التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٥
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٣٦
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٧
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
٣٨
فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٣٩
قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ
٤٠
قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ
٤١
-آل عمران

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
قوله تعالى: { إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم }؛ النذر إيجاب الإِنسان على نفسه ما ليس بواجب, والتحرير هو الإِطلاق عن وثاق, ومنه تحرير العبد عن الرقية, وتحرير الكتاب كأنه إطلاق للمعاني عن محفظة الذهن والفكر, والتقبل هو القبول عن رغبة ورضى كتقبل الهدية وتقبل الدعاء ونحو ذلك.
وفي قوله: { قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني }، دلالة على أنها إنما قالت هذا القول حينما كانت حاملاً, وأن حملها كان من عمران, ولا يخلو الكلام من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حياً عندئذٍ وإلاَّ لم يكن لها أن تستقل بتحرير ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضاً ما سيأتي من قوله تعالى:
{ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم } [آل عمران: 44] الآية، على ما سيجيء من البيان.
ومن المعلوم أن تحرير الأب أو الأم للولد ليس تحريراً عن الرقية, وإنما هو تحرير عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته واستعماله في مقاصدهما وافتراض طاعتهما, فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه, وإذا كان التحرير منذوراً لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده ويخدمه؛ أي يخدم في البيع والكنائس والأماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية الأبوين لولا التحرير؛ وقد قيل: إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا يستعملانه في منافعهما, ولا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة يكنسها ويخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الإِقامة والرواح فإن أحب أن يقيم أقام, وإن أحب الرواح ذهب لشأنه.
وفي الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا إناث حيث إنها تناجي ربها عن جزم وقطع من غير اشتراط وتعليق حيث تقول: { نذرت لك ما في بطني محرراً }, من غير أن تقول مثلاً إن كان ذكراً ونحو ذلك.
وليس تذكير قوله: { محرراً }, من جهة كونه حالاً عن ما الموصولة التي يستوي فيه المذكر والمؤنث, إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكراً أو أُنثى لم يكن وجه لمقالتها تحزناً وتحسراً لما وضعتها: رب إني وضعتها أُنثى؛ ولا وجه ظاهر لقوله تعالى: { والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى }, على ما سيجيء بيانه.
وفي حكايته تعالى لمقالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف, أو اعتماداً على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب ونحوه فكل ذلك ظن, والظن لا يغني من الحق شيئاً, وكلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلاَّ مع إبطاله, وقد قال تعالى:
{ { الله يعلم ما تحمل كل أُنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد } [الرعد: 8]، وقال تعالى: { { عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } [لقمان: 34]، فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى: وقال تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاَّ من ارتضى } [الجن: 26]، فجعل علم غيره بالغيب منتهياً إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهي بوجه إلى الوحي, ولذلك لما تبينت أن الولد أُنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانياً عن جزم وقطع: { وإني أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } الآية فأثبتت لها ذرية ولا سبيل إلى العلم به ظاهراً.
ومفعول قولها: فتقبل مني, وإن كان محذوفاً محتملاً لأن يكون هو. نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى: { فتقبلها ربها بقبول حسن }، لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد المحرر.
قوله تعالى: { فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أُنثى }؛ في وضع الضمير المؤنث موضع ما في بطنها إيجاز لطيف, والمعنى فلما وضعت ما في بطنها وتبيّنت أنه أنثى قالت: { رب إني وضعتها أنثى }, وهو خبر أُريد به التحسر والتحزن دون الإِخبار وهو ظاهر.
قوله تعالى: { والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى }، جملتان معترضتان وهما جميعاً مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران, ولا أن الثانية مقولة لها والأولى مقولة لله.
أما الأولى فهي ظاهرة لكن لما كان قولها: { رب إني وضعتها أنثى }, مسوقا لإِظهار التحسر كان ظاهر قوله: { والله أعلم بما وضعت }, أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها أنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه وأرضى طريق, ولو كانت تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها أنثى لم تتحسر, ولم تحزن ذاك التحسر والتحزن والحال, أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكناً أن يصير مثل هذا الأنثى التي وهبناها لها, ويترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الأنثى, فإن غاية أمره أن يصير مثل عيسى نبياً مبرئً للأكمه والأبرص ومحيياً للموتى, لكن هذه الأنثى ستتم بها كلمة الله وتلد ولداً بغير أب, وتجعل هي وابنها آية للعالمين, ويكلم الناس في المهد, ويكون روحاً, وكلمة من الله, مثله عند الله كمثل آدم إلى غير ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة وخلق ابنها عيسى عليهما السلام.
ومن هنا يظهر: أن قوله: وليس الذكر كالأنثى, مقول له تعالى لا لامرأة عمران, ولو كان مقولاً لها لكان حق الكلام أن يقال: وليس الأنثى كالذكر لا بالعكس, وهو ظاهر, فإن من كان يرجو شيئاً شريفاً أو مقاماً عالياً ثم رزق ما هو أخس منه واردأ, إنما يقول عند التحسر: ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه وأبتغيه, أو ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه, ولا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي رزقته البتة؛ وظهر من ذلك أن اللام في الذكر والأنثى معاً أو في الأنثى فقط للعهد.
وقد أخذ أكثر المفسرين قوله: { وليس الذكر كالأنثى }, تتمة قول امرأة عمران, وتكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الأنثى بما لا يرجع إلى محصل, من أراده فليرجع إلى كتبهم.
قوله تعالى: { وإني سميتها مريم وإني أُعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }؛ معنى مريم في لغتهم العابدة والخادمة على ما قيل, ومنه يعلم وجه مبادرتها إلى تسمية المولودة عند الوضع, ووجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من كون الولد ذكراً محرراً للعبادة وخدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية وأعدتها بالتسمية للعبادة والخدمة. فقولها: { وإني سميتها مريم }, بمنزلة أن تقول: إني جعلت ما وضعتها محررة لك, والدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً } الآية.
ثم أعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة والخدمة ويطابق اسمها المسمى.
والكلام في قولها: وذريتها, من حيث إنه قول مطلق من شرط وقيد لا يصح التفوه به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإِنسان من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه؛ نظير الكلام في قولها: { رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً }, على ما تقدم بيانه فليس إلاَّ أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولداً ذكراً صالحاً, ثم لما حملت وتوفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود, ثم لما وضعتها وبان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت, وسمتها مريم (العابدة, الخادمة) وأعاذتها وذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه تعالى.
قوله تعالى: { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً }؛ القبول إذا قيد بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا, فالكلام في معنى قولنا: فتقبلها ربها تقبلاً فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن القبول مقصود في الكلام, ولما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.
وحيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله: { فتقبلها }, إلى قوله: { حسناً }, الجملتان في قولها: { وإني سميتها } إلى قولها: { الرجيم } كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله: { فتقبلها ربها بقبول حسن }, قبولاً لقولها: { وإني سميتها مريم }, وقوله: { وأنبتها نباتاً حسناً }, قبولاً وإجابة لقولها: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم }, فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران بالنذر, وإعطاء الثواب الأخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى النذر وهو ظاهر, بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم ومحررة, فيعود معناه إلى اصطفائها (وقد مرّ أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه } فافهم ذلك.
والمراد بإنباتها نباتاً حسناً إعطاء الرشد والزكاة لها ولذريتها, وإفاضة الحياة لها ولمن ينمو منها من الذرية, حياة لا يمسها نفث الشيطان ورجس تسويله ووسوسته, وهو الطهارة.
وهذان أعني القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء, والنبات الحسن الراجع إلى التطهير هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: { وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك }, الآية وسنوضحه بياناً إن شاء الله العزيز.
فقد تبيّن أن اصطفاء مريم وتطهيرها إنما هما استجابة لدعوة أُمها كما أن اصطفائها على نساء العالمين في ولادة عيسى عليه السلام, وكونها وابنها آية للعالمين تصديق لقوله تعالى: { وليس الذكر كالأنثى }.
قوله تعالى: { وكفلها زكريا }، وإنما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفلها ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى: { وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون } الآية.
قوله تعالى: { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً } "الخ"، المحراب المكان المخصوص بالعبادة من المسجد والبيت, قال الراغب: ومحراب المسجد, قيل: سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى, وقيل: سمي بذلك لكون حق الإِنسان فيه أن يكون حريباً (أي سليباً) من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر, وقيل الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمي صدره به وقيل: بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محراباً تشبيهاً بمحراب المسجد, وكأن هذا أصح, قال عز وجل: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل, انتهى.
وذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح, وهو مقصورة في مقدم المعبد, لها باب يصعد إليه بسلمٍ ذي درجات قليلة, ويكون من فيه محجوباً عمّن في المعبد.
أقول: وإليه ينتهي اتخاذ المقصورة في الإِسلام.
وفي تنكير قوله: { رزقاً }, إشعار بكونه رزقاً غير معهود كما قيل: إنه كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف, وفاكهة الصيف في الشتاء, ويؤيده أنه لو كان من الرزق المعهود, وكان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خالياً من الرزق بل كان عندها رزق ما دائماً لم يقنع زكريا بقولها: { هو من عند الله إن الله يرزق } "الخ" في جواب قوله: { يا مريم أنّى لك هذا }, لإِمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيء.
على أن قوله تعالى: { هنالك دعا زكريا ربه } "الخ"، يدل على أن زكريا تلقى وجود هذا الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرية طيبة, فقد كان الرزق رزقاً يدل بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم الطاهرة, ومما يشعر بذلك قوله تعالى: { قال يا مريم } "الخ" على ما سيجيء من البيان.
وقوله: { قال يا مريم أنّى لك } "الخ" فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: { وجد عندها رزقاً }, يدل على أنه عليه السلام إنما قال لها ذلك مرة واحدة, فأجابت بما قنع به واستيقن أن ذلك كرامة لها وهنالك دعا وسأل ربه ذرية طيبة.
قوله تعالى: { هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } "الخ", طيب الشيء ملاءمته لصاحبه فيما يريده لأجله, فالبلد الطيب ما يلائم حياة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك, قال تعالى:
{ { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } [الأعراف: 58]، والعيشة الطيبة والحياة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها بعضاً ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد الصالح لأبيه مثلاً الذي يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والأمنية فقول زكريا عليه السلام: { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة }, لما كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطراً وكرامة, فكون ذريته طيبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصية في نفسها, ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله, ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى عليهما السلام, وأجمع الناس لما عند عيسى وأمه مريم الصديقة من صفات الكمال والكرامة, ومن هنا ما سماه تعالى بيحيى وجعله مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين, وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنه عيسى عليهما السلام على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى } إلى آخر الآية، ضمائر الغيبة والخطاب لزكريا, والبشرى والإِبشار والتبشير الإِخبار بما يفرح الإِنسان بوجوده.
وقوله: { أن الله يبشرك بيحيى }, دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب الله سبحانه, كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم, قال تعالى:
{ يا زكريا إنا نبشرك بغلامٍ اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً } } [مريم: 7] .وتسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشّر به زكريا قبل تولد يحيى وخلقه يؤيد ما ذكرناه آنفاً: أن الذي طلبه زكريا من ربه أن يرزقه ولداً يكون شأنه شأن مريم, وقد كانت مريم هي وابنها عيسى عليهما السلام آية واحدة كما قال تعالى: { { وجعلناها وابنها آية للعالمين } } [الأنبياء: 91]. فروعي في يحيى ما روعي فيهما من عند الله سبحانه, وقد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم, فالمرعي في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى عليهما السلام فيما يمكن ذلك, ولعيسى في ذلك كله التقدم التام لأن وجوده كان مقدراً قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى, ولذلك سبقه عيسى في كونه من أولي العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.
وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم فقال في يحيى: { يا زكريا إنا نبشرك بغلامٍ اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سمياً } إلى أن قال:
{ يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً* وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقياً * وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً } [مريم: 12ـ15]، وقال في عيسى عليه السلام: { فأرسلنا إليها روحنا } إلى أن قال: { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } إلى أن قال: { قال ربك هو عليَّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا } إلى أن قال: { فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً * وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً *وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً * والسلام عليَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أُبعث حياً } [مريم: 29ـ33]، ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التي نحن فيها عند التطبيق.
وبالجملة فقد سمّاه الله سبحانه يحيى وسمّى ابن مريم عيسى وهو بمعنى "يعيش" على ما قيل, وجعله مصدقاً بكلمة منه, وهو عيسى, كما قال تعالى: { بكلمة منه اسمه المسيح عيسى وآتاه الحكم وعلمه الكتاب صبياً } كما فعل بعيسى, وعده حناناً من لدنه وزكاة وبراً بوالديه غير جبارٍ كما كان عيسى كذلك, وسلّم عليه في المواطن الثلاث كعيسى, وعده سيداً كما جعل عيسى وجيهاً عنده, وجعله حصوراً ونبياً ومن الصالحين مثل عيسى, كل ذلك استجابة لمسألة زكريا ودعوته حيث سأل ذرية طيبة وولياً رضياً عندما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مرّ بيانه.
وفي قوله: { مصدقاً بكلمة من الله }، دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح, كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.
والسيد هو الذي يتولى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حياتهم ومعاشهم أو في فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولي المذكور يستلزم شرفاً بالحكم أو المال أو فضيلة أخرى.
والحصور هو الذي لا يأتي النساء، والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإِعراض عن مشتهيات النفس زهداً.
قوله تعالى: { قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } استفهام تعجيب واستعلام لحقيقة الحال لا استبعاد واستعظام مع تصريح البشارة بذلك وأن الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما منشأ للتعجب والاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال:
{ { رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً ولم أكن بدعائك رب شقياً * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقراً فهب لي من لدنك ولياً } [مريم: 4ـ5]. لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه عليه السلام لما انقلب حالاً من مشاهدة أمر مريم وتذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلاَّ وقد سأل ربه ما سأل, وقد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثره وتحزنه وهو بلوغ الكبر, وكون امرأته عاقراً, فلما استجيبت دعوته وبشر بالولد كأنه صحا وأفاق مما كان عليه من الحال, وأخذ يتعجب من ذلك وهو بالغ الكبر وامرأته عاقر, فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس وسيماء الحزن يغيره إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور.
على أن ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة واستعلام كيفية رفع واحد واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الإِفاضة والإِنعام التذاذاً بالنعمة الفائضة بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية, قال تعالى:
{ { ونبئهم عن ضيف إبراهيم * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلاَّ الضَّالون } [الحجر: 51ـ56]، فذكر في جواب نهي الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط, كيف وهو غير ضال والقنوط ضلالة, بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالاً يؤذن بالقرب والأنس والكرامة أوجب ذلك انبساطاً من العبد وابتهاجاً يستدعي تلذذه من كل حديث, وتمتعه في كل باب.
وفي قوله: { وقد بلغني الكبر } من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة والهرم. وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معاً, فإن ذلك ظاهر قوله: { وكانت امرأتي عاقراً }, ولم يقل: وامرأتي عاقر.
قوله تعالى: { قال كذلك الله يفعل ما يشاء }، فاعل قال وإن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحياً أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه فالقول على أي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك وقد نسب إليه تعالى لأنه بأمره, والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصة:
{ قال كذلك قال ربك هو عليَّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } [مريم: 9]. ومنه يظهر أولاً: أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولاً. وثانياً: أن قوله: كذلك, خبر لمبتدأ محذوف, والتقدير: الأمر كذلك أي الذي بشرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة, وفيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى: { قال كذلك قال ربك هو عليَّ هيّن } [مريم: 9] إلى أن قال: { { وكان أمراً مقضياً } [مريم: 21]، وثالثا: أن قوله: { الله يفعل ما يشاء }, كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك "اه".
قوله تعالى: { قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً } إلى آخر الآية، قال في المجمع: الرمز الإِيماء بالشفتين, وقد يستعمل في الإِيماء بالحاجب والعين واليد, والأول أغلب, انتهى. والعشي الطرف المؤخر من النهار, وكأنه مأخوذ من العشوة وهي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإِبصار فأخذوا ذلك وصفاً للوقت لرواحه إلى الظلمة, والإِبكار صدر النهار والطرف المقدم منه, والأصل في معناه الاستعجال.
ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه وبين عيسى فإنها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولده:
{ فإما ترين من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرَّحمن صوماً فلن أُكلم اليوم إنسياً } [مريم: 26]. وسؤاله عليه السلام من ربه أن يجعل له آية - والآية هي العلامة الدالة على الشيء - هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه, وبعبارة أُخرى هو خطاب رحماني ملكي لا شيطاني؟ أو لأنه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته, ويعلم وقت الحمل, خلاف بين المفسرين.
والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات وجريان القصة لكن الذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين, أعني كون سؤال الآية لتمييز أن الخطاب رحماني هو ما ذكروه: أن الأنبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك ووسوسة الشيطان, ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الإِفهام.
وهو كلام حق لكن يجب أن تعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم واستقلال ذواتهم, وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا من ربه أن يجعل له آية يعرف به ذلك؟ وأي محذور في ذلك؟ نعم لو لم يستجب دعائه ولم يجعل الله له آية كان الإِشكال في محله.
على أن خصوصية نفس الآية - وهي عدم التكليم ثلاثة أيام - تؤيد بل تدل على ذلك فإن الشيطان وإن أمكن أن يمس الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين واستقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين كما يدل عليه قوله تعالى:
{ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب } [ص: 41]، وقوله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاَّ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } [الحج: 52] الآية، وقوله تعالى: { { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلاَّ الشيطان } [الكهف: 63]. لكن هذه وأمثالها من مس الشيطان وتعرضه لا تنتج إلاَّ إيذاء النبي, وأما مسه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك, وقد مرَّ في ما تقدم من المباحث إثبات عصمتهم عليهم السلام.
والذي جعله الله تعالى آية لزكريا على ما يدل عليه قوله: { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبّح بالعشي والأبكار } هو أنه كان لا يقدر ثلاثه أيام على تكليم أحد ويعتقل لسانه إلاَّ بذكر الله وتسبيحه, وهذه آية واقعة على نفس النبي ولسانه وتصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلاَّ رحمانياً, وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأول دون الوجه الثاني.
فإن قلت: لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله: { قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء } الآية, فإن ظاهره أنه خاطب ربه وسأله ما سأل, ثم أُجيب بما أُجيب, فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكاً في أمر النداء؟ ولو لم يكن شاكاً عندئذٍ فما معنى سؤال التمييز؟.
قلت: مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت نفسه على كون النداء رحمانياً من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب منه نفسه الشريفة كما مر, فيجاب بنداءٍ آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية توجب اليقين بأنه كان رحمانياً فيزيد بذلك وثوقاً وطمأنينة.
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: { فنادته الملائكة }, فإن النداء إنما يكون من بعيد ولذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد, وليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا:
{ إذ نادى ربه نداءً خفياً } [مريم: 3]، فقد أطلق عليه النداء بعنايه تذلل زكريا وتواضعه قبال تعزز الله سبحانه وترفعه وتعاليه, ثم وصف النداء بالخفاء, فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه, وإنما سمع صوتاً يهتف به هاتف.
وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلاثة أيام, والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه, قال: الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإِلهية ليطمئن قلبه ويبشر أهله فسأل عن الكيفية, ولما أُجيب بما أُجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره, ويكون إتمامه إياها آية وعلامة على حصول المقصود, فأمره بأن لا يكلم الناس ثلاثة أيام بل ينقطع إلى الذكر والتسبيح مساءً وصباحاً مدة ثلاثة أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماءً, على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث ليالي, انتهى.
وأنت خبير بأنه ليس لما ذكره (من مسألته عبادة تكون شكراً للمنحة, وانتهائها إلى حصول المقصود, وكون انتهائها هو الآية, وكون قوله: أن لا تكلم مسوقاً للنهي التشريعي وكذا إرادته بشارة أهله) في الآية عين ولا أثر.
(كلام في الخواطر الملكية والشيطانية وما يلحق بهما من التكليم)
قد مرّ كراراً أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها, وأن القول أو الكلام مثلاً إنما يسمى به الصوت لإِفادته معنى مقصوداً يصح السكوت عليه, فما يفاد به ذلك, كلام وقول سواء كان مفيده صوتاً واحداً أو أصواتاً متعددة مؤلفة أو غير صوت كالإِيماء والرمز, والناس لا يتوقفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامّة كلاماً, وإن لم يخرج عن شق فم, وكذلك في تسمية الإِيماء قولاً وكلاماً وإن لم يشتمل على صوت.
والقرآن أيضاً يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاماً له وقولاً منه, قال تعالى حكاية عن الشيطان:
{ ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } [النساء: 119]، وقال: { { كمثل الشيطان إذ قال للإِنسان اكفر } [الحشر: 16]، وقال: { { يوسوس في صدور الناس } [الناس: 5]، وقال: { يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول } [الأنعام: 112]، وقال أيضاً حكاية عن إبليس: { { إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم } [إبراهيم: 22]، وقال: { { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [البقرة: 268ـ269]، ومن الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب, نسبت إلى الشيطان, وسميت بالأمر والقول والوسوسة والوحي والوعد, وجميعها قول وكلام ولم تخرج عن شق فم ولا تحريك لسان.
ومن هنا يعلم: أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة والفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان, وقد سمّاه تعالى الحكمة, ومثلها قوله تعالى:
{ { ويجعل لكم نوراً تمشون به } [الحديد: 28]، وقوله: { { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض } [الفتح: 4]؛ وقد مرّ بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى: { { فيه سكينة من ربكم } [البقرة: 248]؛ وكذا قوله: { { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصّعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } [الأنعام: 125]، وقد سمى الوسوسة رجزاً فقال: { رجز الشيطان } [الأنفال: 11]، فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين والملائكة يكلمون الإِنسان بإلقاء المعاني في قلبه.
وهنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله:
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاَّ وحياً أو من وراء حجاب } [الشورى: 51] الآية، فسماه تكليماً وقسمه إلى الوحي, وهو الذي لا حجاب فيه بينه وبين العبد المكلم, وإلى التكليم من وراء حجاب, هذه أقسام من الكلام لله سبحانه وللملائكة والشياطين.
أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته, فإن الله سبحانه ألقى التقابل بينه وبين التكليم من وراء حجاب, فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإِنسان وبين ربه، ومن المحال أن يقع هناك لبس؛ وهو ظاهر, وأما غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.
وأما الكلام الملكي والشيطاني فالآيات المذكورة آنفا تكفي في التمييز بينها فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر، ويدعو إلى المغفرة والفضل, وينتهي بالآخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه وسنة نبيه، والخاطر الشيطاني يلازم تضيق الصدر, وشح النفس, ويدعو إلى متابعة الهوى, ويعد الفقر, ويأمر بالفحشاء, وبالآخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب والسُنّة, ويخالف الفطرة.
ثم إن الأنبياء ومن يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك والشيطان ومعرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم وإبراهيم ولوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز, وأما مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين, وينتهي بالآخرة إلى تمييز الوحي؛ وهو ظاهر.
(بحث روائي)
في تفسير القمي في قوله تعالى: { إذ قالت امرأة عمران } الآية, عن الصادق عليه السلام قال: إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكراً سوياً مباركاً يبرئ الأكمه والأبرص, ويحيي الموتى بإذن الله, وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل, فحدث عمران امرأته حنة بذلك وهي أم مريم, فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلاماً, فلما وضعتها قالت: { رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى } لا تكون البنت رسولاً, يقول الله: { والله أعلم بما وضعت }, فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي بشر به عمران ووعده إياه فإذا قلنا في الرجل منا شيئاً وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك.
أقول: وروي قريباً منه في الكافي عنه عليه السلام وفي تفسير العياشي عن الباقر عليه السلام.
وفي تفسير العياشي في الآية عن الصادق عليه السلام: أن المحرر يكون في الكنيسة لا يخرج منها فلما وضعتها قالت: { رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى }, إن الأنثى تحيض فتخرج من المسجد، والمحرر لا يخرج من المسجد.
وفيه عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد, وليس الذكر كالأنثى في الخدمة, قال فشبت وكانت تخدمهم وتناولهم حتى بلغت فأمر زكريا أن تتخذ لها حجاباً دون العباد.
أقول: والروايات كما ترى تنطبق على ما قدمناه في البيان السابق إلاَّ أن ظاهرها: أن قوله: { وليس الذكر كالأنثى }, كلام لامرأة عمران لا له تعالى, ويبقى عليه وجه تقديم الذكر على الأنثى في الجملة, مع أن مقتضى القواعد العربية خلافه, وكذا يبقى عليه وجه تسميتها بمريم, وقد مرّ أنه في معنى التحرير إلاَّ أن يفرق بين التحرير وجعلها خادمة فليتأمل.
وفي الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبياً يوحى إليه, ويدل عليه ما في البحار عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر عليهما السلام عن عمران أكان نبياً؟ فقال: نعم كان نبياً مرسلاً إلى قومه, الحديث.
وتدل الرواية أيضاً على كون اسم امرأة عمران: حنة, وهو المشهور, وفي بعض الروايات: مرثار, ولا يهمنا البحث عن ذلك.
وفي تفسير القمي في ذيل الرواية السابقة: فلما بلغت مريم صارت في المحراب, وأرخت على نفسها ستراً, وكان لا يراها أحد, وكان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول: { أنى لك هذا }, فتقول: { هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب }.
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: إن زكريا لما دعا ربه أن يهب له ولداً فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله فأوحى إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام فلما أمسك لسانه ولم يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلاَّ الله, وذلك قول الله رب اجعل لي آية.
أقول: وروى قريباً منه القمي في تفسيره, وقد عرفت فيما تقدم أن سياق الآيات لا يأبى عن ذلك.
وبعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران ووجود الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها, وكون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال: إن هذه أمور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها, ولا رسوله قالها, ولا هي مما يعرف بالرأي ولم يثبتها تاريخ يعتد به, وليس هناك إلاَّ روايات إسرائيلية وغير إسرائيلية, ولا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن وحمله على أمثال هذه الوجوه البعيدة عن الأفهام.
وهو منه كلام من غير حجة, والروايات وإن كانت آحاداً غير خالية عن ضعف الطريق لا يجب على الباحث الأخذ بها, والاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات يقرب الذهن منها, والذي نقل منها عن أئمة أهل البيت عليهم السلام لا يشتمل على أمر غير جائز عند العقل.
نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين أُمور غير معقولة كما نقل عن قتادة وعكرمة: أن الشيطان جاء إلى زكريا وشككه في كون البشارة من الله تعالى, وقال: لو كانت من الله لأخفى لك في ندائه كما أُخفيت له في ندائك إلى غير ذلك, فهي معان لا مجوز لتسليمها كما ورد في إنجيل لوقا: أن جبرئيل قال لزكريا: "وها أنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته".
(بحث روائي آخر)
وفي الكافي عن الصادق عليه السلام: ما من قلب إلاَّ وله أُذنان على إحداهما ملك مرشد, وعلى الأُخرى شيطان مفتن: هذا يأمره, وهذا يزجره؛ الشيطان يأمره بالمعاصي, والملك يزجره عنها, وذلك قول الله عزّ وجلّ: { ما يلفظ من قول إلاَّ لديه رقيب عتيد عن اليمين وعن الشمال قعيد }.
أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها, وتطبيقه عليه السلام الآية على الملك والشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إياها على الملكين الكاتبين للحسنات والسيئات في رواية أخرى فإن الآية لا تدل على أزيد من وجود رقيب عتيد عند الإِنسان يرقبه في جميع ما يتكلم به, وأنه متعدد عن يمين الإِنسان وشماله, وأما أنه من الملائكة محضاً أو ملك وشيطان فالآية غير صريحة في ذلك قابلة للانطباق على كل من المحتملين.
وفيه أيضاً عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرسول وعن النبي وعن المحدث, قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول: يأمرك كذا وكذا, والرسول يكون نبياً مع الرسالة, والنبي لا يعاين الملك ينزل عليه الشيء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه, قلت: فما علمه أن الذي في منامه حق؟ قال: يبيّنه الله حتى يعلم أن ذلك حق, ولا يعاين الملك, الحديث.
أقول: قوله: والرسول يكون نبياً إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين, وقد تقدم الكلام في معنى الرسالة والنبوة في تفسير قوله تعالى:
{ { كان الناس أمة واحدة فبعث الله } [البقرة: 213] الآية.
وقوله: فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام, وأن معناه الغيبة عن الحس دون المنام المعروف, وقوله: يبينه الله "الخ" إشارة إلى التمييز بين الإِلقاء الملكي والشيطاني بما بينه الله من الحق.
وفي البصائر عن بريد عن الباقر والصادق عليهما السلام في حديث قال بريد: فما الرسول والنبي والمحدث؟ قال: الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه, والنبي يرى في المنام, وربما اجتمعت النبوة والرسالة لواحد, والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة, قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق وأنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب وبنبيكم الأنبياء؛ الحديث.
أقول: وهو في مساق الحديث السابق, وبيانه عليه السلام وافٍ بتمييز المحدث ما يسمعه من صوت الهاتف؛ وفي قوله: لقد ختم الله "الخ" إشارة إلى ذلك, وسيأتي الكلام في المحدث في ذيل الآيات التالية.