أن رأي الأكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقاً واجب الاتباع قوله تعالى: { { بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون } [المؤمنون: 70]، فلو كان كل ما يراه الأكثر حقاً لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه.
وبهذا البيان يظهر فساد بناء اتباع الأكثرية على سنة الطبيعة, فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم والفكر والذي يتبعه الإنسان من هذه السنة في إرادته وحركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع, لا ما اعتقده الأكثرون, أعني أنه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الأكثري, وعليه جرى القرآن في حكم تشريعاته ومصالحها, قال تعالى: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } [المائدة: 6]، وقال تعالى: { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } [البقرة: 183]، إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة.
وأما قولهم: إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع وهذَّبت الأفراد وطهرتهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه.
وكأن مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في استفادتها من المنابع المادية, وقد عرفت كراراً أن الاسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث البرهاني أيضاً يؤيده, بل السعادة الانسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي تنعم الانسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الأخلاق والمعارف الحقة الالهية وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الاخرى, وأما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء.
وأما استعجابهم بما يرون من الصدق, والصفاء, والامانة, والبشر, وغير ذلك فيما بين أفراد الملل المترقية فقد اختلط عليهم حقيقة الامر فيه, وذلك أن جل المتفكرين من باحثينا معاشر الشرقيين لا يقدرون على التفكر الاجتماعي, وإنما يتفكرون تفكراً فردياً, فالذي يراه الواحد منا نصب العين أنه موجود إنساني مستقل عن كل الأشياء غير مرتبط بها ارتباطاً تبطل استقلاله الوجودي (مع أن الحق خلافه) ثم لا يتفكر في حياته إلا لجلب المنافع إلى نفسه ودفع المضار عن نفسه, فلا يشتغل إلا بشأن نفسه وهو التفكر الفردي, ويستتبع ذلك أن يقيس غيره على نفسه فيقضي فيه بما يقضي على هذا النحو من الاستقلال.
وهذا القضاء إن صح فإنما يصح فيمن يجري في تفكره هذا المجرى, وأما من يتفكر تفكراً اجتماعياً ليس نصب عينيه, إلا انه جزء غير منفك ولا مستقل عن المجتمع, وأن منافعه جزء من منافع مجتمعه يرى خير المجتمع خير نفسه, وشره شر نفسه, وكل وصف وحال له وصفاً وحالاً لنفسه, فهذا الانسان يتفكر نحواً آخر من التفكر ولا يشتغل في الارتباط بغيره إلا بمن هو خارج عن مجتمعه, وأما اشتغاله بأجزاء مجتمعه فلا يهتم به ولا يقدره شيئاً.
واستوضح ذلك بما نورده من المثال: الانسان مجموع مؤلف من أعضاء وقوى عديدة تجتمع الجميع نوع اجتماع يعطيها وحدة حقيقية نسميها الانسانية يوجب ذلك استهلاك الجميع ذاتاً وفعلاً تحت استقلاله, فالعين والأذن واليد والرجل تبصر وتسمع وتبطش وتمشي للإنسان, وإنما يلتذ كل بفعله في ضمن التذاذ الانسان به, وكل واحدة من هذه الأعضاء والقوى همها أن ترتبط بالخارج الذي يريد الانسان الواحد الارتباط به بخير أو شر, فالعين أو الأذن أو اليد أو الرجل إنما تريد الاحسان أو الاساءة إلى من يريد الانسان الاحسان أو الاساءة إليه من الناس مثلاً, وأما معاملة بعضها مع بعض والجميع تحت لواء الانسانية الواحدة فقلما يتفق أن يسيء بعضها إلى بعض أو يتضرر بعضها ببعض.
فهذا حال أجزاء الانسان وهي تسير سيراً واحداً اجتماعياً, وفي حكمه حال أفراد مجتمع إنساني إذا تفكروا تفكراً اجتماعياً, فصلاحهم وتقواهم أو فسادهم, وإجرامهم, وإحسانهم, وإساءتهم, إنما هي ما لمجتمعهم من هذه الأوصاف إذا أُخذ ذا شخصية واحدة.
وهكذا صنع القرآن في قضائه على الامم والأقوام التي ألجأتهم التعصبات المذهبية أو القومية أن يتفكروا تفكراً اجتماعياً كاليهود والأعراب وعدة من الامم السالفة, فتراه يؤاخذ اللاحقين بذنوب السابقين, ويعاتب الحاضرين ويوبخهم بأعمال الغائبين والماضين, كل ذلك لأنه القضاء الحق فيمن يتفكر فكراً اجتماعياً, وفي القرآن الكريم من هذا الباب آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.
نعم مقتضى الأخذ بالنصفة أن لا يضطهد حق الصالحين من الأفراد بذلك إن وجدوا في مجتمع واحد, فإنهم وإن عاشوا بينهم واختلطوا بهم, إلا أن قلوبهم غير متقذرة بالفكر الفاسد والمرض المتبطن الفاشي في مثل هذا المجتمع, وأشخاصهم كالأجزاء الزائدة في هيكله وبنيته, وهكذا فعل القرآن في آيات العتاب العام فاستثنى الصلحاء والأبرار.
ويتبين مما ذكرنا أن القضاء بالصلاح والطلاح على أفراد المجتمعات المتمدنة الراقية على خلاف أفراد الامم الاخرى لا ينبغي أن يبنى على ما يظهر من معاشرتهم ومخالطتهم فيما بينهم وعيشتهم الداخلية, بل بالبناء على شخصيتهم الاجتماعية البارزة في مماستها ومصاكتها سائر الامم الضعيفة ومخالطتها الحيوية سائر الشخصيات الاجتماعية في العالم.
فهذه هي التي يجب أن تراعى وتعتبر في القضاء بصلاح المجتمع وطلاحه وسعادته وشقائه, وعلى هذا المجرى يجب أن يجري باحثونا ثم إن شاؤوا فليستعجبوا وإن شاؤوا فليتعجبوا.
ولعمري لو طالع المطالع المتأمل تاريخ حياتهم الاجتماعية من لدن النهضة الحديثة الاوروبية وتعمق فيما عاملوا به غيرهم من الامم والأجيال المسكينة الضعيفة لم يلبث دون أن يرى أن هذه المجتمعات التي يظهرون أنهم امتلؤوا رأفة ونصحاً للبشر يفدون بالدماء والأموال في سبيل الخدمة لهذا النوع, وإعطاء الحرية والأخذ بيد المظلوم المهضوم حقاً, وإلغاء سنة الاسترقاق والأسر يرى أنهم لا هم لهم إلا استعباد الامم الضعيفة مساكين الأرض ما وجدوا إليه سبيلاً بما وجدوا إليه من سبيل فيوماً بالقهر, ويوماً بالاستعمار, ويوماً بالاستملاك, ويوماً بالقيمومة, ويوماً باسم حفظ المنافع المشتركة, ويوماً باسم الإعانة على حفظ الاستقلال, ويوماً باسم حفظ الصلح ودفع ما يهدده, ويوماً باسم الدفاع عن حقوق الطبقات المستأصلة المحرومة ويوماً... ويوماً...
والمجتمعات التي هذا شأنها لا ترتضي الفطرة الإنسانية السليمة أن تصفها بالصلاح, أو تذعن لها بالسعادة وإن اغمضت النظر عما يشخصه قضاء الدين وحكم الوحي والنبوة من معنى السعادة.
وكيف ترضى الطبيعة الإنسانية أن تجهز أفرادها بما تجهزها على السواء, ثم تناقض نفسها فتعطي بعضاً منهم عهداً أن يتملكوا الآخرين تملكاً يبيح لهم دماءهم وأعراضهم وأموالهم, ويسوي لهم الطريق إلى اللعب بمجامع حياتهم ووجودهم والتصرف في إدراكهم وإرادتهم بما لم يلقه ولا قاساه إنسان القرون الاولى, والمعول في جميع ما نذكره تواريخ حياة هؤلاء الامم وما يقاسيه الجيل الحاضر من أيديهم, فإن سمي ما عندهم سعادة وصلاحاً فلتكن بمعنى التحكم وإطلاق المشيئة.
6ـ بماذا يتكون ويعيش الاجتماع الاسلامي؟ لا ريب أن الاجتماع أي اجتماع كان إنما يتحقق ويحصل بوجود غاية واحدة مشتركة بين أفراده المتشتتة وهو: الروح الواحدة السارية في جميع أطرافه التي تتحد بها نوع اتحاد, وهذه الغاية والغرض في نوع الاجتماعات المتكونة غير الدينية إنما هي غاية الحياة الدنيوية للإنسان, لكن على نحو الاشتراك بين الأفراد, لا على نحو الانفراد, وهي التمتع من مزايا الحياة المادية على نحو الاجتماع.
والفرق بين التمتع الاجتماعي والانفرادي من حيث الخاصية أن الإنسان لو استطاع أن يعيش وحده كان مطلق العنان في كل واحد من تمتعاته حيث لا معارض له ولا رقيب إلا ما قيد به بعض جهازاته بعضاً, فإنه لا يقدر أن يستنشق كل الهواء, فإن الرئة لا تسعه وإن اشتهاه, ولا يسعه أن يأكل من المواد الغذائية لا إلى حد, فإن جهاز الهاضمة لا يتحمله, فهذا حاله بقياس بعض قواه وأعضائه إلى بعض, وأما بالنسبة إلى إنسان آخر مثله, فإذا كان لا شريك له في ما يستفيد منه من المادة على الفرض فلا سبب هناك يقتضي تضييق ميدان عمله, ولا تحديد فعل من أفعاله وعمل من أعماله.
وهذا بخلاف الإنسان الواقع في ظرف الاجتماع وساحته, فإنه لو كان مطلق العنان في إرادته وأعماله لأدى ذلك إلى التمانع والتزاحم الذي فيه فساد العيش وهلاك النوع, وقد بينا ذلك في مباحث النبوة السابقة أو في بيان.
وهذا هو السبب الوحيد الذي يدعو إلى حكومة القانون الجاري في المجتمع, غير أن المجتمعات الهمجية لا تتنبه لوضعها عن فكر وروية وإنما يكون الآداب والسنن فيها المشاجرات والمنازعات المتوفرة بين أفرادها, فتضطر الجميع إلى رعاية امور تحفظ مجتمعهم بعض الحفظ, ولما لم تكن مبنية على أساس مستحكم كانت في معرض النقض والإبطال تتغير سريعاً وتنقرض, ولكن المجتمعات المتمدنة تبنيه على أساس قويم بحسب درجاتهم في المدنية والحضارة فيرفعون به التضاد والتمانع الواقع بين الارادات وأعمال المجتمع بتعديلها بوضع حدود وقيود لها, ثم ركز القدرة والقوة في مركز عليه ضمان إجراء ما ينطق به القانون.
ومن هنا يظهر أولاً: أن القانون حقيقة هو ما تعدل به إرادات الناس وأعمالهم برفع التزاحم والتمانع من بينهما بتحديدها.
وثانياً: أن أفراد المجتمع الذي يحكم فيه القانون أحرار فيما وراءه كما هو مقتضى تجهز الإنسان بالشعور والإرادة بعد التعديل, ولذا كانت القوانين الحاضرة لا تتعرض لأمر المعارف الإلهية والأخلاق, وصار هذان المهمان يتصوران بصورة يصورهما بها القانون فيتصالحان ويتوافقان معه على ما هو حكم التبعية فيعودان عاجلاً أو آجلاً رسوماً ظاهرية فاقدة للصفاء المعنوي, ولذلك السبب أيضاً ما نشاهده من لعب السياسة بالدين, فيوماً تقضي عليه وتدحضه, ويوماً تميل إليه فتبالغ في إعلاء كلمته, ويوماً تطوي عنه كشحاً فتخليه وشأنه.
وثالثاً: أن هذه الطريقة لا تخلو عن نقص, فإن القانون وإن حمل ضمان إجرائه على القدرة التي ركزها في فرد أو أفراد, لكن لا ضمان على إجرائه بالآخرة, بمعنى أن منبع القدرة والسلطان لو مال عن الحق وحول سلطة النوع على النوع إلى سلطة شخصه على النوع وانقلبت الدائرة على القانون لم يكن هناك ما يقهر هذا القاهر فيحوله إلى مجراه العدل, وعلى هذا القول شواهد كثيرة مما شاهدناه في زماننا هذا وهو: زمان الثقافة والمدنية فضلاً عما لا يحصى من الشواهد التاريخية, وأضف إلى هذا النقص نقصاً آخر وهو خفاء نقض القانون على القوة المجرية أحياناً أو خروجه عن حومة قدرته, (ولنرجع إلى أول الكلام).
وبالجملة الاجتماعات المدنية توحدها الغاية الواحدة التي هي التمتع من مزايا الحياة الدنيا وهي السعادة عندهم, لكن الإسلام لما كان يرى أن الحياة الانسانية أوسع مداراً من الحياة الدنيا المادية, بل في مدار حياته الحياة الاخروية التي هي الحياة, ويرى أن هذه الحياة لا تنفع فيها إلا المعارف الإلهية التي تنحل بجملتها إلى التوحيد, ويرى أن هذه المعارف لا تنحفظ إلا بمكارم الأخلاق وطهارة النفس من كل رذيلة, ويرى أن هذه الأخلاق لا تتم ولا تكمل إلا بحياة اجتماعية صالحة معتمدة على عبادة الله سبحانه والخضوع لما تقتضيه ربوبيته ومعاملة الناس على أساس العدل الاجتماعي أخذ (أعني الإسلام) الغاية التي يتكون عليها المجتمع البشري ويتوحد بها دين التوحيد ثم وضع القانون الذي وضعه على أساس التوحيد, ولم يكتف فيه على تعديل الإرادات فقط, بل تممه بالعبادات وأضاف إليها المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة.
ثم جعل ضمان إجرائها في عهدة الحكومة الإسلامية أولاً, ثم في عهدة المجتمع ثانياً, وذلك بالتربية الصالحة علماً وعملاً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن أهم ما يشاهد في هذا الدين ارتباط جميع أجزائه ارتباطاً يؤدي إلى الوحدة التامة بينها, بمعنى أن روح التوحيد سارية في الأخلاق الكريمة التي يندب إليها هذا الدين, وروح الأخلاق منتشرة في الأعمال التي يكلف بها أفراد المجتمع, فالجميع من أجزاء الدين الإسلامي ترجع بالتحليل إلى التوحيد, والتوحيد بالتركيب يصير هو الأخلاق والأعمال, فلو نزل لكان هي ولو صعدت لكانت هو, إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.
فإن قلت: ما اورد من النقص على القوانين المدنية فيما إذا عصت القوة المجرية عن إجرائها أو فيما يخفى عليها من الخلاف مثلاً وارد بعينه على الإسلام وأوضح الدليل عليه ما نشاهده من ضعف الدين وزوال سيطرته على المجتمع الإسلامي, وليس إلا لفقدانه من يحمل نواميسه على الناس يوماً!
قلت: حقيقة القوانين العامة سواء كانت إلهية أو بشرية ليست إلا صوراً ذهنية في أذهان الناس وعلوماً تحفظها الصدور, وإنما ترد مورد العمل وتقع موقع الحس بالإرادات الإنسانية تتعلق بها, فمن الواضح أن لو عصت الإرادات لم توجد في الخارج ما تنطبق عليه القوانين, وإنما الشأن فيما يحفظ به تعلق هذه الإرادات بالوقوع حتى تقوم القوانين على ساقها, والقوانين المدنية لا تهتم بأزيد من تعليق الأفعال بالإرادات - أعني إرادة الأكثرية - ثم لم يهتموا بما تحفظ هذه الإرادة؛ فمهما كانت الإرادة حية شاعرة فاعلة جرى بها القانون وإذا ماتت من جهة انحطاط يعرض لنفوس الناس وهرم يطرأ على بنية المجتمع, أو كانت حية لكنها فقدت صفة الشعور والإدراك لانغمار المجتمع في الملاهي وتوسعه في الإتراف والتمتع, أو كانت حية شاعرة لكنها فقدت التأثير لظهور قوة مستبدة فائقة غالبة تقهر إرادتها إرادة الأكثرية. وكذا في الحوادث التي لا سبيل للقوة المجرية على الوقوف عليها كالجنايات السرية, أو لا سبيل لها الى بسط سيطرتها عليها, كالحوادث الخارجة عن منطقة نفوذها, ففي جميع هذه الموارد لا تنال الامة امنيتها من جريان القانون وانحفاظ المجتمع عن التفاسد والتلاشي, وعمدة الانشعابات الواقعة في الامم الاوروبية بعد الحرب العالمية الكبرى الاولى والثانية من أحسن الأمثلة في هذا الباب.
وليس ذلك (أعني انتقاض القوانين وتفاسد المجتمع وتلاشيه) إلا لأن المجتمع لم يهتم بالسبب الحافظ لإرادات الامة على قوتها وسيطرتها, وهي الأخلاق العالية, إذ لا تستمد الإرادة في بقائها واستدامة حياتها إلا من الخلق المناسب لها كما بين ذلك في علم النفس, فلولا استقرار السنة القائمة في المجتمع واعتماد القانون الجاري فيه على أساس قويم من الأخلاق العالية كانت كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
واعتبر في ذلك ظهور الشيوعية, فليست إلا من مواليد الديموقراطية أنتجها إتراف طبقة من طبقات المجتمع وحرمان آخرين, فكان بعداً شاسعاً بين نقطتي القساوة وفقد النصفة, والسخط وتراكم الغيظ والحنق, وكذا في الحرب العالمية التي وقعت مرة بعد مرة وهي تهدد الإنسانية ثالثة وقد أفسدت الأرض وأهلكت الحرث والنسل ولا عامل لها إلا غريزة الاستكبار والشره والطمع, هذا.
ولكن الإسلام بنى سنته الجارية وقوانينه الموضوعة على أساس الأخلاق وبالغ في تربية الناس عليها لكون القوانين الجارية في الأعمال في ضمانها وعلى عهدتها, فهي مع الإنسان في سره وعلانيته وخلوته وجلوته تؤدي وظيفتها وتعمل عملها أحسن مما يؤديه شرطي مراقب أو أي قوة تبذل عنايتها في حفظ النظم.
نعم تعتني المعارف العمومية في هذه الممالك بتربية الناس على الأخلاق المحمودة وتبذل جهدها في حض الناس وترغيبهم اليها, لكن لا ينفعهم ذلك شيئاً.
أما أولاً فلأن المنشأ الوحيد لرذائل الأخلاق ليس إلا الإسراف والإفراط في التمتع المادي والحرمان البالغ فيه, وقد أعطت القوانين للناس الحرية التامة فيه فأمتعت بعضاً وحرمت آخرين, فهل الدعوة الى فضائل الأخلاق والترغيب عليها إلا دعوة الى المتناقضين أو طلباً للجمع بين الضدين؟
على أن هؤلاء كما عرفت يفكرون تفكراً اجتماعياً, ولا تزال مجتمعاتهم تبالغ في اضطهاد المجتمعات الضعيفة ودحض حقوقهم, والتمتع بما في أيديهم, واسترقاق نفوسهم, والتوسع في التحكم عليهم ما قدروا, والدعوة الى الصلاح والتقوى مع هذه الخصيصة ليست إلا دعوة متناقضة لا تزال عقيمة.
وأما ثانياً: فلأن الأخلاق الفاضلة أيضاً تحتاج في ثباتها واستقرارها إلى ضامن يضمن حفظها وكلاءتها, وليس الا التوحيد - أعني القول, بأن للعالم إلهاً واحداً ذا أسماء حسنى خلق الخلق لغاية تكميلهم وسعادتهم وهو يحب الخير والصلاح, ويبغض الشر والفساد وسيجمع الجميع لفصل القضاء وتوفية الجزاء فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته, ومن الواضح أن لولا الاعتقاد بالمعاد لم يكن هناك سبب أصيل رادع عن اتباع الهوى والكف عن حظوظ النفس الطبيعية, فانما الطبيعة الإنسانية تريد وتشتهي مشتهيات نفسها لا ما ينتفع به غيرها كطبيعة الفرد الآخر إلا إذا رجع بنحو إلى مشتهى نفسها (أحسن التأمل فيه).
ففيما كان للإنسان مثلاً تمتع في إماتة حق من حقوق الغير ولا رادع يردعه ولا مجازي يجازيه ولا لائم معاتب يلومه ويعاتبه فأي مانع يمنعه من اقتراف الخطيئة وارتكاب المظلمة وإن عظمت ما عظمت؟ وأما ما يتوهم - وكثيراً ما يخطي فيه الباحث - من الروادع المختلفة كالتعلق بالوطن, وحب النوع, والثناء الجميل, ونحو ذلك, فإنما هي عواطف قلبية ونزوعات باطنية لا سبب حافظاً عليها إلا التعليم والتربية من غير استنادها إلى السبب الموجب, فهي إذن أوصاف اتفاقية وأمور عادية لا مانع معها يمنع من زوالها, فلماذا يجب على الإنسان أن يفدي بنفسه غيره ليتمتع بالعيش بعده وهو يرى أن الموت فناء وبطلان؟ والثناء الجميل إنما هو في لسان آخرين ولا لذة يلتذ به الفادي بعد بطلان ذاته.
وبالجملة لا يرتاب المتفكر البصير في أن الإنسان لا يقدم على حرمان لا يرجع اليه فيه جزاء ولا يعود إليه منه نفع, والذي يعده ويمنيه في هذه الموارد ببقاء الذكر الحسن والثناء الجميل الخالد والفخر الباقي ببقاء الدهر, فإنما هو غرور يغتر به وخدعة ينخدع بها بهيجان إحساساته وعواطفه, فيخيل إليه أنه بعد موته وبطلان ذاته حاله كحاله قبل موته, فيشعر بذكره الجميل فيلتذ به وليس ذلك إلا من غلط الوهم كالسكران يتسخر بهيجان إحساساته فيعفو ويبذل من نفسه وعرضه وماله أو كل كرامة له ما لا يقدم عليه لو صحا وعقل, وهو سكران لا يعقل ويعد ذلك فتوة وهو سفه وجنون.
فهذه العثرات وأمثالها مما لا حصن للإنسان يتحصن فيه منها غير التوحيد الذي ذكرناه, ولذلك وضع الإسلام الأخلاق الكريمة التي جعلها جزءاً من طريقته الجارية على أساس التوحيد الذي من شؤونه القول بالمعاد, ولازمه أن يلتزم الإنسان بالإحسان ويجتنب الإساءة أينما كان ومتى ما كان سواء علم به أو لم يعلم, وسواء حمده حامد أو لم يحمد, وسواء كان معه من يحمله عليه أو يردعه عنه, أو لم يكن فإن معه الله العليم الحفيظ القائم على كل نفس بما كسبت وورائه يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء وفيه تجزى كل نفس بما كسبت.
7ـ منطقان: منطق التعقل ومنطق الإحساس: أما منطق الإحساس فهو يدعو إلى النفع الدنيوي ويبعث إليه, فإذا قارن الفعل نفع وأحسّ به الإنسان, فالإحساس متوقد شديد التوقان في بعثه وتحريكه, وإذا لم يحسّ الإنسان بالنفع فهو خامد هامد, وأما منطق التعقل: فإنما يبعث إلى اتباع الحق ويرى أنه أحسن ما ينتفع به الإنسان أحسّ مع الفعل بنفع مادي, أو لم يحسّ فإن ما عند الله خير وأبقى, وقس في ذلك بين قول عنترة وهو على منطق الإحساس:
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
يريد أني أستثبت نفسي كلما تزلزلت في الهزاهز والمواقف المهولة من القتال بقولي لها: اثبتي فإن قتلت يحمدك الناس على الثبات وعدم الانهزام, وإن قتلت العدو استرحت ونلت بغيتك فالثبات خير على أي حال, وبين قوله تعالى - وهو على منطق التعقل -: { قل لن يصيبنا إلاَّ ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون * قل هل تربصون بنا إلاَّ إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون } } [التوبة: 51ـ52]، يريد أن أمر ولايتنا وانتصارنا إلى الله سبحانه لا نريد في شيء مما يصيبنا من خير أو شر إلا ما وعدنا من الثواب على الإسلام له والالتزام لدينه, كما قال تعالى: { { لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلاَّ كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين* ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون وادياً إلاَّ كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون }
[التوبة: 120ـ121]. وإذا كان كذلك فإن قتلتمونا أو أصابنا منكم شيء كان لنا عظيم الأجر والعاقبة الحسنى عند ربنا, وإن قتلناكم أو أصبنا منكم شيئاً كان لنا عظيم الثواب والعاقبة الحسنى والتمكن في الدنيا من عدونا, فنحن على أي حال سعداء مغبوطون ولا تتحفون لنا في قتالنا ولا تتربصون بنا في أمرنا إلا إحدى الحسنيين, فنحن على الحسنى والسعادة على أي حال, وأنتم على السعادة ونيل البغية بعقيدتكم على أحد التقديرين, وفي إحدى الحالين: وهو كون الدائرة لكم علينا, فنحن نتربص بكم ما يسوؤكم وأنتم لا تتربصون بنا إلا ما يسرنا ويسعدنا.
فهذان منطقان أحدهما يعني الثبات وعدم الزوال على مبنى إحساسي, وهو أن للثابت أحد نفعين: إما حمد الناس وإما الراحة من العدو, هذا إذا كان نفع عائد إلى الانسان المقاتل الذي يلقي بنفسه إلى التهلكة, أما إذا لم يكن هناك نفع عائد كما لو لم يحمده الناس لعدم تقديرهم قدر الجهاد وتساوى عندهم الخدمة والخيانة, أو كانت الخدمة مما ليس من شأنه أن يظهر لهم البتة أو لا هي ولا الخيانة, أو لم يسترح الإحساس بفناء العدو, بل إنما يستريح به الحق, فليس بهذا المنطق إلا العيّ واللكنة.
وهذه الموارد المعدودة هي الأسباب العامة في كل بغي وخيانة وجناية, يقول الخائن المساهل في أمر القانون: إن خدمته لا تقدّر عند الناس بما يعدلها, وإن الخادم والخائن عندهم سواء, بل الخائن أحسن حالاً وأنعم عيشاً, ويرى كل باغ وجان أنه سيتخلص من قهر القانون, وأن القوى المراقبة لا يقدرون على الحصول عليه فيخفى أمره ويلتبس على الناس شخصه, ويعتذر كل من يتثبط ويتثاقل في إقامة الحق والثورة على أعدائه ويداهنهم, بأن القيام على الحق يذلله بين الناس, ويضحك منه الدنيا الحاضرة, ويعدونه من بقايا القرون الوسطى أو أعصار الأساطير, فإن ذكرته بشرافة النفس وطهارة الباطن رد عليك قائلاً: ما أصنع بشرافة النفس إذا جرّت إلي نكد العيش وذلة الحياة. هذا.
وأما المنطق الآخر وهو منطق الإسلام, فهو يبنى أساسه على اتباع الحق وابتغاء الأجر والجزاء من الله سبحانه وإنما يتعلق الغرض بالغايات والمقاصد الدنيوية في المرتبة التالية وبالقصد الثاني, ومن المعلوم أنه لا يشذ عن شموله مورد من الموارد, ولا يسقط كليته من العموم والاطراد, فالعمل - أعم من الفعل والترك - إنما يقع لوجهه تعالى وإسلاماً له واتباعاً للحق الذي أراده وهو الحفيظ العليم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم, ولا عاصم منه ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء والله بما تعملون خبير.
فعلى كل نفس فيما وردت مورد عمل أو صدرت, رقيب شهيد قائم بما كسبت, سواء شهده الناس أو لا, حمدوه أو لا, قدروا فيه على شيء أو لا.
وقد بلغ من حسن تأثير التربية الإسلامية أن الناس كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيعترفون عنده بجرائمهم وجناياتهم بالتوبة ويذوقون مر الحدود التي تقام عليهم (القتل فما دونه) ابتغاء رضوان الله وتطهيراً لأنفسهم من قذارة الذنوب ودرن السيئات, وبالتأمل في هذه النوادر الواقعة يمكن للباحث أن ينتقل إلى عجيب تأثير البيان الديني في نفوس الناس وتعويده لهم السماحة في ألذ الأشياء وأعزها عندهم وهي الحياة وما في تلوها, ولولا أن البحث قرآني لأوردنا طرفاً من الأمثلة التاريخية فيه.
8ـ ما معنى ابتغاء الاجر عند الله والاعراض عن غيره؟ ربما يتوهم المتوهم أن جعل الأجر الاخروي وهو الغرض العام في حياة الإنسان الاجتماعية يوجب سقوط الأغراض الحيوية التي تدعو إليه البنية الطبيعية الإنسانية وفيه فساد نظام الاجتماع, والانحطاط إلى منحط الرهبانية, وكيف يمكن الانقطاع إلى مقصد من المقاصد مع التحفظ على المقاصد المهمة الاخرى؟ وهل هذا إلا تناقض.
لكنه توهم ناشئ من الجهل بالحكمة الإلهية والأسرار التي تكشف عنها المعارف القرآنية, فإن الإسلام يبني تشريعه على أصل التكوين - كما مر ذكره مراراً في المباحث السابقة من هذا الكتاب - قال تعالى: { { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }
[الروم: 30]. وحاصله: أن سلسلة الأسباب الواقعية التكوينية تعاضدت على إيجاد النوع الإنساني في ذيلها وتوفرت على سوقه نحو الغاية الحيوية التي هيأت له, فيجب له أن يبني حياته في ظرف الكدح والاختيار على موافقة الأسباب فيما تريد منه وتسوقه إليه حتى لا تناقضها حياته فيؤديه ذلك إلى الهلاك والشقاء, وهذا (لو تفهمه المتوهم) هو الدين الإسلامي بعينه, ولما كان هناك فوق الأسباب سبب وحيد هو الموجد لها, المدبر لأمرها, فيما دق وجل وهو الله سبحانه الذي هو السبب التام فوق كل سبب بتمام معنى الكلمة كان الواجب على الإنسان الإسلام له والخضوع لأمره, وهذا معنى كون التوحيد هو الأساس الوحيد للدين الإسلامي.
ومن هنا يظهر أن حفظ كلمة التوحيد والإسلام لله وابتغاء وجهه في الحياة جرى على موافقة الأسباب طراً, وإعطاء كل ذي حق منها حقه من غير شرك ولا غفلة, فعند المرء المسلم غايات وأغراض دنيوية وأخرى أخروية وله مقاصد مادية وأخرى معنوية, لكنه لا يعتني في أمرها بأزيد مما ينبغي من الاعتناء والاهتمام, ولذلك بعينه نرى أن الإسلام يندب إلى توحيد الله سبحانه والانقطاع إليه والإخلاص له والإعراض عن كل سبب دونه ومبتغى غيره, ومع ذلك يأمر الناس باتباع نواميس الحياة والجري على المجاري الطبيعية.
ومن هنا يظهر أن أفراد المجتمع الإسلامي هم السعداء بحقيقة السعادة في الدنيا وفي الآخرة, وأن غاياتهم وهو ابتغاء وجه الله في الأعمال لا تزاحم سائر الغايات الحيوية إذا ظهرت واستوثرت.
ومن هنا يظهر أيضاً فساد توهم آخر وهو الذي ذكره جمع من علماء الاجتماع من الباحثين, أن حقيقة الدين والغرض الأصلي منه هو إقامة العدالة الاجتماعية والعباديات فروع متفرعة عليها, فالذي يقيمها فهو على الدين ولو لم يتلبس بعقيدة ولا عبودية.
والباحث المتدبر في الكتاب والسنة وخاصة في السيرة النبوية لا يحتاج في الوقوف على بطلان هذا التوهم إلى مؤونة زائدة وتكلف استدلال, على أن هذا الكلام الذي يتضمن إسقاط التوحيد وكرائم الأخلاق من مجموعة النواميس الدينية فيه إرجاع للغاية الدينية التي هي كلمة التوحيد إلى الغاية المدنية التي هي التمتع, وقد عرفت أنهما غايتان مختلفتان لا ترجع إحداهما إلى الأخرى لا في أصلها ولا في فروعها وثمراتها.
9ـ ما معنى الحرية في الإسلام؟ كلمة الحرية على ما يراد بها من المعنى لا يتجاوز عمرها في دورانها على الألسن عدة قرون, ولعل السبب المبتدع لها هي النهضة المدنية الأوربية قبل بضعة قرون, لكن معناها كان جائلاً في الأذهان وأمنية من أماني القلوب منذ أعصار قديمة.
والأصل الطبيعي التكويني الذي ينتشي منه هذا المعنى هو ما تجهز به الإنسان في وجوده من الإِرادة الباعثة إياه على العمل, فإنها حالة نفسية في إبطالها إبطال الحس والشعور المنجر إلى إبطال الإِنسانية.
غير أن الإنسان لما كان موجوداً اجتماعياً تسوقه طبيعته إلى الحياة في المجتمع, وإلقاء دلوه في الدلاء بإدخال إرادته في الإرادات وفعله في الأفعال المنجر إلى الخضوع لقانون يعدل الإرادات والأعمال بوضع حدود لها, فالطبيعة التي أعطته إطلاق الإرادة والعمل هي بعينها تحدد الإرادة والعمل وتقيد ذلك الإطلاق الابتدائي والحرية الأولية.
والقوانين المدنية الحاضرة لما وضعت بناء أحكامها على أساس التمتع المادي كما عرفت, أنتج ذلك حرية الأُمة في أمر المعارف الأصلية الدينية من حيث الالتزام بها وبلوازمها, وفي أمر الأخلاق وفي ما وراء القوانين من كل ما يريده ويختاره الإنسان من الإرادات والأعمال, فهذا هو المراد بالحرية عندهم.
وأما الإسلام فقد وضع قانونه على أساس التوحيد كما عرفت, ثم في المرتبة التالية على أساس الأخلاق الفاضلة, ثم تعرضت لكل يسير وخطير من الأعمال الفردية والاجتماعية كائنة ما كانت, فلا شيء مما يتعلق بالإنسان أو يتعلق به الإنسان إلا وللشرع الإسلامي فيه قدم أو أثر قدم, فلا مجال ولا مظهر للحرية بالمعنى المتقدم فيه.
نعم للإنسان فيه الحرية عن قيد عبودية غير الله سبحانه, وهذا وإن كان لا يزيد على كلمة واحدة, غير أنه وسيع المعنى عند من بحث بحث تعمق في السنة الإسلامية والسيرة العملية التي تندب إليها وتقرها بين أفراد المجتمع وطبقاته, ثم قاس ذلك إلى ما يشاهد من سنن السؤدد والسيادة والتحكمات في المجتمعات المتمدنة بين طبقاتها وأفرادها أنفسها وبين كل أمة قوية وضعيفة.
وأما من حيث الأحكام, فالتوسعة فيما أباحه الله من طيبات الرزق ومزايا الحياة المعتدلة من غير إفراط أو تفريط قال تعالى: { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } } [الأعراف: 32]، وقال تعالى: { { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [البقرة: 29]، وقال تعالى: { { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } }
[الجاثية: 13]. ومن عجيب الأمر ما رامه بعض الباحثين والمفسرين, وتكلف فيه من إثبات حرية العقيدة في الإسلام بقوله تعالى: { لا إكراه في الدين } [البقرة: 256]، وما يشابهه من الآيات الكريمة.
وقد مر البحث التفسيري عن معنىالآية في سورة البقرة, والذي نضيف إليها ها هُنا, أنك عرفت أن التوحيد أساس جميع النواميس الإسلامية, ومع ذلك كيف يمكن أن يشرع حرية العقائد؟ وهل ذلك إلا التناقض الصريح؟ فليس القول بحرية العقيدة إلا كالقول بالحرية عن حكومة القانون في القوانين المدنية بعينه.
وبعبارة أخرى العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقي ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملاً اختيارياً للإنسان حتى يتعلق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير, وإنما الذي يقبل الحظر والإباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال كالدعوة إلى العقيدة وإقناع الناس بها وكتابتها ونشرها وإفساد ما عند الناس من العقيدة والعمل المخالفين لها؛ فهذه هي التي تقبل المنع والجواز, ومن المعلوم أنها إذا خالفت مواد قانون دائر في المجتمع أو الأصل الذي يتكي عليه القانون, لم يكن مناص من منعها من قبل القانون ولم يتك الإسلام في تشريعه على غير دين التوحيد (التوحيد والنبوة والمعاد) وهو الذي يجتمع عليه المسلمون, واليهود, والنصارى, والمجوس, (أهل الكتاب) فليست الحرية إلا فيها, وليست فيما عداها إلا هدماً لأصل الدين؛ نعم ها هنا حرية أخرى, وهي الحرية من حيث إظهار العقيدة في مجرى البحث وسنبحث عنها في الفصل 14 الآتي.
10ـ ما هو الطريق إلى التحول والتكامل في المجتمع الإسلامي؟ ربما أمكن أن يقال: هب أن السنة الإسلامية سنة جامعة للوازم الحياة السعيدة, والمجتمع الإسلامي مجتمع سعيد مغبوط لكن هذه السنة لجامعيتها وانتفاء حرية العقيدة فيها تستوجب ركود المجتمع ووقوفه عن التحول والتكامل, وهو من عيوب المجتمع الكامل, كما قيل, فإن السير التكاملي يحتاج إلى تحقق القوى المتضادة في الشيء وتفاعلها حتى تولد بالكسر والانكسار مولوداً جديداً خالياً من نواقص العوامل المولدة التي زالت بالتفاعل, فإذا فرض أن الإسلام يرفع الأضداد والنواقص وخاصة العقائد المتضادة من أصلها فلازمه أن يتوقف المجتمع الذي يكونه عن السير التكاملي.
أقول: وهو من إشكالات المادية التحولية (ماترياليسم ديالكتيك) وفيه خلط عجيب, فإن العقائد والمعارف الإنسانية على نوعين: نوع يقبل التحول والتكامل, وهو: العلوم الصناعية التي تستخدم في طريق ترفيع قواعد الحياة المادية وتذليل الطبيعة العاصية للإنسان, كالعلوم الرياضية والطبيعية وغيرهما, وهذه العلوم والصناعات وما في عدادها كلما تحولت من النقص إلى الكمال أوجب ذلك تحول الحياة الاجتماعية لذلك.
ونوع آخر لا يقبل التحول وإن كان يقبل التكامل بمعنى آخر وهو: العلوم والمعارف العامة الإلهية التي تقضي في المبدأ, والمعاد, والسعادة, والشقاء, وغير ذلك قضاءً قاطعاً واقفاً غير متغير ولا متحول, وإن قبلت الارتقاء والكمال من حيث الدقة والتعمق, وهذه العلوم والمعارف لا تؤثر في الاجتماعات وسنن الحياة إلا بنحو كلي, فوقوف هذه المعارف والآراء وثبوتها على حال واحد لا يوجب وقوف الاجتماعات عن سيرها الارتقائي, كما نشاهد أن عندنا آراءً كثيرة كلية ثابتة على حال واحد من غير أن يقف اجتماعنا لذلك عن سيره كقولنا: إن الإنسان يجب أن ينبعث إلى العمل لحفظ حياته, وإن العمل يجب أن يكون لنفع عائد إلى الإنسان, وإن الإنسان يجب أن يعيش في حال الاجتماع, وقولنا: إن العالم موجود حقيقة لا وهماً, وإن الإنسان جزء من العالم, وإن الإنسان جزء من العالم الأرضي, وإن الإنسان ذو أعضاء وأدوات وقوى إلى غير ذلك من الآراء والمعلومات الثابتة التي لا يوجب ثبوتها ووقوفها وقوف الاجتماعات وركودها, ومن هذا القبيل القول بأن للعالم إلهاً واحداً شرع للناس شرعاً جامعاً لطرق السعادة من طريق النبوة, وسيجمع الجميع إلى يوم يوفيهم فيه جزاء أعمالهم, وهذه هي الكلمة الوحيدة التي بنى عليها الإسلام مجتمعه, وتحفظ عليها كل التحفظ, ومن المعلوم أنه مما لا يوجب باصطكاك ثبوته ونفيه وإنتاج رأي آخر فيه إلا انحطاط المجتمع, كما بين مراراً وهذا شأن جميع الحقائق الحقة المتعلقة بما وراء الطبيعة, فإنكارها بأي وجه لا يفيد للمجتمع إلا انحطاطاً وخسة.
والحاصل أن المجتمع البشري لا يحتاج في سيره الارتقائي إلا إلى التحول والتكامل يوماً فيوماً في طرق الاستفادة من مزايا الطبيعة, وهذا إنما يتحقق بالبحث الصناعي المداوم, وتطبيق العمل على العلم دائماً, والإسلام لا يمنع من ذلك شيئاً.
وأما تغير طريق إدارة المجتمعات وسنن الاجتماع الجارية كالاستبداد الملوكي والديموقراطية والكمونيزم ونحوها, فليس بلازم إلا من جهة نقصها وقصورها عن إيفاء الكمال الإِنساني الاجتماعي المطلوب لا من جهة سيرها من النقص إلى الكمال, فالفرق بينها لو كان, فإنما هو فرق الغلط والصواب, لا فرق الناقص والكامل, فإذا استقر أمر السنة الاجتماعية على ما يقصده الإنسان بفطرته, وهو العدالة الاجتماعية, واستظل الناس تحت التربية الجيدة بالعلم النافع والعمل الصالح, ثم أخذوا يسيرون مرتاحين ناشطين نحو سعادتهم بالارتقاء في مدارج العلم والعمل, ولا يزالون يتكاملون ويزيدون تمكناً واتساعاً في السعادة, فما حاجتهم إلى تحول السنة الاجتماعية زائداً على ذلك؟ ومجرد وجوب التحول على الإنسان من كل جهة حتى فيما لا يحتاج فيه إلى التحول مما لا ينبغي أن يقضي به ذو نظر وبصيرة.
فإن قلت: لا مناص من عروض التحول في جميع ما ذكرت أنه مستغن عنه كالاعتقادات والأخلاق الكلية ونحوها, فإنها جميعاً تتغير بتغير الأوضاع الاجتماعية, والمحيطات المختلفة, ومرور الأزمنة, فلا يجوز أن ينكر أن الإنسان الجديد تغاير أفكاره أفكار الإنسان القديم, وكذا الإنسان يختلف نحو تفكره بحسب اختلاف مناطق حياته كالأراضي الاستوائية والقطبية والنقاط المعتدلة, وكذا بتفاوت أوضاع حياته من خادم ومخدوم, وبدوي وحضري, ومثر ومعدم, وفقير وغني, ونحو ذلك, فالأفكار والآراء تختلف باختلاف العوامل, وتتحول بتحول الأعصار بلا شك كائنة ما كانت.
قلت: الإشكال مبني على نظرية نسبية العلوم والآراء الإنسانية ولازمها كون الحق والباطل, والخير والشر, أموراً نسبية إضافية, فالمعارف الكلية النظرية المتعلقة بالمبدأ والمعاد, وكذا الآراء الكلية العملية كالحكم بكون الاجتماع خيراً للإنسان وكون العدل خيراً (حكماً كلياً لا من حيث انطباقه على المورد) تكون أحكاماً نسبية متغيرة بتغير الأزمنة والأوضاع والأحوال, وقد بينا في محله فساد هذه النظرية من حيث كليتها.
وحاصل ما ذكرناه هناك أن النظرية غير شاملة للقضايا الكلية النظرية وقسم من الآراء الكلية العملية.
وكفى في بطلان كليتها أنها لو صحت (أي كانت كلية مطلقة ثابتة) أثبتت قضية مطلقة غير نسبية وهي نفسها, ولو لم تكن كلية مطلقة بل قضية جزئية أثبتت بالاستلزام قضية كلية مطلقة, فكليتها باطلة على أي حال, وبعبارة أخرى لو صح أن "كل رأي واعتقاد يجب أن يتغير يوماً" وجب أن يتغير نفس هذا الرأي يوماً, أي لا يتغير بعض الاعتقادات أبداً, فافهم ذلك.
11ـ هل الإسلام بشريعته يفي بإسعاد هذه الحياة الحاضرة؟ ربما يقال: هب أن الإسلام لتعرضه لجميع شؤون الإنسانية الموجودة في عصر نزول القرآن كان يكفي في إيصاله مجتمع ذاك العصر إلى سعادتهم الحقيقية وجميع أمانيهم في الحياة, لكن مرور الزمان غير طرق الحياة الإنسانية, فالحياة الثقافية والعيشة الصناعية في حضارة اليوم لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشر قرناً المقتصرة على الوسائل الطبيعية الابتدائية, فقد بلغ الإنسان إثر مجاهداته الطويلة الشاقة مبلغاً من الارتقاء والتكامل المدني لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون كان كالقياس بين نوعين متبائنين, فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر للحياة المتشكلة العبقرية اليوم؟ وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الأخرى؟.
والجواب: أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شؤونها, وإنما هو من حيث المصاديق والموارد وبعبارة أخرى يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذى به, ولباس يلبسه, ودار يقطن فيه ويسكنه, ووسائل تحمله وتحمل أثقاله وتنقلها من مكان إلى مكان, ومجتمع يعيش بين أفراده, وروابط تناسلية وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك, وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الإنسان إنساناً ذا هذه الفطرة والبنية وما دام حياته هذه الحياة الإنسانية, والإنسان الأولي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء.
وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الإنسان بها حوائجه المادية ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها.
فقد كان الإنسان الأولي مثلاً يتغذى بما يجده من الفواكه والنبات ولحم الصيد على وجه بسيط ساذج, وهو اليوم يهيئ منها ببراعته وابتداعه ألوفاً من ألوان الطعام والشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته, وألوان يستلذ منها بصره, وطعوم يستطيبها ذوقه, وكيفيات يتنعم بها لمسه, وأوضاع وأحوال أخرى يصعب إحصاؤها, وهذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الأول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به الإنسان لسد جوعه وإطفاء ثائرة شهوته.
وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الإنسان أولاً لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الأول على الآخر انطباقاً, كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيلة مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظاً من غير تغير وانحراف, وأما مع المخالفة فالسنة الإسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث.
وأما الأحكام الجزئية المتعلقة بالحوادث الجارية التي تحدث زماناً وزماناً, وتتغير سريعاً بالطبع, كالأحكام المالية والانتظامية المتعلقة بالدفاع, وطرق تسهيل الارتباطات والمواصلات والانتظامات البلدية ونحوها, فهي مفوضة إلى اختيار الوالي ومتصدي أمر الحكومة, فإن الوالي نسبته إلى ساحة ولايته كنسبة الرجل إلى بيته, فله أن يعزم ويجري فيها ما لرب البيت أن يتصرف به في بيته, وفيما أمره اليه, فللوالي الأمر أن يعزم على أمور من شؤون المجتمع في داخله أو خارجه مما يتعلق بالحرب أو السلم مالية أو غير مالية يراعي فيها صلاح حال المجتمع بعد المشاورة مع المسلمين, كما قال تعالى: { { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } [آل عمران: 159]، كل ذلك في الأمور العامة.
وهذه أحكام وعزمات جزئية تتغير بتغير المصالح والأسباب التي لا تزال يحدث منها شيء ويزول منها شيء غير الأحكام الإلهية التي يشتمل عليها الكتاب والسنة ولا سبيل للنسخ اليها ولبيانه التفصيلي محل آخر.
12ـ من الذي يتقلد ولاية المجتمع في الإسلام وما سيرته؟ كان ولاية أمر المجتمع الإسلامي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وافتراض طاعته صلى الله عليه وآله وسلم على الناس واتباعه صريح القرآن الكريم.
قال تعالى: { { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول } [التغابن: 12]، وقال تعالى: { لتحكم بين الناس بما أراك الله } [النساء: 105]، وقال تعالى: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [الأحزاب: 6]، وقال تعالى: { { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [آل عمران: 31]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي يتضمن كل منها بعض شؤون ولايته العامة في المجتمع الإسلامي أو جميعها.
والوجه الوافي لغرض الباحث في هذا الباب أن يطالع سيرته صلى الله عليه وآله وسلم ويمتلئ منه نظراً, ثم يعود إلى مجموع ما نزلت من الآيات في الأخلاق والقوانين المشرعة في الآحكام العبادية والمعاملات والسياسات وسائر المرابطات والمعاشرات, فإن هذا الدليل المتخذ بنحو الانتزاع من ذوق التنزيل الإلهي, له من اللسان الكافي والبيان الوافى ما لا يوجد في الجملة والجملتين من الكلام البتة.
وها هنا نكتة أخرى يجب على الباحث الاعتناء بأمرها, وهو أن عامة الآيات المتضمنة لإقامة العبادات والقيام بأمر الجهاد وإجراء الحدود والقصاص وغير ذلك توجه خطاباتها إلى عامة المؤمنين دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة, كقوله تعالى: { وأقيموا الصلاة } [البقرة: 110]، وقوله: { { وأنفقوا في سبيل الله } [البقرة: 195]، وقوله: { { كتب عليكم الصيام } [البقرة: 183]، وقوله: { { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [آل عمران: 104]، وقوله: { { وجاهدوا في سبيله } [المائدة: 35]، وقوله: { وجاهدوا في الله حق جهاده } [الحج: 78]، وقوله: { { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما } [النور: 2]، وقوله: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [المائدة: 38]، وقوله: { ولكم في القصاص حياة } [البقرة: 179]، وقوله: { { وأقيموا الشهادة لله } [الطلاق: 2]، وقوله: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } [آل عمران: 103]، وقوله: { { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [الشورى: 13]، وقوله: { { وما محمد إلاَّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين } [آل عمران: 144]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
ويستفاد من الجميع أن الدين صبغة اجتماعية حمله الله على الناس ولا يرضى لعباده الكفر, ولم يرد إقامته إلا منهم بأجمعهم, فالمجتمع المتكون منهم أمره اليهم من غير مزية في ذلك لبعضهم ولا اختصاص منهم ببعضهم, والنبي ومن دونه في ذلك سواء, قال تعالى: { { أَني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } [آل عمران: 195]، فإطلاق الآية تدل على أن التأثير الطبيعي الذي لأجزاء المجتمع الإسلامي في مجتمعهم مراعى عند الله سبحانه تشريعاً, كما راعاه تكويناً, وأنه تعالى لا يضيعه، وقال تعالى: { { إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين } }
[الأعراف: 128]. نعم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة والهداية والتربية, قال تعالى: { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } [الجمعة: 2]، فهو صلى الله عليه وآله وسلم المتعين من عند الله للقيام على شأن الأمة وولاية أمورهم في الدنيا والآخرة وللإمامة لهم ما دام حياً.
لكن الذي يجب أن لا يغفل عنه الباحث أن هذه الطريقة غير طريقة السلطة الملوكية التي تجعل مال الله فيئاً لصاحب العرش وعباد الله أرقاء له يفعل بهم ما يشاء ويحكم فيهم ما يريد, وليست هي من الطرق الاجتماعية التي وضعت على أساس التمتع المادي من الديموقراطية وغيرها, فإن بينها وبين الإسلام فروقاً بينة مانعة من التشابه والتماثل.
ومن أعظمها أن هذه المجتمعات لما بنيت على أساس التمتع المادي نفخت في قالبها روح الاستخدام والاستثمار, وهو الاستكبار الإنساني الذي يجعل كل شيء تحت إرادة الانسان وعمله حتى الإنسان بالنسبة إلى الانسان, ويبيح له طريق الوصول اليه والتسلط على ما يهواه ويأمله منه لنفسه, وهذا بعينه هو الاستبداد الملوكي في الأعصار السالفة, وقد ظهرت في زي الاجتماع المدني على ما هو نصب أعيننا اليوم من مظالم الملل القوية وإجحافاتهم وتحكماتهم بالنسبة إلى الأمم الضعيفة وعلى ما هو في ذكرنا من أعمالهم المضبوطة في التواريخ.
فقد كان الواحد من الفراعنة والقياصرة والأكاسرة يجري في ضعفاء عهده بتحكمه ولعبه كل ما يريده ويهواه. ويعتذر - لو اعتذر - أن ذلك من شؤون السلطنة ولصلاح المملكة وتحكيم أساس الدولة, ويعتقد أن ذلك حق نبوغه وسيادته, ويستدل عليه بسيفه, كذلك إذا تعمقت في المرابطات السياسية الدائرة بين أقوياء الأمم وضعفائهم اليوم, وجدت أن التاريخ وحوادثه كرت علينا ولن تزال تكر, غير أنها أبدلت الشكل السابق الفردي بالشكل الحاضر الاجتماعي, والروح هي الروح, والهوى هو الهوى, وأما الاسلام فطريقته بريئة من هذه الأهواء, ودليله السيرة النبوية في فتوحاته وعهوده.
ومنها أقسام الاجتماعات على ما هو مشهود ومضبوط في تاريخ هذا النوع لا تخلوا عن وجود تفاضل بين أفرادها مؤد إلى الفساد, فإن اختلاف الطبقات بالثروة أو الجاه والمقام المؤدي بالآخرة إلى بروز الفساد في المجتمع من لوازمها, لكن المجتمع الاسلامي مجتمع متشابه الأجزاء لا تقدم فيها للبعض على البعض ولا تفاضل ولا تفاخر ولا كرامة, وإنما التفاوت الذي تستدعيه القريحة الإنسانية ولا تسكت عنه إنما هو في التقوى وأمره إلى الله سبحانه لا إلى الناس, قال تعالى: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات: 13]، وقال تعالى: { { فاستبقوا الخيرات } [البقرة: 148]، فالحاكم والمحكوم, والأمير والمأمور, والرئيس والمرؤوس, والحر والعبد, والرجل والمرأة, والغني والفقير, والصغير والكبير, في الاسلام في موقف سواء من حيث جريان القانون الديني في حقهم, ومن حيث انتفاء فواصل الطبقات بينهم في الشؤون الاجتماعية على ما تدل عليه السيرة النبوية على سائرها السلام والتحية.
ومنها أن القوة المجرية في الاسلام ليست هي طائفة متميزة في المجتمع بل تعم جميع أفراد المجتمع, فعلى كل فرد أن يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, وهناك فروق اخر لا تخفى على الباحث المتتبع.
هذا كله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما بعده, فالجمهور من المسلمين على أن انتخاب الخليفة الحاكم في المجتمع إلى المسلمين والشيعة من المسلمين على أن الخليفة منصوص من جانب الله ورسوله وهم اثنا عشر إماماً على التفصيل المودع في كتب الكلام.
ولكن على أي حال أمر الحكومة الاسلامية بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد غيبة الامام, كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال, والذي يمكن أن يستفاد من الكتاب في ذلك, أن عليهم تعيين الحاكم في المجتمع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي سنة الامامة دون الملوكية والامبراطورية, والسير فيهم بحفاظة الأحكام من غير تغيير, والتولي بالشور في غير الأحكام من حوادث الوقت والمحل كما تقدم, والدليل على ذلك كله جميع ما تقدم من الآيات في ولاية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضافة إلى قوله تعالى: { لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة } }
[الأحزاب: 21].
13ـ ثغر المملكة الإسلاميه هو الاعتقاد دون الحدود الطبيعية أو الاصطلاحية: ألغى الاسلام أصل الانشعاب القومي من أن يؤثر في تكون المجتمع أثره ذاك الانشعاب الذي عامله الأصلي البدوية والعيش بعيشة القبائل والبطون, أو اختلاف منطقة الحياة والوطن الأرضي, وهذان أعني البدوية واختلاف مناطق الأرض في طبائعها الثانوية من حرارة وبرودة وجدب وخصب وغيرهما, هما العاملان الأصليان لانشعاب النوع الانساني شعوباً وقبائل واختلاف ألسنتهم وألوانهم على ما بين في محله.
ثم صارا عاملين لحيازة كل قوم قطعة من قطعات الأرض على حسب مساعيهم في الحياة وبأسهم وشدتهم وتخصيصها بأنفسهم وتسميتها وطناً يألفونه ويذبون عنه بكل مساعيهم.
وهذا وإن كان أمراً ساقهم إلى ذلك الحوائج الطبيعية التي يدفعهم الفطرة إلى رفعها, غير أن فيه خاصة تنافي ما يستدعيه أصل الفطرة الإنسانية من حياة النوع في مجتمع واحد, فإن من الضروري أن الطبيعة تدعو إلى اجتماع القوى المتشتتة وتألفها وتقويها بالتراكم والتوحد لتنال ما تطلبه من غايتها الصالحة بوجه أتم وأصلح, وهذا أمر مشهود من حال المادة الأصلية حتى تصير عنصراً ثم... ثم نباتاً ثم حيواناً ثم انساناً.
والانشعابات بحسب الأوطان تسوق الامة إلى توحد في مجتمعهم يفصله عن المجتمعات الوطنية الاخرى, فيصير واحداً منفصل الروح والجسم عن الآحاد الوطنية الاخرى, فتنعزل الإنسانية عن التوحد والتجمع وتبتلي من التفرق والتشتت بما كانت تفر منه, ويأخذ الواحد الحديث يعامل سائر الآحاد الحديثة (أعني الآحاد الاجتماعية) بما يعامل به الإنسان سائر الأشياء الكونية من استخدام واستثمار وغير ذلك, والتجريب الممتد بامتداد الأعصار منذ أول الدنيا الى يومنا هذا يشهد بذلك وما نقلناه من الآيات في مطاوي الأبحاث السابقة, يكفي في استفادة ذلك من القرآن الكريم.
وهذا هو السبب في أن ألغى الإسلام هذه الانشعابات والتشتتات والتميزات, وبنى الاجتماع على العقيدة دون الجنسية والقومية والوطن ونحو ذلك, حتى في مثل الزوجية والقرابة في الاستمتاع والميراث, فإن المدار فيهما على الاشتراك في التوحيد لا المنزل والوطن مثلاً.
ومن أحسن الشواهد على هذا ما نراه عند البحث عن شرائع هذا الدين أنه لم يهمل أمره في حال من الأحوال, فعلى المجتمع الإسلامي عند أوج عظمته واهتزاز لواء غلبته أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه, وعليه عند الاضطهاد والمغلوبية ما يستطيعه من إحياء الدين وإعلاء كلمته, وعلى هذا القياس حتى أن المسلم الواحد عليه أن يأخذ به ويعمل منه ما يستطيعه ولو كان بعقد القلب في الاعتقاديات والاشارة في الأعمال المفروضة عليه.
ومن هنا يظهر أن المجتمع الاسلامي قد جعل جعلاً يمكنه أن يعيش في جميع الأحوال, وعلى كل التقادير من حاكمية ومحكومية, وغالبية ومغلوبية, وتقدم وتأخر, وظهور وخفاء, وقوة وضعف. ويدل عليه من القرآن آيات التقية بالخصوص قال تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلاَّ من أُكره وقلبه مطمئن بالإِيمان } [النحل: 106]، وقوله: { { إلاَّ أن تتقوا منهم تقاة } [آل عمران: 28]، وقوله: { فاتقوا الله ما استطعتم } [التغابن: 16]، وقوله: { { يا أيُّها الذين آمنوا اتّقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون } [آل عمران: 102].
14ـ الاسلام اجتماعي بجميع شؤونه: يدل على ذلك قوله تعالى: { وصابروا ورابطوا لعلَّكم تفلحون }، الآية على ما مر بيانه - وآيات أُخر كثيرة.
وصفة الاجتماع مرعية مأخوذة في الاسلام في جميع ما يمكن أن يؤدي بصفة الاجتماع من أنواع النواميس والأحكام بحسب ما يليق بكل منها من نوع الاجتماع, وبحسب ما يمكن فيه من الأمر والحث الموصل إلى الغرض, فينبغي للباحث أن يعتبر الجهتين معاً في بحثه:
فالجهة الاولى من الاختلاف ما نرى أن الشارع شرع الاجتماع مستقيماً في الجهاد إلى حد يكفي لنجاح الدفاع وهذا نوع, وشرع وجوب الصوم والحج مثلاً للمستطيع غير المعذور, ولازمه اجتماع الناس للصيام والحج, وتمم ذلك بالعيدين: الفطر والاضحى, والصلاة المشروعة فيهما, وشرع وجوب الصلوات اليومية عينياً لكل مكلف من غير أن يوجب فيها جماعة, وتدارك ذلك بوجوب الجماعة في صلاة الجمعة في كل أُسبوع مرة صلاة جماعة واحدة في كل أربعة فراسخ. وهذا نوع آخر.
والجهة الثانية ما نرى أن الشارع شرع وجوب الاجتماع في أشياء بلا واسطة, كما عرفت, وألزم على الاجتماع في أمور أخرى غير واجبة, لم يوجب الاجتماع فيها مستقيماً كصلاة الفريضة مع الجماعة, فإنها مسنونة مستحبة غير أن السنة جرت على أدائها جماعة, وعلى الناس أن يقيموا السنة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوم من المسلمين تركوا الحضور في الجماعة: ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد أن نأمر بحطب, فيوضع على أبوابهم فتوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم. وهذا هو السبيل في جميع ما سنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجب حفظ سنته على المسلمين بأي وسيلة أمكنت لهم وبأي قيمة حصلت.
وهذه أمور سبيل البحث فيها الاستنباط الفقهي من الكتاب والسنة والمتصدي لبيانها الفقه الإسلامي.
وأهم ما يجب ها هنا هو عطف عنان البحث إلى جهة أخرى, وهي اجتماعية الإسلام في معارفه الأساسية بعد الوقوف, على أنه يراعي الاجتماع في جميع ما يدعو الناس إليه من قوانين الأعمال العبادية, والمعاملية, والسياسية, ومن الأخلاق الكريمة, ومن المعارف الأصلية.
نرى الإسلام يدعو الناس إلى دين الفطرة بدعوى أنه الحق الصريح الذي لا مرية فيه, والآيات القرآنية الناطقة بذلك كثيرة مستغنية عن الإيراد, وهذا أول التألف والتأنس مع مختلف الأفهام, فإن الأفهام على اختلافها وتعلقها بقيود الأخلاق والغرائز لا تختلف في أن "الحق يجب اتباعه".
ثم نراه يعذر من لم تقم عليه البينة, ولم تتضح له المحجة, وإن قرعت سمعه الحجة, قال تعالى: { { ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حي عن بيّنة } [الأنفال: 42]، وقال تعالى: { { إلاَّ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً } [النساء: 98]، انظر إلى إطلاق الآية ومكان قوله: { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً }, وهذا يعطي الحرية التامة لكل متفكر يرى نفسه صالحة للتفكر, مستعدة للبحث والتنقير, أن يتفكر فيما يتعلق بمعارف الدين ويتعمق في تفهمها والنظر فيها. على أن الآيات القرآنية مشحونة بالحث والترغيب في التفكر, والتعقل, والتذكر.
ومن المعلوم أن اختلاف العوامل الذهنية والخارجية مؤثرة في اختلاف الأفهام, من حيث تصورها وتصديقها ونيلها وقضائها, وهذا يؤدي إلى الاختلاف في الاصول التي بني على أساسها المجتمع الاسلامي كما تقدم.
إلا أن الاختلاف بين إنسانين في الفهم على ما يقضي به فن معرفة النفس وفن الأخلاق وفن الاجتماع يرجع إلى أحد أمور: إما إلى اختلاف الأخلاق النفسانية, والصفات الباطنة من الملكات الفاضلة والردية, فإن لها تأثيراً وافراً في العلوم والمعارف الإنسانية من حيث الاستعدادات المختلفة التي تودعها في الذهن, فما إدارك الإنسان المنصف وقضاؤه الذهني كادراك الشموس المتعسف, ولا نيل المعتدل الوقور للمعارف كنيل العجول والمتعصب وصاحب الهوى والهمجي الذي يتبع كل ناعق, والغوي الذي لا يدري أين يريد؟ ولا أنى يراد به, والتربية الدينية تكفي مؤونة هذا الاختلاف, فإنها موضوعة على نحو يلائم الأصول الدينية من المعارف والعلوم, وتستولد من الأخلاق ما يناسب تلك الأصول, وهي مكارم الأخلاق, قال تعالى: { { كتاباُ أُنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } [الأحقاف: 30]، وقال تعالى: { { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم } [المائدة: 16]، وقال تعالى: { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } [العنكبوت: 69]، وانطباق الآيات على مورد الكلام ظاهر.
وإما أن يرجع إلى اختلاف الافعال, فإن الفعل المخالف للحق كالمعاصي وأقسام التهوسات الإنسانية, ومن هذا القبيل أقسام الاغواء والوساوس يلقن الإنسان وخاصة العامي الساذج الأفكار الفاسدة, ويعد ذهنه لدبيب الشبهات, وتسرب الآراء الباطلة فيه, وتختلف إذ ذاك الأفهام وتتخلف عن اتباع الحق! وقد كفى مؤونة هذا أيضاً الاسلام, حيث أمر المجتمع بإقامة الدعوة الدينية دائماً أولاً, وكلف المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانياً, وأمر بهجرة أرباب الزيغ والشبهات ثالثاً. قال تعالى: { ولتكن منكم أُمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } [آل عمران: 104] الآية، فالدعوة إلى الخير تستثبت الاعتقاد الحق وتقرها في القلوب بالتلقين والتذكير, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنعان من ظهور الموانع من رسوخ الاعتقادات الحقة في النفوس, وقال تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين * وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلَّهم يتقون * وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت } [الأنعام: 68ـ70] الأيات، ينهى الله تعالى عن المشاركة في الحديث الذي فيه خوض في شيء من المعارف الإلهية والحقائق الدينية بشبهة أو اعتراض أو استهزاء ولو بنحو الاستلزام أو التلويح, ويذكر أن ذلك من فقدان الإنسان أمر الجد في معارفه, وأخذه بالهزل واللعب واللهو, وأن منشأه الاغترار بالحياة الدنيا, وأن علاجه التربية الصالحة والتذكير بمقامه تعالى.
وإما أن يكون الاختلاف من جهة العوامل الخارجية كبعد الدار وعدم بلوغ المعارف الدينية إلا يسيرة أو محرفة أو قصور فهم الإنسان عن تعقل الحقائق الدينية تعقلاً صحيحاً كالجربزة والبلاده, المستندتين إلى خصوصية المزاج, وعلاجه تعميم التبليغ والإرفاق في الدعوة والتربية, وهذان من خصائص السلوك التبليغي في الإِسلام, قال تعالى: { { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } [يوسف: 108]، ومن المعلوم أن البصير بالأمر يعرف مبلغ وقوعه في القلوب وأنحاء تأثيراته المختلفة باختلاف المتلقين والمستمعين, فلا يبذل أحداً إلا مقدار ما يعيه منه, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما رواه الفريقان: "إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم" , وقال تعالى: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون } [التوبة: 122]، فهذه جمل ما يتقى به وقوع الاختلاف في العقائد أو يعالج به إذا وقع.
وقد قرر الإسلام لمجتمعه دستوراً اجتماعياً فوق ذلك يقيه عن دبيب الاختلاف المؤدي إلى الفساد والانحلال, فقد قال تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلّكم تتقون } [الأنعام: 153]، فبيّن أن اجتماعهم على اتباع الصراط المستقيم وتحذرهم عن اتباع سائر السبل يحفظهم عن التفرق ويحفظ لهم الاتحاد والاتفاق, ثم قال: { { يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاَّ وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } [آل عمران: 102ـ103]، وقد مرّ أن المراد بحبل الله هو القرآن المبين لحقائق معارف الدين, أو هو والرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ما يظهر من قوله تعالى قبله: { { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم }
[آل عمران: 100ـ101]. تدل الآيات على لزوم أن يجتمعوا على معارف الدين ويرابطوا أفكارهم ويمتزجوا في التعليم والتعلم فيستريحوا في كل حادث فكري أو شبهة ملقاة إلى الآيات المتلوة عليهم والتدبر فيها لحسم مادة الاختلاف وقد قال تعالى: { { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } [النساء: 82]، وقال: { { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاَّ العالمون } [العنكبوت: 43]، وقال: { { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } [النحل: 43]، فأفاد أن التدبر في القرآن أو الرجوع إلى من يتدبر فيه يرفع الاختلاف من البين.
وتدل على أن الإرجاع إلى الرسول وهو الحامل لثقل الدين يرفع من بينهم الاختلاف, ويبين لهم الحق الذي يجب عليهم أن يتبعوه, قال تعالى: { { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلّهم يتفكرون } [النحل: 44]، وقريب منه قوله تعالى: { { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [النساء: 83]، وقوله: { { يا أيُّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً } [النساء: 59]، فهذه صورة التفكر الاجتماعي في الإِسلام.
ومنه يظهر أن هذا الدين كما يعتمد بأساسه على التحفظ على معارفه الخاصة الالهية, كذلك يسمح للناس بالحرية التامة في الفكر, ويرجع محصله إلى أن من الواجب على المسلمين أن يتفكروا في حقائق الدين ويجتهدوا في معارفه تفكراً واجتهاداً بالاجتماع والمرابطة, وإن حصلت لهم شبهة في شيء من حقائقه ومعارفه أو لاح لهم ما يخالفها فلا بأس به, وإنما يجب على صاحب الشبهة أو النظر المخالف أن يعرض ما عنده على كتاب الله بالتدبر في بحث اجتماعي, فإن لم يداو داءه عرضه على الرسول, أو من أقامه مقامه حتى تنحل شبهته, أو يظهر بطلان ما لاح له إن كان باطلاً, قال تعالى: { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب }
[الزمر: 18]. والحرية في العقيدة والفكر على النحو الذي بيناه غير الدعوة إلى هذا النظر وإشاعته بين الناس قبل العرض, فإنه مفض إلى الاختلاف المفسد لأساس المجتمع القويم.
هذا أحسن ما يمكن أن يدبر به أمر المجتمع في فتح باب الارتقاء الفكري على وجهه مع الحفظ على حياته الشخصية, وأما تحميل الاعتقاد على النفوس والختم على القلوب وإماتة غريزة الفكرة في الإنسان عنوة وقهراً والتوسل في ذلك بالسوط أو السيف أو بالتكفير والهجرة وترك المخالطة, فحاشا ساحة الحق والدين القويم أن يرضى به أو يشرع ما يؤيده, وإنما هو خصيصة نصرانية وقد امتلأ تاريخ الكنيسة من أعمالها وتحكماتها في هذا الباب - وخاصة فيما بين القرن الخامس وبين القرن السادس عشر الميلاديين - بما لا يوجد نظائره في أشنع ما عملته أيدي الجبابرة والطواغيت وأقساه.
ولكن من الأسف أنا معاشر المسلمين سلبنا هذه النعمة وما لزمها (الاجتماع الفكري وحرية العقيدة) كما سلبنا كثيراً من النعم العظام التي كان الله سبحانه أنعم علينا بها لما فرطنا في جنب الله (وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فحكمت فينا سيرة الكنيسة واستتبع ذلك أن تفرقت القلوب وظهر الفتور وتشتت المذاهب والمسالك يغفر الله لنا ويوفقنا لمرضاته ويهدينا إلى صراطه المستقيم.
15ـ الدين الحق هو الغالب على الدنيا بالآخرة والعاقبة للتقوى: فإن النوع الإنساني بالفطرة المودوعة فيه تطلب سعادته الحقيقية, وهو استواؤه على عرش حياته الروحية والجسمية معاً, حياة اجتماعية بإعطاء نفسه حظه من السلوك الدنيوي والأخروي, وقد عرفت أن هذا هو الإسلام ودين التوحيد.
وأما الانحرافات الواقعة في سير الإنسانية نحو غايته وفي ارتقائه إلى أوج كماله, فإنما هو من جهة الخطأ في التطبيق لا من جهة بطلان حكم الفطرة, والغاية التي يعقبها الصنع والإِيجاد لا بد أن تقع يوماً معجلاً أو على مهل, قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (يريد أنهم لا يعلمون ذلك علماً تفصيلياً وإن علمته فطرتهم إجمالاً) إلى أن قال: { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون }, إلى أن قال: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلَّهم يرجعون } [الروم: 41]، وقال تعالى: { { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } [المائدة: 54]، وقال تعالى: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: { { والعاقبة للتقوى } [طه: 132]، فهذه وأمثالها آيات تخبرنا أن الإِسلام سيظهر ظهوره التام فيحكم على الدنيا قاطبة.
ولا تصغ إلى قول من يقول: إن الإسلام وإن ظهر ظهوراً ما وكانت أيامه حلقة من سلسلة التاريخ, فأثرت أثرها العام في الحلقات التالية, واعتمدت عليها المدنية الحاضرة, شاعرة بها أو غير شاعرة, لكن ظهوره التام, أعني حكومة ما في فرضية الدين بجميع موادها وصورها وغاياتها مما لا يقبله طبع النوع الإنساني ولن يقبله أبداً, ولم يقع عليه بهذه الصفة تجربة حتى يوثق بصحة وقوعه خارجاً وحكومته على النوع تامة.
وذلك أنك عرفت أن الإسلام بالمعنى الذي نبحث فيه غاية النوع الإنساني وكماله الذي هو بغريزته متوجه إليه, شعر به تفصيلاً أو لم يشعر, والتجارب القطعية الحاصلة في أنواع المكونات يدل على أنها متوجهة إلى غايات مناسبة لوجوداتها يسوقها إليها نظام الخلقة, والإنسان غير مستثنى من هذه الكلية.
على أن شيئاً من السنن والطرائق الدائرة في الدنيا الجارية بين المجتمعات الإنسانية, لم يتك في حدوثه وبقائه وحكومته على سبق تجربة قاطعة, فهذه شرائع نوح, وإبراهيم, وموسى, وعيسى, ظهرت حينما ظهرت ثم جرت بين الناس, وكذا ما أتى به برهما وبوذا وماني وغيرهم, وتلك سنن المدنية المادية كالديموقراطية والكمونيسم وغيرهما, كل ذلك جرى في المجتمعات الإنسانية المختلفة بجرياناتها المختلفة من غير سبق تجربة.
وإنما تحتاج السنن الاجتماعية في ظهورها ورسوخها في المجتمع إلى عزائم قاطعة وهمم عالية من نفوس قوية لا يأخذها في سبيل البلوغ إلى مآربها عي ولا نصب, ولا تذعن بأن الدهر قد لا يسمح بالمراد, والمسعى قد يخيب, ولا فرق في ذلك بين الغايات والمآرب الرحمانية والشيطانية.
(بحث روائي)
في المعاني عن الصادق عليه السلام في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } الآية: اصبروا على المصائب, وصابروهم على الفتنة, ورابطوا على من تقتدون به.
وفي تفسير العياشي عنه عليه السلام: اصبروا على دينكم, وصابروا عدوكم, ورابطوا امامكم.
أقول: وروي ما يقرب منه من طرق أهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الكافي عنه عليه السلام: اصبروا على الفرائض, وصابروا على المصائب ورابطوا على الأئمة.
وفي المجمع عن عليّ عليه السلام: رابطوا الصلوات قال: أي انتظروها لأن المرابطة لم تكن حينئذٍ.
أقول: اختلاف الروايات مستند إلى ما تقدم من إطلاق الأوامر.
وفي الدر المنثور: أخرج ابن جرير, وابن حيان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا, ويكفر به الذنوب؟ قلنا بلى يا رسول الله, قال: إسباغ الوضوء على المكاره, وكثرة الخطا إلى المساجد, وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط"
].
أقول: ورواه بطرق اخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم والأخبار في فضيلة المرابطة أكثر من أن تحصى.