التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٧
ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٢٨
بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٩
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٠
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٣١
مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
٣٢
وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
٣٣
لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ
٣٤
أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ
٣٥
وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ
٣٦
أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٣٧
فَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٣٨
وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ
٣٩
-الروم

الميزان في تفسير القرآن

(بيان)
لما انساق الاحتجاج على الوحدانية والمعاد من طريق عدّ الآيات الدالة على ذلك بقوله: { ومن آياته } إلى قوله: { وله من في السماوات والأرض } الآية، وهو من صفات الفعل غيّر سياق الاحتجاج بالآيات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعلية وأوردها إلى آخر السورة في أربعة فصول يورد في كل فصل شيئاً من صفات الفعل المستوجبة للوحدانية والمعاد وهي قوله: { وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده } الخ، وقوله: { الله الذي خلقكم من ضعف } الخ.
وإنما لم يبدأ الفصل الأول باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الأُخر لسبق ذكره في الآية السابقة عليه المتصلة به أعني قوله: { وله من في السماوات والأرض كلٌ له قانتون } الذي هو كالبرزخ المتوسط بين السياقين، فقوله: { وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده } فصل في صورة الوصل.
قوله تعالى: { وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } إلى آخر الآية، بدء الخلق إنشاؤه ابتداء من غير مثال سابق والإِعادة إنشاء بعد إنشاء.
وقوله: { وهو أهون عليه } الضمير الأول للإِعادة المفهوم من قوله: { يعيد } والضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق.
وقد استشكل قوله: { وهو أهون عليه } الدال ظاهراً على كون الإِعادة أسهل وأهون عليه من البدء وهو ينافي كون قدرته مطلقة غير محدودة فإن القدرة اللامتناهية لا تختلف حالها في تعلقها بشيء دون شيء فتعلقها بالصعب والسهل على السواء فلا معنى لاسم التفضيل ها هنا.
وقد أُجيب عنه بوجوه:
منها: أن ضمير { عليه } راجع إلى الخلق دونه تعالى والإِعادة أهون على الخلق لأنه مسبوق بالابتداء الذي يسهّل الفعل على الفاعل بتحققه منه مرة أو أزيد بخلاف الابتداء الذي لا يسبقه فعل، فالابتداء أصعب بالطبع بالنسبة إلى الإِعادة والإِعادة بالعكس، فالمعنى: أن الإِعادة أهون من البدء بالنسبة إلى الخلق وإذا كان كذلك بالنسبة إلى الخلق فما ظنك بالخالق.
وفيه أن رجوع الضمير إلى الخلق خلاف ظاهر الآية.
ومنها: أن أفعل ها هنا منسلخ عن معنى التفضيل فأهون عليه بمعنى هيّن عليه نظير قوله: { ما عند الله خير من اللهو }.
وفيه أنه تحكم ظاهر لا دليل عليه.
ومنها: أن التفضيل إنما هو للإِعادة في نفسها بالقياس إلى الإِنشاء الإِبتدائي لا بالنسبة إليه تعالى ووقوع التفضيل بين فعل منه وفعل لا بأس به كما في قوله تعالى:
{ { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } } [غافر: 57]. وهذا هو الذي يستفاد من كلام الزمخشري إذ يقول: فإن قلت: ما بال الإِعادة استعظمت في قوله: { ثم إذا دعاكم } حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والأرض بأمره ثم هوَّنت بعد ذلك؟ قلت: الإِعادة في نفسها عظيمة لكنها هوَّنت بالقياس إلى الإِنشاء. انتهى.
وفيه أن تقييد الوصف بقوله: { عليه } أصدق شاهد على أن القياس الواقع بين الإِعادة والإِنشاء إنما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الإِعادة والإِنشاء فالإِشكال على ما كان.
ومنها: أن التفضيل إنما هو بالنظر إلى الأُصول الدائرة بين الناس والموازين المتبعة عندهم لا بالنظر إلى الأمر في نفسه، لما يرون أن تكرر الوقوع حتى لمرة واحدة يوجب سهولته على الفاعل بالنسبة إلى الفعل غير المسبوق بمثله فكأنه قيل: والإِعادة أهون عليه بالنظر إلى أُصولكم العلمية المتبعة عندكم وإلا فالإِنشاء والإِعادة بالنسبة إليه تعالى على السواء.
وفيه: أنه معنى صحيح في نفسه لكن الشأن في استفادته من اللفظ ولا شاهد عليه من جهة لفظ الآية.
ومنها: ما ذكره أيضاً في الكشاف قال: ووجه آخر وهو أن الإِنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإِعادة من قبيل الواجب الذي لا بد له من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والأفعال إما محال والمحال ممتنع أصلاً خارج عن المقدور وإما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإِحالة، وإما تفضل والتفضل حالة بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله، وإما واجب لا بدّ من فعله ولا سبيل إلى الإِخلال به.
فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإِعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها من الامتناع كانت أدخلها في التأتي والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الإِنشاء انتهى.
وفيه أولاً: أنه مبني على تحقق الأشياء بالأولوية دون الوجوب وقد تحقّق في محله بطلانه.
وثانياً: أن القرب والبعد اللذين ذكرهما تصوير عقلي محض والسهولة والصعوبة وصفان وجوديان يتصف بهما وجود الشيء من حيث صدوره عن فاعله الموجد له ولا يبتني الوصف الوجودي على الإِعتبار العقلي.
وثالثاً: أن الإِنشاء أيضاً كالإِعادة في الابتناء على المصلحة وهي الغاية فما لم يكن الإِنشاء ذا مصلحة موجبة لم يتحقق كما أن الإِعادة كذلك فهما في القرب والبعد من الامتناع على السواء كما قيل.
ورابعاً: أن مقتضى هذا الوجه كون الإِعادة أهون من الإِنشاء بالنظر إلى أنفسهما فيعود في الحقيقة إلى الوجه الثالث ويتوجه إليه ما توجه إليه.
والذي ينبغي أن يُقال أن الجملة أعني قوله: { وهو أهون عليه } معلل بقوله بعده: { ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم } فهو الحجة المثبتة لقوله: { وهو أهون عليه }.
والمستفاد من قوله: { ولله المثل الأعلى } الخ، أن كل وصف كمالي يمثل به شيء في السماوات والأرض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء وغيرها فللَّه سبحانه أعلى ذلك الوصف وأرفعها من مرتبة تلك الموجودات المحدودة كما قال:
{ { ولله الأسماء الحسنى } } [الأعراف: 180]. وذلك أن كل وصف من أوصاف الكمال اتصف به شيء مما في السماوات والأرض فله في حد نفسه ما يقابله فإنه مما أفاضه الله عليه وهو في نفسه خالٍ عنه فالحيّ منها ميت في ذاته والقادر منها عاجز في ذاته ولذلك كان الوصف فيها محدوداً مقيَّداً بشيء دون شيء وحال دون حال، وهكذا فالعلم فيها مثلاً ليس مطلقاً غير محدود بل محدود مخلوط بالجهل بما وراءه وكذلك الحياة والقدرة والملك والعظمة وغيرها.
والله سبحانه هو المفيض لهذه الصفات من فضله والذي له من معنى هذه الصفات مطلق غير محدود وصرف غير مخلوط فلا جهل في مقابل علمه ولا ممات يقابل حياته وهكذا فله سبحانه من كل صفة يتصف به الموجودات السماوية والأرضية - وهي صفات غير ممحّضة ولا مطلقة ما هو أعلاها أي مطلقها ومحضها.
فكل صفة توجد فيه تعالى وفي غيره من المخلوقات، فالذي فيه أعلاها وأفضلها والذي في غيره مفضول بالنسبة إلى ما عنده.
ولما كانت الإِعادة متصفة بالهون إذا قيس إلى الإِنشاء فيما عند الخلق فهو عنده تعالى أهون أي هون محض غير مخلوط بصعوبة ومشقة بخلاف ما عندنا معاشر الخلق ولا يلزم منه أن يكون في الإِنشاء صعوبة ومشقة عليه تعالى لأن المشقة والصعوبة في الفعل تتبع قدرة الفاعل بالتعاكس فكلما قلَّت القدرة كثرت المشقة وكلما كثرت قلَّت حتى إذا كانت القدرة غير متناهية انعدمت المشقة من رأس، وقدرته تعالى غير متناهية فلا يشقُّ عليه فعل أصلاً وهو المستفاد من قوله: { إن الله على كل شيء قدير } فإن القدرة إذا جاز تعلقها بكل شيء لم تكن إلا غير متناهية فافهم ذلك.
وقوله: { ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض } تقدم أنه في مقام الحجة بالنسبة إلى قوله: { وهو أهون عليه } ومحصله أن كل صفة كمالية يتصف به شيء مما في السماوات والأرض من جمال أو جلال فإن لله سبحانه أعلاها أي مطلقها من غير تقييد ومحضها من غير شوب وصرفها من غير خلط.
وقوله: { وهو العزيز الحكيم } في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: { ولله المثل الأعلى } الخ، أي إنه تعالى عزيز واجد لكل ما يفقده غيره ممتنع من أن يمتنع عليه شيء حكيم لا يعرض فعله فتور، ولو لم تكن صفة من صفاته مثلاً أعلى مما عند غيره من الممكنات كانت محدودة غير مطلقة ومخلوطة غير صرفة غير خالية من النقص والقصور فاستذلَّه ذاك القصور فلم يكن عزيزاً على الإِطلاق وأحدث ذاك النقص في فعله ثلمة وفتوراً فلم يكن حكيماً على الإِطلاق.
قوله تعالى: { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } الخ، { من } في قوله: { من أنفسكم } لابتداء الغاية أي ضرب لكم مثلاً متخذاً من أنفسكم منتزعاً من الحالات التي لديكم، وقوله: { هل لكم } شروع في المثل المضروب والاستفهام للإِنكار، و { ما } في { مما ملكت } للنوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والإِماء، و { من } في { من شركاء } زائدة وهو مبتدأ، وقوله: { فأنتم فيه سواء } تفريع على الشركة، و { أنتم } خطاب شامل للمالكين والمملوكين على طريق التغليب، وقوله: { تخافونهم كخيفتكم أنفسكم } أي تخافون المماليك الشركاء أن تستبدّوا في تصرّف المال المشترك من غير إذن منهم ورضى كما تخافون أنفسكم من الشركاء الأحرار.
وهذا مثل ضربه الله لبيان بطلان ما يزعمون أن لله سبحانه مما خلق شركاء في الألوهية والربوبية وقد أُلقي المثل في صورة الاستفهام الإِنكاري: هل يوجد بين مماليككم من العبيد والإِماء من يكونون شركاء لكم في الأموال التي رزقناكم - والحال أنهم مماليك لكم تملكونهم وما في أيديهم - بحيث تخافونهم من التصرف في أموالكم بغير إذن منهم ورضى كما تخافون الشركاء الأحرار من نوع أنفسكم؟!
لا يكون ذلك أبداً ولا يجوز أن يكون المملوك شريكاً لمولاه في ماله وإذا لم يجز فكيف يجوز أن يكون بعض من خلقه الله كالملائكة والجن وهم عبيده المملوكون شركاء له فيما يملك من مخلوقيه وآلهة وأرباباً من دونه؟.
ثم تمّم الكلام بقوله: { كذلك نفصِّل الآيات لقوم يعقلون } وفيه تمهيد لما يتلوه من الكلام.
قوله تعالى: { بل اتّبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدي من أضلَّ الله وما لهم من ناصرين } إضراب عما يستفاد من ذيل الآية السابقة والتقدير وهؤلاء المشركون لم يبنوا شركهم على التعقل بل اتّبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم.
وكان مقتضى الظاهر أن يُقال: بل اتّبع الذين أشركوا وإنما بدّله من قوله: { بل اتّبع الذين ظلموا } فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال في قوله: { فمن يهدي من أضلَّ الله } فالظلم يستتبع الإِضلال الإِلهي، قال تعالى:
{ { يثبِّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضلّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء } } [إبراهيم: 27]. فقوله: { فمن يهدي من أضلَّ الله } استفهام إنكاري مدلوله الإِيآس من نعمة الهداية للمشركين المتَّبعين لأهوائهم مع ظهور الحق لمكان ظلمهم الموجب لإِضلالهم وقد تكرَّر في كلامه تعالى: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين }.
وقوله: { وما لهم من ناصرين } نفي لنجاتهم بنصرة الناصرين لهم من غيرهم بعد ما لم ينالوا النجاة من الضلال وتبعاته من عند أنفسهم لإِضلال الله لهم ونفي الجمع دليل على أن لغيرهم ناصرين كالشفعاء.
وقول القائل إن معنى نفي الناصرين لهم أنه ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور من مقابلة الجمع بالجمع غير مطَّرد.
ومعنى الآية: بل اتّبع الذين ظلموا بشركهم أهواءهم بغير علم وتعقلُّ فأضلَّهم الله بظلمهم ولا هادي يهديهم وليس لهم ناصرون ينصرونهم.
قوله تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيِّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } الكلام متفرع على ما تحصَّل من الآيات السابقة المثبتة للمبدأ والمعاد أي إذا ثبت أن الخلق والتدبير لله وحده لا شريك له وهو سيبعث ويحاسب ولا نجاة لمن أعرض عنه وأقبل على غيره فأقم وجهك للدين والزمه فإنه الدين الذي تدعو إليه الخلقة الإِلهية.
وقيل: الكلام متفرع على معنى التسلية المفهوم من سياق البيان السابق الدال على ما هو الحق وإن المشركين لظلمهم اتبعوا الأهواء وأعرضوا عن التعقل الصحيح فأضلّهم الله ولم يأذن لناصر ينصرهم بالهداية ولا لمنقذ ينقذهم من الضلال لا أنت ولا غيرك فاستيئس منهم واهتم بخاصة نفسك ومن تبعك من المؤمنين وأقم وجهك ومن تبعك للدين.
فقوله: { فأقم وجهك للدين } المراد بإقامة الوجه للدين الإِقبال عليه بالتوجه من غير غفلة منه كالمقبل على الشيء بقصر النظر فيه بحيث لا يلتفت عنه يميناً وشمالاً والظاهر أن اللام في الدين للعهد والمراد به الإِسلام.
وقوله: { حنيفاً } حال من فاعل أقم وجوّز أن يكون حالاً من الدين أو حالاً من الوجه والأول أظهر وأنسب للسياق، والحنف ميل القدمين إلى الوسط والمراد به الاعتدال.
وقوله: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى الإِيجاد والإِبداع و { فطرة الله } منصوب على الإِغراء أي الزم الفطرة ففيه إشارة إلى أن هذا الدين الذي يجب إقامة الوجه له هو الذي يهتف به الخلقة ويهدي إليه الفطرة الإِلهية التي لا تبديل لها.
وذلك أنه ليس الدين إلا سنَّة الحياة والسبيل التي يجب على الإِنسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته فلا غاية للإِنسان يتبعها إلا السعادة وقد هدي كل نوع من أنواع الخليقة إلى سعادته التي هي بغية حياته بفطرته ونوع خلقته وجهز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز، قال تعالى:
{ { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50]، وقال: { { الذي خلق فسوّى والذي قدَّر فهدى } } [الأعلى: 2ـ3]. فالإِنسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه وتهتف له بما ينفعه وما يضرّه في حياته، قال تعالى: { { ونفس وما سوَّاها فألهمها فجورها وتقواها } [الشمس: 7ـ8]، وهو مع ذلك مجهز بما يتم له به ما يجب له أن يقصده من العمل، قال تعالى: { { ثم السبيل يسَّره } } [عبس: 20]. فللإِنسان فطرة خاصة تهديه إلى سنة خاصة في الحياة وسبيل معينة ذات غاية مشخصة ليس له إلا أن يسلكها خاصة وهو قوله: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وليس الإِنسان العائش في هذه النشأة إلا نوعاً واحداً لا يختلف ما ينفعه وما يضرّه بالنظر إلى هذه البنية المؤلفة من روح وبدن فما للإِنسان من جهة أنه إنسان إلا سعادة واحدة وشقاء واحد فمن الضروري حينئذ أن يكون تجاه عمله سنة واحدة ثابتة يهديه إليها هادٍ واحد ثابت.
وليكن ذاك الهادي هو الفطرة ونوع الخلقة ولذلك عقَّب قوله: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } بقوله: { لا تبديل لخلق الله }.
فلو اختلفت سعادة الإِنسان باختلاف أفراده لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة الأفراد المجتمعين، ولو اختلفت السعادة باختلاف الأقطار التي تعيش فيها الأُمم المختلفة بمعنى أن يكون الأساس الوحيد للسنة الاجتماعية أعني الدين هو ما يقتضيه حكم المنطقة كان الإِنسان أنواعاً مختلفة باختلاف الأقطار، ولو اختلفت السعادة باختلاف الأزمنة بمعنى أن تكون الأعصار والقرون هي الأساس الوحيد للسنة الدينية اختلفت نوعية كل قرن وجيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم ولم يسر الاجتماع الإِنساني سير التكامل ولم تكن الإِنسانية متوجهة من النقص إلى الكمال إذ لا يتحقق النقص والكمال إلا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما.
وليس المراد بهذا إنكار أن يكون لاختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة بعض التأثير في انتظام السنة الدينية في الجملة بل إثبات أن الأساس للسنة الدينية هو البنية الإِنسانية التي هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الأفراد، فللإِنسانية سنة واحدة ثابتة بثبات أساسها الذي هو الإِنسان وهي التي تدير رحى الإِنسانية مع ما يلحق بها من السنن الجزئية المختلفة باختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة.
وهذا هو الذي يشير إلى قوله بعد: { ذلك الدين القيِّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وسنزيد المقام إيضاحاً في بحث مستقل إن شاء الله تعالى.
وللقوم في مفردات الآية ومعناها أقوال أُخر متفرقة:
منها: أن المراد بإقامة الوجه تسديد العمل فإن الوجه هو ما يتوجه إليه وهو العمل وإقامته تسديده.
وفيه: أن وجه العمل هو غايته المقصودة منه وهي غير العمل والذي في الآية هو { فأقم وجهك } ولم يقل: فأقم وجه عملك.
ومنها: أن { فطرة الله } منصوب بتقدير أعني والفطرة هي الملَّة، والمعنى: أثبت وأدم الاستقامة للدين أعني الملة التي خلق الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله.
وفيه: أنه مبني على اختلاف المراد بالفطرة وهي الملة و { فطر الناس } وهو الخلقة والتفكيك خلاف ظاهر الآية ولو أُخذ { فطر الناس } بمعنى الإِدانة أي الحمل على الدين وهو التوحيد بقي قوله: { لا تبديل لخلق الله } لا يلائم ما قبله.
على أن فيه خلاف ظاهر آخر وهو حمل الدين على التوحيد، ولو أُخذ الدين بمعنى الإِسلام أو مجموع الدين كله وأُبقيت الفطرة على معناه المتبادر منها وهو الخلقة لم يستقم تقدير { أعني } فإن الدين بهذا المعنى غير الفطرة بمعنى الخلقة.
ومنها: أن { فطرة } بدل من { حنيفاً } والفطرة بمعنى الملة ويرد عليه ما يرد على سابقه.
ومنها: أن { فطرة } مفعول مطلق لفعل محذوف مقدّر، والتقدير: فطر الله فطرة فطر الناس عليها وفساده غني عن البيان.
ومنها: أن معناه اتّبع من الدين ما دلّك عليه فطرة الله وهو ما دلك عليه ابتداء خلقه للأشياء لأنه خلقهم وركّبهم وصوّرهم على وجه يدل على أن لهم صانعاً قادراً عالماً حياً قديماً واحداً لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء.
وفيه: أنه مبني على كون { فطرة } منصوباً بتقدير اتّبع وقد ذكره أبو السعود وقبله أبو مسلم المفسر فيكون المراد من اتباع الفطرة اتباع دلالة الفطرة بمعنى الخلقة والمراد بعدم تبديل الخلق عدم تغيره في الدلالة على الصانع بما له من الصفات الكريمة، وهذا قريب من المعنى الذي قدمناه للآية بحمل { فطرة } على الإِغراء لكن يبقى عليه أن الآية عامة لا دليل على تخصيصها بالتوحيد.
ومنها: أن لا في قوله: { لا تبديل لخلق الله } تفيد النهي أي لا تبدّلوا خلق الله أي دينه الذي أُمرتم بالتمسك به، أو لا تبدلوا خلق الله بإنكار دلالته على التوحيد ومنه ما نسب إلى ابن عباس أن المراد به النهي عن الخصاء.
وفيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدين ولا موجب لتسمية الإِعراض عن دلالة الخلقة أو إنكارها تبديلاً لخلق الله. وأما ما نسب إلى ابن عباس ففساده ظاهر.
ومنها: ما ذكره الرازي في التفسير الكبير قال: ويحتمل أن يُقال: خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيداً مثل كون المملوك عبداً للإِنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية. وهذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، وقول المشركين: إن الناقص لا يصلح لعبادة الله وإنما الإِنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وقول النصارى إن عيسى كان يحلّ الله فيه وصار إلهاً فقال: لا تبديل لخلق الله بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك. انتهى.
وفيه أنه مغالطة بين الملك والعبادة التكوينيين والملك والعبادة التشريعيين فإن ملكه تعالى الذي لا يقبل الانتقال والبطلان ملك تكويني بمعنى قيام وجود الأشياء به تعالى والعبادة التي بإزائه عبادة تكوينية وهو خضوع ذوات الأشياء له تعالى ولا تقبل التبديل والترك كما في قوله:
{ { وإن من شيء إلا يسبّح بحمده } [الإسراء: 44]، وأما العبادة الدينية التي تقبل التبديل والترك فهي عبادة تشريعية بإزاء الملك التشريعي المعتبر له تعالى فافهمه.
ولو دلَّ قوله: { لا تبديل لخلق الله } على عدم تبديل الملك والعبادة والعبودية لدلَّ على التكويني منهما والذي يبدّله القائلون بارتفاع التكليف عن الإِنسان الكامل أو بعبادة الكواكب أو المسيح فإنما يعني به التشريعي منهما.
قوله تعالى: { منيبين إليه واتقوا وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } تعميم للخطاب بعد تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نظير قوله:
{ { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [الطلاق: 1]، وقوله: { { فاستقم كما أُمرت أنت ومن معك ولا تطغوا } [هود: 112]، فيؤل المعنى إلى نحو من قولنا: فأقم وجهك للدين حنيفاً أنت ومن معك منيبين إلى الله، والإِنابة الرجوع بالتوبة.
وقوله: { واتقوه وأقيموا الصلاة } التقوى بحسب دلالة المقام يشمل امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه تعالى فاختصاص إقامة الصلاة من بين سائر العبادات بالذكر للاعتناء بشأنها فهي عمود الدين.
وقوله: { ولا تكونوا من المشركين } القول في اختصاصه من بين سائر المحرمات بالذكر نظير القول في الصلاة فالشرك بالله أكبر الكبائر الموبقة، وقد قال تعالى:
{ { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 116]، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: { من الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } { من } للتبيين و { من الذين فرقوا دينهم } الخ، بيان للمشركين وفيه تعريفهم بأخص صفاتهم في دينهم وهو تفرقهم في دينهم وعودهم شيعة شيعة وحزباً حزباً يفرح ويسرّ كل شيعة وحزب بما عندهم من الدين والسبب في ذلك ما ذكره قبيل هذا بقوله: { بل اتّبع الذين ظلموا أهواءهم فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين } فبين أنهم بنوا دينهم على أساس الأهواء وأنه لا يهديهم ولا هادي غيره.
ومن المعلوم أن هوى النفس لا يتفق في النفوس بل ولا يثبت على حال واحدة دون أن يختلف باختلاف الأحوال وإذا كان هو الأساس للدين لم يلبث دون أن يسير بسير الأهواء وينزل بنزولها، ولا فرق في ذلك بين الدين الباطل والدين الحق المبني على أساس الهوى.
ومن هنا يظهر أن النهي عن تفرق الكلمة في الدين نهي في الحقيقة عن بناء الدين على أساس الهوى دون العقل، وربما احتمل كون الآية استئنافاً من الكلام وهو لا يلائم السياق.
وفي الآية ذم للمشركين بما عندهم من صفة التفرق في الكلمة والتحزب في الدين.
قوله تعالى: { وإذا مسّ الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون } التعبير بالمس للدلالة على القلة والخفة وتنكير ضر ورحمة أيضاً لذلك والمعنى: إذا أصاب الناس شيء من الضر ولو قليلاً كمرض ما وفقر ما وشدة ما دعوا ربهم وهو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثم إذا أذاقهم الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربهم الذي كانوا يدعونه ويعترفون بربوبيته يشركون باتخاذ الأنداد والشركاء.
أي إنهم كافرون للنعمة طبعاً وإن اعترفوا بها عند الضرّ وقد أخذ لذلك فريقاً منهم لأن منهم من ليس كذلك.
قوله تعالى: { ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون } تهديد لأُولئك المشركين عند إذاقة الرحمة واللام في { ليكفروا } للأمر الغائب وقوله: { فتمتعوا } متفرع على سابقه وهو أمر آخر والأمران جميعاً للتهديد، والالتفات من الأمر الغائب إلى الأمر الحاضر لثوران الوجد والسخط من تفريطهم في جنب الله واستهانتهم بأمره فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرعوا عند الضرّ ويكفروا إذا كشف.
قوله تعالى: { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } { أم } منقطعة والمراد بالإِنزال الإِعلام أو التعليم مجازاً، والسلطان البرهان، والمراد بالتكلم الدلالة مجازاً فالمعنى: بل أعلمناهم برهاناً فهو يدل على ما كانوا به يشركون أو بشركهم.
ويمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان وهو الملك فلا مجاز في الإِنزال والتكلم والمعنى: بل أأنزلنا عليهم ملكاً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو بشركهم.
قوله تعالى: { وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدَّمت أيديهم إذا هم يقنطون } الإِذاقة كالمس تدل على قليل النيل ويسيره. والقنوط اليأس.
وإذا الأُولى شرطية والثانية فجائية، والمقابلة بين { إذا } في إذاقة الرحمة و { إن } في إصابة السيئة لأن الرحمة كثيرة قطعية والسيئة قليلة احتمالية، ونسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة لأن الرحمة وجودية مفاضة منه تعالى والسيئة عدمية هي عدم الإِفاضة ولذا عللها بقوله: { بما قدمت أيديهم }، وفي تعليل السيئة بذلك وعدم التعليل في جانب الرحمة بشيء إشارة إلى أن الرحمة تفضل.
والتعبير في الرحمة بقوله: { فرحوا } وفي السيئة بقوله: { إذا هم يقنطون } للدلالة على حدوث القنوط ولم يكن بمترقب فإن الرحمة والسيئة بيد الله والرحمة واسعة ولهذا عبر بالمضارع الدال على الحال لتمثيل حالهم.
والمراد بالآية بيان أن الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة والنقمة إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصروا ويعقلوا أن الأمر بيد غيرهم وبمشيئة من ربهم إذا لم يشأ لم يكن، وإذا فقدوا قنطوا كأن ليس ذلك بإذن من ربهم وإذا لم يشأ لم يأذن وفتح باب النعمة فهم ظاهريون سطحيون.
وبهذا يتضح أن لا تدافع بين هذه الآية وبين قوله السابق: { وإذا مس الناس ضرّ دعوا ربهم منيبين إليه } الآية وذلك أن مدلول هذه الآية أن أفهامهم سطحية إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا قنطوا ومدلول تلك أنهم إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا دعوا الله وهم قانطون من الشيء وأسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا تدافع.
وربما أُجيب بأن المراد بالناس في هذه الآية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس في الآية السابقة ولو فرض اتحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال وقنوطهم في حال أُخرى.
وأُجيب عنه أيضاً بأن الدعاء لساني جار على العادة ولا ينافي القنوط الذي هو أمر قلبي وأنت خبير بما في كل من الجوابين من الفتور.
وأُجيب أيضاً أن المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء. وفيه مضافاً إلى عدم الدليل على ذلك أنه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط.
قوله تعالى: { أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } بيان لخطئهم في المبادرة إلى الفرح والقنوط عند إذاقة الرحمة وإصابة السيئة فإن الرزق في سعته وضيقه تابع لمشية الله فعلى الإِنسان أن يعلم أن الرحمة التي ذاقها والسيئة التي أصابته ممكنة الزوال بمشيئة الله سبحانه ولا موجب للفرح بما لا يؤمن فقده ولا للقنوط مما يرجى زواله.
وأما أنه أمر ظاهر للإِنسان مقطوع به كأنه يراه فلأن الرزق الذي يناله الإِنسان أو يكتسبه متوقف الوجود على أُلوف وأُلوف من الأسباب والشرائط ليس الإِنسان الذي يراه لنفسه إلا أحد تلك الأسباب ولا السبب الذي يركن إليه ويطيب به نفساً إلا بعض تلك الأسباب وعامة الأسباب منتهية إليه سبحانه فهو الذي يعطي ويمنع وهو الذي يبسط ويقدر أي يوسّع ويضيّق، والباقي ظاهر.
قوله تعالى: { فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل } الخ، ذو القربى صاحب القرابة من الأرحام والمسكين أسوأ حالاً من الفقير وابن السبيل المسافر ذو الحاجة، وإضافة الحق إلى الضمير تدل على أن لذي القربى حقاً ثابتاً، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فظاهر الآية بما تحتف به من القرائن أن المراد بها الخمس والتكليف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتبعه غيره ممن كلف بالخمس، والقرابة على أي حال قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في آية الخمس، هذا كله على تقدير كون الآية مدنية وأما على تقدير كونها مكية كسائر آيات السورة فالمراد مطلق الإِحسان للقرابة والمسكين وابن السبيل.
ولعموم الآية معنى عمم ذكره أثره الجميل فقال: { ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأُولئك هم المفلحون }.
قوله تعالى: { وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعفون } الربا نماء المال، وقوله: { ليربوا } الخ، يشير إلى وجه التسمية، فالمراد أن المال الذي تؤتونه الناس ليزيد في أموالهم لا إرادة لوجه الله - بقرينة ذكر إرادة الوجه في مقابله - فليس يزيد وينمو عند الله أي لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه.
وقوله: { وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأُولئك هم المضعفون } المراد بالزكاة مطلق الصدقة أي إعطاء المال لوجه الله من غير تبذير، والمضعف ذو الضعف، والمعنى: وما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فأُولئك هم الذين يضاعف لهم ما لهم أو ثوابهم.
فالمراد بالربا والزكاة بقرينة المقابلة وما احتف بهما من الشواهد، الربا الحلال وهو العطية من غير قربة، والصدقة وهي إعطاء المال مع قصد القربة. هذا كله على تقدير كون الآية مكية وأما على تقدير كونها مدنية فالمراد بالربا الربا المحرم وبالزكاة هي الزكاة المفروضة.
وهذه الآية والتي قبلها أشبه بالمدنيات منهما بالمكيات ولا اعتبار بما يدعى من الرواية أو الإِجماع المنقول.
(بحث روائي)
في العيون عن عبيد الله بن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا خطيباً فقال في آخر خطبته:
"نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الأعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى" . الحديث.
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم } الآية أن سبب نزولها أن قريشاً كانوا يحجون البيت بحج إبراهيم عليه السلام ويلبّون تلبيته: لبّيك اللهم لبّيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
فجاءهم إبليس في صورة شيخ فغير تلبيتهم إلى قول: لبّيك اللَّهم لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك. فكانت قريش تلبي هذه التلبية حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنكر عليهم ذلك وقال: إنه شرك.
فأنزل الله عزّ وجلّ: { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء } أي أترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم فيه شريك؟ فكيف ترضون أن تجعلوا لي شريكاً فيما أملك؟.
وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفاً } قال: هي الولاية.
وفيه بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قال: التوحيد.
أقول: ورواه أيضاً عن الحلبي وزرارة عنه عليه السلام ورواه الصدوق في التوحيد عن العلاء بن فضيل وزرارة وبكير عنه عليه السلام.
وفي روضة الكافي بإسناده عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: كانت شريعة نوح عليه السلام أن يعبد الله بالتوحيد والإِخلاص وخلع الأنداد، وهو الفطرة التي فطر الناس عليها.
وفي تفسير القمي بإسناده عن الهيثم الرماني عن الرضا عن أبيه عن جده عن أبيه محمد بن علي عليهم السلام في قوله عزّ وجلّ: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قال: هو لا إله إلا الله محمد رسول الله علي أمير المؤمنين وليُّ الله إلى ها هنا التوحيد.
أقول: وروى هذا المعنى في بصائر الدرجات عن أبي عبد الله عليه السلام، ورواه في التوحيد عن عبد الرحمن مولى أبي جعفر عنه عليه السلام.
ومعنى كون الفطرة هي الشهادات الثلاث أن الإِنسان مفطور على الاعتراف بالله لا شريك له بما يجد من الحاجة إلى الأسباب المحتاجة إلى ما وراءها وهو التوحيد وبما يجد من النقص المحوج إلى دين يدين به ليكمله وهو النبوة، وبما يجد من الحاجة إلى الدخول في ولاية الله بتنظيم العمل بالدين وهو الولاية والفاتح لها في الإِسلام هو علي عليه السلام، وليس معناه أن كل إنسان حتى الإِنسان الأوليّ يدين بفطرته بخصوص الشهادات الثلاث.
وإلى هذا يؤول معنى الرواية السابقة أنها الولاية فإنها تستلزم التوحيد والنبوَّة وكذا ما مرَّ من تفسيره الفطرة بالتوحيد فإن التوحيد هو القول بوحدانية الله تعالى المستجمع لصفات الكمال المستلزمة للمعاد والنبوة والولاية فالمآل في تفسيرها بالشهادات الثلاث والتوحيد والولاية واحد.
وفي المحاسن بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ { فطرة الله التي فطر الناس عليها } قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم؟.
وفي الكافي بإسناده عن الحسين بن نعيم الصحاف عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: فقال عليه السلام: إن الله عزّ وجلّ خلق الناس كلهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيماناً بشريعة ولا كفراً بجحود ثم بعث الله عزّ وجلّ الرسل يدعو العباد إلى الإِيمان به فمنهم من هدى الله ومنهم من لم يهده.
أقول: وفي هذا المعنى روايات أُخر واردة في تفسير قوله تعالى:
{ { كان الناس أُمة واحدة } } [البقرة: 213] والمراد فيها بالإِنسان الفطري الإِنسان الساذج الذي يعيش على الفطرة الإِنسانية الذي لم تفسده الأوهام الفكرية والأهواء النفسانية فإنه بالقوة القريبة من الفعل بالنسبة إلى أُصول العقائد الحقة وكليات الشرائع الإِلهية فإنه يعيش ببعث وتحريك من فطرته وخصوص خلقته. وأما الاهتداء إلى خصوص العقائد الحقة وتفاصيل الشرائع الإِلهية فيتوقف على هداية خاصة إلهية من طريق النبوة من الجزء الثاني من الكتاب.
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن حمَّاد بن عمرو الصفَّار قال: سألت قتادة عن قوله تعالى: { فطرة الله التي فطر الناس عليها } فقال: حدثنى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"{ فطرة الله التي فطر الناس عليها } قال: دين الله"
]. وفيه أخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسّون فيها من جدعاء" ؟ قال أبو هريرة: اقرؤا إن شئتم { فطرة الله التي فطر الناس عليها } الآية.
أقول: ورواه أيضاً عن مالك وأبي داود وابن مردويه عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه كما تنتج الإِبل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء.
ورواه أيضاً في الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن الله خالقه" . الحديث.
وفي التوحيد بإسناده عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فإن بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا الله، وأربعة أشهر الصلاة على النبي وأربعة أشهر الدعاء لوالديه"
]. أقول: هو حديث لطيف ومعناه: أن الطفل في الأربعة أشهر الأُولى لا يعرف أحداً وإنما يحس بالحاجة فيطلب بالبكاء رفعها والرافع لها هو الله سبحانه فهو يتضرَّع إليه السلام إليه ويشهد له بالوحدانية.
وفي الأربعة أشهر الثانية يعرف من والديه واسطة ما بينه وبين رافع حاجته من غير أن يعرفهما بشخصيهما والواسطة بينه وبين ربه هو النبي فبكاؤه طلب الرحمة من ربه للنبي حتى يصل بتوسطه إليه.
وفي الأربعة أشهر الثالثة يميّز والديه بشخصيهما عن غيرهما فبكاؤه دعاء منه لهما وطلب جريان الرحمة من طريقهما إليه. ففي الحديث ألطف الإِشارة إلى كيفية جريان الفيض من مجرى الوسائط فافهم ذلك.
وفي المجمع في قوله تعالى: { وآتِ ذا القربى حقه } وروى أبو سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فاطمة عليها السلام فدكاً وسلَّمه إليها وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام.
وفي الكافي بإسناده عن إبراهيم اليماني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الربا رباءان: ربا يؤكل وربا لا يؤكل، فأما الذي يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك الربا الذي يؤكل، وهو قول الله عزّ وجلّ: { وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله } وأما الذي لا يؤكل فهو الذي نهى الله عنه وأوعد عليه النار.
أقول: ورواه أيضاً في التهذيب عن إبراهيم بن عمر عنه عليه السلام، وفي تفسير القمي عن حفص بن عياث عنه عليه السلام، وفي المجمع مرسلاً عن أبي جعفر عليه السلام.
وفي المجمع في قوله تعالى: { فأُولئك هم المضعفون } قال أمير المؤمنين عليه السلام: فرض الله الصلاة تنزيهاً عن الكبر، والزكاة تسبيباً للرزق، والصيام ابتلاء لإِخلاص الخلق، وصلة الأرحام منماة للعدد.
وفي الفقيه خطبة للزهراء عليها السلام وفيها: ففرض الله الإِيمان تطهيراً من الشرك والصلاة تنزيهاً عن الكبر والزكاة زيادة في الرزق.
(كلام في معنى كون الدين فطرياً، في فصول)
1- إذا تأملنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكون وتتكامل تدريجاً سواء كانت ذوات حياة وشعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعية - على ما يظهر لنا - وجدنا كل نوع منها يسير في وجوده سيراً تكوينياً معيناً ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض وبعضها بعد بعض يرد النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذي قبله وقبل الوصول إلى ما بعده ولا يزال يستكمل بطيّ هذه المنازل حتى ينتهي إلى آخرها وهو نهاية كماله.
نجد هذه المراتب المطوية بحركة النوع يلازم كل منها مقامه الخاص به لا يستقدم ولا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى كماله فبينها رابطة تكوينية يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى ولا ينتقل إلى غير مكانه ومن هنا يستنتج أن للنوع غاية تكوينية يتوجه إليها من أول وجوده حتى يبلغها.
فالجوزة الواحدة مثلاً إذا استقرت في الأرض استقراراً يهيؤها للنمو على اجتماع مما يتوقف عليه النمو من العلل والشرائط كالرطوبة والحرارة وغيرهما أخذ لبها في النمو وشقَّ القشر وشرع في ازدياد من أقطار جسمه ولم يزل يزيد وينمو حتى يصل إلى حد يعود فيه شجرة قوية خضراء مثمرة ولا يختلف حاله في مسيره هذا التكويني وهو في أول وجوده قاصداً قصداً تكوينياً إلى غايته التكوينية التي هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة.
وكذا الواحد من نوع الحيوان كالواحدة من الضان مثلاً لا نشك في أنها في أول تكونها جنيناً متوجهة إلى غايتها النوعية التي هي مرتبة الضأنة الكاملة التي لها خواصها فلا تضل عن سبيلها التكوينية الخاصة بها إلى سبيل غيرها ولا تنسى غايتها يوماً فتسير إلى غير غايتها كغاية الفيلة مثلاً أو غاية شجرة الجوز مثلاً فكل نوع من الأنواع التكوينية له مسير خاص في استكمال الوجود ذو مراتب خاصة مترتبة بعضها على بعض تنتهي إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتاً يطلبها طلباً تكوينياً بحركته التكوينية والنوع في وجوده مجهز بما هو وسيلة حركته وبلوغه إلى غايته.
وهذا التوجه التكويني لاستناده إلى الله يسمى هداية عامة إلهية وهي كما عرفت لا تضل ولا تخطئ في تسيير كل نوع مسيره التكويني وسوقه إلى غايته الوجودية بالاستكمال التدريجي وبإعمال قواه وأدواته التي جهز بها لتسهيل مسيره إلى غايته، قال تعالى:
{ { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [طه: 50]، وقال: { { الذي خلق فسوَّى والذي قدَّر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى } [الأعلى: 2ـ5]. 2- نوع الإِنسان غير مستثنى من كلية الحكم المذكور أعني شمول الهداية العامة له فنحن نعلم أن النطفة الإِنسانية من حين تشرع في التكوين متوجهةً إلى مرتبة إنسان تام كامل له آثاره وخواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية والطفولية والمراهقة والشباب والكهولة والشيب.
غير أن الإِنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانية والنباتية وغيرها فيما نعلم في أمر وهو أنه لسعة حاجته التكوينية وكثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه الوجودية ورفع حوائجه الحيوية وحده بمعنى أن الواحد من الإِنسان لا تتم له حياته الإِنسانية وهو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدني يجتمع فيه مع غيره بالازدواج والتعاون والتعاضد فيسعى الكل بجميع قواهم التي جهزوا بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته الاجتماعية.
وقد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أن المدنية ليست بطبيعية للإِنسان بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الإِنسانية ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلاً فهو يستخدم الأُمور الطبيعية ثم أقسام النبات والحيوان في سبيل مقاصده الحيوية فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرأ لكنه يجد سائر الأفراد أمثاله في الأميال والمقاصد وفي الجهازات والقوى فيضطر إلى المسالمة وأن يسلم لهم حقوقاً مثل ما يراه لنفسه.
وينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاوني ثم يقسم الحاصل من الأعمال بين الجميع ويعطى منه لكل ما يستحقه.
وكيف كان فالمجتمع الإِنساني لا يتم انعقاده ولا يعمّر إلا بأُصول علمية وقوانين اجتماعية يحترمها الكل وحافظ يحفظها من الضيعة ويجريها في المجتمع وعند ذلك تطيب لهم العيشة وتشرف عليهم السعادة.
أما الأُصول العلمية فهي معرفته إجمالاً بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة وما عليه الإِنسان من حيث البداية والنهاية، فإن المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الإِنسان أنه مادي محض ليس له من الحياة إلا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت وأن ليس في دار الوجود إلا السبب المادي الكائن الفاسد ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة والكمالات المادية ما وراءها شيء.
والمعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم وقوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية والمعتقدون بالمبدأ والمعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التي بعد الموت فصور الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الأُصول الاعتقادية في حقيقة العالم والإِنسان الذي هو جزء من أجزائه.
وأما القوانين والسنن الاجتماعية فلولا وجود قوانين وسنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم ويتسلمونها تفرق الجمع وانحل المجتمع.
وهذه السنن والقوانين قضايا كلية عملية صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز وهي أياماً كانت معتبرة في العمل لغايات مُصلحة للاجتماع والمجتمع تترتب عليها تسمى مصالح الأعمال ومفاسدها.
3- قد عرفت أن الإِنسان إنما ينال ما قدر له من كمال وسعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن وقوانين صالحة تضمن بلوغه ونيله سعادته التي تليق به وهذه السعادة أمر أو أُمور كمالية تكوينية تلحق الإِنسان الناقص الذي هو أيضاً موجود تكويني فتجعله إنساناً كاملاً في نوعه تاماً في وجوده.
فهذه السنن والقوانين - وهي قضايا عملية اعتبارية - واقعة بين نقص الإِنسان وكماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين وهي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات إنسانية، وهذه الكمالات أُمور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التي هي مصاديق حوائج الإِنسان الحقيقية.
فحوائج الإِنسان الحقيقية هي التي وضعت هذه القضايا العملية واعتبرت هذه النواميس الاعتبارية، والمراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإِنسانية بأميالها وعزائمها ويصدّقه العقل الذي هو القوة الوحيدة التي تميز بين الخير والنافع وبين الشر والضار دون ما تطلبه الأهواء النفسانية مما لا يصدقه العقل فإنه كمال حيواني غير إنساني.
فأُصول هذه السنن والقوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقية التي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانية.
وقد عرفت أن الصنع والإِيجاد قد جهز كل نوع من الأنواع - ومنها الإِنسان - من القوى والأدوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه ويسلك به سبيل الكمال ومنه يستنتج أن للجهازات التكوينية التي جهز بها الإِنسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة بالسنن والقوانين التي بالعمل بها يستقر الإِنسان في مقر كماله مثل السنن والقوانين الراجعة إلى التغذّي المعتبرة بما أن الإِنسان مجهز بجهاز التغذي والراجعة إلى النكاح بما أن الإِنسان مجهّز بجهاز التوالد والتناسل.
فتبين أن من الواجب أن يتخذ الدين - أي الأُصول العلمية والسنن والقوانين العملية التي تضمن باتخاذها والعمل بها سعادة الإِنسان الحقيقية - من اقتضاءات الخلقة الإِنسانية وينطبق التشريع على الفطرة والتكوين، وهذا هو المراد بكون الدين فطرياً وهو قوله تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }.
4- قد عرفت معنى كون الدين فطرياً فالإِسلام يسمى دين الفطرة لما أن الفطرة الإِنسانية تقتضيه وتهدي إليه.
ويسمى إسلاماً لما أن فيه تسليم العبد لإِرادة الله سبحانه منه، ومصداق الإِرادة وهي صفة الفعل تجمّع العلل المؤلفة من خصوص خلقة الإِنسان وما يحتف به من مقتضيات الكون العام على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى: { إن الدين عند الله الإِسلام }.
ويسمَّى دين الله لأنه الذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مر من معنى الإِرادة.
ويسمَّى سبيل الله لما أنه السبيل التي أرادها الله أن يسلكها الإِنسان لتنتهي به إلى كماله وسعادته، قال تعالى:
{ { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً } } [هود: 19]. وأما أن الدين الحق يجب أن يؤخذ من طريق الوحي والنبوة ولا يكفي فيه العقل فقد تقدم بيانه في مباحث النبوة وغيرها من مباحث الكتاب.